الورقة الثالثة عشرة
من رواية حب في قاعة التحرير
للكاتب عبد الله خمّار
انتصار الحب
خرجت آسيا ومعها عبد الحفيظ بينما بقي الجميع ينظرون إلي مستفهمين حين دخل العم صالح وسلمني مظروفا وقال:
"طلبت مني سماح أن أعطيك هذه الرسالة".
أخذت الظرف من يده وخرجت دون أن أشبع فضول أحد من الزملاء الذين كانوا ينتظرون تفسيرا واضحا لما قالته سماح.
حين وصلت إلى المنزل فتحت الظرف فوجدت فيه رسالة و"ديسكيت"، بدأت أقرأ الرسالة:
"عزيزي شريف
لعلك تتساءل كيف عرفت بأنك أنت نفسك علاء الدين مراسلي في الإمارات، والجواب بسيط جدا فـ "الديسكيت" المصحوبة بالظرف هي التي أعطيتها لنوال حين طلبت منك واحدة لتسجل عليها رسالة وجدتها في صندوق بريدها الإلكتروني. لم تنتبه إلى أنك نسيت فيها تسجيلا لإحدى مراسلات سماح مع علاء الدين وهي التي كشفت لي كل شيء، وحين فاتحت أمي في الموضوع قالت لي ببرود:
"كنت أعرف ذلك منذ البدء، وعبد الحفيظ كان يعرف أيضا. لقد عرفت بالحدس. قلبي قال لي بأن من فعل هذا فإنه يحب ابنتي حبا كبيرا".
سألتها بدهشة: "لماذا لم تخبراني إذن؟"
- "لم نرد أن نتدخل بينكما ولا أن نفسد خطته لمساعدتك".
- "لماذا لم تنبهاني حين هاجمته؟"
- "ليس لدينا دليل. أما أنا فقلت في نفسي: "لابد أن قلبها سيخبرها".
ولكن قلبي لم يخبرني لأني كنت أنانية، كنت طوال الوقت أفكر في نفسي. أحببتك بعقلي لأني رأيت فيك صفقة رابحة؛ إنساناً أميناً موثوقاً أستطيع ائتمانه على نفسي ومالي. ولكني وقت الحادثة عرضتك للشك كالآخرين. اتهمك عقلي ولم يدافع عنك قلبي وهذا ما حدث مع نصيرة أيضا. ولولا المصادفة وزيارة نوال لك وحاجتها لقرص مرن "ديسكيت" لما اكتشفت الحقيقة.
سألت اليوم عبد الحفيظ قبل بداية الاجتماع: "كيف عرفت بأن شريف هو علاء الدين؟"
أجابني مبتسما: "شريف لا يمكن أن يهرب من المسؤولية ويتخلى عنك عند حاجتك إليه ولو جرحت كرامته، ثم إن معظم الكتب والأقراص المضغوطة التي طلبتها مني وجدتها عنده، وقوائم "البيبليوغرافيا" وتسجيلات الإذاعة كان هو الذي يحضرها لك. ألم تلاحظي أن بعض الكتب التي أحضرتها لك غطي اسم صاحبها في ورقة الغلاف الداخلية بورقة لاصقة؟ ولو نزعت هذه الورقة لوجدت اسم شريف عليها".
أكرر اعتذاري الحار لك ولن يكون هذه المرة مشروطا باستعادتك، فلست ملزما بأي شكل من الأشكال بالارتباط بي". سماح
*
اتصلت بها بالهاتف المحمول بعد أن قرأت الرسالة: "من؟"
- "ألم تعرفي صوتي؟"
- "السيد شريف"
- "بل حبيبك شريف"
- "هل سامحتني وقبلت اعتذاري؟"
- "ما بين الأحبة اعتذار، وغضبك وعتبك برهنا على حبك لي".
- "بل على أنانيتي وكبريائي".
- "أنا حريص على كبرياء حبيبتي ولا أريد أن تهان أبدا. أما الإساءة فقد كنت مريضة وليس على المريض حرج".
- "سلمت لي يا حبيبي. لدي صورة أو لوحة أريد أن أرسلها لك بالبريد الإلكتروني. حاولت إرسالها إلى بريد علاء الدين فوجدت أنه ملغى".
- "إذا كانت تشبه اللوحات السابقة فلا أريدها".
- "إنها تصحيح لتلك اللوحات".
- "إليك إذن عنوان البريد الإلكتروني: شريف الصادق @...... الخ".
- "سوف تصلك اللوحة في الحال. ما رأيك أن نستمر في محاورات الإنترنت؟"
- "موافق، ولكن بالصوت والصورة هذه المرة فأنا أريد أن أكحل عيني برؤيتك وأمتع أذني بصوتك، على أن تكون الأسئلة الشخصية إجبارية".
- "قبلت شروطك وسنبدأ محاورتنا قريبا بعد أن أركب الكاميرا في الحاسوب. افتح صندوق بريدك الإلكتروني الآن وستجد اللوحة".
- "ما هذا؟ صورتي ! ولكن بجناحين هذه المرة".
- "نعم فأنت ملاكي الحارس".
- "إنها لوحة جميلة جدا. هل عالجتها بـ"الفوتوشوب"؟"
- "لا. هذه المرة رسمتها بريشتي وبنفسي. ولعلمك فهذه أول لوحة حقيقية وكاملة لي".
- "مبروك وشكرا لك. ولكن أين منهجيتك العلمية؟ صورتني مرة شيطانا وثعلبا ودراكيولا والآن أصبحت ملاكا".
- "الفن ليس معادلة رياضية. أستعير كلامك الآن فكما أن الدين ليس معادلة رياضية فالفن كذلك لأنه لغة القلوب والعواطف وليس لغة العلم والعقل. إنني أرسم بقلبي. حين كنت غاضبة كنت أراك شيطانا وحين زالت الغشاوة عن عيني رأيتك ملاكا".
- "لنكن واضحين منذ الآن: أنا لست ملاكا ولا شيطانا. أنا رجل أخطئ وأصيب، وأغضب وأرضى مثل كل الناس".
- "ستبقى ملاكا في نظري بعد كل ما فعلت من أجلي".
- "شكرا لك. لدي سؤال: "كيف عرفت نوال أني علاء الدين؟"
- "نوال لا تعرف شيئا حتى الآن. كل ما هنالك أنها حين وضعت "الديسكيت" في الحاسوب، اكتشفت أنها تحتوي على ملف آخر يتضمن إحدى رسائلي لعلاء الدين وفيها عنوان بريدي الإلكتروني. جاءت إليَّ صباح الخميس تحمل "الديسكيت" قائلة: "ترددت كثيرا قبل أن أحمل إليك هذه "الديسكيت" لأنني لا أريد أن أكون سببا جديدا في إثارة المشاكل بينك وبين شريف".
حين اطلعت على الملف دهشت وصحت غاضبة: "من أين له بهذه الرسالة؟ هل يتجسس علي؟ وكيف يمكنه ذلك؟ لا شك أن كل مراسلاتي الآن عنده. كيف حصل هذا؟"
أجابتني نوال بحيرة أشد من حيرتي: "أنت مهندسة الكومبيوتر، وأنت وحدك القادرة على الإجابة عن هذا السؤال".
ظللت أفكر معظم الليل في كيفية حصولك على هذه الرسالة ثم غلبني النعاس فنمت. وحين نهضت صباح اليوم لمعت الحقيقة فجأة في ذهني، وقلت في نفسي:
"ما أغباني! كيف لم أدرك ذلك؟ علاء الدين هو شريف نفسه. أنا متأكدة من هذا".
غضبت في البداية لأنني أحسست أنني خدعت ثم اكتشفت أنك لم تتخل عني رغم أنني أهنتك وجرحت كرامتك، وفكرت في طريقة تساعدني فيها على اكتساب ما ينقصني من الثقافة الاجتماعية والأدبية والفنية.
*
هتفت لي راضية مباشرة بعد مكالمة سماح وقالت: "أريد أن أستشيرك في أمر هام". خمّنت أنها ستعلمني بأن المخرج طارق العميري خطبها وتريد جس نبضي إن كنت ما أزال أحبها وأرغب في أن أتزوجها.
عزيتها في زوجها واعتذرت عن عدم تمكني من الذهاب إلى قسنطينة لتعزيتها. أخبرتني بأن المخرج خطبها وتريد أن تعرف رأيي.
أجبتها: "طارق العميري إنسان ممتاز ويتمتع بسمعة طيبة وإذا كان يحبك ويحب ولديك فمن المؤكد أنه سيسعدك".
- "لا أريد أن أكرر التجربة السابقة فأتزوج من إنسان لا أحبه".
- "أنت انبهرت بزوجك الأول لأنك كنت صغيرة وفي الانبهار تعجز العينان عن رؤية العيوب. أما الآن..."
قاطعتني مستنكرة ومتسائلة: "حتى وإن كنت لا أحبه وأحب شخصا آخر؟"
تلعثمت ثم أجبت: "منذ التقينا آخر مرة جدت أمور كثيرة و..."
قاطعتني بقولها: "فهمت. شكرا على النصيحة وآسفة على الإزعاج". وأغلقت الهاتف.
شعرت بالحرج، ولكنني قلت في نفسي: "لا مجاملة ولا حرج في العواطف. لابد من الصراحة في مثل هذه الأمور".
كتبت لها رسالة مطولة شرحت لها فيها علاقتي بسماح وكيف نشأ حبنا قبل وفاة زوجها، وما حدث لسماح، وحاجتها إلي وحاجتي إليها، وختمتها بتمنياتي لها بالسعادة أيا كان القرار الذي اختارته. ولم أرتح حتى وضعت الرسالة صباحا في صندوق البريد.
*
سألت عبد الحفيظ: "كيف عرفت، ومتى بأني علاء الدين محاور سماح في الأنترنت؟"
- "اكتشفت ذلك منذ البداية. حين عرفت منها بموضوع المحادثات والكتب التي طلبتها قدرت أنك أنت وقد صح تقديري. جعلتها تدمن على القراءة وتبحث عن المصادر وتحاول تثقيف نفسها في الأدب والفن".
- "هل تعتقد أن ذلك كان سهلا علي؟ لست المثقف المتمكن الذي تعتقده سماح. كنت أتعب طيلة النهار في المحل في مراجعة المصادر بالأنترنت للتحضير لجلسة المحادثة، وأتم ذلك في مكتبة المنزل عند عودتي. وكنت أوجه الحديث بحيث أقدم المعلومات والمواضيع التي حضرتها". ثم سألته: "هل قلت لآسيا شيئا عن هذا الموضوع؟"
- "أبدا، ولكن آسيا ذكية وقد اكتشفت بأنك المحاور كما اكتشفت أنا".
سألني عبد الحفيظ بدوره: "كيف خطرت ببالك فكرة محاورات الأنترنت؟"
-"حين حدثتنا أمها عن مشكلة تكوينها العلمي المحض، حاولت أن أجد طريقة لمساعدتها. وبما أنها لا تستطيع تحريك قدميها ولابد لها من المكوث في المستشفى أو البيت مدة طويلة، خطر ببالي أن أخرجها من الكآبة التي هي فيها بأن تستفيد من هذا الوقت في البحث في الأنترنت والاهتمام بالفن والأدب. حاولت البحث عن الدافع فخطرت ببالي فكرة المحاورة. لم أستطع مساعدتها مباشرة لأنها فقدت الثقة بي ورفضتني. كان علي أن أفتش عن طريقة لأساعدها بطريقة غير مباشرة دون أن تعرفني. اتصلت بصديقي تميم في الإمارات وكتبت رسالة طلبت منه إرسالها كبرقية عاجلة إلى عنوان سماح في المستشفى، والبقية تعرفها".
- "لماذا لم تذهب إليها في المستشفى عندما اعتذرت منك؟"
- "أردت أن يكون ابتعادي عنها دافعا قويا لها كي تعتمد على نفسها، وتعمل على استكمال النواقص في شخصيتها".
*
التقيت بكريمة خارجة من الجريدة وقد احمر وجهها احمرارا غريبا على غير العادة سألتها: "ما بك؟"
تلعثمت وأجابت:" لا شيء.. لاشيء".
سألتها متعجباً: "هل أكلت القطة لسانك؟ ما بالك سكت فجأة؟"
بادرتني بدعوتي إلى فنجان قهوة. كانت فرحة يفيض البشر من وجهها. عرفت أن لديها أخباراً سعيدة تريد أن تخبرني بها.
سألتها حين جلسنا: "ما الأمر؟ هل ربحت جائزة نوبل؟"
- "بل جائزة الدب الأبيض".
- "لم أفهم! ما الحكاية بالضبط؟"
قالت لي ملغزة مرة أخرى: "تحرك جبل الأوراس ونطق وكنت أظنه لن ينطق أبداً".
أجبتها حائراً وقد كاد صبري ينفد: "لماذا تكلمينني بالألغاز؟ قولي ماذا حدث؟"
- "ظننتك تفهم وقد تابعت حلقات المسلسل من أوله!"
- "أي مسلسل؟"
- "أنا وشاكر! خطبني اليوم الدب الأبيض. أقصد شاكر. سألني إن كنت أقبل الارتباط به".
أجبتها: "تابعت المسلسل من أوله بكل تأكيد. مبروك".
تذكرت ذلك الشعر الذي ادعت أنها ارتجلته وأدركت الآن بأنها لم ترتجله بل كتبته خصيصاً له وكانت تعني كل كلمة فيه.
شاكر أيضا كان يعرف أنها تحبه من خجلها منه واستفزازها له أمامنا. وكان بدوره يحبها وحين أصبح جاهزاً للارتباط بها تكلم. ربما كان حاله كحال كثيرين شجعهم الزلزال على الإسراع في اتخاذ قرار الزواج.
ساطع عبد الحسين أيضا غادر الجزائر بعد الزلزال ليلتحق بعائلته ويدخل إلى العراق بعد إحساسه أن الزمن لا ينتظر أحدا. وَعَدَنا أن يكتب لنا بعد أن يستقر مع عائلته في بغداد وأن يكتب للجريدة أيضا، وما زلنا ننتظر رسالة منه.
*
هتفت لي راضية قائلة: "وصلتني رسالتك وتأثرت بما فيها من صدق وبحرصك على أن تشرح لي علاقتك بسماح. هل تعلم أنني ظننت في البداية أنك تريد أن تحدثني عن كريمة ولكني قاطعتك وأغلقت الهاتف فسامحني".
أسعدتني لهجتها الودية واعتذارها وأخبرتني بأن طارق العميري استطاع أن يكسب ود ولديها وبأنها وافقت مبدئيا على الارتباط به. تمنى كل منا للآخر حياة سعيدة.
*
بدأت أخرج مع سماح يوم الخميس من كل أسبوع إلى ضواحي العاصمة بسيارتها طبعا. وكنت أحرص على ارتياد الأماكن التي تناسب ميزانيتي وأرفض الذهاب إلى الأماكن التي تناسب ميزانيتها. كنا نتهاتف يوميا وتزورني أحيانا في محل الأنترنت أو تجلس بجانبي في قاعة التحرير وأنا أكتب. وكنت أصعد إلى مكتبها في آخر الدوام فنجلس ونتحدث ونتناقش وتقرأ لي بعض الأشعار التي قرأتها هذا الأسبوع أو بعض المعلومات التي استقتها من الأنترنت. وننسى أنفسنا حتى تكلمها أمها فتترافقان إلى المنزل. أضحى لقاؤنا اليومي غذاء ضروريا لا يستطيع أحدنا الاستغناء عنه.
تغيرت سماح كثيرا. إرادتها القوية في تثقيف نفسها جعلتها تخصص وقتا يوميا للقراءة باللغتين العربية والفرنسية للأدباء الجزائريين والعرب والاستماع إلى الأغاني والموسيقى. كما أنها بدأت تبحث عن تسجيلات الأفلام والمسرحيات الممتازة، وتشارك في مناقشات قاعة التحرير وتبدي آراءها بكل ثقة ودون غرور، وهو ما أدى إلى تلاشي نوبات الاكتئاب التي كانت تصاب بها. أصبحت أمها منذ مدة تناديني "ياولدي" وأقرأ في عينيها الحب والامتنان. اتفقت مع سماح أن أذهب في بداية الصيف إلى سطيف لأفاتح أبي وأمي في موضوع الزواج ليأتيا ويخطباها في أقرب وقت.
لم يكن يعكر صفو علاقتنا إلا قضية الفروق المادية بيني وبينها فهي ما زالت تؤرقني، فلست قادرا على الإنفاق عليها عند الزواج وتمكينها من العيش في نفس المستوى الذي تعيشه مع أمها. راتبي محدود وعملي في الأنترنت لا يدر علي مالاً وفيرا. كل الحلول التي استعرضتها لم تقنعني، أولها أن أترك العمل في الصحافة وأعمل بالتجارة لأصبح من رجال الأعمال بمساعدة أهلي أو بقرض بنكي أو بمساعدة سماح ومشاركتها في مشروع إلكتروني. أحب العمل في الصحافة ولا أريد تركها. سماح تفترض أن مساهمة كل منا في بناء المنزل والأسرة تكون حسب إمكانياته ولا فرق بين الرجل والمرأة، وإن ساهمتْ بخمس وتسعين في المائة وأنا بخمسة في المائة فهذا لا يهم ما دمنا حبيبين الآن وزوجين في المستقبل. تغضب سماح حين أقول لها إن رجولتي لا تسمح لي بقبول هذا الحل وتجيبني: "ماذا تقترح إذا؟ هل تريد أن أتنازل عن أملاكي وأصبح فقيرة مثلك ليتحقق التكافؤ الذي تنشده؟ أم تريد أن أتزوج رجلا غنيا مثلي، وتتزوج موظفة مثلك؟ هل المادة عندك أهم في تحقيق التكافؤ من الحب والثقة؟ قل لي ماذا تريد بالضبط؟ وفسر لي معنى هذه الرجولة!"
أنا حائر في الحقيقة ولا أعرف ماذا أريد بالضبط. أحب سماح وحلمي أن أتزوجها ولكن ثروتها تخيفني وتجعلني طرفا ضعيفا في معادلة الزواج. ولكنني سأترك حل هذه القضية للظروف. ما يهم الآن أنني سعيد بحبها وبصحبتها ولابدَّ أن نجد حلا مرضيا لبناء مستقبلنا.
*
الطريق إلى المسرح الوطني مزدحم بالسيارات والمارة ومن الصعوبة بمكان أن تصل إليه بالسيارة. كنا في سيارة آسيا؛ عبد الحفيظ بجانبها في المقعد الأمامي وأنا بجانب سماح في المقعد الخلفي. وضعنا السيارة في شارع جانبي بعد جهد جهيد وبحث متواصل كلل بالنجاح ثم اتجهنا إلى المسرح. وصلت كريمة في تلك اللحظة تلبس ثوبا أخضر للسهرة فهرعت إلينا. لأول مرة بدا الفستان لي طبيعياً ليس فيه ما ينافي الذوق السائد، أو ما يذكر "بصرعات" كريمة الحديثة وكانت تسريحتها أيضا طبيعية وقد أرسلت شعرها على كتفيها إلى الوراء.
استقبلنا المخرج في مدخل المسرح. رحب بنا بحرارة قائلا: "جريدتكم هي الوحيدة التي رافقت ولادة الأوبريت ونحن نشكركم على دعمكم للمسرح.
أعلمنا بتغيير عنوان الأوبريت من "أعداء الحب" إلى "انتصار الحب" وعلل ذلك بقوله: "وجدنا في أوراق المؤلف نسخة من الأوبريت بهذا العنوان. وأضاف: "لحسن الحظ وجدنا الخاتمة أيضا في أوراقه وهي دعوة إلى الحب والتسامح والتصالح.
ثم صعد معنا إلى المقصورة المحجوزة لجريدتنا "الضياء" في الطابق الأول وفي الجانب الأيمن المطل على المسرح. كانت سماح متألقة بثوبها الحريري الأسود المرصع بالألماس وبتسريحة "فرح ديبا" القديمة الحديثة وبعقد اللؤلؤ الذي همست في أذني بأنه اصطناعي وليس طبيعيا، وبابتسامتها المشرقة التي جعلتها محور اهتمام الحضور من الفنانين والصحافيين والسؤال عنها ومن تكون؟
اعتذرت كريمة لبضع دقائق ثم عادت وقد اتخذ شعرها مظهرا جديدا إذ نفشته و"نكشته" ورشته بمسحوق متعدد الألوان وجعلته يذهب في كل الاتجاهات. كما أن فستانها أصبح بكمٍّ واحد هو اليمين أما الكم الأيسر فاختفى وظهرت ذراعها اليسرى عارية تماما. قلت لها: "أنت الآن كريمة التي أعرفها. ولكن لماذا لم تفعلي ذلك منذ البداية؟"
- "هل أنت مجنون؟ تريدني أن أمشي في الطريق وأركب الحافلة منكوشة الشعر وبثوب ذي ذراع واحدة. ليس لدي سائق ومرسيدس لأرتدي ما أشاء في السهرة وعندما تنتهي الحفلة سألصق الذراع وأعيد شعري كما كان".
قالت لها سماح: "أنت فعلا خفيفة الدم كما يصفك شريف دائما".
سألتها: "ولكن أين شاكر؟"
- "ألم أخبرك بأنه لا يهتم بالفن بل بالسياسة. هو يغطي إحدى الملتقيات الحزبية".
كانت القاعة المجددة حديثا تتلألأ بالأضواء وبثياب السهرة اللامعة لسيدات المجتمع المدني وبجواهرهن وماكياجهن. كما كانت الأصوات المرحة والضحكات المغناجة تطغى على الموسيقى الأندلسية العذبة الخافتة وتختلط معها أحيانا في تناغم عجيب يحمل سمات وبصمات السهرات المسرحية العاصمية الرائعة. ويذكر بأيام محي الدين باشترزي الذي سمي المسرح مؤخرا باسمه وأيام علولة ومصطفى كاتب وعبد الرحمان ولد كاكي وعز الدين مجوبي وكلثوم وغيرهم من عمالقة المسرح الجزائري تأليفا وإخراجا وتمثيلا. خفتت الأضواء ثم أطفئت ورفع الستار وبدأ العرض.
تابعنا بشغف كبير عرض الفصلين الأول والثاني وتألقت راضية ولفتت أنظار الجميع بتمثيلها المعبر وغنائها المؤثر. صفق الجمهور طويلا لها وللفرقة ثم أضيئت القاعة إيذانا بحلول الاستراحة. التقيت بطارق العميري يجلس مع ولدين وسيدة مُسنّة في المقصورة المجاورة. تبادلنا التحية وأخبرني أنه اتفق مع راضية على الزواج.
- "مبروك وتهنئتي الحارة لكما".
- "الفضل لك. عملت بنصيحتك وأوضحت لها حين عزيتها بأنني رهن تصرفها ونجحت في التقرب من ولديها وهما معي الآن مع أمها".
*
أطفئت الأنوار من جديد. عرض الفصل الثالث وختم بالمشهد الأخير الذي حدثنا عنه المخرج:
"يخاطب الصحفي ذات الرداء الأسود:
"لا تحزني يا غادتي الحسناءْ لا لن يدوم الكره والعداءْ
لا بد أن تنقشـعَ الظلمـاءْ ويـغمرَ الأفئدةُ الضياءْ
وفي غـد تنتصر المحـبَّهْ على دعاة الكره والبغضاءْ
ويلتقي في الجزر الأحـبَّهْ ليصنعوا مستقبلاً وضّاءْ"
تخرج ذات الرداء وتدخل معظم المجموعات السابقة بألبستها الزاهية ما عدا مجموعة المرتشين وأعوان الأمير السفاح. وتعود ذات الرداء برداء أبيض. وينشد الجميع في انسجام وتلاحم:
"ينتصر الحب على المحن ِ ويخيب شياطين الفتن ِ
وتشيع البسمة والأفراحْ وتعود البهجة للأرواحْ
ويعم الأمن بكل مكـانْ وتعود الثقة إلى الإنسانْ
ينتصر الحبُّ على الطمع ِ ينتصر الحب على الجشع ِ
ينتصر الحبُّ على الأحقادْ وعلى الطغيان والاستبدادْ
ينتصر الحب على الجهويّهْ وعلى التحزب والعصبيَّهْ
ينتصر التسامحْ والودُّ والتصالحْ
ينتصر التحاورْ في الرأي والتشاورْ
تنتصر الحريَّهْ والعدل في الرعيَّة
ينتصر الحبْ ينتصـر الحبْ"
الصحفي: "سأغادركم عند الفجـر ِ وعسى إن أمهلني عمري
أن أرجع في عجل لكمو لأرى عنْ كثبٍ ما يجري
وسأبقى صحفيـا يقظـا وأميـنا في نقل الخـبر ِ
لن أسكت عن ظـلم أبدا أو أمعن نفخـا في الشرر ِ"
ذات الرداء: "شكرا لنصير الحريَّهْ وعدو الديكتاتوريَّهْ
من يهزم بسلاح الكلمَهْ تُجّارَ الفتنةِ والظـَّلَمَهْ"
تردد المجموعة: "شكرا لنصير الحريَّهْ وعدوِّ الديكتاتوريَّهْ"
الصحفي: "عيشوا بالحبْ وثقوا بالحبْ فليحيا الحبْ، ينتصر الحبْ"
تردد المجموعة: " با لحبّ نعيشْ مُتآخيـنا
وبلا تهميشْ مُتساوينا"
يلتقط الصحفي بالكاميرا عدة صور لذات الرداء والمجموعة وهم يرددون:
"ينتصر الحبْ، فليحيا الحبْ"، عدة مرات.
يخرج الصحفي من المسرح مودعاً وملوحا لهم بيده".
يــغــلــــق الســــــــــــــتــار
توقفت الموسيقى وأضيئت الأنوار. صفق الجمهور طويلا وخرج الممثلون برفقة المخرج وقائد الفرقة الموسيقية يحيون الجمهور. وقدمت باقات الزهور للفرقة. وكانت بينها باقة ضخمة باسم جريدتنا. وكان أوفر نصيب منها لراضية التي ولدت في هذا اليوم نجمة كبيرة فوجئ بها النقاد والجمهور.
*
اتصلت بي سماح مساء، كانت تبكي وقالت: "لقد فقدت نصيرة إلى الأبد!"
سألتها: "لماذا؟ هل أصابها مكروه؟"
- لا، ولكن وصلتني رسالة منها تطلب فيها أن نتوقف عن البحث عنها وأن ننساها. سأقرأ لك الرسالة".
ولكنها أجهشت بالبكاء من جديد فقالت لي بعد أن هدأت قليلا: "سأصور الرسالة وأرسلها لك بالبريد الإلكتروني".
فتحت البريد فوجدت هذه الرسالة:
الآنسة المحترمة سماح زياني
تحية طيبة وبعد،
سمعت أنك قد خرجت من المستشفى وتعافيت تماما وبدأت تمشين على قدميك. فرحت من أجلك وأهنئك على السلامة. لن أطيل عليك وسأدخل رأسا في الموضوع.
أتذكرين يوم زارك شريف في الفيلا بعد خروجك من عيادة البرتقال، وعرفتني به على أني صديقتك العزيزة؟ قلت له ساعتها:
"تصحيح بسيط؛ كنت صديقتها حين كانت إنسانة عادية مثلي، أما الآن فهي مليونيرة وأنا مديونيرة. وهل يمكن صداقة الغني والفقير؟"
ساعتها كنت أمزح لأنني ظننت أنك صديقتي فعلا. ولكني اكتشفت مع الأسف أن ما قلته هو عين الحقيقة. قال لي شريف: "لا علاقة للصداقة بالغنى والفقر، فالصداقة مشاعر"، وأذكر أنني قلت له: "وسلوك أيضا".
لو كنت غنية مثلك لما شككت بي، ولو كنت فقيرة مثلي لما حدث ما حدث. لم تشفع لي عندك محبتي لك وصداقتنا القديمة. أدنتموني دون دليل ودون أن تتحققوا من صدق كلامي لأني فقيرة ولا سند لي.
علمتني المرحومة الشهيدة أمي أن الأمانة أثمن رأسمال. كانت تقول لي: الأمانة يا ابنتي قبل الجمال وقبل العلم. إن وثق فيك الناس وضعوك في قلوبهم ورفعوك فوق رؤوسهم وإن خنت ثقتهم لن ينفعك جمال ولا علم. وقد آلمني أن صديقتي التي خرجت بها من الدنيا هي التي تتهمني بخيانة الأمانة. من أجل ذلك انهرت وحاولت الانتحار. اتهام المفتش لي لا يهمني، ولكن اتهامك واتهام أمك لي ولنوار حطمني.
لقد فقدت بدوري ثقتي بك، والثقة كالزجاج إذا انكسرت لا يمكن إصلاحها. شاهدت الحصة التلفزيونية أنا ونوار، ونحن نقبل اعتذارك واعتذار أمك ونسامحكما، ولكننا نرجو أن تنسونا تماما وتكفوا عن البحث عنا. نرجو أن تحذفونا من قاموس حياتكم كما لم يعد لكم وجود في قاموس حياتنا. كان درسا قاسيا لنا ولكم فلنستفد منه ولا نكرر خطأنا، فالتكافؤ المادي عنصر هام في الصداقة أهم من كل العناصر الأخرى.
وداعا يا سماح إلى الأبد. أرجو لك السعادة مع صديقات وأصدقاء من نفس طبقتك.
"نصيرة"
اتصلت بسماح من جديد بعد قراءة الرسالة، كان صوتها حزينا ينبئ عن الكآبة التي خيمت على روحها بعد هذه الرسالة. قالت لي: "أخفوا عني في البداية خبر محاولة انتحارها. كان المفتش متأكدا من إدانتها وأقنعوني بأنها استقبلت شابا يوم الجمعة. كنت مريضة ولم يكن الأمر بيدي، وها أنا أفقد حبيبتي إلى الأبد".
- "اهدئي ولا تقلقي فلن تفقديها إلى الأبد إن كنت متمسكة بها وحريصة على صداقتكما".
- "ألم تقرأ ما قالت: "الثقة كالزجاج إذا انكسرت لا يمكن إصلاحها".
- "العلاقات الإنسانية لا تخضع للقوانين العلمية والمادية. الخطأ الإنساني يمكن إصلاحه حين تحسن النوايا. حين نستطيع معرفة عنوانها يمكن أن تذهبي إليها وتعتذري منها وتواجهيها".
صمتت قليلا ثم قالت: "عندي العنوان، ولكن لا فائدة ما دامت نصيرة لا تريد مقابلة أحد".
- "من أين أتيت بالعنوان؟"
- "اتصلوا بي من برنامج "كل شيء ممكن"، وأخبروني بأنهم عرفوا العنوان وذهب طاقمهم لمقابلة نوار ونصيرة فرفضا الحديث معهم".
- "ما دمت حصلت على العنوان فلا تيأسي. في أي مكان هو؟"
- "في "درارية". أخبروني بأن نوار يعمل في ورشة ميكانيكية ويسكن مع نصيرة في غرفتين ملحقتين بالورشة".
- "سأرافقك إنْ أردت".
- "أفضل أن أكون وحدي".
- "اذهبي ولا تتأخري قبل أن يغادرا العنوان، فإن أخفقت فعذرك أنك قد حاولت".
- "سأذهب غدا الخميس وأحاول بكل جهدي استعادة صداقتنا".
- "أخبريني عند عودتك بما حدث، وأرجو لك التوفيق".
*
وردتنا أخبار غير مؤكدة من بغداد عن اختطاف ساطع عبد الحسين مع مجموعة من المثقفين حين كانوا ذاهبين إلى اجتماع للأدباء. حاولنا التأكد من هذه المعلومات فلم نفلح. وما زاد في حيرتنا انقطاع أخباره تماما عنا مما يرجح فرضية الاختطاف.
اختلط الحابل بالنابل في عراقنا الحبيب، ولم نعد نستطيع تمييز المقاومة من عصابات اللصوص التي تختطف من أجل الفدية ومن الإرهابيين الذين يختطفون الأبرياء ويقطعون رؤوسهم بحجة الكفر والزندقة.
هناك من يحاول أن يحمل المقاومة الشرعية للمحتلين أوزار الإرهابيين وعصابات اللصوص لينزع شرعية المقاومة. لا يمكن للمقاومة أن تختطف الأبرياء العراقيين والعرب والأجانب وتقتلهم أو تفتديهم بالمال، ولا يمكن للمقاومة أن تزرع الفرقة العرقية أو الدينية بين أبناء البلد الواحد فالعراق كان دائما موطنا لأبنائه من كل الأعراق والأديان والطوائف.
إنه مهد التاريخ ولابد أن يتوحد أبناؤه الذين يحاول الاحتلال أن يفرق بينهم فيسميهم شيعة وسنة ومسلمين ومسيحيين وعربا وأكرادا وتركمانا، متى يا ترى ينتهي هذا الكابوس؟
*
كلمت سماح بالهاتف مساء الخميس عدة مرات. كان هاتفها مغلقا. اتصلت بي في العاشرة. أخبرتها بأني قلقت عليها.
أجابت: "أغلقت الهاتف لأني أريد أن أخلو إلى نفسي وأن أحاسبها".
- "ماذا حدث مع نصيرة؟"
- "لا فائدة. كررت ما قالته في الرسالة وحين بكيت أمامها وطلبت منها السماح، وأخبرتها بأنهم أخفوا عنى محاولة الانتحار، وذكرت لها ما فعلته أنت وكيف سامحتني، أجابتني ببرود: "اتركي الزمن يداوي الجرح الذي سببته لي ولنوار".
سألتها: "ألا يمكن أن يغني الانسجام في الطباع والمستوى الثقافي والعاطفة الصادقة عن التكافؤ في المستوى المادي؟"
أجابتني بحدة: "اسألي نفسك هذا السؤال. لماذا تسألينني أنا؟".
- "وماذا قال نوار؟".
- "وجدت نوار في الورشة وهو الذي قادني إلى حيث يسكنان. استقبلتني بفتور في غرفة جرداء فيها سرير وكرسيان فقط. أما نوار فقد عاد إلى الورشة. هنأتني بالخروج من المستشفى وهنأتها بدوري بالسلامة. أحضرت لي كأس عصير، ثم خرجت من عندها أكثر يأسا مما دخلت".
وقبل أن أعلق، اعتذرت بأن أمها تناديها وأقفلت الهاتف.
*
خرجت من صلاة الجمعة في الجامع الكبير متجها إلى الجريدة. وقرب المدخل فوجئت بنصيرة ونوار. سلمت عليهما بحرارة. أخبرتني نصيرة بأنها تريد رؤية سماح، وهي تعرف أنها تداوم في الجريدة يوم الجمعة. دعوتهما إلى الصعود إلى الطابق الثاني ودخلنا إلى قاعة التحرير التي كانت فارغة. اتصلت بسماح بهاتفها المحمول فأخبرتني أنها في الطريق، قلت لها: "أنا في قاعة التحرير. أرجو أن تمري بي قبل أن تصعدي إلى مكتبك فعندي مفاجأة سارة لك".
- "ما هي؟".
- "لو أخبرتك بها لأفسدت المفاجأة"
دخلت كريمة في تلك اللحظة فعرفتها بنصيرة وحين أردت أن أقدمها لنوار قالت خجلة: "أرجو أن تسامحني على ما فعلته في زيارتك الأخيرة، ولو تركتني آسيا أقترب منك لسببت لك عاهة مستديمة".
قلت له: "وأنا أيضا أطلب منك السماح لأنني كنت أول المهاجمين".
ضحك نوار وقال: "لا لوم عليكم. كنتم جميعا تريدون الانتقام لسماح ممن جاء ليعترف أمامكم ببرود بأنه المجرم. تصرفكم هذا يدل على الشهامة".
ردت كريمة: "بل تصرفك أنت وتضحيتك بنفسك من أجل من تحب يدل على فروسيتك وشهامتك".
كان العم صالح قد أخبر آسيا وعبد الحفيظ وهما مجتمعان في مكتبها بمجيء نوار وهو لا يعرف نصيرة. دخلت آسيا وعبد الحفيظ فنهضت نصيرة واقتربت من آسيا فقالت لها:
"ابق في مكانك يا ابنتي فمن واجبي أن آتي أنا إليك وأطلب منك أن تسامحيني. لا أدري كيف سمحت للكوميسير باستجوابك في داري وأنت ضيفتي وصديقة ابنتي. أنا كصحفية أدافع عن حرية التعبير وقد عرضتك للإرهاب والاستجواب في عقر داري. لن أسامح نفسي أبدا حتى وإن سامحتني".
- "سامحتك من كل قلبي يا خالة".
وتعانقت الاثنتان. قالت نصيرة: "كنت أعتبرك دائما كأمي، وقد تخطئ الأم تجاه ابنتها ولكن هذا لا يفصم العلاقة بينهما".
التفتت إلى نوار معاتبة: "ألم تخش أن يضربك هؤلاء ويحدثوا بك عاهة؟ لماذا لم تقل لنا الحقيقة من البداية؟".
أجابها بلطف: "قالت لكم نصيرة الحقيقة فلم يصدقها أحد".
قالت نصيرة: "خفت عليه أكثر مما خفت على نفسي وظللت أبكي وأصرخ بأنه بريء. خفت أن يصدقوه ويدينوه دون أن يتحققوا من كلامه".
سلم عبد الحفيظ على نصيرة ونوار، ودخلت سماح في تلك الأثناء وكان اللقاء بينهما مؤثرا. تعانقتا طويلا، وبكت كل منهما بكاءً حارا لا يتوقف إلا عندما تتفوه إحداهما بجملة متقطعة الأنفاس، وتجيبها الأخرى بالطريقة نفسها، ولا تقطعه إلا همهمات ودمدمات يفهم منها ألفاظ:
- "سامحيني يا حبيبتي".
- "سامحتك".
- "كم كنت مجرمة في حقك".
- "لا ذنب لك فيما حدث".
وحين انتهى العناق، قالت سماح: "كنت يائسة من رؤيتك مرة أخرى وقلت هذا لشريف".
- "كنت صادقة بالأمس حين قلت لك: اتركي الزمن يداوي الجرح الذي سببته لي ولنوار، ولكني لم أنم ليلة الأمس. قلت في نفسي: "لابد أن تقابل العاطفة الصادقة بالعاطفة الصادقة والحب بالحب وأن يقابل الندم بالغفران"، ثم خاطبتني قائلة:
"حدثتني سماح عما فعلته أنت معها وصفحك عنها ومساعدتك لها فقلت في نفسي: "سماح اعتذرت مني على شاشة التلفزيون وأمام كل الناس وجاءت إلى بيتي لتعتذر مرة ثانية، وشريف سامحها وساعدها. والله لن أكون أقل الثلاثة سماحة ونبلا.
وحين تقلبت كثيرا في الفراش أحس نوار بي وكان بجانبي. بالمناسبة نحن تزوجنا منذ أطلق سراحنا".
تعالت الأصوات: "مبروك، مبروك. تهانينا الحارة. نرجو لكما حياة سعيدة".
قالت آسيا: "زواجكما لن يمر هكذا بسهولة، لابد أن نقيم لكما حفلة لنفرح بكما".
تابعت نصيرة: "حين صارحت نوار بنيتي في زيارة سماح شجعني بقوله: "الصفح من شيم الكرام، وحمل الأحقاد من شيم اللئام".
صليت الفجر ودعوت الله أن يوفقني لما فيه الخير".
داعبتها سماح مازحة بسؤالها: " أما زلت تصلين رغم ما حصل معك؟"
أجابتها نصيرة مبتسمة: "تقصدين محاولة الانتحار؟ لم يكن انتحاري عن ضعف إيماني بالله. بالعكس، أردت أن أموت لأهرب من عدالة الأرض إلى عدالة السماء فالموت تسوّي بين الناس. لكني كنت مخطئة. كانت لحظة يأس فقدت فيها توازني ولكني لم افقد إيماني بالله. استغفرته وطلبت منه أن يسامحني قبل أن أقطع شريان يدي، لكنني ندمت، فعلينا أن نواجه الحياة مهما كانت مصاعبها".
أخذ نوار الكلمة فقال: "ما حدث محنة أصابتنا جميعا ليس لأحدنا يد فيها وعلينا أن نتجاوزها".
دعت سماح نصيرة ونوار إلى مكتبها ودعتني معهما، قلت لها مقترحا: "ما رأيك أن تصعدي مع نصيرة إلى المكتب، وأذهب مع نوار لتناول فنجان من القهوة".
أردت أن أوفر لسماح فرصة الاختلاء بنصيرة في جو حميمي لتقترب كل منهما من الأخرى وتعود علاقتهما إلى طبيعتها.
*
سألت نوار ونحن جالسان في مقهى "الطنطنفيل" نحتسي القهوة:
- "كيف استطعت أن تجد عملا وسكنا بهذه السهولة في العاصمة؟".
- "أنا لم أعان من البطالة أبدا في حياتي. أنا إنسان عامل وكل من يعرفني يعرض علي العمل فورا. الشهادة لا قيمة لها في عملنا. أنا لا أعرف صاحب الورشة في "درارية" ولكن صديقي في وهران يعرفه وأرسلني إليه. لم يطلب مني صورة عن الشهادة. طلب مني أن أصلح سيارة معطلة فأصلحتها بسرعة. عرف كفاءتي وتأكد من أمانتي من صديقي في وهران فأعطاني العمل والسكن".
- "ولكن كثيرا من الشباب لا يجدون عملا".
- "أنا لا أريد أن أظلم البطالين ولكن معظمهم يريد العمل بشروط تعجيزية، ويريد من أول يوم السيارة والفيلا والراتب الكبير. العمل متوفر لمن يريد ومفتوح لكل من لديه مؤهلات الكفاءة وحب العمل والأمانة".
- "وهل ستستمر في هذا العمل؟"
- "لا. حصلت أنا ونصيرة على قرض من البنك وسنفتح ورشة صغيرة في البليدة. لديَّ دار ورثتها عن أمي سأخصص نصفها للورشة ونصفها للسكن".
لقراءة الفصل التالي انقر هنا: ورقة الختام: مصابيح التنوير وجسور المودة
لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الورقة الثانية عشرة: هزات أرضية وعاطفية
للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: حبٌّ في قاعة التحرير
للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا: الرّوايـات