ورقة الختام

من رواية حب في قاعة التحرير

     للكاتب عبد الله خمّار

 

مصابيح التنوير وجسور المودة

 

اعتذرت عن حضور الحفل الذي أقامته آسيا لنصيرة ونوار في الفيلا في منتصف شهر أوت لأني كنت أقضي عطلتي السنوية في سطيف. لكن سماح أخبرتني بالهاتف أن عددا من الصحفيين وأصدقاء آسيا وسماح حضروا الحفلة، وكذلك صاحب الورشة وزوجته وأصدقاء العروسين في درارية. وألقى الكوميسير فيها كلمة اعتذار مؤثرة من نصيرة ونوار اغرورقت خلالها عيناه بالدموع. كما اعتذرت نوال منهما.

وقد أهدت آسيا لنصيرة ونوار سيارة فاخرة كما أهدت سماح صديقتها نصيرة عقدا من الماس الثمين وخاتما تتلألأ حباته كأنها نجوم تضيء فتبهر الأبصار.

وأضحكتني بقولها إنها سمعت كريمة تقول لشاكر: "ما رأيك أن تهديني مثل هذا العقد يوم زفافنا؟"

أجابها ببرود: "ما رأيك أن نؤجل زواجنا عشرين سنة لأجمع لك ثمنه؟ صدق القائل: "المرأة والطفل الصغير يظنان أن الرجل على كل شيء قدير".

ردت معتذرة: "هل غضبت يا حبيبي؟ كنت أمزح فقط! ألا تعرف المزاح؟".

لكن شاكر صمم على إعداد ملف عن الأعراس وعن المبالغة في البذخ فيها.

وأخبرتني بعد أسبوع بأن الحبيبين المشاكسين أعلنا خطوبتهما في حفل بسيط اقتصر على حضور العائلتين.

استمتعت في العطلة بصحبة الأهل لكنني افتقدت سماح ولولا هواتفها اليومية لما استطعت تحمل البعد عنها.

اتفقت مع أبي وأمي على أن يتوجها في أواخر الشهر القادم إلى العاصمة لخطبة سماح بعد أن استطعت الرد على اعتراضات أمي التي تريد تزويجي من سطايفية أو مستغانمية من قائمة البنات اللواتي تعرفهن.

 *

اجتمعنا في قاعة التحرير مساء الجمعة 5 سبتمبر في أول لقاء بعد الدخول الاجتماعي. بدأت الجريدة تقف على قدميها من الناحية المالية. ازدادت مبيعاتها وازدادت نسبة الإعلان فيها وكسبت بعض المصداقية التي حولت خسارتها إلى ربح، فالجريدة الخاسرة لا يمكنها الاستمرار حتى لو كانت صاحبتها مليونيرة، فلا يمكن لعاقل أن يرمي أمواله في الهواء. هناك مشاريع كثيرة جدية لتوسيعها إلى مؤسسة صحفية كبرى، تصدر مجلة للشباب وأخرى للمرأة وثالثة للطفل ولكنها مشاريع مستقبلية وعلى المدى الطويل. ما يهم الآن هو أن تكسب الجريدة ثقة القراء وأن تحافظ عليها فهم الرأسمال المهم والربح المضمون لها.

جلس عبد الحفيظ رئيس التحرير على يمين آسيا بينما جلس شاكر الذي عين سكرتيرا للتحرير على يسارها. أما سماح فجلست بجانبي فنحن الآن شبه مخطوبيْن وستعلن خطوبتنا رسميا أواخر هذا الشهر.

بدأت كريمة تخفف من "سرياليتها" فهي ترتدي اليوم ثوبا رماديا عاديا ولعل ذلك لإرضاء شاكر الذي لا يحب هذه "الصرعات". وأما هو فبدأ يهتم بأناقته ولم نعد نراه بتلك البدلة اليتيمة.

سمير تحول إلى الصفحة الاجتماعية ليحل محل شاكر ويبدو أنه أصبح أكثر التصاقا بالواقع الجزائري منذ الزلزال الأخير. وقد أعد مع مسعودة زاوية جديدة في غاية الأهمية بعنوان: "ماذا يريد المواطن من الحكومة؟"، وعملا طيلة شهر أوت لإنجاز الملف الأول منها.

رفرفت روح حفيظة داخل القاعة وشغل مقعدها وجه جديد؛ مصور شاب من واد سوف، وشغلت رسامة موهوبة واعدة من بو اسماعيل مقعد الكاريكاتير سليمان الذي سافر إلى فرنسا واستقر هناك.

أخبرتنا المديرة بأن السفارة العراقية أكدت لها خبر اختطاف ساطع عبد الحسين مع عدد من الصحفيين كانوا يعدون لإصدار جريدة في بغداد وانقطعت أخبارهم منذ ذلك الوقت. وكلما سمعنا خبرا عن قتل رهائن أو عن انفجار أو قصف يزداد قلقنا عليه وعلى أهلنا كلهم في العراق.

 *

قرأت علينا آسيا افتتاحية عدد هذا الأسبوع:

"حين فكرت في إصدار جريدة مع زملائي، كنت أريد أن تضم مختلف الآراء والتيارات، وأن تكون مفتوحة لكل الجزائريين، وأن يكون شعارها الدفاع عن الحق والعدل والحرية. ولكنني تعلمت خلال الأشهر القليلة الماضية أن الجريدة ليست مجرد منبر لعرض الآراء، بل يجب أن يكون لها خط واضح. لابد أن تتخذ مواقف وتخوض معارك للدفاع عن قيم هذا الخط، ولا يمكن أن تكون المواقف متناقضة.

الجريدة التي ليس لها خط واضح هي بلا وجه ولا شخصية ولا يثق بها القراء، ولا يمكن أن تساهم في تكوين الرأي العام وحشده وراء القضايا العادلة. ما زلنا على عهدنا، ندافع بصلابة عن مبادئنا. خطنا معتدل ليس فيه تطرف ديني أو لغوي أو حزبي لأننا نريد وحدة الجزائريين".

كان واضحا أن المديرة تريد أن تقول إن الجريدة ليست مع الخط الذي كانت تمثله رئيسة التحرير، ولا مع الخط الذي كان يمثله عزوز الكاسر.

بدأ استعراض مواد العدد. فتح سمير ومسعودة ملفهما الأول: "ماذا يريد المواطن من وزارة التربية؟"

يتضمن الملف مطالب المعلمين والأساتذة والنقابات والطلاب وأولياء التلاميذ وآراء المختصين في المناهج والبرامج، على أن يبقى الملف مفتوحا طيلة شهر كامل للمناقشة.

 *

توقف الاجتماع لدقائق لتتمكن آسيا من الرد على هاتف هام في مكتبها. قلت لسماح وأنا أريها قصيدة لشاعر حصل على جائزة مفدي زكريا في العام الماضي:

"كم بيتا يمكنني أن أختار منها لتنسجم مع إخراج الصفحة؟"

أجابتني ضاحكة: "لن أحذف منها بيتا واحدا. الإخراج لا يهتم بالشكل وحده بل بالمضمون أيضا وسوف أوفق بينهما وأحافظ على القصيدة كاملة. لن يمس المقص الشعر الجيد بعد اليوم. هل أنت راض عني الآن؟" وهمست في أذني: "ياحبيبي".

-      "كل الرّضا" وهمست في أذنها: "ياحبيبتي".

-      "بماذا تكافئني إذا؟"

-      "اطلبي ما تريدين".

-      "أريد عن كل بيت..."

ضرب عبد الحفيظ على الطاولة بعد عودة آسيا قائلاً: "كفى همساً". واستؤنف الاجتماع.

نظرت إلى صور الصحفيين المعلقة على الجدار ثم إلى عبد الحفيظ وآسيا وإلى من حولي من الزملاء متسائلا: "هل هناك جدوى مما نكتبه ومما نقوم به في هذا البلد وفي هذا العصر؟"

لست أدري بالضبط، ولكنني مقتنع الآن بعد تجربتي المتواضعة بأننا لن نستطيع وحدنا كصحفيين تغيير العالم، ولكننا نستطيع المساهمة في تغييره وترقيته وتنويره. كل قلم واع وصادق يستطيع المساهمة في هذا التغيير. عالم بلا صحافة وبلا إذاعة وبلا فضائيات هو عالم معتم مظلم لا شك في ذلك. فهي مصابيح التنوير التي تنشر الوعي والأدب والفكر والفن، وهي جسور المودة بين أبناء الوطن الواحد وبين الشعوب والأعراق والأمم، تدافع عن قيم الحق والعدل والحرية، وتراقب وتفضح كل من يمسها أو يحاول طمسها.

 

"تمت الرواية بحول الله"

 

ملاحظة: شخصيات الرواية خيالية بما في ذلك شخصية الشاعر كامل الحر.

 

 لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الورقة الثالثة عشرة: انتصار الحب

للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: حبٌّ في قاعة التحرير

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات