البــاب الأول: عناصر الوصف الخارجي
من كتاب "فن الكتابة: تقنيات الوصف"
للكاتب: عبد الله خمّار
الفصــل الخـامس
الملموســـــات
الملموسات هي كل ما نلمسه بأيدينا أو بجلدنا من إنسان وحيوان ونبات وأشياء، ووسيلتها حاسة اللمس. وتكون في أماكن مختلفة من الجلد أهمها أطراف الأصابع، وطرف اللسان، والشفتان. وهي إحدى الطرق الهامة لمعرفة ما حولنا، وقديما قال شاعرنا البحتري حين وصف لوحة معركة أنطاكية المصورة على الجدار في إيوان كسرى:
تصف العين أنهم جدُّ أحـيا ءٍ لهم بينهـمْ إشارة خُرْس ِ
يغتلـي فيهمُ ارتيابيَ حتـّى تتقـرّاهُـمُ يَـدايَ بلمْـس ِ
ديوان البحتري(1) ص163
أهميــة حاسة اللمس:
ولأن العين قد تخدع، فقد حاول الشاعر، أن يتأكد باللمس من حياتهم وحركتهم. واللمس بالنسبة إلى فاقد البصر، وسيلة هامة لاتصاله بالعالم الخارجي. ولو قرأنا أو كتبنا رواية بطلها، لا يرى مؤقتا أو دائما، لكان اللمس هو أهم حاسة توصف بها الأشياء فى الرواية. ولعل "هيلين كيلر" التي فقدت البصر والسمع وهي طفلة، واستطاعت أن تتعلم الكلام، بواسطة تتبع حركات الحنجرة والشفتين بإصبعها في معلمتها، حتى حصلت على أعلى الشهادات الجامعية، مثال واضح عن أهمية هذه الحاسة. وكانت تتذوق الموسيقى وتميز بين الألحان بما يصل إلى قدميها من ذبذبات موسيقية.
ما ندركه باللمس:
ونحن نلمس ونمس الأشياء لنعرف نعومتها وخشونتها كالأقمشة، وطراوتها ويبوستها كالفواكه، وبرودتها وسخونتها وفتورها كالماء والسوائل، ورقتها وسماكتها، وتماسكها وميوعتها ككتلة العجين، وجفافها وبللها كالملابس الخ. والطبيب يجس نبض المريض، ويمس جبينه ليعرف إن كان محموما.
وحاسة اللمس باليد وبالشفتين، هي الحاسة المفضلة لإظهار العواطف من ودٍّ وحب. والملامسة تعني الالتصاق والقرب. ويظل الطفل منذ ولادته ملتصقا بأمه، تلمسه، وتربت على شعره وتقبله وتداعب وجهه بيديها. ونحن نعانق أهلنا، وأحباءنا ونصافحهم، ونقبلهم لندل على حبنا لهم والتصاقنا بهم، والمصافحة والعناق والتقبيل أسمى تعبير عن وظيفة اللمس في العلاقات الإنسانية.
وظيفة اللمس:
وهي ليست وظيفة عاطفية فحسب بل اجتماعية أيضا، لذلك كانت عقوبة السّامري الذي أضل قوم موسى بدعوتهم إلى عبادة العجل الذي صاغه لهم من ذهب، ألا يمس أحدا، ولا يمسه أحد طول حياته. فإنْ مسَّ أحداً أو مسَّهُ أحدٌ أصابت الحمى الاثنين معا، لذلك عاش في عزلة يهيم في البرية، فكانت أقصى عقوبة توقع بإنسان. (راجع قصته في سورة طه).
وكما يوظف الكاتب اللون والصوت والرائحة والطعم لهدف معين، فكذلك لا يستخدم الملموسات أو حاسة اللمس اعتباطا، بل إن كل لمسة يستعملها يريد أن يقول من ورائها للقارئ شيئا.
ولننتقل الآن إلى الأمثلة:
1 - حاسة اللمس عند الجدة (محمد ديب):
"لقد أصبحت الجدة منذ مدة لا تنتبه إلى شيء، إلا حين يحمل إليها الطعام. فهي تضطرب عندئذ بعض الاضطراب، ثم تدور برأسها، وتمد ذراعها، وتأخذ تأكل جرايتها من الإناء الموضوع بين قدميها. كانت بأصابعها التي تتلمس الأشياء تلمس الأعمى، تنقل ما تستطيع نقله من الإناء إلى فمها الذي ينفتح من جانب، ويأخذ ينفتل وينعقف. إنها تأكل وهي تئن".
الدار الكبيرة: الحريق: النول ص 118
2 - جان فالجان في "مجاري" باريس وعلى ظهره ماريوس الجريح والشرطة تطارده (فيكتور هيغو):
"لقد كان إحساسه الأول هو العمى. إنه لم يعد يرى شيئا فجأة. وبدا له أيضا أنه قد أمسى أصم في دقيقة واحدة، إنه لم يعد يسمع شيئا".
"لقد استشعر أن الأرض صلبة تحت قدميه. ذلك كان كل شيء، ولكنه كان كافيا. وبسط إحدى يديه، ثم بسط الأخرى، ومسَّ الجدار من الجانبين، وأدرك أن المجاز كان ضيقا، وزلت قدمه وأدرك أن البلاط مبلل. وقدم رجلا في حذر، خائفا أن تصادف ثقبا أو بالوعة أو هوة، واستيقن أن البلاط متصل. وأنبأته هبَّة من نتانة أين كان".
البؤساء - المجلد الخامس ص 173
"وكان مضطرا إلى الالتصاق بالجدار، لكي يبقي قدميه خارج الماء، وهكذا مضى لسبيله في الدجنة. لقد أشبه مخلوقات الليل المتلمسة طريقها في اللامنظور، الضائعة تحت الأرض في عروق الظلام".
المصدر نفسه ص 175
"كان كلما انتهى إلى تشعب جديد تلمس الزوايا، فإذا وجد الفتحة أقل عرضا من الرواق الذي كان فيه لم يدخل". المصدر نفسه ص 179
3 - لقاء الأصدقاء (همنغواي):
"وكان "مايك" يعرف كيف يضع في مصافحته الإحساس بالود المشبوب".
ولا تزال الشمس تشرق ص 172
4 - لقاء القريبتين الفقيرة والميسورة (محمد ديب):
"حين دخل عمر مسرعا، كانت عيني تشد كوعها إلى جسمها ناهضة لاستقبال العمة حسنة، وتعانقت المرأتان. وراحت عيني ترحب بالزائرة، وتدعو لها بدوام الصحة قبل أن ينتهي العناق. وراحت تطبع على خديها قبلات، يصعب على المرء أن يحصي عددها".
الدار الكبيرة: الحريق: النول ص 72
5 - لقاء الأحبة (همنغواي):
"هتفت كاترين مسرعة نحوي، وقد شع وجهها نورا، وفاض السرور في عينيها، ومدت يدها نحوي، كأنها تحاول الوثوق مما ترى، عن طريق اللمس".
وداعا أيها السلاح ص 181
6 - استكشاف (همنغواي):
"ثم مددت يدي داخلا أستكشف نوع الحمولة، فارتطمت يدي بأجسام صلبة".
وداعا أيها السلاح ص 169
7 - المرض ( همنغواي):
"وأيقظتني أنغام الموسيقى في الساعة السادسة، وكان حنكي يؤلمني من جانبيه، وجسسته بإبهامي وأصابعي، وسكَّ سمعي قرع الباب".
ولا تزال الشمس تشرق ص 257
8 - الطريق المظلمة ( تشارلز ديكنز):
" وتلمس أوليفر طريقه بإحدى يديه - في حين كان رفيقه ممسكا باليد الأخرى وارتقى بكثير من العسر درجات السلم المظلمة المحطمة التي راح قائده يصعدها في يسر وسرعة أظهر أنه كان يألفها منذ عهد بعيد".
أوليفرتويست (1) ص 97
تمـــارين:
1 - اختر ثلاثة من النصوص السابقة أعجبت فيها باستعمال الكاتب لحاسة اللمس ورتبها حسب الأولوية، ووضح سبب اختيار كل منها.
2 - استخرج من الرواية التي تطبق عليها بعض النصوص التي تتحدث عن حاسة اللمس (مصافحة، عناق .. الخ ) إن وجدت.
3 - سجل ما تقوم به من مصافحة وعناق خلال الأسبوع مع أهلك وأقاربك وإخوتك الصغار وأصدقائك ثم اكتب فقرة تبيّن فيها بعض ذلك.
لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الفصل السادس: الحركة
لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الفصل الرابع: الطعوم
للاطلاع على فصول الكتاب كاملة، انقر هنا: فن الكتابة: تقنيات الوصف