البــاب الأول: عناصر الوصف الخارجي  

من كتاب "فن الكتابة: تقنيات الوصف"

للكاتب: عبد الله خمّار

 

الفصــل السـادس

 الحـــركـــة

قال امرؤ القيس يصف سرعة جواده:

مِكرٍّ  مِفرٍّ  مُقبل ٍ مُدْبر ٍ مَـعاً       كجلمودِ صخر ٍ حطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عل ِ

                                                                                                        المعلقات العشر ص70

  بالإضافة إلى أن اللوحة المرسومة بالكلمات تختلف عن اللوحة المرسومة بالريشة في أن الحواس كلها تشترك في إدراكها لا العين وحدها، فإنها كذلك لوحة متحركة وليست جامدة. نحن نعيش في عالم متحرك تدور فيه الأرض حول نفسها وحول الشمس وكذلك تجري الكواكب. والحركة صفة من صفات الكائن الحي إنسانا كان أم حيوانا، والنباتات تنمو وتتحرك بفعل الرياح والأنواء، وحتى الأجسام الجامدة تحركها الطاقة الشمسية والبخارية والنفطية والماء والرياح، وتتململ الأرض وتتحرك بفعل الزلازل والبراكين. ولعل الفيلسوف برغسون يشير إلى هذا في حديثه عن "الديمومة" وهي الحركة الدائمة للأشياء والكون والتغير المستمر نتيجة لذلك: "نحن لا نستحم في النهر مرتين، فنحن نتغير ومياه النهر تتغير".

أهمية الحركة:

  وهكذا تضيف الحركة إلى العناصر الحسية الأخرى بعدا هاما في الوصف. ويحرص مخرجو المسرح على حركة الممثلين أثناء الحوار لإضفاء الحيوية عليه. فإذا كانت الحركة في المسرح ضرورية حيث يقيد الممثلون بالمكان والزمان، فكيف بها في الرواية حيث لا وجود لما يحد هذه الحركة.

تقنيات الحركة:

  ويلجأ الكتاب إلى طرق مختلفة للدلالة على الحركة، فبعضهم يكثر من حركة الأبطال وخروجهم ودخولهم إلى المقاهي والمطاعم والسينما، والسفر بالطائرة أو بالقطار والسيارة وتغيير الأمكنة ليصبح الجو خفيفا في الرواية.

  وبعضهم يستخدم الحركة ليبرز لنا سمات الشخصية. فالناس لا يتحركون بصورة واحدة فهناك من يتحرك بخفة ونشاط لحيويته ونشاطه، أو يتحرك بدافع من الانفعال والقلق والعصبية لانتظار أمر هام كالولادة أو الامتحان. وهناك من يتحرك بتثاقل وبطء إما لهدوئه واتزانه وإما لمرضه أو فرط بدانته.

  كما يستعمل بعض الكتاب الأفعال الحركية للإيحاء بتحريك الجمادات على سبيل المجاز، مثل: " تنحدر الطريق وتصعد، وتلتوي، وتقف ..الخ ).

الحركة الخارجية والداخلية:

  والخلاصة هي أن الحركة نوعان: خارجية يستعمل فيها الكاتب التقنيات التي ذكرناها، وداخلية تعتمد على تحريك الإيقاع وتسريعه في الرواية، حيث يتجنب الكاتب إطالة الوصف، أو إطالة الحوار في الأمور النظرية. لأن ذلك يجعل الإيقاع بطيئا والحركة معدومة وبالتالي يضجر القارئ ويسأم من الرواية. فتغيير المشاهد والوصف التدريجي، والحوار ذو الجمل القصيرة يشحن الرواية بنوع من الحركة الداخلية المحببة إلى القارئ.

  وإذا كانت هناك أكثر من حركة في الوصف، فيجب أن يكون هناك انسجام بين هذه الحركات. وتستعمل الحركة كبقية العناصر الأخرى بمقدار.

وهذه بعض الأمثلة نبدأها بالحركة الحقيقية:

1 ـ رقص المولوية "إلفة الإدلبي":

  "فإذا عاد شيخهم وقعد في مكانه يهب الدراويش كلهم هبة واحدة ويفتلون حول البحرة على نسق شيخهم بضع فتلات، ثم يخلعون جباتهم السود فتبدو قاماتهم رشيقة ممشوقة، وهم بثيابهم البيضاء الفضفاضة المزمومة عند الخصر والمشدودة عليه بإحكام بالغ. ويبدؤون الرقص بفتلات بطيئة. الأيدي متصالبة على الصدور والرؤوس منحنية إلى الأمام قليلا، والنظرات منكسرة تعبر عن التوسل والخضوع، ثم يطوقون خصورهم بأيديهم، وتسرع خطواتهم شيئا فشيئا، ثم يضعون اليد اليمنى على موضع القلب، ويرفعون اليسرى فوق الرأس. وتزداد سرعة دورانهم فتنفرش أثوابهم المزمومة، وإذا هي دوائر كبيرة تنبثق من وسطها جذوعهم ثابتة دون أي التواء، ثم ترتفع أيديهم بضراعة نحو السماء كأنها تستجير بها، وتميل رؤوسهم قليلا إلى اليمين، وتتيه نظراتهم في الفضاء دلالة على مرحلة الوجد، مرحلة الانعتاق، وتوق الإنسان إلى الذات القدسية. وإذ هم يعبرون بالرقص عن هذا كله تعبيرا بليغا تعجز عنه الكلمات".

                                                                                                       دمشق يا بسمة الحزن ص 20

2ـ الملك (همنغواي):

  "الضباب منتشر فوق صفحة النهر بينما سيارة "جيب" رمادية اللون تنهب الأرض في الفترة بعد الفترة، وقد جلس في داخلها إلى جوار السائق أحد كبار الضباط، وفي الخلف ضباطه المرافقون.

  كانت هذه السيارات الصغيرة، تقذف برشاش المياه الموحلة أكثر من غيرها، وكنا نعرف حين تتميز إحداها بسرعة فائقة، أنها تقل الملك الذي خرج من مقره في "الأودين" ليطلع بنفسه على مجرى الأحداث التي كانت في الواقع تسير من سيء إلى أسوأ".  

                                                                                                           وداعا أيها السلاح ص 6

3 - الذئب والكلاب (تولستوي):

  "إنه لا يرى إلا الذئب الذي حث الخطى هاربا على طول الوادي لا يغير اتجاهه. هذه "ميلكا" الكلبة المبقعة، ذات المؤخرة العريضة، تسبق سائر الكلاب، فتظهر قريبة من الذئب، ثم يزداد قربها منه.. ثم يزداد .. ثم تبلغه. ولكن الذئب ينظر إليها، فإذا هي، بدلا من أن تنقض كما تفعل دائما، إذا هي تتوقف على حين فجأة، رافعة ذيلها، مقوسة ظهرها، مثبتة على الأرض في الأمام قائمتيها".

                                                                                                          الحرب والسلم (2) ص 525

4 - المطاردة  "جافير" و"جان فالجان" (فيكتور هيغو):

  " لقد بدا وكأن رجلين تفصل ما بينهما مسافة ما، كانا يتخالسان النظر عند ذلك المنحدر، ويحاول كل منهما أن يجتنب الآخر. كان الرجل المتقدم يحاول أن يوسع الشقة الفاصلة، وكان الرجل المتخلف يحاول أن ينقصها.

  كان ذلك أشبه بلعبة شطرنج تلعب من بعيد، وعلى نحو صامت. إن أيّـاً منهما لم يبد مسرعا، ولقد مشيا كلاهما في بطء، وكأن كلا منهما كان يخشى أن يكون في مبالغته في الإسراع ما يضاعف خطوات ملاعبه.

  كان في ميسور المرء أن يقول: إنها شهوة إلى الطعام تطارد فريسة ما، من غير أن يبدو، وكأنها تفعل ذلك عن عمد. وكانت الفريسة مخادعة، وكانت تلتزم الحذر.

  وروعيت النسب المطلوبة بين النمس المطارَد والكلب المطارِد، كان لذلك الذي يحاول أن يفر مشية واهنة ومحيّا مهزول. وكان ذلك الذي يحاول المطاردة رجلا فارع الطول، قاسي المظهر، ولا ريب في أنه كان قاسي المخبر".

                                                                                                                  البؤساء (5) ص 148

5 - قاضي التحقيق( دوستويفسكي):

  "وكان بورفيري يقفز تارة نحو النافذة، وطورا نحو الطاولة ثم نحو المكتب. كان يحاول أن يتفادى نظرات راسكولينكوف. وبعد لحظة، يقف أمامه ويحدق مباشرة في عينيه. وكانت شخصيته الضئيلة المستديرة التي تتدحرج في كل الجهات كالكرة، والتي تقفز من جديد إلى الجدران والزوايا، تبدو شديدة الغرابة".

                                                                                                         الجريمة والعقاب (2) ص 468

6 ـ السيد أحمد عبد الجواد ( نجيب محفوظ ):

  " بدا السيد وهو يسير في تؤدة ووقار يحف به الجلال والجمال، رافعا يديه بالتحية بين حين وآخر، وقد وقف له عم حسنين الحلاق، والحاج درويش بائع الفول، والفولي اللبان، وبيومي الشربتلي، فأتبعته زوجته وابنتاه عينا مترعة بالحب والزهو".

                                                                                                             بين القصرين(1) ص 29

وهذه أمثلة عن حركة الطبيعة باستعمال الأفعال الحركية:

7 ـ حركة الطريق (همنغواي):

  "وتلوّت الطريق عبر السهل أمامنا، بيضاء، حتى "بامبيلونة". ووصلنا إلى المدينة من الطرف الآخر للهضبة، وكانت الطريق تصعد عمودية، مغبرة، تتفيأ صفين من الأشجار، لتستوي بعد ذلك حين تدخل المدينة الجديدة المبنية، خارج الجدران القديمة. ومررنا بملعب مصارعة الثيران عاليا أبيض. كان يبدو في أشعة الشمس صلبا جامدا، ثم خلصنا إلى الساحة الكبيرة من شارع جانبي".

                                                                                                   ولا تزال الشمس تشرق ص 120

8 - الحركة في الغابة ( فيكتور هيغو):

  "وهبت من جانب السهل ريح باردة. كانت الغابة مظلمة، ولم يكن فيها أيَّما حفيف، أو أيّما ومضة من ومضات الصيف تلك المبهمة الغضة. وانتصبت الأغصان الضخمة على نحو مخيف. واصفرت الأدغال الهزيلة المشوهة في البقاع الجرداء من الغابة. وتلوت الأعشاب الطويلة تحت ريح الشمال، مثل "الإنقليس". وتمايلت العواسج مثل أذرع طوال ذات براثن تلتمس فرائس لها. وساقت الريح بعض الأعشاب البرية اليابسة، فمرت في سرعة، وبدت وكأنها تهرب مذعورة من وجه شيء كان يطاردها".

                                                                                                               البؤساء (2) ص 150

9 - منظر الطبيعة من العربة (ماكسيم غوركي):

  "وكان كل شيء يتذبذب في تحرك بطيء. وفي السماء تهيم الغيوم الرمادية وهي تتطارد بتثاقل. وعلى جانبي الطريق تتراكض الأشجار البليلة وتهتز ذراها العارية. وكانت الحقول تنأى في حركة دائرية، وترتفع هضاب ثم لا تلبث أن تغيب".                                                                                                                       الأم ص 325

10 - حركة الإعصار ( باسترناك):

  "وهبت عاصفة ثلجية شديدة في اليوم السابق على يوم رحيلهم، فكانت هناك سحب رمادية من الثلج، ترقى صاعدة إلى السماء في حركة حلزونية، ثم ترتد إلى الأرض على شكل إعصار. وتهب مندفعة في الشارع المظلم، فتلفه في غلالة بيضاء".

                                                                                                               دكتور جيفاجو ص 340

11- الظلال الراقصة (ماكسيم غوركي):

  "وتألقت دفقة من اللهب أشد قوة وضراما من ذي قبل، وتراكضت الظلال نحو الغابة من جديد في رفّات خاطفة، ثم كرت ثانية نحو النار، وحامت حول جذوتها في رقص صامت حاقد. وكانت الأغصان الرمادية تفرقع في الجذوة وتئن، وأوراق الأشجار تتهامس وتضج، وقد أثارتها نفحة من الهواء الحار. وكانت ألسنة النار تعلو وتتعانق نشيطة جذلى، وتتصاعد في الفضاء حمراء وصفراء، لتزرعه شررا، وفي السماء كانت النجوم تبسم للشرر كأنها تدعوه إلى الأعالي".

                                                                                                                     الأم  ص 260

ونختم أمثلتنا بهذه الفقرة التي يعطينا الكاتب فيها حكمه على الحركة:

12 - الحركة هي الحياة (باسترناك):

  "وكل الحركات ـ في الدنيا ـ تبدو رزينة، ذات هدف معقول، إذا ما تأملتها حركة فحركة، كلا على حدة. أما إذا تأملتها جماعة، فإنها تبدو سعيدة سكرى من تيار الحياة الدافق الذي يربط بينها، والذي يحملها على صفحته".

                                                                                                                دكتور جيفاغو ص 62

تمارين:

  1 - اختر ثلاثة من النصوص السابقة أعجبت فيها باستعمال الكاتب لتقنية الحركة، ورتبها حسب الأولوية ووضح سبب اختيار كل منها.     

  2 - استخرج من الرواية التي تطبق عليها بعض النصوص التي استعمل فيها الكاتب تقنية الحركة بأنواعها.

  3 - لاحظ في هذا الأسبوع حركة الناس في حيك ومدرستك، ثم اكتب فقرة عن أهم ما لفت نظرك منها.

 

  لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الفصل السابع: اللغة وتمارين على الباب الأول

 لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الفصل الخامس: الملموسات

للاطلاع على فصول الكتاب كاملة، انقر هنا: فن الكتابة: تقنيات الوصف