رواية جرس الدخول إلى الحصة

     للكاتب عبد الله خمّار

-6-

 

الثلاثي الأول (تتمة)

- 55-

زارني عصام في شقتي مساء السبت وأعلمني بأنه حضر اجتماعا للمصريين في حي "الأسفوديل" حيث يسكن الموظفون العرب والأجانب المتعاونون في "بن عكنون"، لبحث قضية وجدي. علم بالاجتماع من مانع السعدون صباح اليوم، ونقل لي بعد ذلك أهم ما حدث فيه:

"بدأ الاجتماع في بيت أحدهم في الساعة الثالثة ثم انتقل إلى ساحة الحي الداخلية لكثرة عددهم، تجمعوا في الساحة أساتذة وأطباء ومهندسين وخبراء في مختلف المجالات. انضم إلى المصريين بعض المتعاونين العرب من المشرق والمغرب، ومعظمهم من العراقيين والسوريين والفلسطينيين وبعض الأساتذة الجزائريين لمساندتهم. كان الشعور العام لدى المصريين أن هناك مؤامرة ضد وجودهم بالجزائر، وأن هذه التهمة ملفقة لزميلهم، وهم مستهدفون جميعا. بدأ إحساسهم بأنهم يتحملون العبء الأكبر في القضايا العربية دون جزاء أو شكور، يتجسد في الكلمات والخطب المليئة بالمرارة التي تشكك في الجزائريين والعرب وتمجد مصر وتضحياتها، وطالب بعضهم بالتوقف جماعيا عن العمل احتجاجا على اعتقال زميلهم. 

بدأ الغضب يلهب الخطب، والزبد يتطاير من زوايا الشفاه، والعيون تلتمع بالشرر، وقبضات الأيدي تتكور. كادت تضيع وسط صيحات الاحتجاج الدعوات المنادية بالهدوء والتعقل والموضوعية، حين تناول الكلمة عميد المتعاونين المصريين وأكبرهم سنا، وهو أستاذ في كلية الحقوق. لم تهدأ النفوس الثائرة بل جنحت لهدنة مؤقتة في انتظار ما يقول. كان صوته هادئا بعيدا عن الانفعال مما اضطر الجميع إلى الصمت. قال:

"نحن جميعا مستاؤون مما حدث. لكن علينا ألا نخلط الأمور. فأولا ينبغي أن نفهم حساسية الجزائريين. فهم حاربوا ودفعوا مليونا ونصف مليون من الشهداء ليحصلوا على استقلالهم. ونحن في بلادهم. وعلينا أن نحترم قوانينهم. نحن نعمل في إطار اتفاق ثنائي بين البلدين، ولا يمكننا القيام بأي تصرف يخل بهذا الاتفاق".

توقف المحدث هنيهة، لم يجرؤ أحد على انتهاز الفرصة لمقاطعته. غرقت الساحة على اتساعها في صمت وتصنت بالآذان والعيون وانضباط عجيب. تابع قائلا: "ثانيا: علينا أن نستبعد كليا قضية المؤامرة، فهذه جريمة قتل عادية ولا نعرف من ارتكبها. ومن واجبنا دعم زميلنا ومساعدته، بشرط عدم تعطيل سير العدالة. وأقترح أن نشكل وفدا من ثلاثة أشخاص لمقابلة المسؤولين في السفارة، وحثهم على متابعة التحقيق، والتعاون مع السلطات الجزائرية لكشف الحقيقة، وفي الوقت نفسه الوقوف مع زميلنا وجدي ودعمه بكافة الوسائل".

وتكلم أحد المصريين فأبرز موقف الأساتذة في الثانوية الجديدة ودعمهم لوجدي. ولمس المصريون وقوف الجزائريين والعرب إلى جانبهم فهدأت مشاعرهم واطمأنت نفوسهم، وانتهى الاجتماع في الساعة الخامسة بعناق المصريين والعرب، وشعورهم بأنهم كيان واحد في مواجهة المصاعب والأخطار.

أخبرت عصام بأن بريجيت لم تمت وأنها في غيبوبة. قال: "كاد كتمان هذا الخبر أن يحدث فتنة". وتساءلنا عن سبب كتمانه.

- 56 -

لم أنتبه لغياب المدير عن الساحة صباح يوم السبت. وحين صعدت إلى قسم السنة الأولى ثانوي فوجئت بأسئلة التلاميذ عن صحة ما سمعوه من أخبار عنه. سمع أحدهم بأنه طعن في صدره بالسكين عدة طعنات وأنه مات، وسمع آخر بأنه تلقى عدة رصاصات في عدة أنحاء من جسمه، وأنه في حالة خطيرة في المستشفى. أما الأسباب فقد نقل التلاميذ ما سمعوه، ولم يصدقه بعضهم. هناك من سمع أنه مزق المصحف وأنه ملحد لذلك أغلق المسجد إلا في أوقات الصلاة مؤقتا، ليغلقه نهائيا فيما بعد. ومن سمع بأنه ماركسي أو ماسوني، وأن رئيسه في المحفل يهودي وهو الذي أصدر إليه الأمر بإغلاق المسجد، كما أصدر إليه الأمر بإلغاء مسرحية شكسبير في الحفلة، وفتح قاعة للمفطرين في رمضان. لم أستطع مواصلة سماع هذه الأخبار، فخرجت من القسم متجها إلى الإدارة. وإذا بي أصادف المراقب العام، سألته عن المدير فأجاب: "كان ضحية اعتداء ليلة أمس في الشارع القريب من الثانوية، لكن حياته ليست في خطر. وهو الآن في داره بعد أن عولج في المستشفى. طمأنت التلاميذ، وحاولت تفنيد الشائعات التي تتهمه في دينه، فوجدت بعضهم مصرا عليها إصرارا عجيبا، وشممت فيها مرة أخرى رائحة عبد الرحمن السردي.

دار الحديث خلال الاستراحة في غرفة الأساتذة عن الهجوم على المدير. لم أجد عند أحد تفاصيل ما حدث، أو سببا له. كان التأثر باديا على معظمهم، فمن لا يحب المدير يحترمه على قيامه بواجبه، وإنصافه في معاملة الأساتذة. سألنا المراقب العام عن زيارته، فقال: "إن المدير يرجو تأجيلها حتى يستعيد صحته". جلت بنظري بين الجميع فوجدت السردي يجلس إلى جانب مقادري. كان التأثر باديا في وجه الأخير لكن وجه السردي كان كالتمثال خاليا من أي تعبير. أخبرت فايزة بلقائي مع وجدي وبشرتها بأن بريجيت لم تمت وحالتها تتحسن فسرت كثيرا وسألتني عن صحته ومعنوياته فطمأنتها.

توجهت في الساعة الواحدة إلى منزل المدير. فتحت لي نوارة الباب، ودعتني إلى الدخول. ترددت قليلا وقلت لها: "لا أريد إزعاج والدك. أريد الإطمئنان عليه منك".

أجابت: "أبي في الصالون مع عمي العروسي فتفضل بالدخول".

وجدت آكلي مستلقيا على الكنبة الطويلة في جلسة مريحة.  وخالي على كنبة منحرفة ليكون بجانبه. كانت الكدمات واضحة في وجه المدير وكل من يراها يستنتج أن صاحبها تلقى لكمات عنيفة وعديدة، لكن حالته الصحية جيدة. هنأته بالسلامة، وروى لي ما حدث:

"عدت في الساعة التاسعة مساء أمس من دعوة للعشاء مع بعض الأصدقاء في حي بلكور. ولدهشتي وجدت شارع الثانوية الفرعي مظلما وقد أطفئت كل مصابيحه وكذلك مصابيح الثانوية، فيما كانت مصابيح الشوارع حوله مضاءة. لم أرتب في الأمر، وما إن خطوت خطوتين حتى أحسست بأيد تمسك بي، وتكبل يدي وراء ظهري، ثم أدخل رأسي في كيس، وجررت إلى مكان قريب أعتقد أنه البناء المهجور الذي بدأ أصحابه بناءه، ولم يستطيعوا إكماله لخلاف حول قطعة الأرض. وبدأت اللكمات والركلات، وسمعت أصواتا مختلفة حادة وخشنة، تشتمني وتنعتني بأبشع الصفات التي أستحي أن أعيدها إلى جانب نعتي بالكافر والزنديق والملحد.

انقطع فجأة سيل اللكمات والركلات، وسمعت صوتا أخن يبدو أن صاحبه تعمد أن يمسك أنفه بيده لئلا أعرف صوته، يقول: "إن لم تعد فتح المسجد سنقتلك. هل سمعت. أرجو أن تعي الدرس". وفي لحظة وجدت يدي طليقتين، ورأسي خارج الكيس، ولم أر شيئا في الظلام. تحاملت على نفسي حتى وصلت إلى الثانوية، والدماء تسيل من وجهي وأنفي. رآني المراقب العام فأخذني إلى المستشفى وأعلم ابنتي. وعدت في ساعة متأخرة إلى البيت بعد أن تلقيت الإسعافات اللازمة. اكتشفت الشرطة تخريب الكهرباء في الشارع ولم أخبر المحققين بحكاية المسجد حتى لا تدخل الشرطة إلى حرم الثانوية وتحقق مع التلاميذ والأساتذة".

سألته عن سبب فتح المسجد في أوقات الصلاة، فأجاب: "كان المسجد منذ بنائه مكانا للصلاة والعبادة وقراءة القرآن، وكانت تشرف عليه دائما مجموعة من التلاميذ المصلين حتى جاء عبد الرحمن السردي إلى الثانوية. بدأ يضع في مكتبته منشورات وكتيبات تتصل بالسياسة أكثر من اتصالها بالدين، وتحرض على تغيير المنكر باليد واللسان. وبدأ يشكل خلية تسعى إلى تنظيم التلاميذ وتثقيفهم بهذه المنشورات. وفي هذه السنة حاولت الخلية الجديدة إرهاب التلاميذ القدامى، وجعلهم ينضوون تحت راية التنظيم الجديد. وحين رفضوا طردوهم من المسجد وأهانوهم واتهموهم بالمروق من الدين وعدم فهم النصوص الشرعية، والعمالة للإدارة. دافع التلاميذ عن أنفسهم، ورفضوا الخروج من المسجد. وتحركت الإيدي لتحسم الجدل، ولولا حرمة المسجد لتحولت ساحته إلى حلبة ملاكمة ومصارعة. وصل المراقب العام في اللحظة المناسبة، ولم أرد فتح تحقيق في الموضوع والدخول في تفاصيل قد تؤدي إلى إشعال فتنة بين التلاميذ. ورأيت أن يفتح المسجد في أوقات الصلاة فقط، ونقلت الكتب الفقهية إلى مكتبة الثانوية. وصادرت النشرات السياسية والحزبية، بحيث لم أبق فيه إلا المصاحف والتفاسير، ومن أراد المطالعة عليه بالمكتبة.

قامت الدنيا ولم تقعد بعد ذلك، وروجت عني إشاعات كثيرة. واتصل بي بعض الأولياء بعد أن سمعوا بأني مزقت المصحف، وأني عدو الإسلام، ولكني شرحت لهم الوضع، ولما لم تجد الإشاعات لجأوا إلى الإعتداء علي". وحين رأى علامات القلق علينا، طمأننا بأنه سيحسم الأمر في هذا الأسبوع.

اعتذرت لنوارة وأنا في طريقي إلى الباب عن انشغالي بقضية وجدي عن دروسها. وحاولت تبرير جولتي مع جانين بأنها طلبت مني أن أرافقها في زيارة القصبة. فقاطعتني بلطف: "أنت لست مضطرا لتبرير صداقاتك". اتفقنا على مواصلة دروس العربية ابتداء من الغد.

سمعت بعد أيام أن المدير استدعى السردي، واتهمه بتدبير ما حدث. وأبلغه أنه لن يبلغ عنه، بل يمنحه فرصة ثانية، وهدده إن تدخل مرة أخرى في المسجد أوالثانوية فسوف لن يتسامح معه إطلاقا. وأكد له أن أساليب الإرهاب من أي نوع لا تخيفه. تظاهر السردي بأنه بريء ولا علاقة له بالحادث. وتوقفت قضية المسجد عند هذا الحد.

- 57 -

انتظرت يوم الثلاثاء بفارغ الصبر كي ألتقي بجانين في درس الإنجليزية، وفي الصباح فوجئت برسالة غريبة في صندوق بريدي بغرفة الأساتذة. المظروف أبيض ليس عليه طوابع، وعليه اسمي بالعربية بحروف كبيرة. أخرجت الرسالة فإذا بها من الورق الشفاف ألصقت عليها حروف ملونة من تلك المستعملة لتعليم التلاميذ في المدارس الابتدائية تشكل عبارة:

"نصيحة هامة: اقطع علاقتك بالفتاة الفرنسية."

                                       صديق تهمه مصلحتك

تفحصت الرسالة، فوجدت أن حروفها ملصقة بإتقان. هذه العبارة لايمكن أن يكتبها تلميذ في الابتدائي. بل من لا يريد أن يكتب بخط يده كي لا يعرفه أحد. ترى من وضعها في صندوقي؟ لا بد أنها وضعت باليد فمن وضعها؟ نظرت إلى الأساتذة من حولي. لا يمكن أن يكون أحدهم. من الذي يعرف علاقتي بجانين وينصحني بقطعها؟ وقع نظري فجأة على جاك لوبتي. هل يمكن أن يفعل جاك ذلك؟ ممكن طبعا. ويمكن أن يرسلها بالعربية للتمويه. وهل يعرف العربية؟ من يدريني بأنه لايعرفها؟ لكنه  يمكن أن يستخدم من يعرفها. لا. جاك لايمكن أن يفكر بهذا الأسلوب، فهو يعرف أن النصيحة لا تنفع في هذا المجال. من يكون إذن؟ من يكون؟ نوارة؟ صحيح يمكن أن تكون نوارة فجانين لاحظت أنها تحبني ووجدي لاحظ ذلك أيضا. ولكن نوارة لا تكتب بالعربية بل بالفرنسية. ربما كتبت بالعربية للتمويه. هل تفكر نوارة بهذا الأسلوب لإبعادي عن جانين؟ لا أعتفد ولكنني لست متأكدا.

وصلت جانين متأخرة إلى الدرس، وحين انتهى الدرس أخرجت مظروفا من حقيبتها وأعطته لي مع ابتسامة تنضح بالعذوبة قائلة: "هذه مكافأتك على القصيدة الجميلة". تناولته وفتحته فوجدت فيه لوحة رسمت عليها صورتي بقلم الفحم. فوجئت بها، فلم أر نفسي أبدا كما رأيتها في الصورة بهذه الوسامة والحيوية والبهاء، رغم أن الصورة كانت بالأبيض والأسود. رسمتني جانين بإحساس المحب لأنها رأتني بعين الحب. قلت لها متعجبا: "من أين أحضرت الصورة التي نقلت عنها؟"

ـ "لم أكن بحاجة إلى صورة. فصورتك لا تبرح خيالي. هل يرضي غرورك أن تعرف أنها محفورة في ذاكرتي وفي قلبي".

كنا نهبط السلالم، فقبلت يدها قائلا: "من أين لي هذا الحظ لتكون لي حبيبة مثلك؟  هل أطمع منك بصورة أخرى؟"

ـ "لمن؟"

ـ "لك أنت". فابتسمت وأجابت: "في المرة القادمة". ثم أردفت بدلال: "لم أحضر سيارتي فهل ترافقني في الطريق؟"

ـ "بكل سرور".

سعدت بمرافقتها. نزلنا إلى شارع ديدوش مراد فالعربي بن مهيدي. حدثتها عن المدير وما حدث له. سألتني عن نوارة ودروس العربية. أخفيت عنهاحكاية الرسالة، وودعتها عند باب العمارة.

- 58 -

استفاقت بريجيت من غيبوبتها التي استمرت أكثر من عشرة أيام. واستعادت قواها شيئا فشيئا حتى سمح الأطباء باستجوابها، فبرأت وجدي، وأطلق سراحه. وكتبت صحيفتا الشعب والمجاهد أن المرأة الأوربية التي وجدت في شقة الأستاذ المصري لم تمت، وأن غرفة الإنعاش في مستشفى مصطفى استقبلت يومها امرأة في حالة غيبوبة بين الحياة والموت، سهر الأطباء على معالجتها لمدة يومين، وعملوا ما يمكن للطب عمله، وأسلموها لعناية الله. ولم يعرف أحد في داخل المستشفى وخارجها أن هذه المريضة هي القتيلة التي تتحدث عنها الصحافة فيما عدا الطبيب الشرعي الذي أمر بنقلها حين وجدها لاتزال حية، ومحافظ الشرطة الذي أعلمه الطبيب بذلك. كتما الخبر حتى عن أطباء المستشفى لحسن سير التحقيق.

كنا في المطعم يوم الأربعاء نتناول طعام الغداء حين دخل علينا آكلي ومعه وجدي، فنهض كل من في المطعم من أساتذة وتلاميذ وصفقوا فرحا بقدومه. سلم عليه الأساتذة والإداريون بحرارة وعانقته عناقا طويلا. وجلس معنا على الطاولة التي كان عليها عصام ومانع وكاظم أصلان، وروى لنا كيف كان يقضي أيامه، قال:

 "اعتقلني محافظ شرطة الحي على ذمة التحقيق لأنني لم أستطع إثبات وجودي خارج الشقة. عوملت منذ اللحظة الأولى معاملة حسنة فلم أوضع مع الموقوفين. مكثت في غرفة المناوبة، ونمت في سرير الضابط نفسه.

كان المحافظ رئيس القسم يأخذني في جولة للنزهة مساء، في ضواحي العاصمة". قاطعته سائلا بلهجة عتاب: "لماذا لم تخبرني أن بريجيت حية لم تمت؟"

ـ "لم أعلم بذلك إلا قبل زيارتك بساعة، وطلب مني عدم إبلاغك، فعفوا إن كنت أخفيت عنك".

ـ "عفونا عنك ولكن لا تخف عني شيئا عندما تعتقل في المرة القادمة". وضحك الجميع.

أقيمت في اليوم التالي خلال استراحة العاشرة حفلة رمزية بمناسبة براءة وجدي في غرفة الأساتذة، قدمت فيها المرطبات والقهوة والحلويات. وحضرها معظم الإداريين والأساتذة. لاحظت أن جاك وحكيم دخلا وخرجا حين عرفا بأمر الحفلة، ولم يشاركا في الاحتفال. وكذلك لم يظهر عبد الرحمن السردي بينما حضر مقادري وعمار ومارتا والناظر. تألقت فايزة في الحفلة وكانت نجمتها بحق. لبست ثوبا أزرق جديدا لم يرها أحد فيه من قبل، وسرحت شعرها على شكل ذيل الحصان. كان وجهها ينطق بالفرح والبهجة. هنأته بحرارة وجلست بجانبه معظم الوقت دون حرج. كانا يبدوان سعيدين. أحضرت لنا فايزة بطاقات دعوة لحضور مسرحية من إخراج أخيها في قاعة الموقار. وعد وجدي بالحضور بينما اعتذرت لموعدي مع جانين.

عزم وجدي على زيارة بريجيت في المستشفى. رافقته مع آكلي في الساعة الواحدة والنصف بعد درس نوارة. وجدناها في غرفة مشمسة بسريرين. تقيم معها أختها الكبرى التي حضرت من فرنسا للعناية بها. حملنا لها باقة زنبق أضيفت إلى الباقات العديدة الفاخرة على طاولتي السرير وزوايا الغرفة، والتي توحي بعناية السفارة وأصدقائها الفرنسيين. كانت تبدو في صحة جيدة وقد زال عنها الخطر تماما. بدأت تستعيد قواها رغم اصفرار وجهها والذي لم يستطع إخفاء جمالها أو إطفاء حيويتها.

عرفها آكلي بنا، فقالت لي: "أنا مدينة لك بحياتي، فلولا سرعتك في الإبلاغ لكنت الآن في عداد الأموات. فشكرا"، ثم التفتت إلى وجدي قائلة: "أرجو أن تسامحني و تعذرني، فقد اقتحمت دارك دون إذن، وسببت لك المتاعب والسجن. لكن صديقتي فرانسواز هي المسؤولة فلم تخبرني عن انتقالها وسفرها".

ترجمت ما قالته لوجدي فأجابها: "لا شيء يهم ما دمت سالمة. كان كابوسا مريعا لنا جميعا وأنا سعيد بالتعرف عليك".

سألها آكلي: "كيف دخلت إلى الشقة؟ وماذا حدث؟"

ـ "كنت أزور "فرانسواز" باستمرار حين كنت في البليدة، لنقضي عطلة الأسبوع معاً. وفي السنة الماضية انتقلت إلى وهران. أصبحت بعيدة عنها ولكنها زارتني في عطلتي الشتاء والربيع، وقضينا أسبوعين من أوائل الصيف في شاطئ عين الترك. نزلت إلى العاصمة، وأتيت إلى دارها دون موعد. كان هاتفي معطلا، ويبدو أنها اتصلت لتخبرني بسفرها فلم يجب الهاتف. وهاتفها معطل أيضا فأنا كلمتها يوم السبت قبل حضوري فلم يرد أحد".

قال لها المدير: "أوقفت الهاتف قبل سفرها".

تابعت بريجيت: "صعدت إلى الشقة وقرعت الجرس. كانت التاسعة والربع تماما. لم يجبني أحد. تذكرت أن فرانسواز أرتني مفتاحا إضافيا في صندوق بريدها في أسفل العمارة، تعلقه بمسمار مغروز في جانبه من الداخل، ورجتني أن استعمله إذا لم أجدها في المنزل. والصندوق يفتح ويغلق باليد دون حاجة إلى مفتاح. ولا يلاحظ ذلك أحد، فموضع الصناديق معتم دائما. فتحته ومددت يدي فوجدت مفتاح الشقة".

ترجمت لوجدي حديثها، فقال: "لو لم يكن المكان معتما لوجدت اسمي على الصندوق لا اسم فرانسواز. أما المفتاح فقد فتحت الصندوق ولكنني لم أره". قلت له: "إنه لا يرى بالعين، بل يلمس باليد كما ذكرت بريجيت". تابعت بريجيت حكايتها: "صعدت إلى الشقة ووضعت المفتاح في الباب ودخلت. وما إن وصلت إلى منتصف الصالون حتى هاجمني اثنان، أمسك أحدهما بيدي وضربني الآخر على رأسي بشيء كان في يده، وأغمي علي. ملامح الوجهين ظلت محفورة في ذاكرتي. أفقت في المستشفى وقيل لي إني كنت في غيبوبة. هذا كل ما أذكره.

- 59 -

جاء عمال البريد والمواصلات بعد ظهر اليوم وركبوا لي جهاز الهاتف. ووعدوا أن يرن الجرس عندي وعند وجدي خلال يومين.

لم أذهب إلى درس الإنجليزية في المساء. سهرت في شقتي مع وجدي وعصام. تناولنا عشاءً خفيفا: قطعاً من شرائح اللحم المشوي وسلطات حضرتها مع عصام وبرتقالا و "مندرين". كنت أعد الشاي حين سمعت جرس باب وجدي ثم جرس بابي. فتحت فإذا بي أجد المدير ومحافظ الشرطة. توجست شرا، لكن ابتسامة آكلي وتحية المحافظ طمأنتني. سألني آكلي: "هل وجدي عندك؟"

ـ "نعم تفضلا بالدخول". دخلا إلى الصالون. قابلهما وجدي بترحيب ممزوج بالقلق والتساؤل. وزعت كؤوس الشاي وجلست أستمع لحديث محافظ الشرطة:

"قبضنا على العصابة التي دخلت إلى شقتك. كانوا ثلاثة متنكرين في ثياب "الدهانين". تلقينا هاتفا من ساكن في إحدى العمارات القريبة. ساوره الشك وهم يصعدون إلى شقة جاره الموظف. تحركنا بسرعة فقبضنا عليهم بالجرم المشهود. عند تفتيش مساكنهم وجدنا لديهم جواهر ونقود ووثائق، منها وثائق بريجيت. ليلة أمس اعترفوا بالجرائم التي ارتكبوها، ومنها السطو على شقتك. كانوا يحسبون أن فرانسواز مازالت تسكنه".

صمت الضابط قليلا ثم أردف: "أتيت لإعلامك أننا سنحضر المتهمين لتمثيل جريمتهم غدا، فإن كنت مشغولا في الغد، فأحضر لنا مفتاح الشقة صباحا إلى المحافظة". سألته: "وهل ستحضر بريجيت؟"

ـ "لا ضرورة لذلك. ستمثل إحدى الشرطيات دورها".

كنا ننصت باهتمام، وفي ذهن كل منا أسئلة: كيف حدث هذا؟ من أين دخلوا؟ هل قاومتهم بريجيت حتى هاجموها؟ لكن أحدا منا لم يجرؤ على مقاطعة المحافظ آملا أن يجيب عنها خلال سرده لهذه الرواية البوليسية التي قدر لوجدي أن يكون أحد أبطالها:

" كانوا ثلاثة، أصغرهم واسمه سمير، كان يعمل في محل ترصيص فطرد منه. وانضم إلى اللصين وهما من أصحاب السوابق. استغلا معرفته بالبيوت التي دخل إليها، ليزودهم بالمعلومات عنها وعن أصحابها. كان بيت "فرانسواز" ضمن هذه القائمة. وكان سمير هذا قد دخل بيتها لإصلاح تسرب في أنابيب الحمام، وعرف أنها تسكن وحدها وتتغيب عن المنزل أوقات العمل، وتسكن في الطابق الأول مما يسهل الوصول إلى شرفتها بسلّم.

وصل الثلاثة إلى العمارة في التاسعة، وهم في ثياب الدهانين. صعد سمير ودق الجرس".

والتفت المحافظ إلي قائلا: "الجرس الذي سمعته في التاسعة. وانتظر حتى تأكد من عدم وجود أحد في المنزل، ونزل. صعد صديقاه إلى الشرفة وبقي قريبا من السلم ليراقب، ويصفر للآخرين إذا حضرت فرانسواز فجأة. وجدا نافذة الشرفة مفتوحة". والتفت محافظ الشرطة إلى وجدي سائلا: "أأنت الذي تركتها مفتوحة؟ "

أجاب وجدي: "بالطبع. تركتها مفتوحة لتهوية الدار".

تابع المحافظ: "كانت معهما الأدوات اللازمة لكسر الزجاج لو وجداها مغلقة. بدأ اللصان يجمعان بعض الأغراض والأدوات الإليكترونية حين دقت بريجيت جرس الباب".

والتفت مرة أخرى إليّ قائلا: "الجرس الثاني الذي سمعته في التاسعة والربع". وأتم حديثه: "حار اللصان ماذا يفعلان. لم يعطهما سمير إشارة بحضور فرانسواز. نظر أحدهما من ثقب الباب فلم ير شيئا في الظلام. نزلت بريجيت بعدها لإحضار المفتاح، وتابع اللصان عملهما. وحين عادت من جديد وفتحت الباب فاجأت أحدهما، وهو يحاول الاختفاء، فصرخت فزعة، فهجم عليها، وكمم فمها بيده. لكنها قاومته وعضته، فضربها الآخر على مؤخرة رأسها بالكماشة، فسقطت على الأرض والدم ينزف منها. ولأن الشابين تعودا السرقة لا القتل فقد تملكهما الفزع، وفتحا باب الشقة، وأخذ أحدهما حقيبة يدها لأنها خفيفة، ووضعها تحت مئزره، وهربا جريا على السلالم، تاركين الباب مفتوحا. لم يدر زميلهما بما حدث، ولكنه أحس بالخطر. فوضع السلم في الشاحنة الصغيرة، وركب الثلاثة وانطلقوا. ولم يعاودوا نشاطهم إلا بعد أن تأكدوا من اتهام وجدي بالقتل".

قال وجدي للمحافظ: "أشكرك على ما فعلته من أجلي. وعلى المعاملة الحسنة التي تلقيتها خلال مدة استضافتكم لي. ولا أقول اعتقالي. ولكن هل تسمح لي بسؤال؟"

ـ "تفضل".

ـ "هل كنت مقتنعا ببراءتي؟ وإذا كان الأمر كذلك لماذا بقيت رهن الاعتقال؟ وإن لم تكن مقتنعا ببراءتي فلماذا عوملت كضيف وليس كمعتقل؟"

ابتسم المحافظ وقال: "هذا ليس سؤالا واحدا، ولكن عدة أسئلة". اتخذت ملامحه علامات الجد من جديد، وأجاب: "في البداية، حين استجوبتك في الشقة لم أكن مقتنعا ببراءتك، لأنك لم تستطع إثبات وجودك وقت الحادثة في الثانوية أو في أي مكان آخر. وبما أننا دائما نغلب الشك لنصل إلى الحقيقة، فلم يكن أمامي غير اعتقالك. فالجريمة وقعت في دارك، والتحقيق يجب أن يبدأ معك لمعرفة علاقتك بالمعتدى عليها. ولكنني في المساء أصبحت شبه مقتنع ببراءتك، ولا أقول مقتنعا تماما، ففي مهنتنا الشك ضروري لفحص كل العوامل وعدم إهمال أحدها".

استسمحنا المحافظ في تدخين سيجارة، فلم يعترض أحد. اشعل سيجارته وأحضرت له المطفأة، وتابع كلامه: "كنت في المساء شبه مقتنع لسببين: أولهما أن أحد ساكني العمارة، وهو موظف في البلدية، أخبرني بأنه شاهد عند خروجه من المنزل حوالي الساعة التاسعة، شاحنة صغيرة عليها سلّم وأمامها ثلاثة أشخاص في ثياب الدهانين. ولأنه كان مستعجلا لم يتوقف ليسألهم إن كانوا تابعين للولاية أو أتوا بتكليف من أحد السكان. والثاني أن شهادة السيد آكلي آيت شاكر بك وبمستواك وأخلاقك واقتناعه التام ببراءتك عززت قناعتي بأنك بريء. والتفت إلى المدير قائلا: "أتذكر أنك استعملت تعبير: "أضع يدي في النار بأنه ليس الفاعل لتؤكد براءته". ثم خاطب وجدي مستأنفا حديثه: "عرفنا في اليوم التالي أن أحدا من سكان العمارة لم يستقبل دهانين في ذلك اليوم.  ورغم أنني أصبحت شبه مقتنع ببراءتك، لم أستطع إطلاق سراحك فالشك مازال قائما حتى تثبت البراءة. لذلك قررت مع رؤسائي تمديد التوقيف حتى لا تتحول القضية إلى النيابة، وتأخذ منحى آخر لا يفيد التحقيق. فإن أفرجت عنك النيابة لعدم كفاية الأدلة لم تثبت براءتك أمام الناس، وخاف المجرمون الحقيقيون من التحرك من جديد. أما تمديد توقيفك فيوهم اللصوص بأن التهمة ثبتت عليك، فيواصلون نشاطهم وتكون لدينا الفرصة للقبض عليهم. كما أن استمرار التوقيف يحمينا من ضغط السفارة الفرنسية.

كنا على اتصال بالسفارة المصرية، وأعلمناها بأنك ضيف عندنا لا سجين حتى ينتهي التحقيق. وبالفعل تحرك اللصوص مرة أخرى كما توقعنا وقبضنا عليهم. وما يهم الآن هو أن براءتك أصبحت كاملة غير منقوصة.

- 60 -

  اقترحت على جانين يوم السبت زيارة متحف الفنون الجميلة في الحامة. فوجئت جانين بالروائع الموجودة به، وبآثار عمالقة الفن العالمي التي يحتوي عليها. أما أنا فاكتشفت جهلي بأهم متاحف الفنون في إفريقيا، إذ يغطي ستة قرون من تاريخ الفن، تبدأ بالقرن الرابع عشر، ويحتوي على أعمال أصلية للفنانين الأوائل للمدارس الإيطالية والسويسرية والهولندية والفلاماند وغيرها إلى جانب أعمال الفنانين الجزائريين والفرنسيين من المدارس الكلاسيكية والواقعية والتكعيبية والرمزية والاستشراقية.

قضت الصبيحة كلها تتأمل الآثار الفنية الخالدة. ووقفت مطولا أمام الرسوم التصغيرية لمحمد راسم المعبر بعضها عن البيئة الجزائرية، والمستوحى بعضها من البيئة العربية الإسلامية. قارنت جانين بينها وبين الرسوم التصغيرية في الفن الأوربي المسيحي، ودهشت من دقتها وجمالها الفني. كما أثارت اهتمامها اللوحات الاستشراقية لنصر الدين "إتيان" دينه المستوحاة من بيئة بوسعادة التي اختارها الرسام الفرنسي مسكنا له ودفن فيها. أجلت جانين زيارة مكتبة المتحف الهامة المتخصصة في تاريخ الفن إلى مرة قادمة. وبما أنني رأيت إعجابها بلوحات محمد راسم، اشتريت لها من كتبي المتحف كتابا يحتوي على رسومه ولوحاته نشرته وزارة الثقافة. كتبت عليه بالعربية والفرنسية: "إلى حبيبتي الغالية الفنانة الحسناء جانين". رأيت وجهها يشع بالفرح لهذه الهدية الثمينة بالنسبة إليها.

تناولنا الغداء في أحد الأكشاك القريبة؛ بعض قطع البيتزا. ثم زرنا حديقة التجارب في الحامة؛ إحدى أقدم الحدائق النباتية في العالم.

مشينا تحت ظلال الأشجار في الممر الذي مشى فيه فكتور هيغو وكارل ماركس. أعجبت جانين بأنواع الأشجار والنباتات والزهور. كان جو الحديقة خريفيا رومنسيا، لكنه لم يكن حزينا بحال من الأحوال. زوار الحديقة قليلون. كان شاب وفتاة يجلسان على مقعد محجوب عن الأنظار، ويبدو أنهما عاشقان. نهضا قبل أن نصل إليهما، فجلسنا في مكانهما. فاجأتني جانين بقولها دون مقدمات: "حدثني عن حبك الأول".

تلكأت في الجواب وتلعثمت، ولكنها صمتت في انتظار الجواب. قلت: "لم يكن هناك حب جاد في حياتي سوى حب هالة. أما ما عدا ذلك فكانت مشاعر عابرة". وحدثتها عن قصتي معها. 

ـ "أما زلت تحبها؟"

ـ "لا يمكنني أن أكرهها. أحبتني بصدق كما أحببتها".

رأيت طفحا أحمر يغمر وجهها فجأة، ويفضح غيرتها الشديدة. وتابعت: "لكنها ماض الآن، مجرد ذكرى، وأنت الحاضر والمستقبل".  

ـ "هل كتبت لها شعرا؟"

تردّدت في الجواب. لم تستعجلني بل ظلّت تراقب تردّدي وتغيّر لون وجهي، فلم أشأ استثارة غيرتها من جديد. ولكني لن أكذب عليها. أجبتها: "نعم". 

ـ "أسمعني؟"

ترجمت لها مقطعا من قصيدة كتبتها لهالة مطلعها:

" أُحبُّها

وأعشق الشعر الذي ينظمه هُدْبُها".

قالت بمرارة: "أنت محظوظ بحبك الأول. أما أنا"، وأرسلت زفرة طويلة ثم قالت "لا علينا فلننس ذلك الآن".

-61-

قلت بإلحاح: "لا يا جانين أرجوك أن تفتحي لي قلبك كما فتحته لك. حدثيني عن حبك الأول". وكأنها كانت تنتظر أن أسألها، فلم تتردد واسترسلت في الحديث. وهذا ملخص لما ذكرته: 

"كان حبها الأول زميلا لها في فرع اللغة في جامعة بيزانسون يعشق مثلها الرسم. كانت لهما أحلام ومطامح. خطّطا معا لمستقبلهما وزواجهما. وفي الصيف الذي تلا نجاحهما إلى السنة الثالثة تعرف بأرملة أمريكية ثرية. قضى الصيف معها كدليل لها في فرنسا. أغدقت عليه الأموال بلا حساب حتى استطاعت اصطياده. غادر معها إلى الولايات المتحدة، ولم يعد إلى الجامعة. انقطعت أخباره منذ ذلك الوقت. سألت عنه في البداية فعلمت أنه لا يرسل أخباره حتى لأهله. انتظرت رسالة أو هاتفا أو خبرا، وطال انتظارها دون جدوى. ثم سمعت خبر زواجه من تلك الأرملة. عالجت بعد ذلك جرحيها: جرح الحب وجرح الكرامة حتى التأما، ولم تفتح قلبها بعده لأحد". و ها هي اليوم تقع مرة ثانية في الحب؛ حب إنسان يختلف عنها في العرق واللغة والدين والعادات والتقاليد. قالت بلهجة تطفح بالبشر: "ليس هناك في الدنيا أروع و أجمل من الحب. وأضافت بنبرة حزينة: "ولكن ليته يدوم".

أمسكت يديها بيدي. وقبل أن أفتح فمي لأقول شيئا تابعت بلهجة مرحة: "تذكرت، وأنا أطلب منك أن تكون دليلي، السيدة الأمريكية الثرية التي اختطفت مني خطيبي فعذرتها. وأردت التأكد من أنني لا أخطفك من أحد. على كل حال أنا لست ثرية لأشتريك بالمال". وضحكنا.

مرت بجانبنا قطة بيضاء أخذت تتمسح بقدمي جانين. حملتها وأخذت تربت على رأسها وتمسح جسمها وتمسده. خطر لي أن أغير دفة الحديث الذي استحضر ذكريات مؤلمة، فسألتها: "هل أنت متدينة؟"

ـ "نعم. أنا كاثوليكية أمارس شعائر ديني. لم هذا السؤال؟"

حدثتها عن قصة قطة بئر مرادريس، ثم سألتها مجددا: "لو أن من تثقين به وبدينه أخبرك أن قطة تكلمت ومجدت المسيح، وأقسم أنه شاهدها وسمعها بنفسه، فهل تصدقينه؟"

ـ "لا. لأنّ هذا لا يقبله العقل، وليس له علاقة بالدين. لكن لو قال لي بأن العذراء ظهرت في الكنيسة الفلانية لصدقته. لأن هذا ينسجم مع ما أؤمن به".

ـ "ولكن هذا لا يقبله العقل أيضا! "

ـ "الإيمان لا علاقة له بالعقل. الإيمان بالقلب؛ إما أن تؤمن أو لا تؤمن. ولكل طريقه إلى الله. فظهور العذراء معجزة دينية يؤمن بها القلب، أما كلام القطة فهو خرافة لا يؤمن بها القلب، ولا يصدقها العقل".

وقبل أن نغادر الحديقة عرجنا على قسم الحيوانات والطيور فيها. قضينا وقتا ممتعا مع الغزلان والطواويس والببغاوات والحيوانات والطيور الأخرى. وعند وصولنا بالسيارة إلى جانب عمارتي أخرجت مظروفا كبيرا وناولتني إياه قائلة: "ها هي الصورة التي طلبتها". كانت صورتها مرسومة بقلم الفحم. اتجهت فورا إلى دكان مصور لأشتري إطارا لها، وأعلقها في غرفتي.

- 62 -

تكرر خروجي معها أيام السبت. نتجول تارة بالسيارة وتارة على الأقدام. زرنا متحف باردو. تجولنا في حديقتي الحرية وصوفيا. زرنا المحلات والأسواق في الأحياء القديمة والجديدة في حيدرا والأبيار وباب عزون وباب الواد وديار السعادة والمدنية والمرادية وحسين داي والقبة والحراش وبوزريعة. كنت أستعين بنوارة يوم الخميس بعد الدرس في وضع برنامج لزيارة جانين يوم السبت، فهي أعرف مني بالعاصمة والأماكن الهامة فيها.

في كل مرة أرى جديدا في جانين لم أكن ألحظه من قبل. ليس في جمالها وأنوثتها وأناقتها فحسب، ولكن في ذكائها وثقافتها وفنها أيضا. حاولت دائما أن أحوز إعجابها وأن أكون نداً لها في الذكاء والثقافة والفن. ومع أن جهلي كان يظهر أحيانا في كثير من نواحي الثقافة الغربية، فلم تكن تعتبرها معيارا في الحكم عليّ. فهي أيضا تجهل الكثير عن ثقافتي العربية وتتشوق للاطلاع عليها.

أهدتني مجموعة شعرية لأراغون، عنوانها: «عيون إلزا". كتبت عليها: "إلى حبيبي الشاعر البوسعادي عابد أهدي هذا الديوان الذي أحببته، وكنت أحمله معي أينما ذهبت، ليبقى بصحبة شاعر".

طرت فرحا بالهدية، فالإهداء اعتراف صريح منها بحبها لي. كنت دائما قلقا خوفا من عدم فوزي بحبها. أما الهدية فبالإضافة إلى كونها ممن أحب، فهي لشاعر سمعت عنه وعن قصته مع رفيقة حياته إلزا، وتمنيت أن أقرأ له.

حدثتني عن أسرتها في بيزانسون. هي وحيدة أبويها. أبوها كان قاضيا اغتالته مافيا المخدرات حين كانت في الرابعة عشرة لأنه رفض الرشوة، ولم يأبه بالتهديدات. وأمها أستاذة تاريخ في جامعة بيزانسون، مختصة في التاريخ الإفريقي، وهما متدينان دون تعصب. تعلمت من أبيها في حياته وموته الشجاعة في الدفاع عن المبادئ، وتعلمت من أمها احترام الناس من كل الأجناس والأعراق، واحترام عقائدهم وأديانهم. وتعودت منذ صغرها على الحرية والاستقلالية وتحمل المسؤولية، واتخاذ قراراتها بنفسها فلا تتكل على أحد. ولكنها تعودت ألا تأخذ قرارا إلا بعد دراسة مستفيضة، واستشارة تلقي الضوء على ما غمض عليها. فهي التي اختارت فرع الأدب في الجامعة، وهي التي اختارت موضوع دراستها الجامعية، واختارت من أجله القدوم إلى الجزائر. أما جدّتها لأبيها فهي تعيش في نزل للمسنين اختارته بمحض إرادتها، بعد أن أصبحت وحيدة في المنزل. ولأن أولادها الآخرين أعمام جانين مشغولون عنها بأسرهم وأعمالهم. وأما جدّتها لأمها فتعيش مع ابنتها أم جانين في بيزانسون.

حدثتها عن أمّي وعن أبي الذي لا نعرف مصيره وما حدث له حتى الآن، وعن إخوتي الأربعة الذين يعملون في الفلاحة والمقاولة. كما حدثتها عن أعمامي وأبناء عمومتي الكثيرين في بوسعادة وليون، وعن طريقة حياتنا وتجاورنا في الأرض والسكن، وارتباطنا الشديد بالأسرة.    

أردت الاقتراب منها ومن مجتمعها لأرضيها، فسجلت في معهد تعليم الرقص الغربي في شارع محمد الخامس. بدأت بتنفيذ تعليمات أستاذة الرقص السمراء النحيلة الرشيقة، ذات الخمسة والعشرين ربيعا:

"خطوة، خطوتان، ثلاثة". كانت تعلمني كيف أمسك مراقصتي، وكيف أقود خطواتها برشاقة. دست على قدمها عدة مرات، لكنها طمأنتني بأن هذا طبيعي في الحصة الأولى.

قلت لجانين بأني بدأت دروسا في الرقص، لأراقصها. ففاجأتني ضاحكة: "ولكني لا أحسن الرقص".

ـ "ألا ترقصين؟"

ـ "بلى. ولكن في المناسبات والأعياد أرقص كيفما اتفق على الإيقاع. لست بحاجة إلى دروس لترقص". 

ـ "كنت أظن أنك تذهبين إلى النوادي لترقصي".

ـ "لا. لست من رواد النوادي ولا من عشاق الرقص".

ـ "سجلت في المعهد من أجلك".

ـ "خير لك ألا تخسر دراهمك في هذه الأمور".

لم أذهب بعدها إلى معهد الرقص. ولم أتم دروس الشهر التي دفعت أجرها مقدما.

وجدت في صندوقي هذه المرة رسالتين من المرسل المجهول، عكرتا بعض الشيء صفو الأوقات الجميلة التي قضيتها مع جانين. كنت أجد الرسالة يوم الاثنين. فمن يا ترى يراقبني ويعرف أنني ألتقي بجانين؟ تلقيت حتى الآن ثلاث رسائل. كانت الأولى نصيحة أما الثانية فكُتِبَ فيها: "نصحناك فلم تقبل، ننذرك أن تقطع علاقتك بالفرنسية". 

                                      أصدقاء تهمهم مصلحتك 

وكُتِبَ في الرسالة الثالثة:

"هذا آخر إنذار وبعدها ستندم". وتحمل نفس التوقيع. والرسالتان مكتوبتان على ورق شفاف بإلصاق حروف ملونة من النوع المستعمل في الرسالة الأولى.

حرت في أمر هذه الرسائل. كانت بصيغة المفرد وأصبحت بصيغة الجمع. تساءلت: "هل يمكن أن يكون السردي وراء هذا؟" أصبحت رسائل تهديد وإنذار الآن. ماذا سيفعلون؟ إن كانوا أصدقاء فعلا فلماذا يهددون. لماذا لم يأت أحدهم وينصحني وجها لوجه، أو يكتب اسمه الصريح في الرسالة؟ لم أجد جوابا مقنعا لهذه الأسئلة.

- 63 -

كان وجدي يخرج مع فايزة في الوقت الذي كنت أخرج فيه مع جانين. حضرا في السبت الأول المسرحية التي أخرجها علاوة أخو فايزة في قاعة الموقار. وهي مأخوذة من نص لعبد القادر علولة. كان وحده معها لأن نادية اعتذرت لمرض أمها المفاجئ.

عرفه أخوها بأستاذه مصطفى كاتب وببعض الفنانين مثل كلثوم وبن ونيش ومخرجي التلفزيون مصطفى بديع ومحمد حلمي، وجلسا بجانبهم.

جرى بينهما حديث طويل قبل المسرحية وبعدها، نقل لي وجدي أهم ما دار فيه بينهما. قال لها وجدي: "لم أكن أدري أن لديك هذه الثقافة في المسرح والموهبة في الإخراج. كانت مسرحيتك عن فلسطين رائعة".

اصطبغ وجهها بحمرة مفاجئة. وصمتت قليلا، ثم قالت: "وأنا أيضا، لم أكن أعرف أن لديك هذه الموهبة في العزف والتلحين". توقفت لحظة ثم أضافت: "أعتذر عما حدث مني في لقائنا الأول. كنت فظّة معك، وأنت ضيف في بلادي. لا أدري لم فعلت ذلك".

 قاطعها قائلا: "أرجوك ألا تعتذري فأفضل الصداقات هي التي تبدأ بالخصام".

ـ "سامحتني إذن؟"

ـ " لم أغضب حتى أسامح".

ـ "ما أكرم  نفسك".

أعجب بالمسرحية نصا وتمثيلا وإخراجاً. وكان انطباعه الأول عن المسرح الجزائري ممتازا. ودعا فايزة يوم السبت القادم إلى حضور فلم في المركز الثقافي المصري.

كان الفلم الذي حضراه في السبت التالي خفيف الظل. عنوانه: "مراتي مدير عام". رأيته في القاهرة قبل سنتين. كما حضرا حفلة موسيقية للفرقة العاصمية العريقة "الموصلية"، وسهرة في المسرح الوطني، ونشاطات ثقافية في المركز الثقافي المصري. اعترف لي وجدي بوقوعه في حبها وحدبه عليها، وأمنيته في الارتباط بها. لكن أحدهما لم يعترف صراحة للآخر بحبه. ومن الواضح أن فايزة لن تكون البادئة وأنه لن يغامر بالاعتراف قبل أن يتأكد أنها تبادله شعوره.

كان وجدي مستودع أسراري العاطفية. وكنت مستودع أسراره. كنا غارقين إلى الأذقان في الحب. أما عصام فكان مستشارنا العاطفي نلجأ إليه ليزودنا بخبرته في هذا المجال.

- 64 -

كنا في غمرة الإمتحانات، ولم يبق على العطلة الشتوية إلا أيام معدودات، حين تغيب أربعة أساتذة عن الثانوية. علمنا أنهم في المستشفى لاشتراكهم في مشاجرة. كانت الأسئلة التي حيرتنا هي: "ما الذي جمع بين حكيم ومحفوظ عمار وبين مانع السعدون وكاظم أصلان؟ وأين التقوا؟ ولماذا تشاجروا؟"                

أعطت الشائعات إجابات مختلفة ومتناقضة عن هذه الأسئلة. ذهبت لزيارتهم مع المدير وخالي العروسي ووجدي وعصام في مستشفى مصطفى، فوجدناهم في مهجع واحد. كانوا ثمانية: أربعة من ثانويتنا وأربعة جزائريين آخرين اشتركوا جميعهم في المشاجرة. وكانت آثار الكدمات والجروح بادية على وجوههم ورؤوسهم الملفوف بعضها بالشاش. استقبلونا ببشاشة وكان يبدو أنهم تصالحوا وتصافوا، فعمار وحكيم كانا يضحكان مع السعدون والآخرين. لكنني لست متأكدا أن ضحكاتهم تخرج من القلب.

لكن أكثر ما صدمنا وآلمنا حالة كاظم أصلان. بدا دمثاً ولطيفاً كعادته، إلا أنه لم يتحدث معنا باللهجة العراقية بل بالفصحى، ويحرك أواخر الكلمات حسب قواعد النحو.

ظنناه يمزح في البداية، فأخبرونا بأنه يتكلم هكذا مع الجميع، حتى مع الأطباء والممرضات. كان في البداية يتكلم بلغة لم يفهموها، ربما تكون الكردية ثم أخذ يتلعثم في الكلام، وينسى أحيانا ما يريد قوله، ويستغرق في ذهول عميق من الصعب أن تخرجه منه. ثم بدأ يتكلم بالفصحى مع الجميع. أوضح الطبيب بأنها حالة نفسية ناتجة عن الشعور بالاضطهاد الثقافي واللغوي. وهي حالة دفاع ذاتي عن النفس. سأله آكلي: "هل المشاجرة هي السبب؟"

ـ "لا. لكنها القطرة التي أفاضت الإناء. بعض الشرقيين أصيبوا بحالات مشابهة، ولاسيما في العاصمة نتيجة الغربة وتعرضهم لبعض المضايقات، فبدأوا يتحدثون مع من حولهم بالعربية الفصحى". 

قال آكلي متعجبا: "لم أسمع بمثل هذه الحالات".

ـ "هي حالات قليلة ونادرة تصيب مفرطي الحساسية. وهي ناتجة عن الإحساس بالغربة اللغوية والثقافية".

ـ "وما علاجها؟"

 ـ "خير علاج لها إعادة المريض لبلده. ويشفى غالباً بمجرد نزوله بالمطار".

تذكرت ما أسره لي كاظم أصلان في العام الماضي. وكيف حدثني عن صدمته بمحفوظ عمار. قال بلهجة مثقلة بالمرارة:

"التقيت بمحفوظ عمار لأول مرة في مهرجان الشباب في موسكو قبل أربع سنوات. تعارفنا، وفتح كل منا قلبه للآخر. أحببته لأنه جزائري، ولإعجابي بثورة الجزائر. ومكثنا معا قرابة شهر توثقت الصلة بيننا خلالها. كنا نتكلم بالعربية ونتفاهم بها. أترجم للإنجليزية ما يقوله للآخرين، وللعربية ما يقولونه له. فمعظم الشباب القادمين من مختلف البلدان لا يعرفون الفرنسية بل الإنجليزية. أعطاني عنوانه في الجزائر، وأعطيته عنواني في العراق. وكتبت له رسالة بالعربية فلم يجبني. مضت الأيام، وحين قدمت إلى الجزائر وعينت بالثانوية الجديدة فوجئت به في غرفة الأساتذة. ارتميت عليه مسلما ومعانقا بحرارة وشوق فقابلني ببرود شديد جعلني أتراجع. أصبح حين يراني يهز رأسه لي من بعيد بالتحية حتى لا أقترب منه. اكتشفت استعلاءه الثقافي على المعربين وأنا منهم. ومما يبعث على السخرية أن يتفاخر عليّ وهو العربي الصحراوي بثقافته الفرنسية، ويحتقر ثقافتي العربية وأنا الكردي. أية أممية هذه التي تبيح له الاستعلاء الثقافي؟ عاشرت مثقفين أوربيين كثيرين، فلم أجد من يدعي الأممية ويستعلي علينا بثقافته.  فكيف بمن يستعلي بثقافة غيره ويحتقر ثقافته؟"

تعجبت مما قاله لي أصلان عن محفوظ ، ورغم أنني لا أفهم كثيرا في السياسة، إلا أنني عرفت بعض المثقفين الشيوعيين في القاهرة. وحين أقارنه بهم أجده بعيدا كل البعد عن الشيوعية في سلوكه وحديثه ومفرداته. لا يمكن أن يكون أمميا يؤمن بالاشتراكية والمساواة بين الناس. إنه يؤمن بفرنسا رأسمالية كانت أو ديغولية أو اشتراكية.

بلغ السيل الزبى هذه المرة، فلم يكتف محفوظ بتجاهل كاظم أصلان، بل اعتدى عليه بالضرب أيضا. روى لنا كل منهم نتفا مما حدث، أخفوا فيه حالتهم من السكر. وأرجعوا الأمر إلى الضغط العصبي في نهاية الثلاثي. وتوالت الروايات الكاملة عما حدث من مصادر متنوعة من متشاجرين ومتفرجين. وأنقل هنا ملخصا للصورة التي كونتها عن الحادث:

"تشيع الحركة والحيوية في بار "التريو" بعد أن تغلق الدوائر الحكومية والمؤسسات التعليمية أبوابها. من بين الحضور في قاعة البار السفلى مانع السعدون وكاظم أصلان، وبعض العراقيين والجزائريين المتعاطفين مع البعثيين. أما في الطابق العلوي فيجلس في الزاوية اليمنى منه كل ليلة حكيم ومحفوظ عمّار كزبونين دائمين مع مجموعة من الأصدقاء الذين يقاسمونهما الأفكار والزجاجة من العاملين في التعليم أو الوزارات الأخرى. كان شائعا في البار أن طاولة سعدون هي طاولة المعربين، ويدور الحديث فيها دائما بالعربية. وطاولة حكيم هي طاولة الفرانكفون، ويجري فيها الحديث دائما بالفرنسية. وأما الطاولات الأخرى فلا إيديولوجية لغوية لها. يجري الحديث فيها بالعربية والأمازيغية والفرنسية.

كان الزبائن من المجموعتين يتناولون في الأيام الأولى من الشهر كؤوس الويسكي والريكار مع اللحم المشوي. وفي وسط الشهر كؤوس النبيذ مع الحلزون والكاوكاو. وفي آخر الشهر كؤوس البيرة دون أي طعام. وكانت هناك اتهامات غير معلنة بينهما، فطاولة المعربين تتهم جماعة الطابق العلوي بأنهم حزب فرنسا. وطاولة الفرانكوفون تتهم أصحاب الطابق السفلي بالتخلف والانغلاق وتدني المستوى الثقافي وتكرر باستمرار عبارة "إذا عُرِّبَتْ خُرِّبَتْ". وحين تلعب الخمرة بالرؤوس يحلو للجالسين على الطاولتين أن يستفز كل منهما الآخر بصوت مرتفع. امتلأت النفوس على مر الأيام بالكراهية والبغضاء.

في ذلك اليوم وكان يوم ثلاثاء، دخل البار أحد الجزائريين الذين درسوا في العراق. جلس مع مانع السعدون وكاظم أصلان وجزائري آخر من المولودين في سوريا. رآه عباس الجالس مع حكيم وعمار وزميل ثالث لهما فالتفت إلى المجموعة قائلا بصوت مرتفع: "كيف حصل مثل هذا الغبي على الليسانس؟ إنه ابن بلدي، وأعرفه جيدا. لا يصلح أن يسرح راعيا بعنزتين، فكيف يصبح أستاذا للتاريخ؟

علق زميله الآخر بقوله: "لا شك أنه يعلم تلاميذه سيرة عنترة وأبي زيد الهلالي". وضحكوا.

كان الجزائري أستاذ التاريخ ذكيا ونشيطا فتمكن خلال سنوات من تكوين نفسه. وطور مستواه في اللغة الفرنسية التي لم يكن يحسنها. لكن ابن بلده ظن أن الزمان توقف بالنسبة إليه فبقي كما كان يعرفه منذ سنين. ترجم لزملائه ما قيل عنه وأضاف: "هذا الذي يتحدث عني معه الشهادة الابتدائية فقط. لكن الترقيات الإدارية الاستثنائية أوصلته للتحكم في أصحاب الشهادات. أما الثقافة التي يدعي بها ويتكلم باسمها فهي روايات "سانت أنطونيو" التي تراها دائما بين يديه وعلى مكتبه وهذا شائع عنه في البلد فيالها من ثقافة".

تحمس مانع السعدون وأخذته الحمية ولعبت الخمر برأسه، فرفع كأسه إلى أعلى، ونظر إلى الطابق العلوي، وهتف بصوت مرتفع لفت أنظار الحاضرين: "نخب الجزائر العربية". لم يتوقع أحد رد الفعل الذي حدث. فقبل أن يرفع أصحابه كؤوسهم ليشربوا النخب، انطلقت من الأعلى ثلاث صرخات مفزعة كهدير الرعد، ارتجف لها كل من كان في البار. جاءت هذه الصرخات في شكل كلمة "لا" بالفرنسية مكررة ثلاث مرات، نطقها حكيم، ونصفه متدل إلى الطابق الأسفل. وأضاف باللغة نفسها: "لست عربيا. لست عربيا. أنا قبائلي، أمازيغي، بربري. من فضل الله أني لست عربيا". كانت هذه المرة الأولى التي يعترف فيها حكيم بفضل الله على رؤوس الأشهاد. ذهل من في البار، وانزعج الحالمون الذين هوت بهم هذه الصيحات من قمم النشوة العليا.

كانت عيناه تشعان بالبغضاء، وأصبح وجهه شعلة ملتهبة من الغضب. تذكر فجأة أن عمّار الجالس أمامه عربي وليس أمازيغيا، فاستدرك قائلا: "أنا جزائري ولست عربيا". ثم نزل الدرج مسرعا، ونزلت وراءه مجموعته بين محرّض ومهدّئ. ووقف مانع متصدّيا له.  وفي لمح البصر انتقل الحوار إلى الأيدي. لا أحد يعرف من الذي بدأ بالضرب. ومن المرجح أنه لو كانت هناك كاميرا بطيئة تصور ما حدث، لالتقطت صورة الطرفين يبدآن بالهجوم. ليس هناك على ما يبدو مهاجم ومدافع، فكلا الطرفين لديه من الشحنة ما يدفعه للتحرك، باستثناء واحد هو كاظم أصلان. فهذا الرجل لا يحسن الحوار بالأيدي لأنه رقيق وحساس.

انقلبت الطاولة وتطايرت الزجاجات والكؤوس. وتناثرت الدماء من وجوه المتعاركين، وصبغت ملابسهم بمزيج من الدم والخمر. تردّدت عبارات السّباب المقذع بالدارجة الجزائرية والعامية العراقية والكردية والأمازيغية، ولم تُستعمل العربية الفصحى والفرنسية في هذا المجال. كان مانع السعدون وحكيم يتقلبان على الأرض وقد أدمى كل منهما وجه الآخر وانهال عليه باللكمات والركلات. ومن حسن الحظ أن حكيم ترك نظارته في الطابق العلوي. وكان عمّار يكيل الصفعات لكاظم الذي لم يرد في البداية، لكنه خرج عن طوره فيما بعد وانهال على عمّار ضرباً وركلا. أما الأربعة الآخرون فكانوا مشتبكين فيما بينهم، وكل منهم يمسك بربطة عنق الآخر أو ياقته. انتهت المعركة بحضور رجال الشرطة والإسعاف، ونقل الجميع إلى المستشفى. وأشرف على علاجهم أطباء جزائريون وعراقيون يعملون هناك.

وحين طارت السّكرة وجاءت الفكرة، اعتراهم الخجل والندم، فاعتذر كل منهم للآخر، وتبادلوا العناق والقبل وكأن شيئا لم يكن. وتدخل الأطباء فحُفظ تقرير الشّرطة، وتنازل صاحب البار عن شكواه إكراما لزبائنه بعد أن وعدوه بتعويض جزء من الخسائر.

اكتشف حكيم أن صاحب السرير المجاور له وأحد الجالسين في طاولة سعدون أصله من تيزي وزّو. وهو من الجالية المهاجرة في سوريا. كانا من بلد واحد ويتكلمان القبائلية، لكن بينهما هوة عميقة. فكل منهما يؤمن بالانتماء إلى حضارة وثقافة مختلفة.

خرج الجميع في اليوم نفسه من المستشفى وهم  كالسّمن على العسل في الظاهر. وأصبحوا يتبادلون التحية في الثانوية وفي البار. وبقي ما في القلب في القلب. ولا يبدو أن رأي كل منهم في الآخر قد تغير.

دخلوا إلى الصفوف في اليوم التالي، وعلى وجوههم وأجسامهم آثار الخدوش واللكمات، فيما عدا كاظم أصلان الذي اختفى من المستشفى قبل خروجهم ولم يره أحد. وطلب جيرانه من مسؤول السكن فتح "الاستوديو" بعد عدة أيام خوفا أن يكون أصابه شيء، فلم يجدوه فيه. لقد أثرت عليه هذه الحادثة تأثيرا مريعا. وقلقنا عليه كثيرا، فهو أستاذ جيد، وإنسان رائع واختفاؤه المفاجئ حيّر الجميع.

عرفت فيما بعد سبب كره حكيم الشديد للعراقيين الذي يفوق كرهه لكل العرب. فقد تزوجت أخته "كهينة" دون موافقته من معلم عراقي كان زميلا لها في المدرسة. وكان حكيم يقول لها في السابق: "سأدافع عن حقك في اختيار من تشائين حتى لو كان كاثوليكيا". وحين اختار قلبها العراقي غضب وثار ورفض الموافقة على الزواج، فذكرته بوعده فأجابها: "أنا أوافق أن تتزوجي فرنسيا كاثوليكيا لا عربيا". لجأت إلى أعمامها في تيزي وزّو، فطلب العراقي يدها منهم وزوجوه إياها بالرغم من معارضة أخيها. وقد زاد ذلك من كرهه للعراقيين وحقده عليهم، وعلى أخته، وقطع علاقته معها منذ زواجها.      

      

 لقراءة الجزء التالي انقر هنا: 7- عطلة الشتاء أ

لقراءة الجزء السابق انقر هنا: 5- الثلاثي الأول: بريء أم مذنب أ

 للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: جرس الدّخول إلى الحصّة

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات