الورقة الثانية عشرة
من رواية حب في قاعة التحرير
للكاتب عبد الله خمّار
هزات أرضية وعاطفية
لأول مرة منذ سنوات تصبح القناة الوطنية قبلة المشاهدين. لم يعد الناس يشارك بعضهم بعضا إلا في الكوارث. البارابول عادة ما يتوجه نحو الشرق أو نحو الغرب. ذهب الوقت الذي كان الناس فيه يشتركون في رؤية مسلسل واحد وسماع خطاب واحد. كان المذيعون فيه نجوما معروفين أكثر من الممثلين والمطربين. أعاد الزلزال للقناة الوطنية محوريتها لتشد أنظار المشاهدين فيروا ما حدث. شاهدنا انهيار الأبنية في بومرداس ولمسنا الوجه الآخر للإنسان الذي لا يهمه إلا الربح ولو على حساب حياة الآخرين. مقاولون بلا ضمير ومهندسون بلا مسؤولية ولا صلاحية، وقانون مليء بالثغرات كانوا وراء انهيار عشرات الأبنية وسقوط آلاف الضحايا. مشاهد مروعة لا يستطيع الإنسان أن يتحملها. ولكننا شاهدنا أيضا الوجه الخيِّر من الإنسان، الوجه المضحي الذي لا يبخل بالعطاء لإنقاذ أرواح الناس وإسعاف الجرحى منهم وإيواء المنكوبين. من المؤكد أن هناك آخرين من أغنياء الحروب والكوارث وصيادي الغنائم عند المآسي سال لعابهم وفتحت شهيتهم لانتهاز الفرص. الناس معادن وكل إناء ينضح بما فيه ولا سيما وقت الشدائد والكوارث. النبل والخساسة ليستا وقفا على شعب أو عرق دون بقية الشعوب والأعراق فهما صفتان لصيقتان بالإنسان أينما وجد.
بدأت الصحف تقيم الكارثة. كل الأقلام تجندت للهجوم على المقاولين الغشاشين الذين تسببوا فيها. كل الأفراد والجمعيات والأحزاب أدانتهم ونددت بهم. أظهر الزلزال عيوب الأبنية وانهيار بعضها والتشققات الحاصلة في بعضها الآخر، ولكنه لم يظهر الانهيارات والشروخ التي حدثت في مجتمعنا: انهيار القيم الروحية وشروخ التطرف والعنصرية والجهوية وعبادة الشخصية. ليت الزلزال الذي هز الأبنية يهز الضمائر شبه الميتة عله يبعث فيها الحياة. ليته يهز النظم السياسية والأحزاب والمجالس كي لا يبقى منها إلا ما هو صادق وقوي وسليم. ليته يهز أنظمتنا الاجتماعية لتسقط منها القوانين التفضيلية والإقصائية والتمييز الفاضح في سلم الرتب والرواتب بين العاملين.
النكبة كبيرة وطالت أسرا كثيرة، وكان الصحفيون من بين المفجوعين. فقدت جريدتنا مصورتها السمراء ذات الابتسامة الجذابة الدائمة حفيظة، حيث كانت تصور عرسا في بومرداس فسقطت العمارة على السكان والمدعوين. وعرفنا أن أمها لم تذهب معها كعادتها إلى العرس لأن جارتها توفيت صباح ذلك اليوم وبقيت مع الجيران للمواساة والعزاء.
ذهبنا بعد سماعنا خبر موت حفيظة لتعزية والدتها الساكنة في شارع بلوزداد قريبا من الحامة. كنت في السيارة مع آسيا وعبد الحفيظ وصعب علينا أن نرى هذه المسكينة تفقد ابنتها الوحيدة التي كانت تحبها وتدللها. وصلنا إلى الشارع المطلوب وبحثنا عن رقم العمارة فإذا بنا نفاجأ بأنها تهدمت من وقع الزلزال. سألنا في تلك الناحية عن الناجين وتوجهنا إلى الخيم المنصوبة القريبة. قيل لنا بأن أم حفيظة ماتت هي الأخرى في الزلزال في اللحظة نفسها التي ماتت فيها ابنتها. سبحان الحي القيوم الذي لا يموت. كان مقدرا لهما أن تموتا في لحظة واحدة وألا تفجع إحداهما بالأخرى.
ظلت الجريدة في حالة حداد مدة أسبوع. وصدر العدد مثل كل الصحف الجزائرية بالأبيض والأسود وتصدرت صورة حفيظة صفحتنا الأولى. صورة التقطتها هي لنفسها بنفسها.
كان سليمان أكثرنا انتحابا وبكاء عليها. كان يرفع رأسه إلى السماء ويقول بالفرنسية "لماذا يا رب؟ لماذا؟" وكأنه آمن فجأة. ورغم أن الزلزال أهلك ناسا كثيرين من معارفه وأصدقائه، ولكن حفيظة كان لها مكان خاص في قلبه فهي فنانة رقيقة مثله. وقد امتزجت روحاهما في الفترة الأخيرة، حتى أصبحنا ننتظر أن يعلنا حبهما وخطوبتهما رغم ما بينهما من فروق وعوائق من الصعب تجاهلها والقفز عليها.
*
كنت في طريقي إلى محل الأنترنت حين اقتربت مني فتاة ترتدي جلبابا أسود وتغطي وجهها بنقاب أسود وتلبس في يديها قفازا أسود أيضا. قالت لي: "السلام عليكم".
- "وعليكم السلام".
- "الم تعرفني؟ أنا زينب".
سألتها: "زينب من؟"
أجابت: أنا زازا".
قلت لها مندهشا: "ماذا فعلت بنفسك؟"
أجابت بالعربية الفصحى: "الحمد لله على الهداية. هداك الله مثلما هداني".
تركتني ولسانها لا يفتر من الذكر والأدعية. قلت في نفسي: "الله يهدي من يشاء".
زعزع الخوف النفوس فهرعت إلى المساجد لإعلان توبتها من الخطايا. ولم يثبت الإيمان في القلوب ويطهرها من الأدران، فحين سكنت الأرض واطمأنت النفوس واستعادت توازنها المصطنع عادت إلى طبيعتها وسلوكها الأوليْن.
بعد أسبوع رأيت زازا سافرة بلا حجاب وقد زينت وجهها بالمساحيق وعرّت يديها وأكتافها وهي تضع ذراعها في ذراع فتى أصغر منها. رجعت إلى عادتها القديمة.
لم أشأ أن أحرجها ولكنها ابتسمت لي ابتسامة عريضة وقحة وغمزتني بعينها اليسرى والتصقت أكثر برفيقها ومضيا في طريقهما. قلت في نفسي: "ولله في خلقه شؤون".
*
كان عدد هذا الأسبوع مخصصا لأخبار الزلزال وتحرك المواطنين والأجهزة للإنقاذ والإسعاف والمساعدات التي وصلت، وتحقيقات حول حياة المنكوبين في بومرداس وبلوزداد وكانت كلمة العدد:
" زلزلت النفوس. زلزلها الهلع لكن العقول بقيت كما هي ساكنة نائمة مخدرة لم تتزلزل. بقيت غيبية إلى أقصى حد بالمعنى السلبي لا الإيجابي؛ المعنى الذي يرجع كل ما يصيبنا من كوارث إلى القدر وكأن القدر هو الذي ارتكب هذا الكم من الفساد والرشوة وغش الأبنية وسوء الإدارة والتسيير.
ماذا تفعل مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا وإعلامنا؟ هل تخاطب عقولنا حقا؟ ما لعقولنا إذاً ساكنة لم تتحرك؟ ما لها تغط في سبات عميق؟
حين تتزلزل العقول فهو مؤشر على بداية النهضة. نحن بحاجة إلى مناهج فكرية تزلزل العقول، توقظها، تجعل منها أداة فاعلة لا مجرد وعاء ناقل تملؤه بما تشاء.
الله منحنا العقول لنستخدمها في التفكير والنقاش للوصول إلى الحقيقة وحل مشكلات العصر، لا لنستخدمها كأوان تحفظ ما يملؤها به حكامنا ووعاظنا من حلول جاهزة على أنها مسلمات وبديهيات لا تحتاج إلى نقاش.
لن ندافع عن الذين تسببوا في انهيار الأبنية وهلاك مئات الضحايا وتشريد الآلاف ولكنهم ليسوا المسؤولين وحدهم. المقاولون الغشاشون والمهندسون اللامبالون هم نتاج مجتمع يسعى إلى النجاح المادي بأي طريقة ويعتبره "قفازة" و "شطارة" و كثيرا ممن يرمونهم بحجر ليسوا بأنقى منهم.
إن لم نستخدم عقولنا فلن تتغير أنظمتنا التربوية والسياسية والاجتماعية وسنظل في حالة السكون التي دأبنا عليها منذ قرون. ستتوالى علينا الكوارث وفي كل مرة نبحث عن كبش فداء لنحمله المسؤولية.
إن لم نستخدم عقولنا فلن نتطور مهما تطورت التقنيات التي نستخدمها ومهما تعددت برامج الأنترنت والبارابول فاستخدام التقنيات بصورة آلية لا يوقظ العقول بل يضاعف من انغماسها في الخدر والخمول".
*
بدأت المساجد تمتلئ بالمصلين بعد الزلزال وتحجبت كثير من الفتيات. بدأ بعض الناس يفكرون في الآخرة وفي الوقت نفسه امتلأت البارات والملاهي بمن يريدون نهب الملذات قبل فوات الأوان. وهكذا دفع فقدان التوازن بسبب الخوف واليأس بعض الناس إلى الاهتمام بالآخرة وبعضهم إلى التمسك لآخر لحظة بالدنيا.
كان "سليمان" أحد هؤلاء ممن أرادوا أن يواجهوا الموت سكارى. كان يقول: "نحن نعيش مرة واحدة فلنبادر إلى انتهاب اللذات قبل فوات الأوان". وكان يردد أمامنا بالفرنسية إحدى رباعيات الخيام التي ترجمها أحمد رامي من الفارسية إلى العربية كما يأتي:
سمعت صوتا هـاتفا في السحرْ نادى من الحان غفاة البشرْ
هبوا املأوا كأس الطِّلى قبل أن تملأ كأس العمر كف القدرْ
كما يردد الشعر الوحيد الذي يحفظه بالعربية لأبي نواس وقد تعلمه في مجالس الكأس والطاس التي تذوب فيها الصراعات اللغوية والمذهبية وترطن الألسنة بكافة اللغات في موضوع واحد هو الخمر:
دع عنـك لومي فإن اللوم إغراءُ وداوني بالتي كانت هي الداءُ
صفراءُ لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسّها حجر مسـته سراءُ
ومادام الحديث عن الخمر فلا يهم إنْ كان بالعربية أو الأمازيغية أو الفرنسية فالمسألة اللغوية غير مطروحة أبدا.
لم يكن سليمان يذكر الموت، ولم يسمعه أحد يذكره قبل الآن، لكنه أصبح يذكره كل لحظة ويضعه بين عينيه، ولكنه يقول: "ما دام هناك موت فلنغتنم اللحظة التي نحن فيها ولنبادر إلى الشراب قبل فوات الأوان" ويغني مع فرجاني:
باكرْ إلى شادن وكاس ِ فالعمر أيامه قصارْ
ولأن الحياة لابد أن تستمر فقد عاد كل شيء إلى حاله بعد زوال الإحساس بالخوف والخطر. فلا توبة زازا الكاذبة استمرت، ولا إغراق سليمان المفرط في السكر دام.
*
كانت آسيا وزبيدة تعملان معا جنبا إلى جنب في جمع الألبسة والأغطية وفي التكفل بالناس في الخيم في نطاق الجمعية. وكان عبد الحفيظ وشاكر ومسعودة وكريمة من المتطوعين في الأيام الأولى للكارثة، لكن من أعطى كل وقته للمنكوبين وشارك منذ اللحظة الأولى في عمليات الإنقاذ ليلا نهارا هو سمير الذي أصبح مقيما في بومرداس طيلة عمليات الإنقاذ، وكان ينام في سيارته أقل من أربع ساعات في اليوم. لم يكن أحد يظن بأن سمير الذي يبدو أرستقراطيا أكثر مما يجب يمكن أن يفعل ذلك.
*
كنت مع عبد الحفيظ حين أخبرتنا آسيا أن مجوهرات جارتهما الصحفية نوال قد سرقت. كلمتها" نوال" في الساعة العاشرة ليلا وهي مضطربة وصوتها يرتجف مدمدمة:
- "لقد سرقت مجوهراتي".
- "كيف حدث ذلك؟"
- كنت مع خطيبي فوزي في المنزل وحدنا فأبي وأمي كانا مدعوين على العشاء عند أحد الأصدقاء. أريته ألبوم صوري ثم أريته مجوهراتي. سمعنا الأغاني ورقصنا عليها ثم خرجنا بناء على طلبه وجلنا في السيارة ساعة من الزمن وحين أوصلني إلى المنزل بحثت عن المجوهرات فوجدت العلبة فارغة ولا أدري ماذا أفعل. أرجو أن تكلمي الكوميسير".
كلمت سماح الكوميسير فحضر فورا. ساعدت آسيا ابنتها سماح وعبرتا الشارع إلى منزلها. كانت متوترة وحائرة في أمر هذه السرقة. سألها الكوميسير:
- "أين كنتما جالسين؟"
- "في الصالون".
- "هل حضر أحد إلى المنزل غير خطيبك؟"
- "لا".
- "هل أنت متأكدة أنه لم يأخذ معه شيئا؟"
- "كان يرتدي قميصا وسروالا وقد خرجنا معا من المنزل ثم إني لا أشك فيه مطلقا".
- "دعيني أرى".
فحص الباب والنوافذ فلم يجد ما يثير الشبهة.
سألها: "هل كان الباب مغلقا حين أتيت؟"
- "نعم".
ألقى الكوميسير نظرة عاجلة على الصالون ثم نظر خلف التلفزيون ووراء طاولة الهاتف وتحتها وتحت السجادة ثم سحب فرش أحد الكنبات ومد يده تحتها فأخرج عقدا من الماس. تعاونا في نزع فرش الكنبات كلها فوجدنا الخواتم والأساور والعقود موزعة تحتها بعناية.
صرخت نوال بفرحة ممزوجة بالدهشة: "إنها هنا. ولكن ماذا يعني هذا؟ من خبأها؟"
- "خطيبك يا آنستي خبأها ليأتي ويأخذها فيما بعد دون أن يلفت النظر".
- "خطيبي فوزي!"
- "نعم. بكل أسف يا آنستي خطيبك فوزي هو السارق فلم يكن غيره معك كما قلت".
- "لا يمكن أن يكون هو. لا أصدق".
كادت المسكينة تنهار من وقع الصدمة فجلست على الأريكة ووضعت رأسها بين يديها وبدأت تبكي. سألت مستنكرة: "هل يمكن أن يكون حظي سيئا إلى هذه الدرجة؟ أهذا هو الرجل الذي ظننت أنه أحسن الرجال؟"
طلب الكوميسير من نوال أن تكون واقعية فتمسح دموعها وتكلم خطيبها بالهاتف لتخبره بسرقة المجوهرات، وتطمئنه بأنها مؤمَّنة وسوف تدفع لها شركة التأمين تعويضا يماثل ثمنها. وتطلب منه بعد ذلك أن يحضر في الغد مساء لان أباها وأمها سيسافران صباحاً إلى قسنطينة لقضاء بضعة أيام. مثلت نوال دورها بإتقان. أظهر فوزي قلقه وطلب منها إبلاغ البوليس. طلب الكوميسير من الجميع التكتم على هذا الموضوع حتى يتم التحقيق.
بقينا مع الكوميسير حتى حضر أبو نوال وأمها فأخبرهما بما حدث واتفق معهما على خطة لإثبات براءة فوزي أو تورطه في سرقة المجوهرات كما عاين الصالون لتحديد مكان الكاميرا.
*
روت لنا آسيا فيما بعد ما حدث في اليوم التالي. جاء فوزي في الميعاد وهو يحمل حقيبة صغيرة سوداء أنيقة. وأبدى بحرارة أسفه الممزوج بالدهشة من سرقة المجوهرات. وبعد أن جلس بضع دقائق دق جرس الهاتف. تكلمت نوال ثم قالت له: "آسيا تطلب مني الحضور من أجل قضية تتعلق بسماح. لن أغيب أكثر من عشر دقائق".
لم يعرض عليها الذهاب معه. وعند عودتها قال لها: "اتصل بي صديق بالهاتف واتفقت معه على أن أسلمه بعض الوثائق في هذه الحقيبة لأنه سيسافر غدا. سأغيب نصف ساعة وأعود".
كان الكوميسير ينتظر في سيارته بجانب الفيلا وحين خرج فوزي حاملا حقيبته قال له الكوميسير:
- "أريد أن أتحدث معك لحظة. لنعد إلى داخل المنزل".
- "أنا مستعجل. سأعود إذا أردت بعد أن أقضي الأمر المستعجل".
- "دقيقتان فقط. لن أعطلك أكثر وسحبه من يده ودخلا".
قال له الكوميسير بعد أن أصبح في الصالون: "بالمناسبة ماذا يوجد في هذه الحقيبة؟"
- "ما دخلك بالحقيبة؟ قل لي ما تريد وأسرع".
- "أريد أن أعرف ما بداخل الحقيبة".
- "أوراق ووثائق".
- "افتحها".
- "لماذا؟ لا أستطيع. إنها تفتح بالرقم السري وقد نسيته".
- "سأفتحها أنا".
- "الرقم السري في المنزل. سأذهب وأفتحها هناك ثم أحضرها لتشبع فضولك وترى ما بداخلها".
- "بل نذهب معك أنا ونوال لتفتحها أمام أبيك وأمك".
- "لماذا تتكلم معي بهذه اللهجة؟" ورفع إصبعه مهددا وصائحاً: "يجب أن تعرف مع من تتكلم".
قال الكوميسير: "سأقول لك مع من أتكلم بعد لحظة". رفع فراش الكنبات كلها فوجد تحتها فارغاً".
قال له: "أتكلم مع لص حقير وضيع أدخلته خطيبته إلى بيتها واستأمنته على نفسها ومالها فسرقها. المجوهرات في الحقيبة وأنت مقبوض عليك".
انهار الرجل فجأة وبدأ يبكي ويستعطف. قال له الكوميسير: "سأساعدك إذا قلت لي من هاجم سماح في غابة بوشاوي وسرق مجوهراتها؟"
حاول أن يغطي شحوبه وفزعه بالإنكار فصرخ محتجاً: "كيف يمكن أن أسرق وأبي من أغنى الأغنياء؟ خبأت المجوهرات لأمزح مع خطيبتي وكنت أنوي أن أعيدها في المساء".
التفت إلى نوال متوسلاً مستعطفاً: "صدقيني ياحبيبتي. كانت مجرد مزحة. ألا تثقين بي؟ ألا تثقين بحبيبك فوزي؟" ونظر إليها بذل واستسلام مضيفاً: "لا تخذليني يانوال في أول امتحان لحبنا أحتاجك فيه. أرجوك وأتوسل إليك".
نظرت إليه نظرة احتقار ثم أشاحت بوجهها عنه قائلة ببرود: "سألك الكوميسير عمّن هاجم سماح وسرق مجوهراتها وأنا أنتظر معه الإجابة".
حاول أن يقفز إلى الباب ليخرج فتحرك الكوميسير بسرعة وسدّ عليه الطريق. تغيرت سحنته فجأة فأصبح كالوحش الكاسر الذي حاصره الصيادون من كل جانب فلم يجد منفذاً إلا الهجوم الانتحاري. أصبح وجهه أحمر مائلاً إلى السواد وتطاير شرر الغضب اليائس من عينيه وفمه وصاح بلهجة تنبض بالحقد والرغبة في الانتقام:
"أنتما تتآمران عليّ. لا دخل لي في كل هذه المواضيع. سأقول لأبي بأنني وجدت نوال في وضع غريب مع عشيقها الكوميسير فلفقا لي هذه التهمة. والتفت إلى نوال قائلا: "وسأقول لأبيك وأمك هذا أيضا". ثم أضاف: "خذي مجوهراتك التافهة ودعيني أخرج وإلا فاستعدي لمواجهة الفضيحة. هل تظنين أن أبي وأمي سيسكتان". والتفت إلى الكوميسير قائلاً: "أما أنت فإن لم تدعني أخرج ستندم على اليوم الذي ولدتك فيه أمك".
في تلك اللحظة نزل من الطابق العلوي أبو نوال وأمها. قال له أبوها: "وماذا ستقول لنا أيضا؟"
ضحك الكوميسير وقال: "ما فعلته خلال العشر دقائق التي غابت فيها نوال وتركتك وحدك في الصالون مسجل في شريط فيديو. انظر! ها هي الكاميرا بجانب أصيص الزهر مازالت تسجل".
انهار الرجل مرة أخرى وأخذ ينتحب كالطفل الصغير ولم ييأس فتضرع متوسلا: "لا تفضحوني أرجوكم. لا تقولوا لأبي. سأعطيكم ما تريدون".
قالت نوال متجاهلة توسله: "تذكرت الآن انه هو الذي طلب مني أن ترتدي سماح طاقم المجوهرات بعد أن أخبرته عن قصة ضياعه وكيف أعاده شريف. وبعد أن عرف أن ثمنه يساوي مائة ألف دولار. قال لي: "إن حضورها حفلة خطوبتنا بهذه المجوهرات سيكون تاريخيا وذكرى خالدة. لم يخطر ببالي أبدا أنه يخطط لسرقته".
كانت مفاجأة لنا جميعا أن تأخذ الأمور مجرى لم تخطر في بال احد. أما الكوميسير فقال: "لا يمكن أن يخطر في بالي أن مدبر سرقة مجوهرات سماح هو فوزي لو لم يتجرأ ويرتكب سرقة ثانية بخطة دنيئة. ساعتها تذكرت مجوهرات سماح وقلت: "لا بد أن يكون هذا الماكر وراء السرقة".
قال الكوميسير موجها الكلام له مرة أخرى: "هل تعترف بشركائك أم تلبس التهمة وحدك؟"
- "سأعترف. سأعترف". كنت أتمنى ألا يسمع أبي وأمي بذلك".
بدأ فوزي يعترف. رفيقاه صبحي وعوني من نفس الوسط من أولاد الأغنياء الذين أثروا بقروض البنوك ورخص الاستيراد. والثلاثة يرتادون علب الليل ويعاشرون الغانيات ويلعبون القمار. وقد ركبتهم الديون التي خسروها في اللعب وأخذ الدائن وهو صاحب نادي القمار شيكات بتوقيعهم يهددهم كل يوم بتقديمها إلى العدالة. كان آباؤهم قدوة سيئة لهم وتعلموا منهم الحصول على المال بأي طريقة. خافوا من الفضيحة وزين لهم الشيطان سوء عملهم فبدؤوا بمجوهرات سماح. اتفق فوزي مع شريكيه أن يلحقا بالفتاتين إلى الفيلا ويخطفا حقيبتها عند دخول سيارتها المرآب ثم يهربا. لم يخطر ببالهما أنها ستتوقف في غابة "بو شاوي". اغتنما الفرصة هناك وأخذا الحقيبة وحاولا إيهام الفتاتين أنهما من الإرهابيين، لكن سماح هربت. وحين ركبا السيارة كان في نيتهما الهروب لا اللحاق بها لكنها لسوء الحظ وقفت في منتصف الطريق لتستوقف سيارتهما ظنا منها أن صاحب السيارة سينجدها، وفوجئ عوني السائق بها وحاول تفاديها ولكنه صدمها بجانب السيارة الأيمن. اعترف عوني بأنه هو الذي كلم آسيا بالهاتف مهدداً بعد أن أعطاه فوزي الرقم لإثبات التهمة على نصيرة.
لكن جشع فوزي جعله يريد ابتلاع مجوهرات خطيبته أيضا. ونفى شريكاه علمهما بهذا الأمر. أودع الثلاثة السجن بعد اعترافهم بتسليم المسروقات إلى مدير صالة القمار السرية بإحدى علب الليل في ضواحي العاصمة وقامت قوات البوليس باقتحام المكان وقبضت على كل من كان فيه وحجزت المسروقات.
سألت نوال الكوميسير: "كيف عرفت أن فوزي له علاقة بالاعتداء على سماح وسرقتها؟"
اجاب: "حين اكتشفت المجوهرات مخبأة تحت الكنبة وعرفت أن فوزي ابن أحد كبار رجال الأعمال هو السارق، تذكرت ما قالته لي نصيرة حين اتهمتها وضيقت عليها ثم أصررت على اتهامها حتى بعد محاولتها الانتحار. قالت لي بلهجة يائسة لم أولها أدنى اعتبار ساعتها:
"لا توجد عدالة على الأرض. العدالة في السماء فقط. عدالة الله سبحانه أما البشر فعدالتهم مبنية على حماية الأغنياء وذوي النفوذ وعلى قهر المستضعفين والفقراء".
لم أنم ليلة الأمس. كانت صورة نصيرة أو شبحها يطاردني قائلاً: "استأسدت عليَّ لأني ضعيفة لا سند لي. أرني الآن ماذا ستفعل مع ابن الأكابر!"
خطر لي ساعتها أن يكون هو نفسه سارق مجوهرات سماح".
وأما المفاجأة الجديدة فهي أن عوني وصبحي هما الشاهدان اللذان شهدا ضد العم صالح في قضية الشقة المشبوهة وهما اللذان شاركا في ضربه مع صاحب الشقة. وكان تحقيق شاكر فيها وصل إلى الربط بين صاحب الشقة ومدير صالة القمار التي يلعب فيها عوني وصبحي. وهكذا ينحدر القمار بأصحابه إلى السرقة والمشاركة في شبكات الدعارة والمخدرات.
*
احتد النقاش بين كريمة وشاكر حول برنامج "سوبر ستار" الذي تبثه إحدى القنوات الفضائية المشرقية. قال شاكر: "من السخافة وانعدام المسؤولية أن يتابع الجمهور العربي هذا البرنامج الغنائي في نفس الوقت الذي تغزى فيه العراق وتسقط بغداد ويتعرض أهلها ومدنها وبيوتها وتاريخها للقصف والتدمير".
ردت كريمة: "الفن سلاح في معركتنا ضد التخلف والغزو والاستلاب الفكري والروحي وهذا البرنامج يحاول الارتقاء بالفن وتشجيع المواهب الحقيقية والعمل على تكوينها بدل أن يحترف الغناء كل من هب ودب".
تدخلت مسعودة لتوضح بأن الاعتراض ليس على البرنامج ولكن توقيته غير مناسب في ظل هذه الظروف.
ردت كريمة: "وهل توقف الناس عن الطعام والشراب عند غزو العراق؟ وهل توقفوا عن الحب والزواج والإنجاب بعد سقوط القدس؟ وهل توقف التجار عن الربح؟ والشركات والمؤسسات عن العمل؟ الفن نشاط حيوي من الأنشطة فلماذا يتوقف؟ لم يتوقف الفلسطينيون ولا العراقيون عن الغناء وإقامة الأعراس. ولم يتوقف اللبنانيون عن ذلك في أحلك الظروف. هل توقفت القنوات التلفزيونية العربية كلها حتى يتوقف هذا البرنامج؟ أم أن ما يقلق السيد شاكر هو نجاح برنامج فني عربي وهو لا يهتم بالفن الجزائري ولا العربي".
توقف النقاش فجأة عندما تلقى شاكر مكالمة هاتفية وخرج مسرعا. ولم تشأ كريمة مواصلة النقاش مع أحد آخر غيره.
*
دخل العم صالح يبشرنا بمجيء سماح لحضور الاجتماع مع أمها. قام الجميع حين دخلت يسلمون عليها ويرحبون بها. وقفت معهم ولكنها حين وصلت إلي تجاهلت يدي الممدودة وسلمت على مسعودة ثم على شاكر وأدارت ظهرها لي. رجعت إلى مكاني وجلست في انتظار الاجتماع.
لاحظت كريمة ذلك وبعد أن سلمت على سماح جلست بجانبي قائلة: "الشه".
ضحكت من تصرفها فقالت لي: "ما أظلمك! وتضحك أيضا، لم أكن أعرف بأنك قاس إلى هذا الحد".
- "عم تتحدثين؟"
- "لا شيء. سيبدأ الاجتماع الآن".
كان أهم ملف فتح في اجتماع الأسبوع هو ملف المعاقين. قدم شاكر ومسعودة عرضا موثقا بالأرقام عن الإعاقة الجسدية والذهنية في الجزائر وكانت الأرقام مخيفة، كما تم الحديث عن الإعاقة الحقيقية والإعاقة الوهمية بغرض الاستفادة من المنح.
نوقش الملف وتدخلت في المناقشة قائلا:
"لابد أن نقوم بمساعدة العائلات على التكفل بالمعاقين فيها، فالمنح لا تكفي وذلك بفتح باب التطوع والتبرع بالمال أو الوقت لقضاء فترة مع المعاقين وتشجيعهم ورفع معنوياتهم سواء من الفنانين أو الصحافيين، ولم لا نبدأ نحن كصحفيين بذلك".
طلبت سماح الكلمة فقالت:
"ليس من عادتي المشاركة في النقاش فأنا عادة أهتم بالشكل لا بالمحتوى لطبيعة عملي كمخرجة، ولكن هذا الموضوع يهمني لأنني جربت الإعاقة الجسدية فترة قصيرة، فالمعاق إلى جانب احتياجاته المادية يحتاج إلى من يرفع من معنوياته، ويثير فيه الدوافع الإيجابية للعمل والحياة بدل الاستسلام لمرضه وإعاقته.
التطوع والتبرع بالكلام سهل جدا، ولكن الصبر على المعاق واحتماله هو الخطوة الأولى في رفع معنوياته، ولا أعتقد أن الزميل الذي يتكلم الآن يقدر على ذلك".
نظر الجميع إلي وعرفوا أنها تقصدني، ولكنني تجاهلت ما قالته وكأني لم أسمعه. واستمر النقاش واعتمد الملف.
بعد نهاية الاجتماع ظللت في مكاني أراجع بعض الأوراق وتحلق الجميع من جديد حول سماح. كانت تتكلم وتضحك وتعلق وبدت لي اجتماعية أكثر من السابق.
أصبح الجميع متحفظين معي. بدأت أشعر أن كريمة تنظر لي شزرا وتركتني بعد نهاية الاجتماع دون أن تودعني كعادتها. صدموا فيَّ وشعروا بأنني تخليت عن سماح حين كانت بحاجة إلي. آسيا وعبد الحفيظ هما الوحيدان اللذان لم تتغير معاملتهما لي طيلة هذه الفترة.
*
لم أتوقع زيارة نوال لي في محل الأنترنت. كانت الساعة تقارب السابعة من مساء الأربعاء وقد بدأ الزبائن يغادرون المحل. رحبت بها ونظرت إليها مستفهما فابتسمت قائلة:
- "أنا مدينة لك باعتذار".
- "مدينة لي أنا! لماذا؟"
- "لأن المدعو "فوزي" خطيبي السابق هو الذي أفسد العلاقة بينك وبين سماح وجعلها تشك بك".
- "كيف ذلك؟"
- "أتذكر حين عرفتك به، وسألك الكوميسير عدة أسئلة في ردهة المستشفى؟"
- "نعم".
- حين دخلنا عند سماح أخذ يحاور ويناور ويقول لها: "يجب أن نواجه أسوأ الاحتمالات والفرضيات ونستعرض أسماء كل من يعرفون أنك ترتدين المجوهرات في تلك الليلة". ولخبثه الشديد بدأ بنفسه وبي قائلا:
"أنا ونوال مثلا كنا نعرف، ونستطيع أن نثبت أننا كنا في الشراتون وقت الحادث. من أيضا؟ نصيرة... ومن غيرها؟"
قالت سماح: "لم أقل لأحد غيرها".
- "هل كنت تنوين القدوم مع نصيرة منذ البداية؟"
- "لا. كنت سآتي مع شريف".
همهم قليلا ثم قال: "ولماذا لم يأت شريف؟"
- "كان مزكوما".
- "هل تأكدت من ذلك؟"
- "شريف لا يكذب".
- "وما أدراك؟" ثم استدرك: "نحن نفترض دائما أسوأ الاحتمالات".
قالت سماح بثقة وتصميم: "لا يمكن أن يسرق المجوهرات من وجدها وأعادها إليَّ. ولو كان سارقا ما أعادها؟"
صمت قليلا كأنه يفكر ثم قال: "هناك سؤال وجيه: هل كان يعرف قيمتها قبل أن يعيدها إليك؟"
- "لا لم يكن يعرف. كان يعرف أنها ثمينة فقط".
- "لو كان يعرف أن قيمتها مائة ألف أورو لما أعادها إليك". وأضاف "أنا متأكد من ذلك. وعلى كل حال نحن نفترض دائما لعلنا نصل إلى الحقيقة. لنفرض أنه ادعى المرض وخطط وحده. كل شيء ممكن".
أرخت نوال رأسها وقالت: "كنت أثق به وأقنعني لدرجة أنني اشتركت في الحديث وقلت: "ولنفرض أنه خطط مع نصيرة".
قالت سماح بعد تردد: "كل شيء ممكن".
ومن هنا بدأت شكوكها بك. ثم انفجرت بالبكاء قائلة: "تخلى شريف عني حين كنت بحاجة إليه، حتى وإن لم يسرق المجوهرات فقد سبب لي الأذى".
قلت في نفسي: "لقد ظلمت الكوميسير وظننت أنه هو الذي جعل سماح تشك في وتطردني عندما زرتها في المستشفى. لم يخطر ببالي أبدا أن يكون هذا الخبيث الذي امتدحني وأثنى على أمانتي في وجهي هو نفسه من طعنني في ظهري أمام حبيبتي سماح".
تذكرت نظرات نوال لي في ذلك اليوم وهي خارجة من غرفة سماح مع فوزي. كانت نظرات شك واتهام واضحة لم أستطع تفسيرها حينها. وأكتشف اليوم أنها كانت واقعة تحت تأثير إيحاءات خطيبها المحتال.
*
كررت نوال أسفها وقالت لي: "أرجو أن تسامحني. لم أر رجلا تقمصه الشيطان مثل فوزي، بل هو الشيطان ذاته، فقد جعلني أشك بك وبنصيرة بينما كان هو السارق".
- "سامحتك من قلبي، فلا ذنب لك ما دمت قد وثقت به إلى هذا الحد".
- "وثقت به لأنني أحببته".
- "معك حق فالحب ثقة، ولا نضع ثقتنا في محلها دائما".
علقت بمرارة: "كانت الخطوبة في الماضي تجري بمعرفة العائلات. أما الآن كيف يمكنك أن تكشف أخلاق الإنسان وطبائعه؟ وكيف يمكن أن تسأل عنه وعن عائلته في مدينة عدد سكانها بالملايين؟
سألتني نوال بعد ذلك: "هل هناك جهاز فارغ؟ أريد أن أطلع على صندوق بريدي الإلكتروني".
أخذت مكانها وراء الجهاز رقم "7" وبعد دقائق طلبت "ديسكيت" لتسجل عليها رسالة وجدتها في صندوقها. أعطيتها واحدة فسجلت عليها الرسالة وانصرفت.
*
دخلت إلى قاعة التحرير في الساعة الحادية عشرة، ألقيت تحية الصباح فرد علي الحاضرون بفتور. كان شاكر وكريمة يتهامسان بينما انشغل سمير بأوراقه.
كان الجميع يتحاشونني ويتجنبون الحديث معي منذ أن هاجمتني سماح في الجمعة الماضية. هيأت أوراقي لاجتماع المساء وخرجت بسرعة وقررت أن أحضر في المساء قبل موعد الاجتماع بدقائق لأتجنب الاحتكاك مع الزملاء.
وصلت إلى الجريدة في الساعة الرابعة إلا دقيقة واحدة. وجدت آسيا وعبد الحفيظ وسماح يدخلون إلى قاعة الاجتماع فتبعتهم وأخذت مكاني. تجنبت النظر إلى سماح وتشاغلت بمراجعة أوراقي حتى أني لم أنتبه حين جاء دوري لعرض ما أعددته للصفحة الثقافية. لم تعلق كريمة كعادتها على ذهولي وحين انتهى الاجتماع قالت آسيا: "سماح لديها ما تقوله لكم".
عدت إلى أوراقي أقلبها وأتشاغل بمراجعتها، ولكنني مصغ إلى ما تقوله سماح هذه المرة أيضا. شعرت بأن الجميع يتوقعون أن تلقي قنبلة ثانية باتجاهي، وأن نظراتهم تتنقل بيني وبين سماح ليروا وقع وتأثير الانفجار عليَّ.
تكلمت سماح بهدوء فقالت:
"إنني أود الاعتذار أمامكم من السيد شريف الصادق عن كل ما قلته في حقه وعن ظنوني السيئة به. لقد علمني درسا في الحب الحقيقي الذي لا ينتظر المقابل".
أضافت بنبرة صادقة وهي تنظر إليَّ: "لقد صنعت لي معروفا لن أنساه. علمتني أن أتعرف على أدباء وفناني بلادي، وحببت إلي الشعر والفن. وفيما يتعلق بسؤال: "إلى من يعود الفضل للأستاذ أم للتلميذ؟ في هذه الحالة يعود معظم الفضل للأستاذ فلولا خطته المحكمة وأساليبه ووسائله المختلفة لبقي التلميذ على حاله فريسة للكآبة والضجر مستسلما لمرضه وأوهامه.
لم يكن اعتذاري الأول صادقا حين زرتك في محل الأنترنت. كان مشروطا باستعادتك. وحين شعرت بأنك تجاهلتني وجرحت كبريائي كرهتك لدرجة أنني قلت لأمي:
"لا يمكنني العمل معه في مكان واحد فاختاري إما أن أبقى أنا معك أو هو".
لكن أمي أجابتني بحزم لم أتوقعه منها: "لا يمكنني الاستغناء عنه بسبب عواطفك. إنه صحفي جيد يقوم بواجبه، وإنسان يمكن الوثوق به والاعتماد عليه".
وهكذا قررت أن أترك الجريدة وأعمل في مكان آخر. وفعلا كنت سأبدأ العمل في الشهر القادم كمهندسة كمبيوتر في إحدى الشركات. الصدفة وحدها عرفتني بما فعلته من أجلي حين ظننت أنك تخليت عني. أنا الآن خجلة من تصرفي وأعتذر منك بصدق أمام الجميع اعتذارا غير مشروط وأرجو صادقة أن تقبل اعتذاري".
ثم نهضتْ وخرجتْ من القاعة. لم يستوعبْ أحد من المحررين ما قالته ولم يفهموا قصدها، ولم يعرفوا إن كانت تعتذر مني حقا أم تهزأ بي. أما أنا فتساءلت في دهشة: "كيف عرفت؟"
لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الورقة الثالثة عشرة: انتصار الحب
لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الورقة الحادية عشرة: حوارات الأنترنت
للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: حبٌّ في قاعة التحرير
للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا: الرّوايـات