رواية جرس الدخول إلى الحصة
للكاتب عبد الله خمّار
- 4 -
رمضان
أعصاب و أفكار
حلّ شهر رمضان، وشاع في الجزائر كلها بما في ذلك الثانوية، جوّ جديد يكسر رتابة الحياة، ويشحنها بإيقاع مختلف ومميز، ويحيل طعمها الأرضي المبتذل إلى طعم سماوي لا يتذوق حلاوته إلا من سمت أرواحهم في هذا الشهر، وحلقت في عوالم علوية من الحب والود والتراحم والتسامح، تتخلص فيها من أدران الكراهية والتعصب والجشع والاستغلال والرغبة. فمن لا يملك روحا مجنحة، يبقى في السفوح مثقلا بأدرانه، لا ينوبه من صيامه إلا الجوع والعطش.
تغيّر النظام في الثانوية، وتقلّص التوقيت فأصبحت الساعة خمساً وأربعين دقيقة. توقف المطعم عن العمل، وبرزت بعض الأنشطة الفكرية والأدبية والمسرحية. فمن عادة العروسي أن يشرف على ندوة أسبوعية تقام يوم الخميس في رمضان، يقدم فيها أحد الأساتذة محاضرة للتلاميذ تتبع بنقاش، وقد تطوعت هذا العام إلى جانب العروسي وعصام النوري.
بدأت الأستاذة فايزة النشاط المسرحي بتدريب التلاميذ استعدادا لحفلة أول نوفمبرعلى مسرحية شكسبير "تاجر البندقية". واختارت لدور المرابي اليهودي "شايلوك" تلميذا موهوبا ضخم الجسم.
مرّ اليوم الأول من رمضان في الثانوية على ما يرام. ولكن الجو تكهرب في اليوم الثاني، وسادته سحب كثيفة سوداء تنذر بعاصفة لا يدري أحد مداها. كان السبب إجراء إداريا بريئا، ورد فعل غير بريء على هذا الإجراء، قوبل برد عنيف مثله، واشتد الاحتكاك، وكاد أن يقع الانفجار.
لعل ظروف تكوين كل من عبد الرحمن السردي وحكيم بوعلام، هي التي جعلت منهما طرفي نقيض رغم نقاط التشابه الكثيرة بينهما. سنهما متقاربة، وكلاهما عنيف ومستبد برأيه، لكن أحدهما رزين هادئ يعمل من وراء ستار، والثاني عصبي المزاج. السردي تكون في المدرسة الجزائرية، بينما تخرج بوعلام من المدرسة الفرنسية، فهو خريج "ليسيه ديكارت". كلاهما تلقفته مجموعة متطرفة، الأول دينية متعصبة، والثاني عنصرية متعصبة. الأول يرى أن تخلي الناس عن الدين هو سبب الانحطاط، والثاني يرى أن التمسك بالدين هو سبب التخلف.
يعتقد السردي بضرورة التضحية بنصف أفراد المجتمع من أجل إصلاحه إذا لزم الأمر، وهو مستعد للمساهمة في تخليص المجتمع من هذا النصف الفاسد. ونقل عنه قوله: "إن معظم الأساتذة في الثانوية الجديدة لابد أن يردوا في قوائم التصفية، حين يجد الجد، وتبدأ عملية تطهير المجتمع. فهم إما شيوعيون أو بعثيون أو مستغربون أو فنانون منحلون". ويرى بوعلام أن الشعب لا زال متخلفا، ولابد له من نخبة مستنيرة تقوده. وهو وأمثاله يشكلون هذه النخبة. أما معظم الأساتذة في الثانوية من المعربين والإسلاميين، فهم ظلاميون يعيشون في القرون الوسطى، ولابد من منعهم من إلقاء البلاد في الهاوية.
كان كل منهما متحفزا مستعدا للانقضاض حين تأتي الفرصة المواتية، وقد سنحت لهما في رمضان، حين خصص المدير كعادته في كل عام غرفة منعزلة في الجناح الإداري للأساتذة الأجانب يدخنون فيها ويروون عطشهم حفظا لكرامتهم. لمحت الناظر في اليوم الاول يتحدث مع السردي ومقادري حديثا شممت منه رائحة التحريض.
وصلت متأخرا في اليوم الثاني. كان التلاميذ يصطفون في الساحة، ورأيت مجموعة من الأساتذة الجزائريين بينهم مقادري والسردي يتجهون نحو المدير الواقف كعادته يشرف على الدخول إلى الأقسام. كنت أراهم من بعيد وأنا أصعد إلى القسم يشوحون بأيديهم وتدل تعبيرات وجوههم وحركات أجسامهم على أنهم غاضبون، ويحتجون على أمر ما. ورأيت المدير يومئ بيده أيضا ثم يسحب متزعميْ الاحتجاج ويتحدث معهما. لكنهما تركاه ولوحا بأيديهما مهددين. وعرفت فيما بعد أنهما طالبا بإغلاق القاعة، فلم يعد هناك أجانب في الثانوية غير جاك ومارتا، وهما يحملان الجنسية الجزائرية. حاول إقناعهما بأن الصيام عبادة للمسلمين، ولا يجوز قسر غير المسلمين عليه، ولكنهما لم يقتنعا، وانصرفا عنه مهددين بإضراب عام في الثانوية. كما عرفت أنه بحث عن العروسي ليهدئ الأوضاع فلم يجده.
وفي وقت الاستراحة تجدد الاجتماع في غرفة الأساتذة. كان الجميع يتكلمون ويهمهمون بعبارات الاحتجاج. كنت أراقب من بعيد ما يحدث، حين رأيت عبد الرحمن السردي يسر شيئا في أذن مقادري فأومضت عيناه ببرق مخيف مفاجئ، وتوقعت أن ينفجر الرعد، فالبرق عادة ينذر بالرعد. وصح ما توقعته إذ أن مقادري انفجر فجأة بصوت مبهم ومتقطع في البداية، ثم انخفضت حدته وأصبح واضحا: "لا. لا. ثم لا. لن نقبل انتهاك حرمة رمضان في معهد من المفروض أن تكون كلمة الله فيه هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وإذا كان المدير لا يستمع لنا فسنتوقف عن الدراسة. سنغلق هذه الغرفة بأنفسنا لأنها مأوى للشياطين، كانت يداه وهو يخطب ملتصقتين بالكرسي وعمامته وكرشه يتحركان إلى الأمام والخلف ويمينا وشمالا تبعا لتحرك رأسه وجسمه مع أن قدميه ثابتتان في الأرض. أما السردي فكان واقفا ببرودة. كان وجهه بلحيته الكثة وعينيه الثعلبيتين خاليا من أي تعبير.
وقبل أن يتحرك الموكب حدث الانفجار في مكان آخر من الغرفة، حيث يجلس الفرانكوفون. فاجأ حكيم الذي كان هادئا لا يحرك ساكنا المحتجين بانتفاضه العنيف، صائحا بالفرنسية: " هل تريدون ﺇقامة محاكم تفتيش عندنا؟ وهل نحن في القرون الوسطى؟ ومن نصبكم لتتعدوا على حرية البشر؟"
ساد في القاعة صمت رهيب، وتوقف الرجال والنساء عن الأحاديث الجانبية، وصوبوا أنظارهم تجاه حكيم. أما مقادري والسردي ومجموعتهما، فقد بهتهم بتدخله المفاجئ. تحول وجهه الأبيض إلى بني داكن، وأصبحت عيناه القلقتان دائما شعلتي غضب. الزبد الأبيض يتطاير من فمه ويرتجف شاربه وذقنه المثلثة المدببة. كان يقفز إلى الأمام وإلى الخلف وإلى الأعلى بجسمه الضئيل وكأن في قدميه نابض. أضاف بلهجة تحد واضحة ليس فيها لبس: "أنا مفطر. وسوف أذهب أدخن مع زملائي، ومن كان منكم رجلا فليعترض طريقي". ونظر وهو يقول العبارة الأخيرة إلى مقادري والسردي وكأنه يدعوهما إلى مبارزة. نهض عمار من كرسيه ووقف بجانب حكيم. واقترب السردي ووجهه ينذر بالشر في حركة تحد واضحة ليسد عليهما الطريق. كان كل من الفريقين كبرميل بارود ينتظر شرارة الانفجار. في تلك اللحظة دخل ﺁكلي مع العروسي الذي سحب مقادري والسردي و تحدث معهما، بينما أخذ ﺁكلي حكيم من يده وخرج معه. واستطاع العروسي بحنكته تهدئة مقادري والسردي وإقناعهما بأن ما يقومان به لا يخدم الإسلام.
قرع الجرس، وتوجه الأساتذة إلى أقسامهم. اقتنع مقادري بما قاله خالي العروسي، أما السردي فحمل محفظته وهز رأسه متوعدا وخرج. انتهت الأمور عند هذا الحد ولم يعد أحد للحديث عن غرفة التدخين.
- 39 -
قررت التوقف عن متابعة دروس الإنجليزية في رمضان، فالأوقات لا تناسبني. لكنني لم أستطع إبعاد وجه جانين المتوثب حيوية وبشرا، ولا عينيها الخضراوين وشعرها الذهبي المسترسل عن مخيلتي، ولا أن أمنع حضورها القوي في ذهني. ليس لأني لا أحب أن تبقى صورتها في مخيلتي و حضورها في ذهني، إلا أنني كلما استحضرت الصورة برز ضمن إطارها وجه جاك وهو يبتسم سخرية مني، وأسمع صوته يرن في أذني: "لا تطمع في جانين فهي ليست لك، إنها لي أنا فهي من قومي وجنسي، وكل منا يفهم الآخر جيدا".
حاولت أن أتلهى عن ذكرها، ففتحت صندوقي الصغير الذي أضع فيه أغلى الذكريات، وتناولت كراسة أشعاري التي تعودت أن أهرب إليها كلما أحسست بكآبة الحاضر لأستعيد ذكريات الماضي. استوقفتني قصيدة "البرعم اليابس"، فنقلتني عبر الزمان والمكان إلى جامعة القاهرة حين كنت طالبا في كلية الآداب، والتقيت بموحية هذه القصيدة: «هالة".
تعرفت بها في رحلة طلابية جامعية إلى القناطر، وعرفت بالصدفة أنني جزائري فتركت "شلتها" وجلست معي في الحافلة، تسألني بصوت موسيقي أرهفه الدلال عن بلدي وأهلها وأوضاعها في ظل الحرية. وعن الحياة فيها، ووضع الرجل والمرأة. خلبني جمالها الساحر، بوجهها المستدير وعينيها العسيليتين الحالمتين حينا، والنافذتين حينا كقوة مغناطيسية إلى أعماق قلبي لتجذبه برفق، وتحوله إلى كوكب في مدار عينيها يتبعها أينما ذهبت. وحينما وصل الجميع إلى القناطر، أصرت على أن أشاركها طعامها، وكان فاخرا يدل على غناها. كان مظهرها وسلوكها يدلان على ارستقراطية موروثة برغم تواضعها، وكأنها أميرة تتنازل لتخاطب أحد رعاياها مخاطبة الند للند. ما الذي أعجبها في؟ لعله انتمائي إلى عالم غير عالمها، فللغريب سحره دائما لأنه يخرج عن المألوف. رويت للحضور بعض النكت الجزائرية في حفلة السمر بعد الطعام. وتجرأت على غناء بعض المقاطع من أغنية الهاشمي قروابي "البارح كان في عمري عشرين". وأعجبتها كلمات وألحان "محبوب باتي". عدت من الرحلة وقد تعلق قلبي بها. كنت أذهب إلى قسم اللغة الإنجليزية لألتقي بها، وكنت أسميها "نفرتيتي" باسم الملكة الفرعونية باهرة الجمال. لم تكن تصدني بل كانت تشجعني، واكتشفت فيما بعد أنها قبطيّة من أسرة عريقة غنية وأبوها دبلوماسي في وزارة الخارجية. كان كل منا يعرف أن هذا الحب مستحيل ولا مستقبل له، ولكنه لا يدري ما يصنع بعاطفته المتقدة، ولا يمكن أن يتصور فراق الآخر. أصبحت جزءا مني وأصبحت جزءا منها. رأيت فيها ملامح فرعونية. ورأت فيّ ملامح بربرية.
أحس أهلها بتعلقها بي فعالجوا الأمر بحكمة وروية. استقبلوني في دارهم على مضض، وعاملوني معاملة رسمية، ليس فيها حفاوة، ولا إهانة. كنت غارقا في بحار من الحيرة. لو كانت فتاة عادية لتزوجتها وأنا طالب. لكنها من بيئة ارستقراطية، ومنحتي لا تشتري لها ثوبا يناسبها. وتأبى علي كرامتي أن أكون أقل منها في المستوى المادي. ثم إنها قبطية وأهلها لن يسمحوا بزواجنا. كان كل منا يرى الحب في عيني الآخر، فيكتفي بما يرى. لم أقل لها شيئا ولم تقل لي شيئا. لم أحاول إغواءها ولم تحاول إغرائي. لا تكاد تفرغ من دروس الكلية حتى تجدني في انتظارها أو أجدها في انتظاري. لو أنها قالت لي: "اترك الجامعة والدراسة وابحث عن عمل نعيش منه ونتزوج"، لفعلت، ولو أنني قلت لها: "تعالي لنهرب معا"، فأنا شبه متيقن أنها ستذهب معي إلى آخر الدنيا. ولكني لم أقل شيئا، ولم تقل شيئا. كنا طفلين لا يستطيع أحدنا البعد عن الآخر، ولا نستطيع اتخاذ قرار بشأن المستقبل، وكان لابد أن يتخذ أحد هذا القرار بدلا منا. وهكذا فوجئت يوما بانقطاعها. سألت عنها فلم يجبني أحد. ذهبت إلى دارها فوجدتها خاوية. ثم عرفت أن أباها قد عين بإحدى السفارات في الخارج واصطحبها معه. لم أستطع معرفة اسم البلد. كان هناك تكتم و تعتيم شديدين على الموضوع. وعلمت أن أوراق نقلها من الجامعة قد تمت. سافرت فجأة والأرجح أنهم لم يخبروها إلا يوم السفر.
لم أستطع تصور الحياة من دونها، فزهدت في الدراسة وفي الناس وفي الطعام والشراب وحتى في الحياة. وفي لحظات الحرمان واليأس كتبت هذه القصيدة. قرأت المقاطع الأولى:
البُرْعُمُ اليابس ُ لمْ
يَحْلمْ بقطْرات النّدى
ولمْ تَعُدْ عُروقُهُ
تسْتمطرُ الغدا
حاقتْ به المواسمُ العجافْ
واستسلمتْ أضلاعُهٌ لقبْضَة الجفافْ
تَعْصرُهُ
تَمْتصّ منهُ كلّ ما خبّأهُ في صدْره نيسانُهُ
من الرّؤى النّديّهْ
***
البرعمُ اليابسُ لم يحلمْ بقطرات النّدى
تَمْسَحُ عنْ أهدابِهِ
غباشَةَ الإغْفاءَةِ الطّويلهْ
لَرُبّما تَسَمّرَتْ أحلامُهُ
بِفَأسِ حَطّابٍ غَبيْ
تعَوّدَتْ يَداهُ أنْ تُمَزِّقَ البَراعِمَ الفتيّهْ
لَرُبّما بِمَوْسِمٍ من الصّقيعْ
مَوْسِمٍ يُحَنِّطُ العروقَ والعيونَ والشّفاهْ
ويَصْلبُ الحياهْ
***
موحِشَةٌ هي الحياةُ دونَما تَطَلُّعٍ إلى النّجومْ
دونَما أُفُقْ
تَنْهَلُ مِنْ عَطائِهِ البراعِمُ الصّغيرهْ
تُعَرِّشُ الكُرومْ
لا تَطولُها أصابِعُ الظّهيرهْ
و استوقفني المقطع ماقبل الأخير :
وعندما يُطِلُّ ياتائِهةَ العيْنيْنِ سيّدُ الأحْلامْ
وترْتَمي عيْناكِ في عيْنيْنِ ثرّتيْنِ بالألْغازِ والأسْرارْ
لنْ أسْكُبَ الدّموعَ.. لنْ تُغرقني الأحزانْ
أعْرِفُ أنّي لمْ أكُنْ و لن أكونَ حُلمَكِ المُخْتارْ
فليْسَ في مَلامِحي بقيةٌ من عنترهْ وسندبادْ
لأعبرَ القِفارَ والبِحارْ
وأجلبَ الكنوزَ و المَحارْ "
وبعد مدة تزيد عن الشهر وجدت في صندوق بريدي رسالة منها تعتذر فيها لأنها لم تستطع توديعي، وترجو لي السعادة. غلاف الرسالة ليس عليه طابع البريد ولا اسم البلد. وشيئا فشيئا داوت الأيام والصحبة الخيرة والدراسة أحزاني. وأتممت تعليمي في القاهرة دون أن ألقاها أو أسمع عنها أي خبر. ولكن قلبي بقي فارغا حتى تسللت إليه جانين. كلما رأيت جاك في الثانوية يذكرني بها. إنهما حلم جميل وكابوس مرعب. ولا يمكنني الاحتفاظ بروعة الحلم دون معاناة وطأة الكابوس.
- 40 -
دخل العروسي إلى قاعة المحاضرات لاهثا يتنفس بصعوبة، ويمسح بمنديله وجهه وجبينه، وتهالك على كرسي المحاضر لحظة يستريح ويسترد أنفاسه والعيون مصوبة إليه. كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بقليل وهو موعد الندوة، ولم يكن من طبعه التأخر. قال مخاطبا الجميع: "اسمحوا لي على هذا التأخير"، ثم وقف مستأنفا كلامه مخاطبا التلاميذ من أقسام البكالوريا والسنتين الثانويتين الأولى والثانية العلمية والأدبية المعربة والمزدوجة الذين غصت بهم القاعة: "رأيت اليوم معجزة خارقة لم أر مثلها في حياتي. كنت عند أحد أصدقائي بحي بئر مراد رايس. شاهدت قطة تتكلم! نعم قطة تتكلم! شيء لا يصدق، ولكنه حدث. رأيته بعيني هاتين. وأشار العروسي إلى عينيه. كان يتكلم بانفعال، ويتوجه تارة إلى تلاميد الصفوف الأولى، وتارة إلى الجالسين في الوسط وإلى الأساتدة والمدير في الصفوف الأخيرة. ثم يخاطب الجالسين في الجهة اليمنى، ويلتفت بعدها إلى الجهة اليسرى وهو يردد: "نعم، شيء لا يصدق، ولكنه حدث."
تابع العروسي حديثه: "لم اكن وحدي في منزل هذا الصديق بل كان هناك ثلاثة من أصدقائه غيري، حين ظهرت قطته أمامنا. ولتلفت انتباهنا قالت: "أيها الغافلون انتبهوا !" نظرنا فلم نجد إلا القطة، وبحثنا مرة أخرى عن مصدر الصوت، فقالت: "أنا التي أتكلم، وأنا القطة. ولولا أننا في آخر الزمان لما تكلمت". بدأنا نفرك عيوننا ونحن لا نصدق، وتابعت: "كفر الناس وفجروا، ولا بد أن يعودوا إلى الطريق القويم قبل أن تحل بهم كارثة". ثم نطقت بالشهادتين، وخرجت من الغرفة.
سكت العروسي لحظة وهو يتفرس في وجوه التلاميذ ثم سأل بلهجة استعطاف: "هل تصدقون ما أقول؟"
أجاب التلاميذ بصوت واحد: "نعم نصدق". سمع من وسط القاعة صوت يقول: "أنا لا أصدق". وتبعه صوت آخر من جهة اليمين: "وأنا لا أصدق".
طلب العروسي من صاحبي الصوتين التقدم إليه، فخرج التلميذان المعنيان. عرف العروسي أن أحدهما من شعبة البكالوريا المزدوجة، والثاني من الثانية الأدبية المعربة. قال العروسي للتلميذ الأول: "ولكنني رأيت ذلك بنفسي، فهل تكذبني؟"
أجاب التلميذ: « معاذ الله يا أستاذ، ولكني لا أصدق إلا ما تراه عيني".
التفت العروسي إلى الثاني بنفاذ صبر، وقال باستنكار: "وأنت أيضا لا تصدقني، وأنا أقول لك رأيت ذلك بعيني هاتين". أجاب التلميذ: "عذرا يا أستاذ، فأنا لا أقصد تكذيبك، ولكني لو رأيت القطة تتحدث بعيني هاتين، لما صدقت. فأنا أصدق عقلي لا عيني، والحواس قد تخدع، أما العقل فلا".
بدأت همهمة بين التلاميذ، وارتفع صوت بعضهم مستنكرا تكذيبهما للأستاذ. كدت أقوم من موضعي لأوبخ هذين التلميذين على بلادتهما. أليس تكذيب أستاذ مثل العروسي بلادة ووقاحة منقطعة النظير؟ لكن العادة جرت ألا يتدخل الأساتذة في النقاش إلا عقب المحاضرة. وإذا بي أراه يمد يده إليهما مصافحا وهويقول: "أهنئكما من كل قلبي، فقد أثلجتما صدري، فأنتما تنظران إلى الأمور بعقليكما، ولا تخدعان بالخرافات والأوهام. أرجو أن يصبح تلاميذنا مثلكما لا يخدعون بالدّجل ولا باستغلال العواطف".
غصت في مقعدي، وفوجئت كما فوجئ بقية التلاميذ، واحتجوا هاتفين بأنهم صدقوه هو ولم يصدقوا الخبر، فأجابهم العروسي: "ألا تذكرون نصيحة العصفور للصياد في حكايات كليلة ودمنة: "لا تصدق ما لا يمكن أن يكون، أن يكون". وأضاف: "ثقوا في عقولكم، ولا تقبلوا ما لا يقبله العقل بأي حال من الأحوال. وأرجو أن تسمحوا لي الآن ببدء محاضرتي. وكان ما رأيتموه مقدمة لها. فأنا لم أر قطة في بئر مراد رايس وتأخرت عمدا لأختبر تأثير مناهجنا التربوية في عقول تلاميذنا وقد رأيتم النتيجة". أحسست بالعرق يتصبب من جسمي، وخجلت من نفسي. كيف يلام التلاميذ إذا كان من يعلمهم يصدق بسهولة ما يقال له.
وملخص المحاضرة التي ألقاها العروسي، أن للمناهج دورا هاما في دفع الجيل على طريق التقدم، أو إبقائه يراوح مكانه. فالمناهج الحالية في معظم المواد تركز على تراكم المعلومات لا هضمها، وعلى الذاكرة لاعلى التفكير. وأعطى مثالا على ذلك مناهج الأدب في الثانوية التي لا تجد فيها نصوصا تنمي التفكير وتعود التلميذ على الحجاج. من المؤكد أنها تهتم بترقية العواطف وبالقيم الإنسانية النبيلة، ولكنها تهمل النصوص العقلية الموجودة بكثرة في التراث العربي من ابن المقفع والمعتزلة وابن رشد إلى مفكري عصر النهضة.
وانتقد مناهج التاريخ الانتقائية التي تعتمد على أحادية الفكر، وتمارس الرقابة والحذف على كثير من الحوادث التاريخية لأنها تخالف وجهة النظر الحكومية السياسية والحزبية، وتغفل تحليل الحوادث وإبداء وجهات النظر المختلفة واستخلاص العبرة منها. كما انتقد الأحكام المسبقة التي تروج ضد المفكرين. وبدلا من تزويد التلاميذ بمنهج عقلي لنقد ما يقرأونه والحكم عليه بأنفسهم، زودناهم بأحكام جاهزة ضد الفكر عربيا كان أم غربيا وحصنا عقولهم ضده فابن المقفع زنديق، وابن رشد ضال منحرف، وماركس وانجلز وفرويد ودارون وهيغل وسارتر ملحدون. وحتى الذين حاولوا إيقاظ العقل العربي في هذا العصر لم يسلموا من التهم كطه حسين وسلامة موسى وعلي عبد الرّازق وزكي نجيب محمود وغيرهم.
وفيما يقرأ التلاميذ الأوروبيون لمفكريهم وينقدون نظرياتهم مبينين سلبياتها وإيجابياتها بالحجج الواضحة والبراهين المقنعة، يكتفي تلاميذنا بمعرفة أسماء هؤلاء المفكرين ورفض فكرهم دون قراءته، فالتلاميذ الأوروبيون يهضمون العلم ويتمثلونه. أما تلاميذنا فيكدسون المعلومات العلمية تكديسا دون أن يكون لها أثر واضح في حياتهم، مع أن أسلافنا اصطنعوا المناهج العقلية حتى في الدين، فكان محققو أحاديث الرسول الكريم[ص] يرفضون الحديث الذي لا يقبله العقل. وأكد في الختام على ضرورة إعداد مناهج متوازنة تهتم بالعقل وتشجع الفكر النقدي إلى جانب اهتمامها بالجسم والوجدان.
فتح باب النقاش عقب المحاضرة، وكما كان متوقعا، كان رأي السردي و مقادري والتلاميذ المؤيدين لهما أن أسباب التخلف تخلي الناس عن الدين وتقليدهم للغرب وفساد أخلاقهم. ودعوا إلى التصدي للغزو الفكري الغربي، واعتماد مناهج إسلامية صرفة. وعلى العكس من ذلك كان رأي عمار وحكيم ومن يؤيدهما من التلاميذ أن الدين كان معيقا للنهضة الأوروبية، ونهضة تركيا الحديثة. وهاجموا الزوايا زاعمين أنها تخرج أجيالا مرتبطة بالماضي لا الحاضر، وطالبوا بمناهج علمانية.
رد العروسي نافيا أن يكون الدين هو سبب التخلف، "فالدين نور الروح والقلب، مثلما كان العلم نور العقل" كما ورد في عبارته. وأضاف: "إن الأوروبيين في عصر النهضة لم يحاربوا الدين، ولم يعتبروه سبب التخلف، بل هاجموا المتاجرين به، ووجهوا اهتمامهم إلى تنوير العقل. وبذلك أخذ الدين مكانه الطبيعي، وافتضح أمر المتاجرين به.
ثم تكلم مانع السعدون فأعلن أن التخلف نتيجة للتجزئة والاستعمار والصهيونية. والطريق الوحيد إلى التقدم هو الإسراع بالوحدة العربية. وأما كاظم اصلان فطالب بمناهج تبين سعي الإنسان وكفاحه ضد كل أشكال الاستغلال بدءا من الإقطاعية ثم الرأسمالية فالامبريالية.
لم يناقش أحد آراء المحاضر بجدية، ولا الوسائل المؤدية إلى إيقاظ العقل من سباته، وبدا واضحا أن أيا منهم لا يهتم بتحرير العقول، بقدرما يهتم بصبغها بلونه. انقسمت القاعة وتعالت أصوات التلاميذ وبلغ الغليان أشده فيها. لم يعد أحد يسمع ما يقال في هذا الجو العاصف، ألكل يتكلم ولا أحد يسمع. حاول العروسي تهدئة الجو لكن الضجيج والاحتجاج والمواجهة بين التلاميذ كادت تؤدي إلى الانفجار فلا أحد يريد الاستماع إلى صوت العقل. أوعز المدير إلى العروسي أن يختم الندوة و خرج الحاضرون من القاعة وكل فريق يحاول إسكات الآخر برفع صوته درجة أعلى وهكذا تحول الحديث إلى صياح و صراخ.
اتفق المدير والعروسي بعد ذلك على إلغاء المحاضرات ذات الطابع السياسي والاهتمام بالمواضيع التربوية والصحية كموضوع الغش في الامتحان وأسبابه ونتائجه على الفرد والمجتمع وطرق مكافحته، وموضوع التدخين والآفات الاجتماعية وغيرها، وهكذا ألغيت محاضرة عصام في تعريب العلوم: ماله وما عليه، ومحاضرتي في الوحدة العربية.
-41-
خرجت من المسجد بعد صلاة الظهر مع خالي العروسي. تلفت مستغربا. لم أصل في هذا المسجد قبل الآن. خانتني الذاكرة فجأة، فلم أعرف أين أنا بالضبط: في العاصمة أو في بوسعادة أو في تونس أو في القاهرة. كان المسجد ملفوفا بضباب أبيض كثيف. وبينما أنا حائر متردد، خرج من الضباب شيخ مهيب الطلعة بثياب بيضاء، واقترب منا قائلا: "السلام عليكم"، فرددنا السلام. نظرت إليه مليا، وقلت بدهشة: "الشيخ خليل. مرحبا بك. ماذا تفعل هنا؟"
والشيخ خليل هو الذي علمني القرآن في الزاوية حين كنت في السادسة. لكنه لم يعرفني حتى قال له خالي: "هذا ابن أخي عابد". قال الشيخ لخالي: "أتيت حسب الموعد لأطوف بك في بناء الزاوية الجديدة الذي أقيم تنفيذا لفكرتك في تعصير الزاوية التي أقرها المجلس العالمي للزوايا". تساءلت عن فحوى هذه الفكرة. كانت معلوماتي غائمة فلم أتذكر شيئا من هذا القبيل.
مضى بنا الرجل إلى بناء ضخم قريب من المسجد كان محفوفا بالضباب أيضا. وأشار إليه قائلا: "هذه هي الزاوية الجديدة". نظرت فإذا عدة أبنية متقاربة تمثل تحفة معمارية بنيت على الطراز الإسلامي. اتجهنا إلى البناء الأول فإذا لوحة كتب عليها: "دائرة الفكر الإسلامي".
كانت الأقسام فيه على شكل مدرجات نصف دائرية، يقف الأستاذ في مركزها أمام السبورة، يسجل عليها نقاط درسه. اشارإلى اللوحات الموضوعة على الأقسام موضحا: "هذا قسم الفكر السني. وهذا قسم الفكر الشيعي. وهذا للفكر المعتزلي، وهذا للفكر الفلسفي المغربي الأندلسي"، ثم أرانا بناء على اليمين وقال: "هناك دائرة الفكر الغربي، وفيه تدرس نماذج من الفكر الغربي بدءا من الفلسفة الإغريقية إلى العصر الحديث". سرنا حتى وصلنا إلى دائرة الفقه والعلوم الشرعية، وبعدها مباشرة دائرة العلوم الدنيوية وتدرس فيها الرياضيات والعلوم واللغات الحية، وتستعمل فيها المخابر والطرق السمعية البصرية. سألته: "لماذا تدرسون الفكر والعلوم في الزاوية الدينية؟"
ـ "المؤمن يحتاج إلى الفكر والعلم لينيرا عقله، كما يحتاج العالم إلى الإيمان لينير روحه وقلبه". لاحظت أن ملابس الأساتذة والتلاميذ متنوعة. فهناك من يلبس القندورة ومن يلبس الجلابة، ومن يرتدي البدلة العصرية، وقليل منهم يضعون عمائم. سألته عن ذلك فأجابني: "نحن نعد تلاميذنا ليكونوا مواطنين صالحين في مجالات الحياة كلها، يعيشون عصرهم، ولا نعدهم ليكونوا خطباء. وعندما يختار بعضهم الوعظ والإرشاد بعد البكالوريا، نعدهم إعدادا خاصا في الفقه دون إغفال العلوم العصرية واللغات الأجنبية، فلابد أن يعرف الخطيب لغة أجنبية واحدة على الأقل، ويلم بعلوم العصر ليكون أهلا للوعظ".
سألنا الشيخ بعد ذلك: "ألا تريدون زيارة المكتبة؟"، ومضى بنا إلى بناء ضخم انتصب أمامنا فجأة. دخلنا إلى إحدى قاعات المطالعة فوجدنا خزائن ذات أدراج مفهرسة بالحروف الأبجدية العربية واللاتينية. وما عليك إلا أن تستخرج اسم الكتاب أو المؤلف الذي تريده، وتعطيه لأمين المكتبة. وبعد لحظة يحضر لك أحد العمال الكتاب المطلوب. تحتوي الفهارس على كتب التراث العربي والغربي في الآداب والفلسفة والتاريخ والعلوم المختلفة والفنون بالعربية والإنجليزية والفرنسية وبلغات أخرى. وأفقت من دهشتي على صوت الشيخ يقول لنا: "لنتجه إلى دائرة الفنون". قلت له متعجبا: "الفنون!" قال: " نعم".
وصلنا إلى البناء واتجهنا إلى قاعة الرسم، فرأيت لوحات من الفنون الإسلامية المختلفة، وصورا مكبرة لزخرفة بعض المساجد والقصور في الجزائر والمغرب والمشرق وبقية أنحاء العالم الإسلامي. كان بعض التلاميذ يرسمون في القاعة رسوما وزخارف ومنمنمات بأشكال هندسية. ورسوم زهور، ورسوما طبيعية مستوحاة من بيئاتهم. ورأينا بجانبها قاعة للأشغال اليدوية تصنع فيها إطارات اللوحات والمصابيح وغيرها. قال لنا الشيخ خليل: "وجدنا أن تعليم الفنون يهذّب النفس ويرقق الأحاسيس ويعد التلاميذ في المستقبل للتعامل مع الأشكال والألوان فيصبح ذواقا للجمال سواء أكان مهندسا أم بناء، عاملا أم مواطنا".
وانتقل بنا إلى قاعة الموسيقا، فوجدنا التلاميذ يتعلمون "السولفيج"، ويكتبون به الأناشيد الوطنية والدينية والخلقية التي تهذب النفس، ويعزفون على الآلات الموسيقية المختلفة. قال لنا: "لا تعجبوا، فقد أخدنا بالفتوى التي تقول: "الموسيقى كالشعر ليست محرمة في ذاتها، فحين تهذب النفس وترتقي بالمشاعر فهي حلال، وحينما تنحط وتدعو إلى الانحلال فهي حرام".
كانت فرقة التلاميذ الموسيقية مكونة من عازف على القانون وعوّاديْن وعازفيْن على الكمان وضاربيْن على الرق والدربوكة، يقف وراءهما عشرة تلاميذ في صفين متتاليين يشكلون المجموعة الصوتية. عزف الأستاذ على البيانو مقدمة اللحن من مقام الحجاز، حسب ما أعلمنا به الشيخ، ثم أعطى الإشارة للفرقة بالبدء. عزفت الموسيقا لحنا تراثيا جميلا، وإذا بالصف الأول من المجموعة ينشد بأصوات أخاذة حادّة:
بُشْرى لَنا نِلنا المُنى زالَ العَنا وافى الهَنا
فيجيبه الصف الثاني بأصوات غليظة حلوة:
والدَّهْرُ أنْجَزَ وَعْدَهُ والبِشْرُ أضْحى مُعْلنا
وتردد المجموعة معا:
بُشْرى لَنا نِلْنا المُنى زالَ العَنا وافى الهَنا
وينطلق صوت شجي جهير متميز ينضح رقة وعذوبة لتلميذ في السادسةعشرة ينشد منفردا في مدح الرسول[ ص]:
يانَفْسُ طيبي باللّقا يانَفْسُ قَرّي أَعْيُنا
هذا جَمالُ المُصْطَفى أنْوارُهُ لاحَتْ لَنا
كان التلميذ يغني بكل أحاسيسه؛ بحلقه وشفتيه وعضلات وجهه وبريق عينيه وحركة جسمه ويديه، يمشي مع نغمة البيات صعودا وهبوطا، ويخرج الحروف من مخارجها السليمة فأطربنا وأشجانا.
وصلنا إلى قاعة التصوير، وعلق الشيخ خليل: "لقد وجدنا أن خريجي المدارس الأجنبية هم الذين يتولون صناعة السينما في بلداننا من كتابة السيناريو والتصويروالإخراج، وهم يبرزون رؤيتهم في بناء المجتمع، ورأينا أن علينا أن نعرض رؤيتنا لتاريخ بلادنا وأمتنا".
ـ "وما هي رؤيتكم؟ هل أنتم حزب سياسي؟"
ـ "معاذ الله. فنحن لا نتدخل في السياسة إلا كمواطنين عند الاقتراع. أنا أتحدث عن الرؤية الأخلاقية والدينية".
كان هناك عرض لبعض الأفلام العلمية التي أنجزها الهواة من التلاميذ عن زراعات منطقتهم، وعن أثارها وتركيب صخورها وغير ذلك من المواضيع.
وصلنا أخيراً إلى قاعة الرياضة فوجدنا التلاميذ يقومون بألعاب الجمباز المختلفة كالقفز على الحصان الخشبي واللعب على الحلقة والوثب وغيرها. وقال الشيخ: "نحن نستعد لمباراة البطولة بين الزوايا في نهاية هذا الشهر في مختلف ألعاب القوى والكرة".
بعد اختتام الزيارة وجدنا عند خروجنا بناء مشابها في الجهة المقابلة، فسأله العروسي عنه. أجاب الشيخ: "ذلك البناء خاص بالإناث، وهو يشبه تماما هذا البناء ويدرس المواد نفسها. ولكن الإناث يدرسن في حصة الأشغال اليدوية الخياطة والتطريز والسنارة وصنع السجاد". والتفت إلى خالي العروسي مضيفا: "لابد أن تواكب المرأة تقدم الرجل لنخرج من التخلف، وأن تهتم بكل المجالات ليرتفع الماء في الأواني كلها في الوقت نفسه. فالاهتمام بمجال العلم وحده أو الأدب أو الفن والرياضة دون غيرها لا يجدي نفعا حسب قانون الأواني المستطرقة".
هز خالي رأسه مستحسنا و قال: "عظيم. ستعود الزوايا كما كانت في الماضي، مراكز إشعاع للحضارة".
كان المؤذن يؤذن لصلاة العصر حين أتممنا الجولة، وأفقت من نومي على صوت أذان الفجر. كان ذلك كله حلما.
- 42 -
من أجمل المتع في رمضان التجول بعد الإفطار في العاصمة حيث تحيل الأنوار العاصمة في الأحياء والساحات ليلها إلى نهار.
وتبعث في النفوس بهجة ومرحا، بالإضافة إلى الدفء العائلي والاجتماعي الذي يشيع فيه فتتبخر معه برودة شهر أكتوبر وترى المارة فرادى وعائلات يسهرون ويسمرون في المقاهي والنوادي ويتزاورون في البيوت حتى الصباح. وهو الشهر الوحيد الذي تستطيع فيه النساء أن يخرجن بمفردهن ليلا آمنات مطمئنات دون أن يعاكسهن أحد. أخرج عادة للتجول مع وجدي وعصام في حيّنا والأحياء المجاورة بعد طعام الإفطار. لكنني خرجت وحدي اليوم لأنني مدعو لحفل افتتاح معرض في قاعة الاتحاد الوطني للفنون التشكيلية.
وصلت متأخرا إلى قاعة العرض الكائنة في شارع باستور. لم أكن أهتم كثيرا بالرسم أو بمشاهدة اللوحات الفنية، لكن الرواق يعرض اليوم لوحات صديقي الفنان "إبراهيم مردوخ". رأيت وزير الثقافة الطويل الوسيم محاطا بجمهرة من الرسميين والفنانين ينتقلون من لوحة إلى لوحة، وصاحب المعرض يجيب عن أسئلتهم، ويعلق على اللوحات. بدأت أجول في الرواق ريثما ينفض الرسميون وشبه الرسميين من حول الفنان. الدليل في يدي، وأنا أحاول فهم اللوحات وحل ألغازها وإذا بصوت لا أعذب ولا أحلى يقول لي: "لم اعرف أنك مهتم بالفنون التشكيلية، هل أنت مولع بالرسم؟"
التفت فرأيت جانين. كانت تلبس "جاكيت" و"تنورة" جلديين يبرزان كالعادة أناقتها. أحسست أن الدم صعد إلى وجهي وتلعثم لساني أمام ابتسامتها الجذابة. لم أدر ما أقول، واستطعت أخيرا أن أنطق بجملة مفيدة: "كم أنا مسرور بلقائك".
ـ "وأنا أيضا، لكنك لم تجب عن سؤالي".
ـ "لا أفهم كثيرا في الفنون التشكيلية. حضرت في الحقيقة لأن السيد مردوخ صديقي".
ـ "أرجو أن تقدمني إليه".
ـ "بكل سرور".
سرت معها حتى وصلنا إلى حيث يقف صاحب المعرض. كان الرسميون قد ذهبوا وبقي بعض الفنانين يحيطون به وهو يحدثهم بصوته الهادئ الرقيق. هنأته وقدمتها إليه: "الآنسة جانين أوليفيه أستاذة الفرنسية في ليسيه ديكارت".
أضافت: «وفنانة تشكيلية هاوية".
نظرت إليها باندهاش قائلا: "لم أكن أعلم ذلك". ثم عرفتها بإبراهيم. سلمت عليه وأخرجت بطاقة من حقيبتها وناولته إياها قائلة: "يسعدني أن أدعوك إلى معرض الفنانين الفرنسيين الهواة في المركز الثقافي الفرنسي. تأمل البطاقة وقرأ اسمها: "أنت مشاركة في هذا المعرض كما أرى".
ـ "نعم".
ـ "يشرفني حضور معرضكم".
التفتت إلي وقالت بلهجة ودية آسرة وهي تعطيني بطاقة الدعوة: "اعتبرني صديقة لك مثل السيد مردوخ، واحضر من أجلي أرجوك".
أسعدتني مجاملتها لي فأجبتها: "لن يمنعني أي شيء من الحضور".
سألها إبراهيم: « هل أعجبك المعرض؟"
ـ "بالتأكيد، وأعجبت كثيرا باللوحتين رقم 16 و 18".
لفتت جانين نظري إلى جمال هاتين اللوحتين، الأولى تمثل "قرارة" بلد الفنان، رسمها في شكل متدرج مظهرا أصالة البلدة المزابية وتميزها عن غيرها. والثانية تمثل الصحراء بشساعتها وفطريتها، وفي زاوية اللوحة سيارة تمثل الآلة الحديثة، وأمامها ثلاثة رجال يصلون. جمعت هذه اللوحة بين الطبيعي و الصناعي و بين المادة والروح. والألوان في اللوحتين مضيئة ساطعة تبهج العين والنفس يغلب عليها اللونان البرتقالي والأزرق.
طمأنتني جانين قبل أن تذهب بأنني لست وحدي الغائب عن الدروس في رمضان، فمعظم الجزائريين غائبون.
- 43 -
اليوم الخميس، موعد الندوة الثانية، ولكن أحدا لم يتطوع حتى الآن بتقديم موضوع تربوي. كنت أتحدث مع عصام في غرفة الأساتذة في هذا الموضوع فأشار إلي أن التفت إلى اليمين، وإذا بي أجد حكيم بوعلام يتحدث مع المنصف مقادري الذي كان قريبا مني بالعربية الدارجة، وبلهجة ودية وابتسامة مصطنعة، ومقادري يجيبه بلهجة وابتسامة مماثلتين. بهت الجميع، وساد الصمت في القاعة وأخذ الأساتذة يتغامزون، وينبه كل منهم زميله بالإشارة كيلا تفوته رؤية هذا المنظر. ماذا حدث؟ متى انتهت الحرب وأعلنت الهدنة؟ متى وأين و كيف تم الصلح؟
أسئلة جالت في أذهان الجميع، لكن أحد لم يتجرأ أن يسأل صاحبي العلاقة عن هذا الموضوع. ولم يكن أحد من المقربين منهما يعرف شيئا.
دخلت نوارة في هذه اللحظة إلى غرفة الأساتذة. أخبرني أبوها بالأمس أنها لم تنجح في امتحان اللغة العربية. اقتربت منا فتهيأت لمواساتها والتخفيف عنها. وما إن بادرتها بأسفي لرسوبها حتى قاطعتني بالفرنسية ضاحكة: "ولكنني نجحت". أبديت لها دهشتي قائلا: "لكن أباك.."، فأكملت الجملة: "أخبرك بأني رسبت. هذا صحيح. رسبت ونجحت في الوقت نفسه".
رأت في عيني تساؤلا، فأضافت: "رسبت في اللغة العربية يوم الثلاثاء، ونجحت في الليسانس يوم الأربعاء، لأن عميد الجامعة اتخذ قرارا بجعل نقطة العربية لا تؤثر في النجاح، بعد أن رأى كثرة الراسبين في مختلف الكليات، ممن يتوقف تخرجهم في الليسانس على نجاحهم فيها. لم يكن هناك أي أمل في الأفق أن يتنازل الأستاذ ويجري لنا امتحانا في مستوانا، أو أن يتحسن مستوانا بقدرة قادر لنستطيع بلوغ المستوى الذي حدده، فمن المستحيل على من ليس في قدرته حمل عشرين كيلو غرام أن يحمل مائتين".
هنأتها بحرارة، فقالت لي ضاحكة: "لا تفرح كثيرا. فلن تتخلص مني بسهولة. سأواصل دروس العربية إن لم يكن لديك مانع، لكن مرتين في الأسبوع". اتفقنا على يومي الثلاثاء والخميس.
قرع الجرس في هذه اللحظة، وتوجهنا إلى الأقسام وحديث الأساتذة مازال عن لقاء القمة بين مقادري وحكيم. وهذا ما تناقلته الألسن فيما بعد عن سبب التقارب بينهما:
من المعلوم أن مقادري وحكيم متجاوران في السكن. مقادري يعيش مع زوجته الثانية وولده الصغير ذي الأربع سنوات في السكن الوظيفي، بينما تعيش زوجته الأولى وابنتهما الكبرى في داره بالمدنية. أما حكيم فكان يعيش مع زوجته الفرنسية وزميلته في الدراسة التي تزوجها في ليون أثناء دراسته في جامعتها، وأنجب منها ولدا. كانت تعمل أستاذة للفيزياء في ثانوية حسيبة، ولكنها تركته منذ سنتين وأخذت الولد معها بسبب سكره اليومي وإدمانه. وحضرت أخته الصبية لتعيش معه وترعاه. كانت تعلم الفرنسية في الابتدائي. أحبها معلم عراقي زميل لها، وتزوجها رغما عن معارضة أخيها. وسافرت معه إلى العراق وبقي حكيم وحيدا. وصعب على أمه أن تتركه هكذا فجاءت لتعيش معه. حذرها من إقامة علاقة مع زوجة مقادري، جارتها في السكن، وكذلك فعل مقادري مع زوجته. وكانت كل منهما حين تنظف أمام الباب وترى جارتها تكتفي بإلقاء التحية.
في يوم الأحد الماضي كانت أم حكيم تنظف أمام الباب، فتركت النوافذ مفتوحة داخل الدار. لم يكن للباب مسكة من الخارج، فلا يفتح إلا بالمفتاح. كانت الساعة التاسعة صباحا، وابنها لا يأتي إلا قبل أذان المغرب. والعارفون بخباياه يزعمون أنه يذهب بعد خروجه من الثانوية إلى مطعم سري في شارع متفرع من ديدوش مراد، فيقضي وقته مع المفطرين من أمثاله حتى وقت المغرب، حيث يعود ليكتفي بتناول طبق من "الشوربة" مع أمه. احتارت المرأة ماذا تفعل. ليس لديها مفتاح. اضطرت لمخالفة التعليمات ودقت باب جارتها. فتحت الجارة الباب. أم حكيم لا تعرف العربية جيدا. وجارتها لا تعرف إلا بعض كلمات قبائلية ولكنها استطاعت أن تفهم منها ما حدث. رحبت بها ودعتها للدخول.
جلست المرأتان في الصالون ثم في غرفة الجلوس ثم في المطبخ حيث تعاونتا في تحضير فطور رمضان. حدثت كل منهما الأخرى عن همومها، وعن مشاكلها مع زوجها بالنسبة للأولى وابنها بالنسبة للثانية. كانتا تتفاهمان بما تعرفه كل منهما من لغة الأخرى.
وصل مقادري فأخبرته زوجته بما حدث. وحين وصل حكيم قبل المغرب ولم يجد أمه انتابه القلق ولم يدر ماذا يصنع، فهو لا يستطيع أن يسأل الجيران. ولكن مقادري فتح الباب ودعاه للدخول قائلا: "إن والدتك عندنا". تناول حكيم ومقادري الفطور معا في ذلك اليوم كما تناولت المرأتان الفطور في الغرفة الأخرى. اضطر حكيم للحديث مع مقادري بالعربية الدارجة، قبل أن يأخذ أمه ويذهب إلى شقته.
كان لهذا الحادث تأثير قوي على سلوك المرأتين، فقد تعاهدتا على العيش كجارتين متوادتين متعاونتين كما يأمر الدين و تقضي الأعراف والتقاليد الجزائرية. ولكن سلوك حكيم ومقادري لم يتغير إلا ظاهرا. وبقي كل منهما يكن للآخر ما كان يكنه له من قبل مغلفا بقشرة سطحية من المجاملة المصطنعة.
- 44 -
احتفلت الثانوية يوم الثلاثاء 31 أكتوبر بذكرى أول نوفمبر. كان الاحتفال حماسيا في الصباح، وترفيهيا في المساء. لم يتغيب عن احتفال الصباح من الأساتذة سوى جاك لوبتي الذي يعتبر هذا اليوم ذكرى أليمة ينوح فيها على الفردوس المفقود. قرئت الفاتحة ترحما على الشهداء ثم عزفت فرقة التلاميذ نشيد قسما، ألقى بعدها المدير كلمة باللغتين. ومما قال فيها: "علينا أن نفتح صفحة جديدة دون أن ننسى ما حدث، فيجب أن تعرف الأجيال قيمة الاستقلال والثمن الغالي الذي دفعه الشعب من دم شهدائه ومجاهديه ليفتكه افتكاكا لكي تحافظ عليه".
وعزفت بعدها أناشيد "جزائرنا" و"من جبالنا" و "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب"، و"موطني". وتعالت من المسجلة الأناشيد المصرية المدعمة للثورة بصوت كارم محمود وفايدة كامل ومحمد قنديل ونجاح سلام، ثم قدم العروسي لمحة تاريخية استعرض فيها مسيرة المقاومة الجزائرية من الأمير عبد القادر إلى ثورة نوفمبر مرورا بثورة المقراني وبوعمامة وأولاد سيدي الشيخ ولالا فاطمة نسومر وغيرهم. توجه الجميع بعدها إلى الأقسام لمتابعة الدروس.
وفي المساء بعد الفطور ازّيّنَتْ الثانوية بالأضواء المتلألئة، وتحولت قاعة المطعم الكبرى إلي مسرح، نصبت في مقدمته الخشبة والستار، وصفت فيه الكراسي. وضِعَ البيانو في الزاوية اليمنى من القاعة بين خشبة المسرح والجمهور. جلس المدير والناظر والأساتذة في المقاعد الأولى، بينما توزع التلاميذ في أرجاء القاعة.
كان أهم ما ميز حفلة المساء مسرحية قصيرة بالفصحى عن كفاح الشعب الفلسطيني من خلال معاناة أسرة فلسطينية قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي عائلها وسجن الابن الأكبر، وهدم منزلها بالجرافات، وتبرز المسرحية إصرار الأم و الابن الأصغر على مواصلة الصمود، وأن الحلم الصهيوني الذي حول حياة الفليسطينين إلى كابوس سيتحول بصمودهم إلى كابوس يؤرق المحتلين.
مثلت فايزة الدور النسائي فيه وهو دور الأم. حلت هذه المسرحية بدلا من "تاجر البندقية" لشكسبير، التي لفت المدير نظر فايزة إلى سخريتها من اليهود في شخص شايلوك، بقوله: «نحن نحترم الإنسان والأديان، ونفرق بين اليهود وبين المعتدين الإسرائيليين، وعليك اختيار مسرحية تدين العدوان". نجحت المسرحية لأن فايزة استوحتها من الواقع، واستدرت دموع الأساتذة والتلاميذ و حماسهم في دعم الشعب الفلسطيني وتحرير الأراضي العربية المحتلة.
أبديت إعجابي بتمثيل فايزة وتأليفها واخراجها للمسرحية، فقال خالي: "لا تعجب يا عابد، فأسرة فايزة في القصبة عريقة في الفن. أبوها عبد الحميد نجار موبيليا للأثاث التقليدي الجزائري من أول طراز. وبالإضافة إلى ذلك فهو من هواة التمثيل المسرحي. عمل مع محي الدين باشتارزي وعلالو، حين كان الفن بالعربية مهمشا زمن الاستعمار، وحمل مشعله هؤلاء الرواد. وابنه محي الدين عضو في فرقة المسرح الوطني، وتلميذ لمصطفى كاتب. لا تستهن بفايزة فهي فنانة موهوبة".
في حفلة السنة الماضية أدركت ارتباط الفن باللغة حين عجزت أستاذة الموسيقا الفرنسية، رغم كفاءتها، في التناغم مع التلاميذ في أغانيهم التراثية وفي الأناشيد الوطنية لجهلها بلغتهم. ورأيت عجز أحد المخرجين الذي أحضره ﺁكلي لاخراج مسرحية كتبها التلاميذ لأن ثقافته فرنسية محضة ويكتب العربية بالحروف اللاتينية. لم يستطع فهم النص و لم ينجح في إخراجه رغم كفاءته.
همش الاستعمار الفن لأنه بقي وطنيا وظل روّاده يغنّون ويمثلون بلغتهم لا بلغة المستعمر. وظلت العربية قاسما مشتركا بينهم على أساس ثقافي وفني لا عنصري. فالعربية لم تكن لغة الدين فحسب بل لغة الوجه الآخر من روح الشعب وهو الفن.
حرص المدير على أن تعكس الحفلة الفن الجزائري، وتبرز المواهب في الثانوية. وكان هناك انسجام بينه وبين وجدي في هذا المجال، فهو لا يعتبر واجبه يقتصر على تعليم السولفيج، وتنمية أحاسيس التلاميذ وتربية أذنهم الموسيقية، وتدريب الموهوبين منهم على العزف والغناء فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى تعريفهم بتراثهم الموسيقي. وحثهم على الاهتمام به وتطويره لأن الموسيقا والفن عامة كما قال لي: "جزء من الشخصية، يتشبع الإنسان بفنه في البداية ثم يتعرف على فنون غيره، وإلا ظل مستهلكا لفنون الآخرين دون أن ينتج مايبادلهم ويباهيهم به". لذلك كان ينطلق من الموسيقى المحلية، فيعلم التلاميذ أهم طبوعها وإيقاعاتها، ثم ينتقل إلى الموسيقى العربية، فيبين أوجه التشابه في تراثنا المشترك، وأخيرا يصل إلى الموسيقى الأوربية الكلاسيكية والعصرية.
قدم التلاميذ بإشرافه إحدى النوبات الأندلسية التي علمهم مراحلها. بدأوا بالتوشية فالكرسي فالبطايحي ثم الدرج والانصراف فالخلاص. كما قدموا بعض أغاني التراث مثل "قم ترى"، وبعض الأغاني العصرية الجزائرية والشرقية.
وتخلل الحفلة تقديم اسكتش فكاهي انتقادي بالدارجة بعنوان "صور من رمضان". وبعض الفقرات المدرسية الخفيفة أطرفها تقليد تلميذ موهوب للمدير والناظر والأساتذة. كان التلاميذ يرددون اسم الأستاذ الذي يريدون أن يقلده التلميذ حتى يوافق الأستاذ. حين وصل الدور إلى حكيم رفض أن يقلده التلميذ. ظل التلاميذ يرددون اسمه حتى سمح بتقليده. وحين هتف التلاميذ: "مقادري. مقادري"، قام مقادري غاضبا وغادر القاعة.
كان تقليد الأستاذ محفوظ عمار أنجح ما قام به التلميذ، حيث وصف حصته الأولى في القسم. وضع التلميذ نظارات دون زجاج على عينيه، وطلب قبعة عمار وأدخلها في رأسه. شبك يديه وراء ظهره، وصعر خده ولوى شفته السفلي من القرف والامتعاض، وهو ينظر إلى التلاميذ من الأعلى إلى الأسفل، ثم قال بالفرنسية: "شعوب متخلفة، ستبقون إلى الأبد متخلفين". أدار ظهره لهم ثم التفت فجأة سائلا: "هل تظنون أنفسكم بشرا مثل الأوربيين؟" صمت لحظة ثم أجاب: "لا. لا لا. لا. لا". وهو يرفع صوته في كل مقطع بصورة مثيرة للضحك. نزع النظارات وأغمض عينيه وفتحهما عدة مرات قائلا بالفرنسية دائما: "نحن شعب لا يعمل. مردودنا نصف ساعة في اليوم. بل عشر دقائق". ثم صعد إلى المصطبة، ووضع النظارات مرة أخرى وتحدث بلهجة جدية: "يتعجب الناس في فرنسا إذا فتحوا الحنفية فلم ينزل الماء، وإذا رفعوا سماعة الهاتف فلم يجدوا فيه حرارة، وإذا رأوا مصعدا معطلا، و إذا وجدوا رجلا يمشي في منتصف الطريق". سكت قليلا ثم قال: "أما عندنا فيجب أن نتعجب إذا فتحنا الحنفية ووجدنا الماء ينزل منها، وإذا وجدنا الهاتف يعمل، ووجدنا عمارة فيها مصعد غير معطل، ووجدنا أحدا يمر في ممر الراجلين ولا يمشي في منتصف الطريق". وأخذ يتمشى أمام التلاميذ وتابع بهدوء وبطء: "كان من المفروض أن توزع الكتب قبل الدخول، ونبدأ اليوم فورا بالعمل". ثم خرج عن طوره وهدوئه وصاح ضاربا على الطاولة: "ولكننا شعوب متخلفة، لا نعرف قيمة الوقت. اخترعنا الصفر ومكثنا فيه". ضحك التلاميذ كثيرا وكان عمار أكثر الضاحكين إذ دمعت عيناه من الضحك.
- 45 -
قربت لقاءات رمضان اليومية بيني وبين وجدي وعصام. كنا نطبخ معا ونفطر ونسهر ونتسحر معا. كلنا عرف الغربة ومارس الطبخ. طهوت لهم الكسكسي وأنواع الشطيطحات. وحضر وجدي الملوخية والبامية والبيتزا والمكرونة الإيطالية بطرق مختلفة، وكذلك الطعمية والفول وفتة الكوارع. وأعد عصام ورق العنب وأنواع الكبة المشوية والمقلية والحمص والمتبل. وكان يزين المائدة في السحور بالمكْدوس والزيتون والزيت والزعتر والجبن الأبيض والقشقوان، وبأنواع المعقود بالزّهر والكبّاد والسفرجل والنارنج. لم أر من يعتني بالمونة أي التموين مثل عصام الشامي. ولا أدري كيف تصل إليه هذه الأطعمة من دمشق.
في الأسبوع الأخير من رمضان، وصلت لطيفة زوجة عصام ورضيعها الهادي الصغير لتقضي معه أسبوعين. كانت في لطفها و جمالها تؤكد ما يقوله عصام أمامها دائما، ويحمر وجهها حياء وطربا لسماعه: "إذا نقصت حوريات الجنة أكملوهن من بنات تونس".
طبخت لنا لطيفة المبطن بالكوشة وطاجين الجبن ومرقة الزيتون والملوخية التونسية والبسطيلة المغربية. كانت ابنة خالي تحضر لنا كل أسبوع طبقا جديدا، إما الشخشوخة وإما المحمصة وكذلك اللحم الحلو والحلويات. كنا نشتري الزلابية وقلب اللوز من الحي، وحين قارب رمضان على الانتهاء، زاد وزن كل منا بضعة كيلوات.
كان أطولنا وأوسمنا وجدي، وأقصرنا وأملؤنا جسما عصام. لكن ذلك لم ينقص من وسامته التي تبدو في لون بشرته الحنطي واستدارة وجهه وخضرة عينيه الزيتونيتين، وشقرة شعره المفروق بعناية والمسبل نحو اليمين والشمال، وأناقة شاربه القصير، بينما تنبع وسامة وجدي من تناسق بشرته البيضاء المسفوعة بالشمس مع شعره الخرنوبي نصف المجعد وزرقة عينيه الفيروزيتين ونظرته الحالمة. أما أنا فأختلف عنهما بسواد العينين والشعر وقوة البنية.
جمعت بيننا أمور كثيرة فنحن الثلاثة نقدس العمل، وننشط كعاملات النحل، فسمانا الأساتذة في الثانوية "الثلاثي النشيط". كان القلب هو البوصلة التي نسير على هديها أنا ووجدي، بينما كان العقل هو بوصلة عصام، لا يحيد عن الاتجاه الذي تحدده قيد أنملة. وهو أهدؤنا واكثرنا منهجية، ومع ذلك لم يكن رجلا بلا قلب. وهذا ما جعل خالي يحترمه ويقدره. كان صوته جميلا وحينما تستيقظ فيه روح الفنان يصبح شخصا آخر لا تعرفه، فترى قلبه وروحه ذوبت في الأغاني التي يصدح بها. ولكن ما إن تنتهي هذه اللحظات، حتى يعود كما كان رجلا جادا لا يخلط مثلي ومثل وجدي بين الجد والهزل.
كان أكثرنا معاناة في الحياة. لاحقت الأنظمة السورية منذ الخمسينات إلى زمن الوحدة عائلته فسجن عمه الأول بتهمة الشيوعية، والثاني بتهمة التعاطف مع القوميين السوريين. وداهمت عناصر المخابرات منزل الأسرة عدة مرات لتفتيشه والبحث عن وثائق ومنشورات، ثم وُصِمَ هو نفسه بتهمة العداء للحزب وحُرِمَ من المنحة إلى الخارج رغم تفوقه. سافر إلى فرنسا بطريق البحر وعمل في الموانئ وفي المطاعم و تشرد في أزقة باريس ثم عمل في ترجمة الوثائق للسوريين والعرب، حتى استطاع الحصول على منحة وحاز على شهادة الليسانس في الفيزياء. وهو يعمل الآن ويحضر الدكتوراه في الفيزياء النووية.
كنت أرى ما يبذله عصام من جهد في ترجمة المسائل والتمارين من الفرنسية إلى العربية، وما يعانيه التلاميذ من اختلاف المصطلحات بين الأساتذة المصريين والسوريين والعراقيين رغم الجهود الكبيرة التي يبذلونها. وبينما يجد التلاميذ الذين يدرسون العلوم بالفرنسية مكتبة علمية كاملة تحت تصرفهم، يعتمد التلاميذ المعربون على الكتاب المدرسي وحده. وحتى لا يضطروا إلى الاتصال بالأقسام الفرنسية لاستيعاب ما درسوه، كان عصام يسهر الليالي ليوفر لهم ما يحتاجونه بالعربية.
أما وجدي فهو أكثرنا دماثة وأناقة، وأميلنا في نفس الوقت إلى العزلة. ينتمي إلى أسرة أرستقراطية عريقة، ولكنه متواضع ومتسامح مع كل الناس. ولد وفي فمه ملعقة من ذهب. وحسب تعبير أحد أقارب وجدي: "لم يكن عبد الناصر يحب أن يرى ملعقة ذهب في فم أحد فصادرها". كان جده باشا ونائبا وفديّا مشهورا بطيبته واستقامته، وأبوه موظف له مستقبل مرموق في الخارجية. وحين جاءت الثورة عزلت رجال الأحزاب، وصادرت أراضي الملاكين، وسرح أبوه من الوظيفة، ووضعت أموال الأسرة تحت الحراسة. لكن الأسرة استطاعت رغم ذلك أن تتغلب على محنها المتعددة. تمكن والده أن يعمل في التجارة، وبما للأسرة من معرفة باللغات وأصدقاء في الخارج نجح في أن يكون وسيطا بين الأثرياء والمتنفذين الجدد وبين الشركات الأجنبية.
مع كل ذلك لم يكن يكره عبد الناصر، سألته مرة عنه فأجاب: "كنت في صغري أكرهه بسبب ما حدث لأسرتي، وحين كبرت اكتشفت أن الفساد كان مستشريا لدرجة أصبحت الثورة عليه أمرا محتوما بل واجبا وطنيا. ولو لم يكن عبد الناصر لكان غيره، ولكل ثورة أخطاؤها وضحاياها".
أما أنا فلم يكن حبي لعبد الناصر ينبع من مساندته المطلقة ماديا ومعنويا للثورة الجزائرية ومواقفه الشجاعة ضد القوى الاستعمارية العظمى فحسب، ولكنه كذلك إعجاب بمن استطاع أن يعيد الثقة إلى الأمة العربية والشعوب المستضعفة بنفسها وبقدراتها على التحرر والتقدم، وهو مالم تستطعه الأحزاب اليمينية أو اليسارية. ومثلما تعلمت أن أتجنب عبادة الشخصية، تعلمت كذلك أن أنوه بفضل عباقرة أمتي مثلما تنوه كل أمة بعباقرتها في كافة المجالات. فبدونهم لا يتم التفاعل الكيميائي في المجتمع مما يؤدي إلى تغيير بنيته وتطويره.
كنت أقل الثلاثة معاناة وتجربة في الحياة، وأمرحهم وأكثرهم انسياقا وراء العاطفة. والفضل يعود لخالي في كبح بعض اندفاعاتي العاطفية، فحين وعيت على الدنيا وجدته أمامي عوضا عن والدي. هجوت مرة أحد زملائي في زمن المراهقة بأسلوب مقذع فقال لي: "إياك والهجاء يا عابد، فالهجاء الصادق أسوأ من المدح الكاذب لأنه يظهر عيوب الإنسان، ويتغاضى عن محاسنه. ومن سل لسانه على الناس، خافوه واتقوا شره، ولكنهم لم يحبوه ولم يحترموه". وعاهدت نفسي ألا أهجو أحدا ما حييت. ونشرت مرة في جريدة الشعب قصيدة عن التعريب أرسلتها من القاهرة وصفت فيها اللغة الفرنسية بأنها عار:
"كيف أرْضى بعد أنْ طهّرْتُ مِنْ عاري جَبيني
أنْ أرى العارَ مُقيماً في لِساني ويَميني"
وبعث لي رسالة الى القاهرة يلومني على ما قلت: "أنا لا أوافقك في هذا، فاللغة الفرنسية ليست عارا. أنت تعلمت الفرنسية فهل تعتبرها حقا عارا وتريد أن تمحوها؟ يجب أن يكون شعرك صادقا تعبر به عن إحساسك، ولا تستخدمه في شعارات لإرضاء الآخرين". ونصحني بالتعبيرعن معنى التمسك باللغة العربية والحفاظ عليها بأسلوب أخر لا بمهاجمة الفرنسية.
وأختلف عنهما في أمرين اثنين، فكل منهما مبرز في مادة اختصاصه لا يلحق به أحد، وأنا مستجد في مادتي، وما زلْت في بداية الطريق. وهما مدنيان ابنا مدينتين عريقتين، وأنا ريفي تختلف طبيعتي وعاداتي عن طبيعتهما وعاداتهما. فأنا أكثر انفتاحا وتلقائية وكل مالدي من مال ووقت ومتاع مشاع للآخرين، بينما هما متحفظان منظمان تعودا على وضع حدود في التعامل، وعلى نظام في المعيشة، وعلى الخصوصية التي لا تقبل الانتهاك. قال لي عصام مرة حكمة قديمة حين سألته ببراءة عن وجهته: "لا تسأل المرء عن ثلاث: مذهبه وذهبه وذهابه". ومع ذلك كانا يتسامحان معي في تجاوزاتي، وكنت أحاول أن أحترم منهجهما في التعامل.
ومن الأمور التي جمعت بيننا أن ثلاثتنا لا نشرب ولا ندخن، ونحب الأدب والفن ونتذوق الشعر والموسيقى والمسرح والسينما. وثلاثتنا غير حزبيين، وهذا لا يعني أننا ضد الأحزاب. وقد سألنا مانع السعدون مرة: "لماذا أنتم الثلاثة غير منتمين؟". وعبر عصام عن رأينا بصدق ووضوح حين أجابه: "الانتماء أساسا للوطن لا للحزب ولكننا لسنا ضد الأحزاب. معظم الوطنيين والثائرين في سوريا والجزائر ومصر والعراق في مختلف الأقطار العربية تربوا في الأحزاب وناضلوا من خلالها، ولا مستقبل ديموقراطي في بلادنا من دون الأحزاب. ولكننا نأخذ عليها تعصبها ونظرتها الضيقة ووضع المنتمين إليها مصلحة الحزب والحزبيين فوق مصلحة الوطن وتهميش الآخرين، لأنها مازالت تعكس كل أمراض المجتمع بدلا من معالجتها".
اكتشفنا أيضا تقاربا في تفكيرنا، فليس فينا من ينظر إلى العروبة على أنها عرق أو نسب بل هي حضارة جمعت أعراقا كثيرة، فأبي عربي وأمي شاوية، ووجدي فيه عرق تركي لأن جدته لأمه تركية، لذلك لم تكن دعوتنا إلى الوحدة العربية عنصرية بل واقعية. فنحن في عصر التكتلات، والوحدة الوطنية بين أبناء البلد الواحد هي أساس كل وحدة أوسع منها. وحدة تقوم على الرضى لا الضم بالقوة وتراعي مصالح كل بلد وخصوصياته بالحوار الجاد الصادق بذهنية واقعية. وحدة عصرية لبناء المستقبل وليس لاستعادة الماضي. وحدة تشيع المساواة بين كل المواطنين بصرف النظر عن أعراقهم وأديانهم وطوائفهم.
بدأنا سهرات رمضان بحضور افتتاح مهرجان الموسيقى الأندلسية، كما حضرنا حفلات الفرقتين المصرية والسورية وجمعيتي الموصلية العاصمية والغرناطية التلمسانية. كانت سهراتنا تمتد إلى السحور، نتجول فيها بعد الفطور ثم نتسامر ونستمع إلى عزف على البيانو أو على العود حين نكون في شقة وجدي، أو يحضر وجدي العود لشقتي أو شقة عصام الذي يمتعنا بالموشحات والقدود الحلبية من صباح فخري والأغاني السورية من نجيب السراج ورفيق شكري وماري جبران وكروان. ونستمع أحيانا في مسجلتي الى ألوان الغناء الجزائري لأحمد وهبي ومحمد الباجي والطاهر فرقاني ووردة وعبد الرحمن عزيز وغفور ودرياسة وخليفي أحمد والخنشلي والعنقيس، ونستمع من الغناء العربي إلى مسرحيات فيروز والأخوين رحباني الغنائية وروائع أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وناظم الغزالي ووديع الصافي وتوفيق النمري وعلي الرياحي والهادي الجويني ومحمد الجاموسي وصليحة وعلية وعبد الوهاب الدوكالي وعبد الهادي بلخياط وطارق عبد الحكيم وسيد خليفة وحسن العريبي وغيرهم.
لقراءة الجزء التالي انقر هنا: 5- الثلاثي الأول: بريء أم مذنب أ
لقراءة الجزء السابق انقر هنا: 3- الأسبوع الثاني: قلوب متعطشة للحب
للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: جرس الدّخول إلى الحصّة
للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا: الرّوايـات