البــاب الأول: عناصر الوصف الخارجي
من كتاب "فن الكتابة: تقنيات الوصف"
للكاتب: عبد الله خمّار
الفصـــــل الثــــالث
الروائـــح
ووسيلتها الأنف، وللروائح تأثير قوي على الإنسان إذ تسكره الروائح الطيبة، وتدفعه الروائح الخبيثة إلى الغثيان، وهناك تداخل بين حاستي الشم والذوق، فإذا تعطلت حاسة الشم تفقد المأكولات طعمها، وهذا ما نحس به عندما نصاب بالزكام.
ارتباط الروائح بالذكريات:
وهي ترتبط بالأشخاص كما ترتبط بالأمكنة وبالبيوت أو الأحياء أو المدن، فلكل زهرة رائحتها ولكل طعام رائحته. وهي ترتبط بالذكريات فرائحة معينة تذكرنا بالماضي؛ بالناس والأمكنة والأحبة، وقد تكون الذكرى عزيزة أو مؤلمة. ولأهمية الرائحة تخفي المرأة نوع عطرها، ولا تكشفه لأحد حتى يبقى خاصا بها وعلما عليها. وإلى جانب العطور هناك روائح طيبة أخرى كالمسك والند والبخور وغيرها. واسمع إلى قول الشاعر الأعشى يصف هريرة في معلقته وروائحها الطيبة:
إذا تقـوم يضوع المسـك أصورة الزنبـق الورد من أردانها شمـلُ
ما روضة من رياض الحسن معشبة خضراءُ جاد عليهـا مسبلٌ هطلُ
يـوما بأطيـب منها نشر رائحـة ولا بأحسـن منها إذ دنا الأصُـلُ
المعلقات العشر ص 147
كما قال جميل بن معمر في بثينة:
أيا ريـح الشمــال أما ترينــي أهيـم وإننـي بادي النحول ِ؟
هبـي لي نسمــة من ريـح بثنٍ ومنّي بالهبوب إلى جـميـل ِ
ديوان جميل بثينة ص183
أهميـــة الروائح في الوصف:
وتكتسي الروائح أهمية في الوصف لدلالتها على الأشخاص والأماكن، وارتباطها بجو الأحداث، لذلك كان على من يريد إتقان الوصف أن يعرف أسماء الزهور وروائحها الطيبة الطبيعية والمستخرجة منها كعطور الورد والزنبق والفل والياسمين والبنفسج، وأن يعرف الألفاظ المعبرة عن الروائح الطيبة كالشذى والعرف والنشر والشميم والريا والطيب والعبير، وكذلك الألفاظ المعبرة عن الروائح الكريهة كالذفر والصنان والنتانة والخبيثة. ولكل مكان روائحه فلمحلات العطور روائحها الطيبة وللمطاعم والمقاهي روائحها الفاتحة للشهية، ولسوق السمك روائحه ولأماكن رمي القمامة روائحها.
اهتمام العرب بالزهور والروائح:
وقد عرف العرب منذ القديم أهمية الروائح في حياة الإنسان، واهتموا كباقي الأمم بزراعة الزهور في البيوت، وأنشؤوا الحدائق والبساتين، واستخرجوا العطور والأطياب، وكافحوا الروائح الكريهة والخبيثة بالنظافة وبمزيلات الروائح كالمسك والند والبخور، واعتنوا بدورات المياه وبنوا الحمامات في البيوت والأسواق. وتتبارى دور الأزياء العالمية في صناعة العطور والترويج لها وتطويرها حيث تعتبر من أنفس وأجمل وأغلى الهدايا بعد الأحجار الكريهة.
ويوظف الكاتب الرائحة أحيانا ليظهر بصورة غير مباشرة أناقة الفرد وعنايته بجسمه ومظهره أو إهماله لهما. كما يكشف عن نظافة المكان وبالتالي نظافة أصحابه أو قذارتهم، إلى جانب وظيفته الأصلية في جعل الوصف أكثر حياة وحيوية.
وهذه بعض الأمثلة نستهلها بالروائح الطيبة:
1 - عطر السيد (نجيب محفوظ):
"حتى إذا ارتاح إلى منظره، مدَّ يده إلى زوجه فناولته زجاجة "الكولونيا" التي عبأها له عم حسنين الحلاق، فغسل يديه ووجهه، ونضح صدر قفطانه ومنديله، ثم وضع الطربوش على رأسه، وأخذ عصاه وغادر الحجرة ناشرا بين يديه ومن خلفه عرفا طيبا، ذلك العرف المقطر من شتى الأزهار يعرفه أهل البيت جميعا، وإذا تنشقه أحدهم تمثل لعينيه السيد بوجهه الوقور الحازم، فينبعث في قلبه مع الحب - الإجلال والخوف".
بين القصرين(1) ص 28
2 - عطر العروس ( نجيب محفوظ):
"فتقدم ياسين (العريس) من باب السيارة ومال إلى الداخل قليلا فرأى العروس في حلتها البيضاء بين غادتين، على حين استقبله عرف طيب، مفتنة للجوارح، فتاه في الحسن منبهرا".
بين القصرين (2) ص 37
3 - إكرام المدعوين بالطيب (للكاتب نفسه):
"ودخلت جماعة من الجواري يحملن أوان من الفضة ملئت طيبا، وباقات من أزهار اللوتس، فدهن رؤوس الحاضرين وأيديهم وصدورهم بالطيب، وأهدين إلى كل منهم زهرة من اللوتس".
روادبيس ص 394
4 - رائحة البخور في الكنيسة (ارنست همينغواي):
" ووقفنا في العتبة، وكانت رائحة البخور عابقة، وكان ثم أناس قد اصطفوا داخل الكنيسة".
ولا تزال الشمس تشرق ص 198
5 - روائح الغابة (تولستوي):
"أريج الغابة بعد عاصفة الربيع، عبق أشجار السندل، عطر أزهار البنفسج، رائحة الأوراق المتعفنة والفطور والكرز البري".
الطفولة، المراهقة، الشباب 297
6 - روائح الزهور (بوريس باسترناك):
" وكانت روائح الزهور تقف معلقة فوق الأحواض التي جثمت عليها الشمس، وقد أمسك بها الهواء الراكد، وبث فيها سحرا خدرها!"
دكتور جيفاجو ص 21
7 - رائحة الأرض في الريف (الطيب صالح):
"فمضيت أتسكع في شوارع البلد الضيقة المنعرجة، تلامس وجهي نسمات الليل الباردة التي تهب من الشمال محملة بالندى، محملة برائحة زهور الطلح، وروث البهائم، ورائحة الأرض التي رويت لتوها بالماء بعد ظمأ أيام، ورائحة قناديل الذرة في منتصف نضجها، وعبير أشجار الليمون".
موسم الهجرة إلى الشمال ص 64
وهذان مثالان عن الروائح في المدن:
8 - قسنطينة (الطاهر وطار):
"حاسة الشم تطغى على باقي الحواس في قسنطينة، في كل خطوة، وفي كل التفاتة، وفي كل نفس، تبرز رائحة متميزة، صارخة الشخصية، تقدم نفسها لأعصاب وقلب المرء".
الزلزال - ص 9
9 - بطرسبورج ( دوستويوفسكي ):
"وكانت الحرارة شديدة خانقة، والزحام في الشارع شديدا، وحيث سار رأى الجير والأخشاب، وقوالب الطوب والغبار، وحيثما اتجه شم تلك الرائحة التي كانت تعبق في الصيف ويألفها من أهل بطرسبورج من يعجزون عن النزوح إلى الريف".
الجريمة والعقاب (1) ص 3
وهذه أمثلة عن روائح الطعام:
10 - رائحة الرأس والزلابية (الطاهر وطار):
"بينما اقتحمت أنفه رائحة التراب منبعثة من أجسامهم إلى جانب رائحة شواء رأس، وزلابية حامضة مقلاة عدة مرات، إلى جانب عطر ياسمين، إلى جانب قشور ثمرة الصبار".
الزلزال ص 20
11- الرائحة الشهية (نجيب محفوظ):
"بالأمس فقط تناول غداءه في المقصف مع علي، ومأمون وأحمد بدير، وكان مكونا من صحيفة سبانخ باللحم الضاني وأرز وبرتقالة. أما اليوم... ! وأقبل على دكان الفول وقد استقبله صاحبها بابتسامة وهو يقول: "أهلا وسهلا" فآذته تحيته ونالت من كبريائه. وكان إلى جانب دكان الفول دكان كباب فحمل الهواء دخان الشواء إلى أنفه، فسال لعابه وتوجعت معدته، ثم أخذ الرغيف، ومضى فارا من الرائحة الشهية. وعاد إلى حجرته وفتح بابها، فشم رائحة هواء فاسد لأنه كان ترك النافذة مغلقة".
الأعمال الكاملة(3)القاهرة الجديدة ص 751
12 - رائحة الفلفل الأحمر (محمد ديب):
" كان عمر واقفا عند فرجة الباب ينظر إلى المائدة والطبق الذي تفوح منه رائحة الفلفل الأحمر".
الدار الكبيرة: الحريق: النول ص 48
13 - رائحة الشواء (محمد ديب):
" إن أسياخ الكبد الملفوفة بشحم الخروف، المصفوفة على مشواة، تصدر دخانا كثيرا يملأ القاعة برائحة حادة من رائحة احتراق الدهن".
الدار الكبيرة: الحريق: النول 470
14 - رائحة القهوة السودانية (الطيب صالح):
"وكانت القهوة ساخنة، تفوح منها رائحة القرفة، والحبَّهان، والجنزبيل".
عرس الزين ص 88
و هذه أمثلة عن الروائح في الحروب:
15 - المستشفى (همنغواي):
"وما كدت أضع قدمي في مدخل البناية حتى عبقت في أنفي رائحة المستشفى".
وداعا أيها السلاح ص11
16 - البارود (همنغواي):
"وبعد دقائق أشار الشرطيان بالتحرك، فقدت السيارة، متجنبا حفر الطريق الظاهرة، وأحسست أن أنفي يعبق برائحة البارود الممزوجة برائحة الأرض، وفتات الصوان المتناثرة". المصدر السابق ص 23
17 - الأدوية والدم (هنغواي):
قال أحد الأطباء: "سأسرع بهذا الجريح"، بينما رفعني اثنان فوق إحدى المناضد التي كانت صلبة مائلة، تفوح الروائح القوية من حولها؛ روائح الأدوية والدم الطازج".
المصدر نفسه ص 50
وهذان مثالان عن رائحة الأثاث:
18 - الأثاث الجديد (همنغواي):
"وقبل أن نجتاز عتبة الغرفة، عبقت في أنوفنا رائحة أثاثها الجديد؛ سرير معدني واحد، وخزانة خشبية لم يجف طلاؤها بعد".
المصدر نفسه ص 67
19 - رائحة المكتبة (الطيب صالح):
"أوقدت المصباح، وأغلقت النوافذ. يجب أن تظل الرائحة حبيسة هنا، رائحة الطوب والخشب والند والصندل والكتب. الحيطان الأربعة من الأرض حتى السقف رفوف رفوف، كتب، كتب، كتب، أشعلت سيجارة، وملأت رئتي بالرائحة الغريبة".
موسم الهجرة إلى الشمال ص 128
وهذه أمثلة عن الروائح الكريهة:
20 - رائحة الجدة المريضة (محمد ديب):
" لقد تقدم الصيف كثيرا، ولم يعد أحد يستطيع أن يقترب من الجدة، فإن الرائحة التي تخرج منها لا تطاق. إن هذه الرائحة تستقر الآن حولها، وما من شيء يمكن أن يبددها. فمتى غربت الشمس، انتشرت الرائحة، والتصقت بأنسام الليل الرطبة، وتسللت حتى إلى أولئك الذين يقبعون في الغرف. لقد أصبحت الرائحة تشيع في دار سبيطار كلها، ونفذت منها حتى إلى الحجارة".
الدار الكبيرة: الحريق: النول ص 135
21 - رائحة البواليع التي تلوث المدينة (فيكتور هيغو):
"فجميع الأبخرة الوبيئة المنبعثة من البواليع تمتزج بتنفس المدينة، ومن هنا ذلك النفس الكريه. والهواء الذي يتنشقه المرء من فوق مزبلة - وهذا ثابت علميا- أطهر من الهواء الذي يتنشقه من فوق باريس". البؤساء (5) ص 171
22 - رائحة دورات المياه ( باسترناك):
"وانبعثت من دورات المياه رائحة عفنة خفيفة، لم يقو على إخفائها عبير ماء "الكولونيا" ورائحة دجاج مشوي، لف في ورق قذر ملطخ بالدهن".
دكتور جيفاكو - ص 64
23 - الرائحة الخانقة ( ماكسيم غوركي):
"كانت رائحة القطران الخانقة، الممتزجة برائحة أوراق الشجر المحترقة، تحاصر المرأتين، وتكاد تفقدهما الوعي".
الأم ص 247
ونختم هذه الأمثلة بارتباط الرائحة بالذكريات:
24 - رائحة الطفولة ( فيكتور هيغو):
"وعلى الرغم من انقضاء الشطر الأعظم من الموسم، فقد كانت ما تزال هنا وهناك في أسيجة العليق، بعض الزهرات المتخلفة التي فاح عبيرها من حوله، فيما هو يجتاز مشيا على قدميه، فأعاد إلى مخيلته ذكريات طفولته."
البؤساء (1)ص 183 المجلد الأول
تماريـــن:
1ـ اختر ثلاثة نصوص أعجبت باستعمال الكاتب لعنصر الروائح فيها، ورتبها حسب إعجابك بها، ثم بين سبب اختيارك لكل منها.
2 ـ استخرج من الرواية التي تطبق عليها وصفا للروائح بأنواعها المختلفة.
3 ـ سجل خلال هذا الأسبوع بعض الروائح المختلفة التي تشمها في المنزل والشارع والمدرسة (الزهور والعطور والأطعمة والروائح الأخرى).
لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الفصل الرابع: الطعوم
لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الفصل الثاني: الأصوات
للاطلاع على فصول الكتاب كاملة، انقر هنا: فن الكتابة: تقنيات الوصف