رواية جرس الدخول إلى الحصة

     للكاتب عبد الله خمّار

-5-

 

الثلاثي الأول

بريء أم مذنب

- 46 -

لم يحضر معظم التلاميذ يوم الخميس وألحقوه بعيد الفطر. استأنفنا العمل الفعلي يوم الجمعة. قضيت اليوم الأول للعيد في دار خالي حيث دعا الأساتذة العرب كعادته في كل عيد. حضر وجدي وعصام وكاظم أصلان ومانع السعدون. ومكثت لطيفة زوجة عصام مع امرأة خالي وابنتها، ثم سافرت في اليوم التالي إلى تونس. كان الطعام خروفا مشويا، وقصعة تليتلي ودوارة أحيطت بأنواع السلطات.

وجدت في غرفة الأساتذة عند دخولي في الصباح وجدي وفايزة منسجمين في حديث ودي. قربت الحفلة والتدريبات التي سبقتها المسافة بينهما خطوة أو أكثر. وروى لي وجدي أنه التقى مرتين بفايزة مصادفة في المركز الثقافي المصري، وتبادلا  التحية. كانت تبحث في المكتبة عن مسرحيات عربية ومصادر في الإخراج المسرحي. كان التحفظ يسود علاقتهما وبدأ الجليد يذوب تاركا مكانه للدفء في حديثهما.

وجدت في بريدي استدعاء من المفتش لندوة يوم الثلاثاء القادم، في معهد تكوين أساتذة التعليم المتوسط في بوزريعة، للبحث في مناهج التعليم، ويسبقها درس لمستوى السنة الثانية ثانوي. كما قرأت في لوحة الإعلانات تعليمة إدارية عن أوقات فتح المسجد لصلاتي الظهر والعصر. استغربت الأمر فالمسجد عادة يبقى مفتوحا طيلة اليوم.

قرع جرس الدخول إلى الحصة، فخرجت مع وجدي إلى الساحة ليرافق كل منا تلاميذه إلى القسم، وإذا بالسكرتيرة تطلب من وجدي أن يقابل المدير. من عادة آكلي آيت شاكر أن يقضي العيد في تيزي وزو، ويحضر بعد العيد إلينا في غرفة الأساتذة لنتبادل التهنئة. ماذا حدث اليوم؟ ولماذا يطلب وجدي فورا؟ مرت  الساعتان، وهرعت إلى قاعة الأساتذة لأستطلع الأخبار. وجدت المدير هناك ومعه وجدي وعصام، والوجوم مرسوم على وجوههم. هنأت المدير بالعيد وسألت عصام عن الأخبار فأجابني: "أرسلت الوزارة قرارا بنقل وجدي إلى معهد بوزريعة بعد فتح شعبة موسيقية فيه. وحاول المدير إيقاف القرار، فأجابوه بأنهم بحاجة ماسة إليه لأنه مختص في الموسيقى العربية".

جمدت في مكاني فطمأنني المدير ببقاء وجدي في سكنه. اختلست النظر إلى فايزة، فرأيت وجهها الذي كان طافحا بالحيوية والبشر في الصباح قد ذبل واصفر فجأة. عرفت أنها سمعت الخبر وتأثرت به. ذلك يعني أنها تحبه، وإن لم تعترف بذلك. أما المدير فكان يبدو عليه الحزن والعجز لأنه لم يستطع أن يوقف النقل. أحسست بالذنب لأنني مدعو في المساء لافتتاح معرض جانين، ولن يكون بوسعي المكوث معه ومواساته. لكنه خفف عني قائلا: "سنبقى معا دائما، فنحن جيران في السكن ولن نفترق إلا وقت  العمل، فاذهب إلى موعدك".

- 47 -

وصلت إلى قاعة العرض في المركز الثقافي الفرنسي متأخرا بسبب المواصلات. القاعة تغص بالزوار. رأيت جانين من بعيد محاطة ببعض موظفي السفارة الفرنسية، ووزارة الثقافة الجزائرية، والفنانين والأساتذة الفرنسيين والجزائريين. لم أتصور أن أحظى بمحادثتها. بدأت أتأملها بعينين تفيضان بالإعجاب. كانت تلبس ثوبا أرجوانيا لا يكاد يصل إلى ركبتيها، ويظهر تناسق جسدها مع قامتها المعتدلة المائلة إلى الطول. وتبرز من خلاله ذراعاها البضتان الناصعتا البياض والجزء الأعلى من صدرها، بينما توهج شعرها الذهبي تحت الأضواء منسدلا على ظهرها شبه العاري. وتلألأ العقد الماسي الذي يزين نحرها متناسبا مع لألاء أسنانها وبريق إبتسامتها المشرقة، ومع لمعة السوار في يدها اليسرى وأزرار الثوب الماسية، مما جعلها نجمة وهاجة تدور في فلكها  جموع الحاضرين رجالا و نساء. الفنانون المشاركون أربعة اختلفت لوحاتهم باختلاف مذاهبهم الفنية. وهي تدور بينهم برشاقة بحذائها الأحمر ذي الكعب العالي المدبب المنسجم مع الثوب، تشرح لوحاتها للجمهور، وتستمع إلى آرائهم وتعليقاتهم. أتمت جانين شرح لوحاتها وانتقلت مع الجمهورإلى لوحات الفنانين الآخرين.

لم أجد في نفسي رغبة لفهم اللوحات الفنية كما أجدها الآن. ولكنني أُمِّيٌّ في هذا المجال، لأنني لم أكن أهتم بالرسم ولا أتذوقه. كيف أقرأ اللوحات وأنا لا أعرف لغتها؟ وقفت أمام لوحات جانين حسب الأرقام الموجودة معي في الدليل فوجدت رجلا يشرح لزوجته اللوحة الأولى. كانت تحمل اسم "مشهد طبيعي من الجورا". أوضح لها بأن "الجورا" هي المنطقة التي توجد فيها بيزانسون موطن الفنانة. رسم المشهد في الخريف فالأشجار شبه عارية، والسماء مغطاة بالغيوم. أضاف بأن اللوحة ليست كلاسيكية مئة بالمئة بل فيها ملامح رومانسية، لأنها تعكس بألوانها الداكنة نفسية الفنانة الكئيبة حين رسمتها.

بدأت أغار. لو أنني أرسم لكانت بيني وبين جانين لغة مشتركة كهؤلاء الرسامين الذين يحيطون بها، فالرسم لغة عالمية. أما الشعر فأنا أكتبه باللغة العربية التي لا تفهمها جانين. كلنا في بوسعادة وفي الجنوب عموما شعراء، نستقي من مخزون الشعر حولنا، وفي داخلنا. تعلمنا لغة العروض، ولو أننا درسنا لغة الأشكال والألوان، لعكسنا جمال طبيعتنا في أبدع اللوحات. كانت اللوحة الثانية تعبيرية، تمثل راقصة باليه، وهي في أوج انفعالها، وقد أظهرت تعبيرات الوجه والجسد حالة الوجد التي بلغت الراقصة ذروتها. أما الثالثة فتكعيبية، وهي عبارة عن مكعبات ملتصقة بشكل مدهش، تكوّن صورة الرسامة. وتبدو حين ترى عن بعد ثلاثية الأبعاد. فيها بساطة ورشاقة وجمال. مازال الفنان يشرح لزوجته وأنا أستمع وأتعلم. اللوحتان الرابعة والخامسة تجريديتان. أولاهما تمثل عينين ناطقتين بالأسى والشجن في وسط اللوحة البيضاء واسمها "معاناة". والثانية ليس فيها شكل، بل ألوان: الأزرق والأبيض والأحمر والأخضر والبنفسجي تحدث تناغما بديعا مريحا للنفس. وأما اللوحة الأخيرة فهي اللوحة السياسية الوحيدة أو لنقل الإنسانية. نصفها الأيمن مرسوم بالزيت، يمثل طفلا أبيض مليئا بالحيوية والصحة، يقضم تفاحة حمراء، ووراءه قصر فخم أبيض. والطبيعة حافلة بالخضرة والزهور مختلفة الألوان. والنصف الثاني مرسوم بالفحم يمثل طفلا أسود مهزولا بارز العظام والقفص الصدري. ووراءه كوخ صغير إفريقي وأرض جرداء. عنوان اللوحة "طفلان وقارتان".

وجدت أمامي فجأة نوارة وداسين. تبادلنا التحية. قالت نوارة: "لم أعرف أنك تهتم بالرسم".  

ـ "دعتني إحدى العارضات؛ الآنسة أوليفييه، زميلتي في دراسة الإنجليزية". وأشرت إليها. ودعتاني وانصرفتا. جلت قليلا في المعرض لأرى لوحات الفنانين الآخرين. ثم اقتربت منها لأهنئها. كانت ما تزال مشغولة بمن حولها، بل هم المشغولون بها على الأصح. عرض عليها الفنانون المشاركون أن يسهروا معا احتفالا بمعرضهم فاعتذرت لارتباطها بموعد سابق. كانوا يتسابقون إلى دعوتها. شعرت بالألم لأني لا أستطيع دعوتها كالآخرين، فأنا خارج المنافسة. لا حظّ لي بجانبهم. ومع ذلك  اعتذرتْ من الجميع. لاشك أنها تنتظر "جاك". اقتربت منها بحيث تراني، وصافحتها قائلا بإطراء صادق: "أهنئك على هذه اللوحات الجميلة". ابتسمت لي ابتسامتها التي غمرتني بدفء الشمس وإشراقتها وعذوبتها، وقادتني بعيدا عن الجماعة. أحسست أنها فرحت بي لأخلصها من إلحاح من حولها على مرافقتهم. قالت: "هل أعجبتك اللوحات؟"

ـ "إنها رائعة. اقصد أنك فنانة عظيمة، ذات أحاسيس مرهفة". تلعثمتُ. مددت يدي لأودعها فأمسكتْ بها ولم تُطلقها. سألتني: "ما برنامجك الليلة؟"

ـ "لا شيء مهم. ربما تصحيح بعض الأوراق".

ـ "ما رأيك في الاحتفال معي بافتتاح المعرض؟"

فرحت بدعوتها إلا أنني شعرت أنني سأكون غريبا في هذا الجو، فأجبت: "يسعدني ذلك، ولكني لا أعرف أحدا من أصدقائك".

ـ "الدعوة لك وحدك".

كانت مفاجأة لم أتوقعها وفوق احتمالي. وبمقدار ما أسعدتني أقلقتني، فسأكون معها وحدي. أنا خجول بطبعي. أبدو جريئا مع النساء في المجتمع، لكنني أخجل حينما أكون بمفردي مع امرأة، فكيف بي مع جانين؟ مصدر القلق ألا أكون في المستوى، وألا أحسن التصرف، فأخيب أملها، وأخسر صداقتها. وتتحول سعادتي إلى شقاء.

قالت دون أن تنتظر ردي: "لا حاجة للسيارة فالمكان قريب". صعدنا الدرج إلى البريد المركزي، ومشينا في شارع ديدوش مراد، وهي تحدثني عن دروس الإنجليزية التي فاتتني في رمضان إلى أن وقفت أمام مطعم الخيمة، وقالت: "وصلنا".

حيّانا حارس المطعم ببرنوسه الأبيض وقلنسوته الخضراء المزينة بالريش. ورافقنا النادل إلى طاولة كان يبدو أنها الوحيدة الفارغة. ديكور المطعم منسجم مع اسمه حيث نصبت على الأرض في الزاوية اليسرى خيمة مصغرة بها عرائس لبدوي وبدوية يشربان القهوة، وأمامهما قافلة جمال. سحب النادل الكرسي لها لتجلس. جلست على الكرسي المقابل لها، فأشارت إلي أن أنتقل إلى جانبها. خيل إلي في هذه اللحظة أني لمحت نوارة وأختها داسين في مدخل المطعم. دققت النظر فلم أر أحدا.

ومن دون أن تنظر إلى قائمة الطعام طلبت جانين "كسكسي باللحم"، فثنيت على طلبها. سألتني: "ماذا تشرب؟"

ـ "ماء سعيدة"

ـ "أقصد خمرا. ألا تريد كأسا مع الطعام؟"

ـ "لا. أنا لا أشرب. لكنك تستطيعين أن تشربي ما تريدين".

ـ "أنا لا أشرب الخمر أبدا. وعائلتي من أنصار مكافحة المسكرات".

سرتني هذه المصادفة. أحضر النادل سلطة المقبلات وزجاجة ماء سعيدة وزجاجة "سيليكتو حمود" طلبتها جانين. تناولنا بعد الكسكسي سلطة الفواكه.

كانت جانين تتلذذ بالطعام، وأنا أتلذذ بصحبتها وحديثها. فرحتْ بنجاح المعرض وبروز لوحاتها فيه. وأسعدها الجمهور الذي حضر من جزائريين وفرنسيين وأجانب. كنا في منتهى النشوة، رغم أننا لم نشرب قطرة واحدة من الخمر. أما هي فاختلطت نشوة نجاحها بنشوة الجلسة. وأما أنا فكانت نشوتي بصحبتها واختيارها لصحبتي تكاد تجعلني أهتف وأهلل وأرقص من الفرحة. كيف أحظى وحدي بصحبة الفن والجمال؟ إنه أمر لم أجرؤ عليه حتى في الحلم، وها هو يتحقق. حواسي كلها تستمتع بحضورها. اتنسم عطرها، وعبير جسمها ونكهة فمها وأتملّى حسنها، وأطرب لصوتها، وتكاد بشرتي تحس بنعومة وطراوة بشرتها. حتى الطعام أصبح له طعم ومذاق خاصين في حضرتها، ممزوجين بشذاها وهمسها. هكذا حملتنا موجات النشوة إلى أعالي السحاب. ظللنا على هذه الحال طيلة السهرة، ينظر كل منا إلى الآخر نظرة المخدّر المسحور. صار همسنا شعرا، وبوحنا عطرا. لم أدر كيف أصبحت يدها في يدي أو يدي في يدها، ومن أمسك منا بيد الآخر. قالت بدلال: "هل أعجبك العشاء؟"

أجبت بنبرة صادقة: "بل أعجبتني الصحبة".

ـ "لماذا؟"

ـ "لأنني... لأنني... لأنني... أحبك".

لمت نفسي على تسرعي باعترافي، وخفت أن تغضب. لكنها قالت: "هكذا بسرعة".

ـ « بل من يوم الكنيسة".

ـ "لماذا لم تقل لي من قبل؟"

ـ "ظننت أنك مرتبطة بجاك".

ـ "ألهذا أصبحت لا ترافقني بعد الدرس؟"

ـ "نعم". 

كدت أن أسألها عنه، ولكنني عدلت. نظرتْ إلي وقالت بلهجة فيها دلال وغنج: "هل تراني جميلة لأنك تحبني، أم تحبني لأني جميلة؟"

أجبتها مندهشا: "وما الفرق؟" 

ـ "الفرق أن الجمال مرتبط بالزمن".

ـ "وهل الجمال مقصور على الجسد؟"

ـ "هل تؤمن بجمال الروح؟ هل تحب المرأة القبيحة أو العجوز لو كانت جميلة الروح؟"

أجبت بنبرة صادقة: "كل ما أعرفه أنني أحبك أنت سواء أكنت جميلة أم لم تكوني".

ضحكت جانين وشعرت بأنها تريد أن تقول لي: "وأنا أيضا "، لكنها لم تفعل. شربت القهوة وحدي فهي لا تشربها في المساء. حاولت دفع الحساب، ولكنها أصرت على أنها الداعية ولم تقبل رجائي وإلحاحي. قالت: "إذا أردت أن نخرج معا فدعني أدفع مرة وتدفع مرة. ولا بأس أن تدعوني في المرة القادمة".

اكتشفت أنها ليست من نوع النساء اللواتي يرهقن ميزانية الرجل ويدفعنه إلى بذل دم قلبه لينعم بصحبتهن، فتختار أفخم المطاعم، وتطلب أغلى الأطباق. كانت عملية، وتعرف أن العلاقة لا تستمر بين اثنين إن كان أحدهما يتحمل الأعباء المادية وحده، وكلاهما موظف محدود الراتب. خرجنا من المطعم في اتجاه شقتها، قالت لي وهي تنظر في عيني لترى الرد فيهما قبل أن تسمعه: "أيمكن أن تكون دليلي في العاصمة؟"

تهلل وجهي وشعت عيناي بالإجابة: "ما أسعدني بذلك! متى سنبدأ؟"

ـ "ما رأيك في يوم السبت؟ ولكن ليس غدا فلدي اجتماع في "الليسيه" موعدنا السبت الذي يليه؟"

كنا قد وصلنا إلى جانب عمارتها، وأشارت إلى الطابق الذي تسكنه، قلت: «ستجدينني في التاسعة هنا بجانب العمارة".

 

ـ "ولكنك ستحضر إلى درس الإنجليزية هذا الأسبوع؟"

ـ "بالتأكيد".

ـ "إذن سنلتقي في المعهد". وودعتني وصعدت السلم إلى شقتها.

- 48 -

وصلت إلى شقتي في ساعة متأخرة، أذ أني تجولت في الشوارع رغم البرد القارس لأنني لم استطع كبت الطاقة المتفجرة في داخلي والنشوة التي أحس بها فأنام مبكرا. وليس بإمكاني أن أظهر سعادتي أمام وجدي، بدلا من إظهار حزني لانتقاله. واختمرت في ذهني فكرة قصيدة لجانين. أتعبني التجول فنمت على الفور، ولكنني حين استيقظت أحببت أن أستمتع بذكريات الليلة السابقة وأنتشي بها، فبقيت في فراشي، أستعيد كل كلمة قالتها جانين وكل حركة وبسمة وأحاول أن أفسرها، ووصلت إلى استنتاج وحيد، هو أنها تحبني كما أحبها، ولو أنها لم تقل ذلك صراحة. ولكنها آثرتني بصحبتها، واختارتني من بين كل هؤلاء الموظفين السامين والفنانين، الفرنسيين والجزائريين. أنا أستاذ اللغة العربية، وابن مدينة بوسعادة، وشعرت بالزهو.             

سمعت جرس شقة وجدي في التاسعة والربع يرن عدة مرات. خمنت أن يكون أحد الباعة ثم عاد إلى الرنين بعد ربع ساعة أو عشرين دقيقة قبل أن أدخل الحمام. خرجت في العاشرة من المنزل فإذا بي أجد باب شقة وجدي مفتوحا. ضربت الجرس ثم طرقت على الباب فلم يرد أحد. ناديت على وجدي وعندما لم يجبني أحد، دخلت إلى الشقة، وإذا بي أفاجأ في الصالون بامرأة ممددة على الأرض. لفت نظري شعرها الأشقر الملطخ بالدماء. الشقة مقلوبة رأسا على عقب. كل شيء فيها مبعثر. هناك بعض الأغراض المجموعة والمعدة للحمل. عرفت أن المرأة مقتولة. أمسكت بالهاتف لأتصل بالشرطة. تذكرت أن فرنسواز قطعت الهاتف قبل سفرها. نزلت بسرعة وتوجهت دون  تفكير إلى مركز الشرطة القريب من السكن وأخبرتهم بما رأيت، فحضروا وسجلوا إفادتي. توجهت إلى الثانوية لأستدعي وجدي فهو لا يعمل اليوم إلا ساعتين في الصباح. فوجئت بأنه درس حصة واحدة في الثامنة ثم خرج. اخذ أستاذ العلوم حصته الثانية لإجراء إمتحان للتلاميذ بموافقة الإدارة.

عدت إلى الشقة. كانت الجثة نقلت بعد أن عاينها الطبيب الشرعي، ورفعت الشرطة العلمية البصمات. ووجدت محافظ الشرطة يستجوب وجدي الذي وصل قبل دقائق. وُجِدَتْ في الشقة حقيبة صغيرة "كابة" فيها ثياب القتيلة. لم تعثر الشرطة على ما يدل على اسمها أو هويتها أو جنسيتها، والظاهر أنها أوربية.

أظهر وجدي دهشته من وجود القتيلة في داره، ووجود أمتعتها وأفاد بـأنه لا يعرفها. أمر محافظ الشرطة بإيقافه ولم أستطع احتمال المشهد فدمعت عيناي وعجزت عن السيطرة عليهما فمسحتهما بالمنديل. كان وجدي هادئا. لم يجزع ولم يحتج. كان واثقا من براءته. وبدلا من أن أشجعه شجعني قائلا: "لا تقلق علي فالله معي". وأعطاني مفتاح الشقة. شعرت بالعجز وأنا أرى صديقي يعتقل وهوغريب بعيد عن أهله ولا أستطيع أن أصنع شيئا. وشعرت بالذنب لأنني أبلغت الشرطة بوجود الجثة، ولو انتظرت عودته لاستطعت أن أجد معه مخرجا.

لمت نفسي على تسرعي، وطلبت من محافظ الشرطة أن ألتقي به لأسأله إن كان يريد شيئا. اجابني: "ليس الآن ولكن أحضر له بطانية وملابس داخلية ومنامة وأدوات الحلاقة". لم أتناول الغداء في ذلك اليوم. ذهبت إلى الثانوية ووجدت "عصام" فأخبرته بما حدث، وبحثنا عن المدير فوجدناه يتجول في المطعم. ذهب معنا إلى مكتبه واتصل بمحافظ الشرطة الذي قال له: "لم توجه له التهمة بعد. اعتقلناه على ذمة التحقيق، لأن القتيلة وجدت  في بيته ولم يستطع أن يثبت أين كان من التاسعة إلى الحادية عشرة. أكد أنه ذهب إلى شارع طنجة ليشتري أدوات موسيقية فوجد المحل مغلقا، لكن للأسف ليس لديه أي شاهد رآه هناك". أعطاه المحافظ موعدا في الساعة الثانية.

كان التأثر واضحا في وجه المدير وفي حديثه ودفاعه عن وجدي مع محافظ الشرطة. انتظرت حضور خالي في غرفة الأساتذة. جاء في الساعة الواحدة والنصف يبحث عني بعد ما أبلغه المدير بتفاصيل الحادثة. كان متأثرا جدا. حاول أن يصبرني بعد أن أفضيت له بما  أشعر به من عجز وخجل لإبلاغي الشرطة: "لا تلم نفسك. صحيح أن من واجبك أن تساعد صديقك حتى وإن كان مذنبا. ولكن لا يجوز أن تكون شريكه في الجريمة  فللصداقة حدود لا يجب أن نتعداها".

ـ "إن صداقتنا بلا حدود".

ـ "ليس هناك صداقة بلا حدود، والصداقة المثالية حدودها الشرع والأخلاق والقانون. فلا يمكن أن يطلب الصديق من صديقه انتهاك واحدة منها باسم الصداقة، أو أن يساعده في ذلك".

ـ "ولكني بلغت عنه وأنا مقتنع أنه بريء. ظننته في القسم وقت الجريمة".                                            

ـ "أنت لم تبلغ عنه. بلغت عن جريمة حدثت، وسوف نساعده جميعا في إثبات براءته".

انتظرت مع عصام لقاء المدير بمحافظ الشرطة، وعندما عاد قبل الرابعة بقليل أخبرنا بأن الشرطة تعرفت على القتيلة من وثيقة كانت في سترتها واسمها بريجيت فلوريست وهي أستاذة فرنسية في البليدة، كانت صديقة فرانسواز وتتردد عليها باستمرار في الدار والثانوية، لكن زياراتها قلّت في السنة الماضية. من الواضح أن الشقة تعرضت للسرقة، ولكن المسروقات ظلت في الشقة بعد أن جهزت وربطت. وهذا يضعف موقف وجدي، إذ يمكن أن يتهم بأنه أراد أن يوهم الشرطة بالسرقة ليغطي جريمته. وطمأنني بأنه ذهب وقابل وجدي. وهو في صحة جيدة وحالة نفسية حسنة. وأضاف: "نحن لن نتخلى عنه أبدا".

سهرت مع عصام إلى ساعة متأخرة من الليل نحلّل ما حدث، ونحاول أن نجد تفسيرا منطقيا له. وتساءلت معه: "من الذي جاء  وقرع الجرس عدة مرات في الساعة التاسعة؟ ومن الذي قرعه بعد عشرين دقيقة؟ ومن كان في الداخل؟ وكيف دخلت بريجيت إلى الشقة؟ ومن فتح لها؟ ومن هم اللصوص؟ وكيف دخلوا؟" وافترقنا دون أن نجد أجوبة مقنعة لهذه الاسئلة المحيرة، ولكننا لم نشك لحظة واحدة في براءة وجدي أو نفترض أنه مذنب.

ـ 49 ـ

 لم يعرف معظم الأساتذة والتلاميذ خبر الجريمة والقبض على وجدي إلا صباح يوم الاثنين إذ نشرت صحيفتا "الشعب" بالعربية و "المجاهد" بالفرنسية نبأ اكتشاف جثة امرأة أوربية في الخامسة والعشرين من عمرها في شقة أستاذ مصري تم إيقافه. وأفادتا أن التحقيق جار لمعرفة هوية القتيلة وسبب القتل. تحلق الأساتذة حولي حين دخولي إلى القاعة للتأكد مما يشاع بأن الأستاذ المقصود هو وجدي. كان بينهم مقادري وحكيم وعمار وفايزة ونادية. أخبرتهم بما حدث وبهوية القتيلة. هرع إلي التلاميذ ليعربوا عن حزنهم وعدم تصديقهم أن وجدي يرتكب جريمة قتل. حين توجهت إلى قاعةالأساتذة  في استراحة العاشرة رأيت شقراء المحاسبة تتحدث مع أمينة المكتبة والتقطت أذني بالصدفة جزءا من محاورتهما:

ـ "إن لي نظرة في الناس لا تخيب. وخمّنت بأن هذا المصري سيء". 

ـ "لكن التحقيق لم يثبت عليه شيئا بعد. ربما يكون بريئا".

ـ "أتظنين ذلك؟ قتيلة في شقته. أنت لا تدرين مايفعله هؤلاء العزاب في شققهم. لو كان بريئا لما اعتقلوه. لا دخان بلا نار".

رأتني الشقراء المزيفة فتلعثمت قائلة: "كنا نت .. نتحدث عن صديقك المصري. أنا واثقة من براءته".

حديث الأساتذة في الاستراحة كله عن وجدي والقتيلة، وسبب وجودها في منزله. انقسموا إلى كثرة كاثرة تعتقد ببراءته، وقلة قليلة تجرمه، وتنتهز الفرصة  للهجوم على العرب والمشارقة والمصريين بصورة خاصة. جلست مع عصام، وأجلت نظري في القاعة. لمحت الناظر واقفا مع جاك وحكيم وعمار منهمكين في حديث ذي شجون. ثم رأيت عمار يشير بيده احتجاجا على ما يقال، وينسحب إلى مقعده. ورأيت السردي ومقادري غارقين في نقاش حاد. جاءت إلي فايزة وسألتني بلهفة: "أين هو الآن؟"

ـ "لا أدري ربما لا يزال موقوفا في قسم الشرطة، وربما سلم إلى النيابة". تلعثمت قليلا واحمر وجهها واستجمعت شجاعتها وقالت بلهجة متوسلة: "إذا زرته أبلغه سلامي واقتناعي ببراءته". وانصرفت بسرعة قبل أن يفتضح ارتباكها.

لم تكن مارتا حاضرة في الصباح. وحين سمعت النبأ جاءتني مستفهمة، سردت لها ما حدث فأخذت تهز رأسها مبدية أسفها وعلقت بقولها: "في الأمر لغز ولا بد أن ينكشف، ولكني واثقة من براءة الأستاذ المصري. سمعته يعزف. إن أصابعه سحرية ليست من عالمنا هذا. هذه الأصابع تبعث الحياة فيما حولها ولا يمكن أن تقتل".

لم يسمح لي اليوم بمقابلة وجدي. كانت سهرتي مع عصام كسهرة الأمس مليئة بالافتراضات والتحليلات العقيمة التي لم توصلنا إلى شيء.

ـ  50  ـ

انتهى الدرس النموذجي الذي قدمه الأستاذ من الثامنة إلى التاسعة، وموضوعه قصيدة: "السيف أصدق أنباء من الكتب" لأبي تمام. كنا ما يقرب من أربعين أستاذا نجلس في الصفوف الخلفية من القاعة الكبيرة، بينما كان التلاميذ في المقدمة. خرج التلاميذ وشغل بعضنا المقاعد الأمامية. جلس المفتش والأستاذ على المصطبة وراء طاولة القسم في انتظار المناقشة. وفوق رأسهما على  الجدار اللوحة الوحيدة في القاعة. كتب عليها بالحبر الصيني: "تذكروا أننا نربي أبناءنا لزمانهم لا لزماننا".

كانت ضآلة جسم الأستاذ ونحوله أمام طول المفتش وضخامته  حتى وهو جالس توحي بأنهما ينتميان إلى جنسين مختلفين: الأقزام والعمالقة. جلست في الصف الثالث وأنا أنوي الاستماع وتسجيل كل ما يقال عملا بنصيحة خالي العروسي التي زودني بها في السنة الماضية: "إذا أردت أن تتعلم فاستمع أكثر مما تتكلم. فأنت جديد، وعليك الاستفادة من خبرة الذين سبقوك. ولا تنقد بقصد الاستفزاز، فالأسلوب مهم في النقد. وإن لم تكن لديك حجة على ما تقول فالصمت خير لك".

بدأت المناقشة بإشراف المفتش، وأخذ الاساتذة يقيمون التمهيد، والعرض، والطريقة، وتعقيبات الأستاذ، وعلاقته بالتلاميذ، وبدا واضحا أن اختلاف معايير التقييم بينهم يصل أحيانا إلى 180 درجة. وما أدهشني أن أستاذا وصل متأخرا، ولم يحضر الدرس قيمه خطوة خطوة اعتمادا على ما قاله زملاؤه. وحين ناقش الحاضرون مغزى النص كان رأي معظمهم أن الغلبة للقوة عمياء كانت أم مبصرة. كانت حجتهم أن الجزائر والفيتنام تحررتا بها وأنها السبيل الوحيد لتحرير فلسطين والأراضي العربية، بل أضاف بعضهم بأنها السبيل الوحيد لتحقيق ما يصبو إليه الإنسان في الحياة. لم أشارك في النقاش، ولكني كنت متحمسا لرأيهم. فالقوة هي الصوت الوحيد المسموع في هذا العصر.

ضاعت الأصوات القليلة التي نبهت إلى دور القلم والفكر. لم  يسمح لها بعرض وجهة نظرها، فكانت تقاطع بما يشبه الخطب الحربية التي تقرر أن الرصاصة تساوي ملايين الكلمات. كان جاري الجالس على يميني وهو عراقي في بداية الخمسينات أحد هؤلاء. قال لي: "لقد انتصرت الغوغائية فالقوة هي الغابة، والأساتذة لا يفرقون بين الكلمات الفارغة والعقيمة والكلمات الخصبة التي بنت حضارات وأقامت دولا، وبنت عقولا وأبدعت علوما. الكلمة الصادقة هي تعبير عن أسمى ما في الإنسان من خير وحق وجمال. هي رسالات الأنبياء وحكمة الفلاسفة وإبداعات الشعراء. والقوة العمياء تعبير عن أحط ما في الإنسان من غرائز التسلط والجبروت والظلم. أما القوة المبصرة فخادمة للحق لا تسير إلا في ركابه، والحق كلمة. ولا يمكن للقوة مهما بلغت أن تنتصر عليه نهائيا وإلا لبقي الإنسان حيوانا تحكمه الغرائز. أي غباء هذا؟ من المؤسف أن ينتصر المعلمون للقوة ويحتقروا القلم والكلمة، وهما سلاحهما في تفتيح العقول. ففي أي طريق سيمضون بالأجيال؟"

أحسست أنه صفعني بقوله هذا. وأضاف: "كثرت الكلمات العقيمة والخطاب الأجوف، وندرت الكلمة الطيبة المبدعة. من أجل  ذلك كفر الناس بها". ثم أردف بحرارة: "المعلم الذي لا يؤمن بالكلمة معلم زائف".

أنهى المفتش المناقشة في الساعة العاشرة والنصف، ورفع الجلسة للإستراحة وتناول القهوة في نادي المعهد. كان يجلس على يساري أستاذ جزائري في الثلاثين أنهى دراسته الثانوية في الكويت والجامعية في العراق في زمن الثورة. ويعمل مع العراقي في ثانوية الإدريسي. عاتبني الأستاذ العراقي على مستوى التلاميذ في ثانويتنا، وسألني مستنكرا: "كيف ينجح تلميذ ضعيف مثل سامر عبد العظيم إلى السنة الثانية ثانوي وهو لا يستحق أن يكون في الثالثة الابتدائية". أجبته باستغراب: "لكن هذا التلميذ رسب في السنة الأولى". رد قائلا:  "رأيت وثيقة نجاحه بنفسي". عرفت أن الناظر استطاع تزوير وثيقة النقل، ليؤدي خدمة للسيد عبد العظيم، ويقبض ثمنها بالطبع. وعزمت على إخبار المدير بالأمر.

بدأت مناقشة المناهج بعد الاستراحة وبرزت ثلاثة اتجاهات رئيسية اتفقت في الهجوم المنظم على المناهج والكتب، واختلفت في الدوافع. اتفق معظم المتدخلين على أنها غير واضحة الأهداف، وأنها أهملت الأدب الجزائري والمغربي إهمالا يكاد يكون تاما، لولا بعض النصوص الأندلسية في السنة الثانية، والجزائرية في السنة الثالثة.

أما الاتجاه الأول فيضم الأساتذة ممّن درّسوا في المدارس  الحرّة أو من الأئمة السابقين، وهم من مستويات مختلفة، بعضهم تخرج من الزيتونة وبعضهم درس فيها ولم يتم دراسته، وبعضهم من خريجي الزوايا في الجزائر. وقد انتقدت هذه المجموعة قلة النصوص الدينية والأخلاقية في الكتب، وأوصت بالاهتمام بالنحو. وأما الاتجاه الثاني فيمثله بعض الجزائريين الشباب ممن تخرجوا من جامعة الجزائر والجامعات العربية وبعض أساتذة المشرق. وقد عابوا على المناهج والكتب بعدها عن واقع التلميذ فليست عصرية ولا جذابة. واقترحوا تدريس الفنون الأدبية العصرية كالرواية والمسرحية واستبدال طريقة المحاور  بالعصور الأدبية. ويمثل الاتجاه الثالث العراقي الجالس بجواري، وأستاذ جزائري يدرّس في المعهد. وقد ألحا على ضرورة اشتمال المنهج على الأدب العالمي المترجم، وعلى الأدب المكتوب بالفرنسية، كما ألحا على الاهتمام بتكوين المعلمين والأساتذة. وطالبا بفصل تعليم الدين عن تعليم اللغة. دافع الأستاذ الجزائري عن تدريس الأدب المكتوب بالفرنسية قائلا: "لن أختلف معكم في التسمية. سموه أدبا عربيا، أو أدبا جزائريا مكتوبا بالفرنسية، ولكنكم لن تستطيعوا أن تنزعوا عنه صفة الجزائرية. فهو أدب جزائري الروح، كانت الفرنسية فيه مجرد وعاء ناقل. ومن العار ألا يعرف التلميذ المعرَّب شيئا عن محمد ديب ومولود فرعون ومالك حداد ومولود معمري وآسيا جبار، وهم معروفون في الخارج".

صمت الجميع ولم يخض أحد في هذا الموضوع، وقوبل بالتجاهل التام. وأما الأستاذ العراقي فعرض رأيه في فصل تعليم اللغة عن الدين بقوله: "الأدب والدين مادتان مختلفتان، وكان للفقهاء في عصور الحضارة العربية الإسلامية مجالهم وللأدباء مجالهم. ولا بد لمن يعلم المادتين أن يجحف في حق إحداهما، فإن كان أقرب إلى الفقه أهمل الجوانب الأدبية، وإن مال إلى الأدب قصّر في تعليم الدين. ولذا لابد من فصل تعليمهما في الثانويات لإعطاء كل مادة حقها. لم يستطع إكمال فكرته إذ بدأ من حوله يهمسون: "شيوعي". وتحول الهمس إلى اتهام صريح بصوت مسموع فسكت وجلس. لكن المفتش كان حازما في إسكات الأصوات، وطلب من الأستاذ العراقي مواصلة كلمته، لكنه اعتذر عن إتمامها.  

كان الأساتذة الجزائريون الشباب يدركون فضل أساتذة المجموعة الأولى في تعليم اللغة العربية في المدارس الحرة أثناء الاستعمار، كما يدركون دور الزوايا الإيجابي في الحفاظ عليها. ولكنهم يطمحون إلى تجديد المناهج وتحديث طرق تعليمها لجعلها لغة عصرية. وكان الأساتذة القدماء يدركون ذلك ولا يعارضون فيما عدا مجموعة صغيرة تقاوم كل تجديد يمثلها مقادري. كان يتخذ مكانه عادة في وسط القاعة، وأركان حربه حوله. فإذا تكلم أيّدوه، وإذا ردّ عليه أحد قاطعوه، وأخذوا يعلّقون ويتكلمون ليُخيفوه ويُسكتوه. لاحظت ذلك في ندوة السنة الماضية، كما لاحظت أنه إذا ناقشه أحد المشارقة، رد عليه قائلا: "أهل مكة أدرى بشعابها". وإذا ناقشه أحد الأساتذة الجزائريين الذين درسوا في المشرق، قال له: "أفسد المشارقة عقولكم". أما إذا ناقشه أحد الشباب المتخرجين من جامعة الجزائر وبخه قائلا: "عجبا لكم كنا نحترم شيوخنا، ولا نتكلم في حضرتهم. وأنتم اليوم تقفون أندادا  لنا وتسفهون آراءنا، ألا تستحون؟"

لكن المفتش لم يسمح هذه المرة له ولمجموعته بالإرهاب الفكري. واستطاع بهدوئه و ذكائه أن يجعل الندوة منبرا حرا يعبر فيه الأساتذة عن آرائهم. كان يخفف من حدة توترهم وشدة لهجتهم بتعليقاته الخفيفة التي تلطف الجو المشحون.

حميت المناقشة وارتفعت درجة الحرارة في القاعة وطالب بعض الأساتذة بفتح النوافذ بينما طالب بعضهم بإغلاقها. كان الحل الوسط فتح بعضها وغلق بعضها الآخر. نزع المفتش برنوسه الأبيض  وبدا أنيقا في بدلته الأوربية، ومسح بمنديله وجهه الأبيض المشوب بحمرة. هو مثقف بالعربية والفرنسية، أستاذ سابق في مدارس جمعية العلماء، متشبع بثقافة تراثية متينة، وثقافة عصرية. معلم حقيقي يحسن التوجيه والقيادة. ورغم سيره نحو الشيخوخة فقد احتفظ بلياقته البدنية وحيويته النفسية وصفائه الفكري. كنا نحترمه جميعا. كان كقائد "التخت" الذي يدخل منافسة إجبارية مع جوْقة حديثة عصرية، بينما العازفون  ممّن تحت إمرته لديهم آلات قديمة. وهم متفاوتون في المهارة ولايضربون على إيقاع واحد.

رفعت الجلسة في الساعة الواحدة لتناول الغداء، وهمس الأستاذ العراقي في أذني: "الناس يظنون أن المفتش مطلق الصلاحية في اتخاذ القرارات. ويحمّلونه مسؤولية النظام التربوي بكامله. لكنه ككل قائد لا يستطيع أن يسير إلا حسب طاقة جنوده". قلت في  نفسي: "هذا صحيح. إنه كقائد القافلة لا يستطيع أن يسير إلا بسرعة أبطأ جمل فيها كما يقول المثل الصحراوي".

استؤنفت الندوة بعد الغداء، ووصل النقاش الآن إلى معايير اختيار النصوص. واحتد الصراع بين من يريد تبني النصوص  القديمة في الشعر والنثر، ومن يريد ربط التلميذ بآداب العصر من رواية ومسرح وشعر حر. وظهرت اتجاهات حزبية دينية ووطنية وقومية وأممية تحاول فرض ألوانها في هذه المعايير.

توترت الأعصاب وارتفعت الأصوات وتبودلت الاتهامات، ثم توصل الحاضرون إلى اتفاق نظري على تنوع النصوص بين فكرية تحرك العقل، وشاعرية تثير العواطف، وأخلاقية تربي الوجدان، ووصفية تنمي الملاحظة وتوقظ الحواس، على أن تختار من الأدب الجزائري قديمه وحديثه، ومن الأدب العربي ممايسمح للتلاميذ بمعرفة أدبائهم الجزائريين والعرب.

رفعت الجلسة في الساعة الخامسة، وهمس الأستاذ العراقي مرة أخرى في أذني ونحن نخرج من القاعة: "إن بعض هؤلاء مختصون في قتل النصوص الأدبية، وإفراغها عند التحليل من كل مضمون، بحيث يحوّلون كتاب كليلة ودمنة إلى حكايات مسلية، وأدب الجاحظ إلى فكاهة، وقصة حي بن يقظان إلى مغامرة، وشعر المتنبي  والمعري إلى قطع محفوظات، والشعر الغزلي الرقيق إلى مسائل نحوية وإعرابية. هم لا يحرّكون عقلا ولا يثيرون عاطفة، ولا يوقظون حاسة، ولا يرتقون بوجدان".

انتهزت فرصة انشغال الأستاذ العراقي بالحديث مع زميله، وسألت الأستاذ الجزائري عن اتجاهه الحزبي: "هل هو شيوعي؟"

ـ "أبدا. ليس حزبيا. هو أستاذ حر. حورب وسجن في كل العهود. في زمن نوري السعيد ثم الشيوعيين فالبعثيين لأنه ينادي بحرية التعليم. ولا يرضى بالاستبداد والفكر الأحادي وعبادة الشخصية. هو ينتقل الآن من بلد إلى بلد. وفي كل بلد يعتبر مشاغبا ويطرد. ولا أدري كم سيمكث في الجزائر؟"

خرجت من المعهد وقد أنهيت مع زملائي أساتذة اللغة العربية دورتنا التدريبية التي تدوم يوماً واحد في كل عام. أساتذة اللغة الإنجليزية يرسلون إلى إنجلترا، ويأتي أساتذة مختصون من إنجلترا  للمساعدة في تكوينهم وترقيتهم بمعونة المركز الثقافي البريطاني. وأساتذة اللغة الفرنسية يتلقون دورات تدريبية في اللغة وفي وسائل تعليمها في فرنسا. أما أساتذة اللغة العربية فتكوينهم في هذه الندوة اليتيمة التي يتكلم فيها الجميع ولا يستمع أحد.

أدركت الآن لماذا يعمل معظم خريجي اللغات الأجنبية في الإدارات الحكومية الهامة والخارجية وفي السينما والتلفزيون، بينما يعمل معظمنا نحن خريجي اللغة العربية أئمة أو معلمين أو موظفين ثانويين. نحن نعيش على هامش العصر.

ـ 51 ـ

لن أذهب إلى درس الإنجليزية هذا المساء بالرغم من شوقي الشديد لجانين، فلا يمكنني لقاؤها في هذه الظروف لأني سأبدو كئيبا وثقيل الظل أمامها، فليس في وسعي تجاهل ما حدث لوجدي. كان عصام ينتظرني في غرفته. اقترحت عليه الخروج والتجول وسط العاصمة. لم يكن الطقس شديد البرودة فتمشينا في شارع حسيبة وديدوش، وهو يقص علي ما حدث في الثانوية صباح اليوم: "أعد جاك و حكيم عريضة باسم الأساتذة تطالب بإلغاء عقد وجدي وفصله من التعليم والإسراع في محاكمته على جريمته الشنيعة. كان اللؤم ينضح من عيني جاك الرماديتين، والكره يقطر من عيني حكيم.

خيل إلي أن الكره شوه وجهيهما وحولهما إلى وحشين مخيفين متحفزين للانقضاض على فريسة. حاول جاك إقناع مارتا بتوقيع العريضة وتمريرها على الأساتذة، فرفضت و أجابته: "صحيح أنني لا أعرفه جيدا، فقد تكلمت معه مرتين أو ثلاث بالإنجليزية، لكنني مع ذلك واثقة من براءته". حاول حكيم  إقناع عمار بالتوقيع فأجابه: "هذه قضية تخص العدالة. وهذا زميل لنا، فكيف نجرمه قبل المحاكمة؟ وماذا يقول الناس لو ثبتت براءته؟"

   أما الناظر فكان يلعب على الحبلين. كان يشجعهما ويدعمهما لكنه اعتذر عن التوقيع لأنه من الإدارة. الموقف المثير في الحقيقة كان موقف فايزة. حين قدمت إليها العريضة قرأتها ثم كورتها بيدها في عصبية ظاهرة، وألقت بها على الطاولة. وخاطبت جاك وحكيم بلهجة غاضبة. كان غضبها كالسيل الجارف لا يستطيع أحد مواجهته: "أنتما عنصريان تكرهان العرب، ولو كان المتهم فرنسيا أو أوربيا لما تحركتما".

كنت أتابع مع الأساتذة الجزائريين والعرب ما حدث فصفقنا لها. تناول جاك لوبتي الورقة المكورة، وخرج مع حكيم من القاعة. ذهبنا برئاسة العروسي ومعنا مقادري إلى المدير وطلبنا منه تحذير "جاك لوبتي" بألايتدخل فيما لا يعنيه وألا يستفز مشاعرنا. اعتذر السردي عن مرافقتنا. طمأننا المدير بأن وجدي يعتبر في إجازة اضطرارية، وأن الوزارة ألغت نقله بعد ما حدث. وعينت غيره في معهد بوزريعة. وقال: "نحن جميعا نتضامن معه حتى تظهر براءته".                                                                                         

وصلنا إلى شارع  صغير متفرع من شارع ديدوش مراد فرأينا من بعيد مانع السعدون، وكاظم أصلان يدخلان أحد البارات فقال عصام: "هذا بار التريو حيث يسهران كل  ليلة مع بعض العراقيين والجزائريين. ومن الغريب أن حكيم وعمار يسهران كل ليلة في نفس البار، ولكن في الطابق العلوي فلا يجتمعون على طاولة واحدة أبدا".

لم تطل جولتنا، ونمت باكرا في تلك الليلة، فقد أنهكني سهر الليلتين السابقتين، وفي الصباح استأنفت العمل في الثانوية، وفوجئت بعد انتهاء الحصة وسؤال أحد التلاميذ عما انتهت إليه قضية وجدي، بتغير في مواقف بعضهم توحي بها تعليقاتهم مثل: "الموسيقى تدعو إلى الميوعة والانحلال"، "الموسيقى تثير الغرائز لذا حرمها الإسلام"، "المقتولة كانت في داره، وقد قبض عليه والقضية واضحة". وكانت هذه التعليقات من جهات مختلفة من القسم. وشممت فيها رائحة السّردي.

أخبرني المدير في الساعة العاشرة بأنه استطاع الحصول على إذن شخصي لي بمقابلة وجدي في الساعة الثانية. سررت لهذا الخبر وأخذت أنتظر الثانية بفارغ الصبر. كدت أن أخبره بقضية ابن السيد عبد العظيم ثم تراجعت خوفا من أن تكون النتيجة عكسية وأن يستغل السيد عبد العظيم نفوذه ليؤذي المدير بدلا من عقاب الناظر. حضرت نوّارة في الساعة الواحدة لتعويض درس الأمس فاعتذرت لها. أبدت أسفها لما حدث وتعاطفها معي ومع وجدي بطريقة مؤثرة قائلة: "أنا متأكدة من براءة صديقك، وأنا معك بكل جوارحي في هذه اللحظة الحرجة. وستجدني إلى جانبك كلما احتجت إلي".

قابلت وجدي في غرفة قادني إليها محافظ الشرطة. أحضرت له الرسائل التي وصلته وبعض الكتب والفواكه. استقبلني بترحاب لم أكن أنتظره، وتعانقنا طويلا. كانت روحه المعنوية عالية جدا.  قلت له: "أنا آسف لأنني أبلغت الشرطة. كان يجب أن أبحث عنك لتبلغ أنت وترد التهمة عن نفسك".

ـ "ما فعلته هو الحق. أحسنت إلي بإسراعك بالإبلاغ، ولا أستطيع أن أفسر ذلك الآن فلا تلم نفسك".

لم أفهم قصده، لكن شعوري بالذنب بدأ يتلاشى. سألته: "هل زارك المحامي؟ قال المدير بأنه سيرسله".

ـ "ليس هناك ضرورة الآن للمحامي، وأنا على اتصال بالسفارة المصرية. وهي على علم بكل الظروف".

نقلت له ما حدث في الثانوية وتضامن الأساتذة معه. وبلغته رسالة فايزة وموقفها، فانبسطت أساريره، ثم سألته: "كيف تقضي أوقاتك هنا؟ كلنا قلقون عليك".

ـ "لا تقلق علي، وأبلغ الزملاء شكري وقل لهم أن يطمئنوا. بلغ فايزة تأثري بثقتها فيّ ودفاعها عني".

سألته وأنا أودعه إن كان محتاجا لشيء فأجاب بالنفي.

ـ 52 ـ

جاءت نوارة كالعادة يوم الخميس في الواحدة، فاعتذرت لها مرة أخرى عن الدرس. لم تحضر جانين في المساء درس الإنجليزية. كنت متشوقا لرؤيتها. لم أنتبه كثيرا للدرس والمناقشة. كان ذهني موزعا بين وجدي وجانين. رافقني الاثنان طيلة الليلة وحتى في الأحلام. تساءلت: "متى تنتهي محنة وجدي؟".

أما جانين فسألت نفسي: "ترى هل أجدها بعد غد في الموعد الذي حددناه؟"

ـ53ـ

خرجت جانين من باب العمارة في التاسعة تماما. كانت تلبس سترة وبنطلونا أنيقين من الجينز. سألتني: "هل نحتاج إلى السيارة؟"

أجبتها بالنفي. اتجهنا صوب القصبة. صعدنا أدراجها. مشينا في أزقتها الملتوية، وشاهدنا بيوتها من الخارج. وقبل أن نخرج من القصبة إلى ساحة الشهداء لفت نظرها جامع كيتشاوة، واهتمت كفنانة بطرازه المعماري وزخرفته. ثم زرنا المتحف الوطني  للفنون والتقاليد الشعبية في قصر خداوج العمياء. حدثنا قيم القصر عن أسطورة خداوج بنت الداي حسان التي كانت لفرط جمالها تطيل النظر إلى وجهها في المرآة، فأصيبت بالعمى. تأثرت جانين بالقصة وخمّنت أنها ربما استوحت منها إحدى  لوحاتها. كما زرنا مقام "سيدي عبد الرحمن"، والتقينا عند خروجنا مصادفة بنوارة وأختها داسين. سلمتا علينا وعرفتهما بجانين. رأيت في عيني نوارة عتابا لأنني اعتذرت عن درس العربية بسبب انشغالي بقضية وجدي. وها هي تراني أتجول وأتنزه مع فتاة فرنسية. ودعناهما وتابعنا جولتنا.

تغدّينا في"السمّاكة" بساحة الشهداء، وطلبت ألوانا من الجمبري والسلمون والميرلون والروجي بتفويض كامل من جانين. كانت الخدمة جيدة، والنادل خفيف الدم واليد، وحلو اللسان. وقد خلق جوا لم أستطع اصطناعه منذ الصباح. كنت دليلا ثقيل الظل ولاحظت جانين أنني لم أكن طبيعيا. قالت لي ونحن نتناول القهوة في مقهى قريب من ساحة بور سعيد: "ما بالك؟ هل أنت حزين من أجل صديقك المصري؟" دهشت من دقة ملاحظتها، وأردفت: "لا تنزعج، فستظهر براءته حالما تستطيع بريجيت إخبار الشرطة عن القاتل".

قلت باستغراب شديد: "عن أي بريجيت تتحدثين؟"

أجابت بلهجة الواثق من نفسه: "عن بريجيت التي وجدوها في شقته". 

ـ "ولكنها ماتت. وأنا الذي وجدتها ميتة في شقته". وشرحت لها كيف وجدت الباب مفتوحا، وكيف أخبرت الشرطة عن رؤيتي الجثة.

ابتسمت لي ابتسامتها العذبة وقالت: "أنت لا تعرف إذاً. بريجيت لم تمت. ربما أنت الذي أنقذت حياتها". ألجمت الدهشة  لساني، ففتحت فمي دون أن أنبس بكلمة. وفاجأتني جانين بخبر اجتماع الأساتذة الفرنسيين بالأمس في "ليسيه ديكارت" وهو سبب عدم حضورها درس الإنجليزية. لم تحدثني عما جرى في الاجتماع بالتفصيل. ولكنها ألمحت إلى أن بعض الأساتذة الفرنسيين يعتقدون أن هناك أطرافاً في البوليس تحابي العرب والمصريين، وربما تعرقل سير التحقيق. وطالبوا أن تكون السفارة الفرنسية حازمة، وأن تشارك في التحقيق وقالت إحدى الأستاذات: "إن أرواح الفرنسيين كلهم معرضة للخطر". ونقلت لي بعض ما ردّت به مارتا دانيال على هؤلاء:

"لن يقبل الجزائريون أي تدخل في شؤونهم، فهم شديدو الحساسية من هذه الجهة. لكن السفارة تستطيع متابعة الموضوع دون إثارة حساسيات. وعلينا أن ننتظر ما يسفر عنه التحقيق قبل أن نكيل الاتهامات لأحد". وأعلنت مارتا صراحة أنها تؤمن ببراءة الأستاذ المصري، وامتدحته أمامنا. وقبل أن نتم المناقشة دخل المدير ومعه عضو من السفارة. وبادرنا بقوله: "لدي بشرى لكم، بريجيت لم تمت ولكنها في غيبوبة. وهي في العناية المركزة بإشراف أفضل الأطباء الجزائريين والفرنسيين، وحالتها تتحسن فاطمئنوا". وحسمت هذه العبارة النقاش. وتساءلت: «ترى هل يعرف وجدي أنها ماتزال حية؟ لمعت في ذهني فجأة صورته وهو يقول لي: "أحسنت بإسراعك بالإبلاغ، ولا أستطيع أن أفسر ذلك الآن". لماذا لم يقل لي إذن؟ ولم أجد جواباً لهذا السؤال.

سألت جانين لأشبع فضولي: "هل حضر جاك؟"

ـ "نعم".

ـ "وماذا قال؟"

سكتت جانين، واستنتجت من سكوتها أن جاك هو الذي يقود الحملة ضد العرب والمصريين كما قادها في الثانوية. وقبل أن أتابع أسئلتي قالت: "أيهمك ما قاله جاك، ولا يهمك ما قلته أنا؟"

قلت لها بنبرة صادقة: "أعرف مايمكن أن تقوليه، فأنت لا يمكن أن تكرهي. أنت الحب نفسه مجسدا في صورة ملاك من ملائكة الحب. وما تقولينه ينبع من معين المحبة"

قالت ضاحكة: "بدأت تخرج عن الموضوع". ثم أخذ وجهها تعبيرا جديا، وسألتني: "ما قصتك مع"نوّارة"؟ ولم تستطع تشديد الاسم.

ـ "إنها ابنة المدير وأعطيها دروس في العربية".

ـ "فقط؟"

ـ "ماذا تقصدين؟"

ـ "هذه الفتاة تحبك وتحبك بقوة". عجبت من قولها فقد قال لي وجدي نفس الكلام يوم جاءت نوارة إلى غرفة الأساتذة، وأعلنت نجاحها وحصولها على الليسانس. أردت أن أغير الموضوع فأخرجت من جيبي ورقة مطوية و فتحتها  وسلمتها لها.

ـ "ما هذا؟"

ـ "قصيدة".

ـ "مكتوبة بالعربية؟"

ـ "نعم".

ـ "عم تتحدث؟"  

ـ "إنها جواب سؤالك".

ـ "أي سؤال؟"

ـ "هل كنت أحبك لو لم تكوني جميلة؟"

فظهرت على وجهها علائم الفرحة والفضول. قالت: "ترجم لي ما كتبته فيها".

أخرجت ورقة ثانية من جيبي، وقلت: "ترجمة الشعر صعبة، وهذه محاولتي الأولى في ترجمته. إليك الترجمة الفرنسية".

تبدأ القصيدة بالمقطع الآتي:

"حبيبتي

سِيّانِ عِندي أنْ تكوني أجْملَ النّساءْ

أو أنْ تكوني امرأةً دميمةً شوْهاءْ 

سِيّانِ عندي أنْ تكوني شُعلةً مِنَ الذّكاءْ

أو دُمْيَةً بَلهاءْ

فالحبّ يا آسرتي قَضاءْ

و قدرٌ من السّماءْ

و أنْتِ أنْتِ قَدَري

و لا مَرَدّ للقضاء ْ

و الحبّ يجعلُ منكِ أجملَ النّساءْ  وأعقلَ النّساءْ".

قرأتْ جانين ترجمة المقطع الأول وانتقلت إلى المقطع الثاني:

"سِيّانِ عِندي أن تكوني عفةً عذْراءْ

أو ثيّباً تأْثَمُ دونَما حَياءْ

فالحبّ يجعلُ منك أشرفَ النّساءْ وأطهرَ النّساءْ".

قرأت بقية القصيدة، ويبدو أنها فوجئت بها فعلّقت: "ما أرقّ وأعذب ما قلته، أنت شاعر وفنان وحساس".

كان نثرها أروع كثيرا من شعري، وأعذب ما يسمعه الرجل مديح غادة حسناء له. سألتها: "هل أجبت عن سؤالك؟"

قالت بدلال: "جوابك بليغ ولكنه غير مقنع". وأضافت: "المهم أنه أسعدني". أشارت إلى القصيدة المكتوبة بالعربية معلّقة: "أنا أعرف هذا الخط منذ صغري. كنت في الثانية عشرة حين استضافت أسرتي طالبا سوريا يدرس في بيزانسون. أهداني كتاباً عن السّندباد البحري من قصص ألف ليلة وليلة  مكتوبا بالعربية  وبالفرنسية. كنت  أنظر إلى الصفحات المقابلة للصفحات الفرنسية نظرتي إلى طلاسم. هذه اللغة التي تشبه الزخارف كيف أستطيع فك طلاسمها؟ وقد قرأت الكتاب بالفرنسية عدة مرات ومازلت أحتفظ به". ثم نظرت إليّ قائلة: "عدني أن تساعدني في المستقبل على تعلم العربية".  

ـ "أعدك". واتفقنا على اللقاء في الخميس القادم في الموعد نفسه، وبدأت بذلك مغامرة حبنا المثيرة.

- 54 -

بيننا إرث الماضي بأمجاده وأحقاده.

يفصل بيننا جغرافيّاً بحرٌ متلاطمُ الأمواجْ ، متقلّب المزاجْ. تقف على ضفته الشمالية، وأقف على ضفته الجنوبية.

ويفصل بيننا تاريخيّاً بحر من الدماء والدموع. فهي سليلة شارلمان وشارل مارتل وفيليب الثاني ونابليون وكليبر وبيجو وكل جنرالات فرنسا وأنا سليل يوغورطة وهارون الرشيد وطارق بن زياد وصلاح الدين وسليمان الحلبي والأمير عبد القادر والمقراني وكل المجاهدين.

هي مسيحية كاثوليكية تنتتمي إلى الحضارة الغربية المسيحية  وأنا مسلم سنّي أنتمي إلى الحضارة العربية الإسلامية.

هي ابنة بيزانسون في حضن الغابات والجبال المتعرجة صعودا وهبوطا في قمم وسفوح ووديان. وأنا ابن بوسعادة واحة الصحراء المنبسطة على مد النظر.

هي من بلد السحب والأمطار. وأنا من بلد الشمس الساطعة طيلة العام.   

هي بيضاء شقراء خضراء العينين. وأنا أسمر أسود الشعر والعينين.  

هي تحمل إزميل المثالين الإغريقيين وريشة ميشيل أنجلو   ودافنشي ورونوار. وتستلهم "ميوز" ربة الجمال في جبل الأولمب. وأنا أحمل قلم امرىء القيس والمتنبي والحصري القيرواني ومحمد العيد آل خليفة، وأستلهم شياطين الشعر في وادي عبقر.

هل يمكن أن نطوي سجل الماضي، ونفتح سجل المستقبل؟

يجمع بيننا حب الفن الذي يصنع الجمال .

كلانا أستاذ يشارك في زرع قيم الحق والخير والجمال.  ويساهم في نشر العلم والمعرفة.

كلانا شاب محب يريد بناء المستقبل .

كلانا واع بالاختلاف مع الآخر ويحترم عقيدته وأعرافه.  ويؤمن بالمساواة التامة بين الناس. 

يجمع بيننا فوق ذلك الحب الذي لا يأبه باختلاف الأعراق    والأديان والثقافات واللغات. الحب الذي يعيدنا إلى طبيعتنا الأولى:  شخصين مجردين من كل شيء إلا من إنسانيتهما، ومن انجذاب كل منهما إلى الآخر انجذاباً طبيعيا، دون اكتراث بالاختلافات التي اصطنعها البشر. 

هل يمكن أن نبني المستقبل معا؟؟؟

  لقراءة الجزء التالي انقر هنا: 6- الثلاثي الأول: بريء أم مذنب ب

لقراءة الجزء السابق انقر هنا: 4- رمضان: أعصاب وأفكار

 للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: جرس الدّخول إلى الحصّة

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات