الفصل الثاني

 

من مسرحية عطلة السيد الوالي

 

للكاتب عبد الله خمّار

 

 

المشهد الأول

 

    [يفتح الستار على صالون في شقة مظلمة يتسلل إليها من نافذة صغيرة نور ضعيف. يدخل الوالي وولده سليم وهو طفل في العاشرة من عمره، نحيل، أسمر، يبدو واجما وكئيبا. وهو يرتدي سروالا قصيرا أزرق وقميصا أبيض، أما الوالي والمستشار فيرتديان بدلتين صيفيتين عاديتين من نوع "سفاري" لا تنمان عن شخصيتيهما، زرقاء للوالي و"بيج" للمستشار، وينتعلان صندلين باللون الأسود للوالي والبني للمستشار. ويحملان حقيبتين جلديتين عاديتين. يجلس الولد على الكرسي الجلدي في الصالون بينما يبقى الاثنان واقفين.]

المستشار: هل يمكن أن تشرح لي كيف نركب سيارة أجرة وسيارات الولاية تحت تصرفنا؟

الوالي: لأني لا أريد أن يعرف أحد أين نقضي عطلتنا.

المستشار[متذمرا]: أين نحن؟ وماذا نفعل في هذا الحي الكئيب، وهذه الشقة المظلمة، وهذا الحر الشديد؟

الوالي: هذا هو المكان الذي سنقضي فيه عطلتنا. اسمه حي المنصورين وهو في الحقيقة حي المقهورين والمحقورين. أشعل النور.

المستشار[متذمرا]: أشعل النور في التاسعة صباحا؟ ألا تدخل الشمس إلى هنا؟

الوالي: يجب أن نجرب كيف يعيش المواطن؟

المستشار: نجرب في العطلة وفي هذا الحي الكئيب! ظننت أننا سنقضي العطلة في تونس على شاطئ البحر.

[يبحث عن زر الكهرباء ويشعله. نرى الصالون وقد فرش بسجادة مهترئة فوقها كنبة جلدية طويلة، مواجهة للجمهور، بنية اللون، تغير لونها لقدمها. ووضع فوقها غطاء صوفي أحمر يغطي الثقوب التي فيها. وعلى يمينها ويسارها كرسيان قديمان أحدهما جلدي على اليمين والثاني بلاستيك على اليسار يشكل كل منهما مع الكنبة زاوية حادة. وأمام الكنبة مائدة صغيرة. أما الجدار المدهون بالكلس الأبيض فتظهر فيه بعض التشققات، وقد علقت على الجانب الأيسر، بعض الآلات الموسيقية: عود قديم وقيثارة متقابلان وفوقهما علق طار كبير ودفان صغيران، بينما يُرى في الوسط باب غرفة مغلق. أما جانب الجدار الأيمن فعلقت عليه صور لفنانين جزائريين وعرب نرى منها العنقا، أحمد وهبي، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش. وعلى المائدة الصغيرة بجانب الكنبة الطويلة، وضعت عدة نايات خشبية ومعدنية بأحجام مختلفة. جدار غرفة الصالون على اليسار فيه مدخل يؤدي إلى المطبخ والحمام وإلى باب الشقة وهو الطريق الوحيد للدخول والخروج. جدار غرفة الصالون على اليمين تغطي جزءا منه خزانة قديمة ذات واجهة زجاجية تظهر منها بعض الصحون والكؤوس. وفوقها نافذة صغيرة، يتسلل منها شعاع نور ضعيف. ينهض الطفل سليم ويخاطب أباه.]

سليم[يتأتئ قليلا]: أريد أن..أن أذ..أذهب إلى الحمـ..حمّام.

الوالي: خذ منشفتك من الحقيبة وابحث عن الحمام من هنا[يشير إلى جهة اليسار. يفتح سليم الحقيبة ويأخذ منشفة ويتوجه إلى الحمام، بينما يتابع الوالي حديثه مع المستشار]: أوهمت الجميع بأنا ذاهبان إلى تونس حتى لا يعرف أحد أننا هنا، وخاصة رئيس الديوان فأنا أشك أنه أحد أسباب المشاكل التي تحدث في المدينة.

المستشار: لماذا نقضي العطلة في هذا الجحر ونحن متخفيان؟

الوالي: هل كنت تظن أننا سندير ظهرنا لمشاكل المدينة، ونذهب فعلا لقضاء العطلة؟ سيكون هذا جريمة في حق الشعب الذي نحن في خدمته وجريمة في حق أنفسنا.

المستشار[متأففا]: الحر شديد هنا، والجو خانق، لو بقينا في المكتب وبدأنا حل المشاكل في جو ألطف.

الوالي: مشاكل المدينة لا تحل في المكاتب المكيفة. هل رأيت الطرق المحفرة في هذا الحي والأقذار في كل مكان والأبنية المهترئة ولا لون لها؟ هل هذا حي من المدينة التي أديرها؟

المستشار: صحيح، لم أكن أظن أن هناك حيا متدهورا بهذه الصورة. ظننت أننا قضينا على الأحياء القصديرية لكن الحياة هنا أسوأ. لماذا اخترت هذا المكان بالذات؟

الوالي: حدثتني السكرتيرة أنيسة عن هذا الحي ومشاكله واتفقت معها على أن تستأجر لنا هذه الشقة.

المستشار: ومن صاحبها؟

الوالي: هي لموظف عندنا يعمل راقنا في الولاية وهو يقضي العطلة في تونس وتعود أن يؤجرها في الصيف.

المستشار: يبدو أنه ليس راقنا فحسب بل هو موسيقي أيضا. انظر إلى هذه الآلات والصور.

[يقرع جرس الباب فيذهب المستشار ليفتح ثم يعود وتدخل معه السكرتيرة أنيسة تحمل حقيبة يد في يمينها وكاميرا تصوير صغيرة في يدها اليسرى.]

السكرتيرة: مرحبا بكما في حي المحقورين.

الوالي: مرحبا بك.

السكرتيرة: لقد نظفت الشقة بالأمس وأحضرت لكما أغطية للأسرة، هناك سريران في غرفة النوم تلك. [تشير إلى صدر الصالون]: وهذه الكنبة في الصالون.  

المستشار: ينام السيد الوالي وابنه في غرفة النوم وأنام على الكنبة.

السكرتيرة[تشير إلى اليسار]: المطبخ والحمام من هنا. يجب أن يبقى باب غرفة النوم مفتوحا دائما ليدخل النور إلى الشقة. [تفتح باب غرفة النوم فيدخل النور إلى الصالون، وتطفئ الكهرباء.] هكذا أفضل.

الوالي: هل أحضرت الرخصة التي طلبتها منك؟

السكرتيرة: نعم. [تفتح حقيبة اليد]: هذه هي. وضعت لكل منكما الاسم الحقيقي واسم الأب بدل اللقب. لا ينقص إلا توقيعك.

الوالي[يقرأ]: يطلب الوالي من كافة السلطات العمومية تسهيل مهمة الصحفيين السيدين مختار عبد الحميد وصالح عمار من جريدة أخبار المدينة. وها أنا أوقع. [يوقع الورقة.]

المستشار: ما معنى هذا؟

الوالي: معناه أنك أصبحت صحفيا. هل تجيد استعمال الكاميرا؟

المستشار: طبعا.

الوالي: إذا سنجري أحاديث مع سكان الحي، ونلتقط الصور.

المستشار: فهمت. إنها الطريقة المثلى لمعرفة مشاكل الحي ولكن ربما عرفنا أحد من سكان الحي.

السكرتيرة: اطمئنا، لن يعرفكما أحد، فسكان هذا الحي لا يعرفون أين يقع مبنى الولاية. [تخاطب الوالي]: وزيادة في الاحتياط أحضرت لك هذه "الباروكة" اشتراها أخي ليغطي صلعته ولم يستعملها، وهذه النظارات. [تسلمه باروكة بالشعر السود الأملس والنظارات فيضعها ويسأل]: ما رأيكم؟

المستشار[مندهشا]: ممتاز! لن يعرفك أحد بهما أبدا.

الوالي: هل اتصلت بالدكتور دلال الخير؟

السكرتيرة: اتصلت به وشرحت له كل شيء. [تنظر إلى الساعة]: حان موعد وصوله.

[يقرع جرس الباب فتخرج السكرتيرة، ثم تعود ومعها الدكتور دلال الخير.]

د. دلال الخير: صباح الخير سيدي الوالي.

الوالي: صباح الخير. أنا هنا لست الوالي. أنا صحفي جئت لأجري تحقيقا عن المشاكل في أحياء المدينة. أما أنت فستذهب إلى حي النشاط لتكشف سبب مناعة سكان ذلك الحي وعدم إصابتهم بالاكتئاب.

السكرتيرة: وهذه ورقة مهمة الدكتور ينقصها توقيعك.

الوالي[يأخذ الورقة من السكرتيرة ويوقع عليها]: أنت الآن في مهمة يا دكتور بتكليف من الولاية وأرجو أن تنجح في مهمتك.

د. دلال الخير: سأبذل جهدي، علنا نستطيع إيجاد لقاح لهذا الوباء. إلى اللقاء.

الوالي: أرجو لك التوفيق ورافقتك السلامة.

[يخرج الدكتور.]

السكرتيرة: هل تريد شيئا يا سيدي؟

الوالي: كما اتفقنا، أريد أن تسجلي كل ما يحدث في غيابي.

السكرتيرة: وضعت مسجلة في المكتب ومسجلة عندي. سأسجل اجتماعات رئيس الديوان ومكالماته فهو يداوم الآن في مكتبك. نلتقي في مساء الغد.

الوالي: مع السلامة. [تخرج السكرتيرة.]

[تطفأ الأضواء.]  

 

المشهد الثاني

                                              

[تنار الأضواء من جديد فنرى المستشار نائما على الكنبة في الصالون. يسمع صوت عنيف ثم صوت كسر زجاج وتسقط كرة القدم على الكنبة من النافذة الصغيرة، فيهب المستشار مفزوعا. يفتح باب غرفة النوم ويخرج سليم فيدخل ضوء النهار إلى الصالون.]

المستشار[منزعجا وهو يمسك كرة القدم]: من فعل هذا؟

[يقرع جرس الباب فيشير المستشار إلى سليم أن يفتحه. يعود سليم ويدخل معه طفل في العاشرة من عمره ويرى الكرة في يد المستشار.]

الطفل[مستعطفا]: أعطني الكرة ياسيدي.

المستشار: ما اسمك؟

الطفل: طارق ياسيدي؟

المستشار: ابن من؟

طارق: ابن الأستاذ مصطفى ياسيدي.

المستشار[ساخرا]: أبوك أستاذ يربي الناس ولا يربي ولده!

طارق: بل رباني أحسن تربية يا سيدي.

المستشار: والدليل أنك تكسر زجاج الجيران.

طارق: لكنني لم أكسر الزجاج.

المستشار: من كسره إذا؟

طارق: الأطفال ياسيدي، وأنا جئت لأسترد كرتي.

المستشار[بحزم]: أحضر أباك ليدفع ثمن الزجاج المكسور ويسترد الكرة.

 طارق: أبي مات منذ سنوات.

المستشار: أحضر أمك إذا.

[يخرج طارق ثم يعود ومعه مجموعة من الأطفال بين التاسعة والعاشرة.]

المستشار[غاضبا]: كيف تدخلون دون استئذان؟

أحد الأطفال: نريد الكرة ياسيدي.

المستشار: يجب أن تعترفوا أولا بمن كسر الزجاج.

طفل ثان: الكرة هي التي كسرت الزجاج.

المستشار: ما دامت الكرة هي المسؤولة سأقطعها بالسكين.

طفل ثالث: كلنا كنا نلعب وكلنا مسؤولون.

المستشار: ليحضر إذا كل منكم أباه لأتفاهم معه.

[يخرج الوالي من غرفة النوم.]

طارق[يخاطب المجموعة]: ليكسر كل واحد منا لوحا من الزجاج ويحضر أباه، وبذلك نتحمل المسؤولية ونحضر آباءنا جميعا.

المستشار[غاضبا]: ماذا تقول يا غبي؟

طارق: أليس هذا ما تريد ياسيدي؟

الوالي[يأخذ الكرة من المستشار ويعطيها لطارق]: خذوا كرتكم والعبوا بعيدا عن هنا.

طفل رابع: لكننا نسكن هنا يا سيدي.

الوالي: أليس هناك ملعب في هذا الحي تلعبون فيه؟

طارق: لو كان هناك ملعب ما لعبنا في الشارع. لكننا نعدك ألا نقذف الكرة في اتجاه النوافذ.

[يخرج الأطفال ويعود طارق. ينظر إلى سليم مليا.]

طارق: تعال العب معنا. [يقذف إليه الكرة فجأة فيتلقاها آليا ثم يرميها له ويخرج طارق. يعود الوالي إلى غرفة النوم بينما يتوجه المستشار إلى الحمام من الجهة اليمنى ومعه منشفة. يدخل طارق من الجهة اليمنى نفسها يحمل الهارمونيكا ويعزف بها لحن "البارح كان في عمري عشرين". فجأة يحمل سليم أحد النايات الموضوعة على الكنبة ويحاول أن يعزف اللحن نفسه ثم يعزفان معا. يخرج الوالي من غرفة النوم فلا يحسان به فيختبئ ويراقبهما وهما يعزفان. يجلس الطفلان ويتحاوران.]

طارق: هل تستطيع أن تفعل هكذا. [يجمع أصابعه اليمنى معا يدق على الجانب الأيمن من صدره بينما أصابع كفه اليسرى مبسوطة وهو يمسح بها الجانب الأيسر من صدره علوا وهبوطا في الوقت نفسه. يحاول سليم أن يفعل ذلك وينجح في النهاية.]

طارق: هل أنت أخرس؟  [لا يجيب سليم.]

طارق[يخاطبه بالإشارة ويضع يده على فمه مكررا نفس السؤال]: هل أنت أخرس؟

سليم[يهز رأسه بالنفي ويعني]: لا لست أبكما.

طارق[بالإشارة]: لماذا لا تتكلم إذا؟

سليم[يتكلم ويتأتئ قليلا]: لا..لا أدري ما..ماذا أقول.

طارق[متعجبا]: لماذا تتأتئ في الكلام؟

سليم[يتأتئ]: لا..لا أدري.

طارق: تعال معي.

سليم[مترددا]: إلى..إلى أين؟

طارق: سنعزف معا على "السانتيتيزور". [يسحبه من يده.] لا تخف نحن نسكن تحت. [يستسلم سليم ويخرج معه.]

[يخرج الوالي من مخبئه ويعود المستشار من الحمام.]

المستشار: أين سليم؟ كأني سمعته يتكلم مع طفل آخر.

الوالي: حدثت معجزة، معجزة حقيقية. تكلم سليم مع ابن الجيران طارق وعزفا الموسيقى معا ثم نزلا معا إلى شقة الجيران. لم أكن أعرف أنه موهوب.

[تطفأ الأضواء ثم تنار من جديد.]

 

المشهد الثالث

                                              

[يدخل سليم وتبدو عليه الحيوية وهو يجر طارق من يده، ويتحاوران ببراءة.]

سليم: تعال، اد..ادخل. أبي ليْـ..ليس هنا.

طارق[يتلفت]: ولكنه سيأتي بعد قليل، ولا أحب أن يراني هنا.

سليم: لا..لا تخف. أبي رجل طيْـ..طيب. عصـ..عصبي قليـ..ليلا.

طارق: لا أدري كيف تستحمله؟ كيف رضيت به أبا؟ أنا لا أرضى يمثله أبا لي.

سليم: هو يصـ..يصرخ كثيـ ثيرا ولا..لا يفعل شيـ..شيئا.

طارق: هل يضربك؟

سليم: لا..لا..لا، لا يضـْ.. يضربني. هل..هل يضـ يضربك أبو..أبوك؟

طارق: أبي توفي منذ أربع سنوات. كان يحبني ولا يضربني. قل لي في أي قسم أنت؟

سليم: في السّـ.. السنة الخا..الخامسة.

طارق: وأنا كذلك.حاول أن تتكلم مثلي دون تأتأة.

سليم[يستجمع قوته ويقول ببطء ودون تأتأة]: سأحاول.

طارق: كيف حال المعلمين؟

سليم[يبطئ في الكلام وينطق كلمة كلمة ويحاول ألا يتأتئ]: أحب معلمة اللغة والتاريخ فهي تحكي لنا حكايات جميلة وتحضر لنا القصص وأكره معلمة الحساب.

طارق: لماذا؟

سليم[يبطئ في الكلام دون تأتأة ولكن بصعوبة]: هي قاسية علينا، ولا يهمها من تعلم ومن لم يتعلم. تعمل مع ثلاثة في القسم فقط تسميهم الأذكياء. وتعتبرنا جميعا أغبياء، تشتمنا وتحقرنا وتضع لنا أصفارا. أنا أكرهها وأنت؟

طارق: أنا أحب معلمة الحساب لأنها لطيفة، ولا تفرق بيننا في المعاملة. لماذا  كنت تتأتئ في الكلام؟

سليم[يتكلم بصعوبة ودون تأتأة في بقية الحوار]: لا أدري، قال الطبيب لأبي إني مريض نفسيا.

طارق: وهل أنت مريض؟

سليم: لا أدري.

طارق: بماذا تحلم أن تكون في المستقبل؟

سليم: أنا لا أدري، وبماذا تحلم أنت؟

طارق: أنا محتار. أحلم أحيانا بأن أكون لاعبا دوليا في كرة القدم لأربح الملايين، ألعب في الخارج وألعب في الفريق الوطني وأسجل الأهداف وتصفق لي الجماهير. وأحيانا أحلم بأن أكون رائد فضاء لأني أحب الصعود إلى النجوم. كنت في صغري أحلم أن أكون معلما مثل أبي، كانت أمي تقول لي :"أبوك من رجال التربية الكبار ليتك تكون مثله في المستقبل". وعندما كبرت قليلا كنت أسمعها تعايره.

سليم: تعايره ! ماذا كانت تقول له؟   

طارق: كانت تقول له : أنت لا تصلح إلا للقراءة والكتابة. لو كنت في البلدية أو في الحزب أو في مجلس الأمة لوفرت لنا مسكنا جيدا وحياة معقولة، لكنك تكتب وتقرأ ولا تربح شيئا.

سليم: وبماذا يرد عليها؟

طارق: كان يبتسم فقط. أصبحت أحلم بعدها بأن أكون موسيقيا كبيرا مثل صديق أبي الأستاذ عبد المجيد فهو ملحن كبير يعزف على كل الآلات وخاصة البيانو ويؤلف أجمل الألحان.

سليم: رائع، أنت تحب الموسيقى تعزف جيدا وستكون موسيقيا كبيرا.

طارق: لا أريد أن أكون موسيقيا.

سليم: لماذا؟

طارق: لأني اكتشفت أن الأستاذ عبد المجيد الذي درس الموسيقى في أوروبا وحصل على شهادة عليا يعزف في ملهى ليلي يعني "كباريه" لمن يشربون ويسكرون ويرقصون.

سليم: كيف عرفت؟

طارق: أبي اخبر أمي بذلك، قال إنه مضطر للعمل في الملهى ليطعم عائلته. وأنا الذي كنت أظن أنه ملحن كبير في التلفزيون.

سليم: ولماذا لا يعمل في الإذاعة أو التلفزيون؟

طارق: لا أدري، قالت أمي: إن الفن في بلادنا ليس له مستقبل، لذلك لا أريد أن أكون موسيقيا. سأكون لاعب كرة قدم أو رائد فضاء. وأنت بماذا تحلم؟

سليم: أحلم بأن أرى أمي.

طارق: ستراها، وبعد أن ترى أمك؟

سليم: حلمي الوحيد الآن هو أن أراها.

طارق[يتجه إلى الباب]: تعال معي.

سليم: إلى أين؟

طارق: أمي أعدت لنا وجبة "بيتزا" باللحم والسمك وقالت لي:"أحضر سليم معك". هيا بنا. [يخرجان.]     

المشهد الرابع

 

[يدخل الوالي والمستشار. يجلس الوالي على الكنبة الطويلة بينما يجلس المستشار على الكنبة المفردة على يساره.]

الوالي: كانت خطبة الجمعة اليوم عن الفساد وتبذير أموال الدولة في المشاريع التي لا تكتمل.

المستشار: هاجم الخطيب المسؤولين والإطارات في الولاية واتهمهم بالتحايل على الشعب.

الوالي: لم يذكرني بالاسم لكنه ذكر أن المسؤول الأول في الولاية يتحمل نتائج ما يحدث.

[يقرع جرس الباب فيخرج المستشار ثم يعود ومعه الجارة السيدة نسيمة.]

المستشار: تفضلي يا سيدتي. [ينهض الوالي لاستقبالها ويجلسها عن يمينه.]

نسيمة: أنا أم الطفل طارق. من منكما أبو سليم؟

الوالي: أنا. اسمي مختار عبد الحميد، وهذا زميلي صالح عمار. نحن صحفيان من جريدة أخبار المدينة.

نسيمة: أعتذر لأن ابني كسر الزجاج وجئت لأدفع ثمن اللوح الذي كسر.   

الوالي: هو لم يكسره عمدا فلا لزوم لأن تقلقي. أليس هناك ملعب في الحي للأطفال؟

نسيمة: كانت هناك أرض خصصت لإقامة ملعب، لكن رئيس البلدية منحها لمقاول يبني عليها الآن شقق ليبيعها.

الوالي: لماذا لم تذهبوا إلى رئيس البلدية وتعترضوا على هذا الإجراء.

نسيمة: ذهبنا فأرانا رئيس البلدية قرارا موقعا من الوالي بمنح هذه الأرض لهذا المقاول، وهو معروف بعلاقته بالوالي، فهو يحتكر مشاريع الولاية.

الوالي: ما اسمه؟

نسيمة: السيد عباس وكل الناس تعرفه.

الوالي[بينه وبين نفسه بحيث يسمعه الجمهور]: لا أعرفه ولم أسمع به.[للمستشار]: هل تسمع؟

المستشار: نعم أسمع.

الوالي: نحن صحفيان جئنا نجري تحقيقا حول ما يجري في هذا الحي ويهمني أن تدلي بشهادتك ياسيدة ....

نسيمة: اسمي نسيمة، لكن اعفني يا سيدي، فأنا أرملة أربي طفلي الوحيد. مات أبوه منذ أربع سنوات بحادث سيارة. كان قادما من البويرة في حافلة اصطدمت بشاحنة.

الوالي: رحمه الله. وهل تخافين من الشهادة؟

نسيمة: أنا لا أخاف على نفسي. أخاف على ولدي من أذاهم.

الوالي: من هم؟

نسيمة: رئيس البلدية والوالي وعباس فهم أقوياء والسلطة معهم.

الوالي: هل تعملين يا سيدتي؟

نسيمة: نعم. في الأساس أنا ممثلة وخريجة معهد الفنون الدرامية وأجيد الغناء أيضا، ولأن الفن في بلادنا لا يطعم خبزا فتحت محلا صغيرا لتصميم الأزياء.

الوالي: كيف تخليت عن الغناء والتمثيل بهذه السهولة؟

نسيمة[تردد متعجبة]: بهذه السهولة! لم أتخل عنهما بسهولة.[بحماس]: الفن يجري في عروقي، الغناء والتمثيل هما حياتي، الهواء الذي أتنفسه، والماء الذي أشربه. لم أتخل عنهما، لكنهما تخليا عني.

الوالي: ماذا تقصدين؟ هل أخرجوك من النقابة أو منعوك من الغناء والتمثيل؟

نسيمة: أية نقابة؟ وهل لنا نقابة؟ لم يمنعني أحد بالتحديد، لكن الظروف كلها ضد الفنان في بلادنا. ومع ذلك لم أعتزل الغناء ولا التمثيل، اعتزلت الأغاني الهابطة والأدوار السخيفة. كنت أحلم دائما بأن أمثل الشخصيات العظيمة في الجزائر وفي تاريخنا العربي الإسلامي.

الوالي: أين المشكلة؟ هل هي مشكلة كُتـّاب؟

نسيمة: لا، الكتاب موجودون والممثلون موجودون والمخرجون موجودون. المنتج غير موجود. المنتجون الخواص لا يجرؤون على إنتاج الأغاني والدراما الجيدة لأنها مكلفة وهم يريدون الربح بأقل التكاليف. 

الوالي: والقطاع العام، أقصد التلفزيون والإذاعة؟

نسيمة: التلفزيون والإذاعة تخليا عن مسؤوليتهما في إنتاج الأغاني والدراما. أصبحت معظم برامجهما سياسية أو حصص تنشيط إعلامية لا ثقافية.

الوالي: هذا مؤسف.

نسيمة: هل تعلم أن صاحب هذه الدار موسيقي وملحن؟

الوالي: استنتجت ذلك من الآلات الموسيقية المعلقة على الجدار.

نسيمة: يعمل نهارا في البلدية وليلا في الأعراس والكباريهات. طلب مني أن أعمل معه كمطربة بأجر كبير لكني رفضت لأني أحترم فني.

الوالي: من يحترم فنه يستحق كل الاحترام والتقدير.

نسيمة[تخاطب الوالي]: أريد أن استأذنك في ذهاب سليم معنا لقضاء بقية اليوم وغدا عند أختي على الساحل في الولاية المجاورة. هو منسجم مع طارق، يعزفان الموسيقى ويرسمان. أرجو أن توافق لأنهما سعيدان معا.

الوالي: بكل سرور. وشكرا لك ياسيدة نسيمة على العناية بولدي.

نسيمة: أستأذن إذا. [تخرج ويخرج معها ليودعها ثم يعود.]

الوالي: حان وقت الغداء واليوم دوري في إعداد الطعام، سأذهب إلى المطبخ.

 

المشهد الخامس

 

[يقرع جرس الباب فيذهب المستشار ليفتح ويدخل معه بسرعة رجل معمم بعمامة صفراء ويلبس ثوبا طويلا أبيض. ويدخل بعده المستشار.]

المستشار[غاضبا]: هل تدخل دون استئذان؟ من أنت؟ وماذا تريد؟

رابح: أعرفك بنفسي، اسمي الحاج رابح الساطي. رأيتك مع زميلك في المسجد وسمعت أنكما ساكنان جديدان في الحي. أنتما مستأجران، أليس كذلك؟

المستشار: بلى.

رابح: دخلتما في قلبي من أول نظرة، لذلك أردت أن أخدمكما.

المستشار: تخدمنا بماذا؟

رابح: هل تسمح لي بالجلوس؟ [يجلس على الكنبة دون أن يجيبه المستشار. يتابع]: أخدمكما بسكن، ألا تريدان الحصول على سكن؟

المستشار[بنفاد صبر وهو واقف]: لا. لا نريد. [يسمع صوت تصفيق من الداخل فيقول]: انتظر، سأسأل زميلي. [يدخل إلى غرفة النوم ثم يعود ويترك الباب مفتوحا ويقول]: زميلي يريد الحصول على سكن، كيف؟

رابح: أنا سأدبر لكما السكن فالوالي إنسان شريف ويحب مساعدة المحتاجين.

المستشار[يجلس على الكرسي الجلدي على يسار الكنبة بحيث يرى باب غرفة النوم كما يراه الجمهور، بينما الجالس على الكنبة لا يراه لأنه وراءه.]: لكن الناس يقولون عنه غير ذلك.

رابح: لأنهم لا يعرفونه.

المستشار: هل تعرفه؟

رابح: سبحان الله. مختار ابن خالتي، أمي وأمه شقيقتان. تربيت معه في بيت واحد.

المستشار[ينظر إلى الوالي الذي ظهر في مدخل غرفة النوم]: لم أكن أعرف أن للوالي ابن خالة.

رابح: هو يحب الناس ويحب أن يخدمهم لكن حاشيته سيئة مع الأسف. اكتشف في السنة الأولى أنهم يخدعونه فاستدعاني وقال لي: " أريدك أن تساعدني في معرفة المواطنين المحتاجين فعلا للسكن حتى لا تذهب المساكن إلى غير أصحابها".

المستشار: هل هو الذي قال لك ذلك؟

رابح[بلهجة العارف]: سبحان الله، طبعا. ولأنني مثله أحب أن أخدم الناس الطيبين، تركت أرضي وزراعتي وأتيت إلى المدينة أتنقل بين الأحياء لمساعدة أصحاب الحقوق في الحصول على مسكن.

المستشار: قلت إن حاشية الوالي سيئة. من تقصد؟

رابح: رئيس ديوانه الخبيث ومستشاره البغل. هو يشكو لي دائما منهما. [يظهر الوالي في مدخل غرفة النوم المفتوحة يبتسم متشفيا في المستشار.]

المستشار[منزعجا]: كيف يعينه مستشارا إذا كان كما تقول؟

رابح: تقصد إذا كان بغلا؟ ليس هو الذي عينه.

المستشار: من عينه إذا؟

رابح[بلهجة العارف بالأسرار]: سبحان الله، مراكز القوى. فرضوه عليه من فوق ليراقبه ويحسب تحركاته. القضية سياسية لا أستطيع أن أشرحها لك لأنك لن تفهمها.

المستشار: لا أستطيع أن أفهمها. طيب، والسكرتيرة.

رابح: السكرتيرة حفيظة سُكّرَة. إنسانة طيبة وخدومة. كلما زرته تستقبلني أحسن استقبال.

المستشار: سمعت أنها تزوجت.

رابح[بلهجة العارف بالأسرار]: إشاعة. لا يمكن أن تتزوج لأنها متزوجة. أريد أن أبوح لكما بسر: هل تعرف أين يقضي الوالي عطلته؟

الوالي: قل لنا أنت.

رابح: مع حفيظة في جزيرة في المحيط الهادي بعيدا عن أعين الناس.

الوالي: هما سيتزوجان إذا.

رابح: سبحان الله، هما متزوجان منذ سنة في السر ولا يستطيعان إعلان زواجهما حتى لا يقال إن الوالي تزوج سكرتيرته. سيعلنان زواجهما في الوقت المناسب.

المستشار: كيف عرفت أنهما متزوجان؟

رابح[بلهجة العارف]: سبحان الله. كنت شاهدا على زواجهما. لا أدري لماذا أبوح لكما بهذه الأسرار؟ ربما لأن قلبي انفتح لكما وأريد خدمتكما.

المستشار: هل تستطيع تدبير السكن بواسطته؟

رابح: طبعا، هو لا يرفض لي طلبا. لو لم يكن في عطلة لجعلتكما تقابلانه في الغد.

الوالي: دون موعد.

رابح: سبحان الله، يلغي كل مواعيده من أجلي. أنا ابن خالته. [يضحك الوالي.]

المستشار: تشرفنا. إذا أدركنا بسكن.

رابح: كيف تريده؟

المستشار: لم أفهم.

رابح: هل تريد فيلا أو شقة؟ وفي أي حي؟ وما عدد الغرف؟، وهل تريد المسكن فورا أم في المساكن التي يتم بناؤها بعد شهر أو سنة؟

المستشار: هل أستطيع أن أختار من كل هذا؟  

رابح: سبحان الله. طبعا، ولكن لكل مسكن ثمن.

المستشار: أنا لا أريد شراء المسكن نقدا. أريد مسكنا اجتماعيا أدفع ثمنه بالتقسيط من الأجرة.

رابح: مفهوم، مفهوم، طبعا لا بد من بعض التكاليف فأنا واسطة خير.

المستشار: تكاليف لمن؟ لك أم للوالي؟

رابح[بتعفف]: حاشا لله. سبحان الله، التكاليف مجرد تسبيق لحجز السكن.

المستشار: كم تبلغ التكاليف؟

رابح: عشرة ملايين سنتيم وأسلمك قرارا بالسكن موقعا من الوالي.

المستشار: عشرة ملايين كثير، انس الموضوع.  

رابح: هات خمسة ملايين لأنك رجل طيب.  

المستشار: المبلغ ليس معي الآن وغدا عطلة. يوم الأحد صباحا سأسحب المبلغ وتعطيني القرار موقعا من  الوالي.  

رابح [يخرج ورقة وقلما]: ما اسمك من فضلك؟

المستشار: قافز نقاز الحيط.

رابح: هل هذا هو اسمك؟

المستشار: سبحان الله، هل أبرز لك بطاقتي الشخصية؟

رابح: لا حاجة لذلك، ولكن لو أعطيتني شيئا على الحساب ولو بضعة آلاف على سبيل العربون.

المستشار: سبحان الله، يوم الأحد أعطيك المبلغ كاملا.

رابح:[يشم وينظر إلى جهة المطبخ]: أشم رائحة لحم مشوي.

المستشار: هذه الرائحة من عند الجيران نحن خارجان الآن للغداء.

رابح[يفرك يديه ويبتسم]: ممتاز سأدلكما على مطعم يقدم البوزلوف المشوي ونتغدى معا.

المستشار: ليس اليوم، فنحن مدعوان للغداء عند أحد الجيران .اترك لنا عنوانك وهاتفك وسنتصل بك.

رابح: لا لزوم لذلك، أنا سأتصل بكما.

المستشار[يمسك بالكاميرا]: انتظر لحظة.

رابح: ماذا تفعل؟

المستشار: سبحان الله، ألتقط لك صورة للذكرى، فأنا صحفي.

رابح[يفاجأ ويصدم]: صحفي! انس كل ما قلته لك أرجوك، فقد كنت أمزح.

[يخرج رابح هاربا.]

المستشار: مع ألف سلامة.

[يخرج الوالي ضاحكا.]

الوالي: هذا محتال من طراز عجيب لقد سمعت كل شيء. سيعرف رجال الأمن من صورته شخصيته الحقيقية وسينال جزاءه. تعال لنتناول الغداء في المطبخ.

[تطفأ الأضواء.]

المشهد السادس

 

[تنار الأضواء الخافتة من جديد على الصالون المظلم. يدق جرس الباب بقوة عدة مرات يخرج الوالي والمستشار من غرفة النوم وهما بثياب النوم ويشعل  المستشار نور الصالون.]

الوالي: من يدق الباب في هذه الساعة بعد منتصف الليل؟

المستشار: لا أدري. سأفتح الباب لأرى. [يخرج إلى جهة الباب، تدخل امرأة مسرعة في حوالي الثلاثين ترتدي ثوبا أحمر فاقعا، وحذاء أحمر بكعب عال، وتحمل حقيبة يد حمراء، وتضع ماكياجا صارخا على وجهها ويدخل وراءها المستشار.]

كروان[تتلفت يمينا ويسارا]: أين هو؟

المستشار: عمن تبحثين؟

كروان: عن خطيبي طبعا.

المستشار: لا أحد هنا غيرنا.

كروان: ماذا فعلتما به؟ قولا، اعترفا وإلا سأصرخ وأجمع الناس عليكما.

الوالي[بغضب]: من أنت يا امرأة؟ هل تعرفين كم الساعة؟ كيف تقتحمين بيوت الناس عند الفجر.

كروان[تضحك]: بيوت الناس! هذا بيت خطيبي وقد جئت لأراه. 

الوالي: وهل هذا وقت مناسب للزيارة؟

كروان: الآن فقط انتهيت من عملي.

المستشار: ماذا تعملين؟ ممرضة؟

كروان[تضحك بصوت عال]: ممرضة! [ تشير إلى ملابسها وماكياجها]: هل هذا شكل ممرضة؟

المستشار: لا تعمل في الليل إلا الممرضة والـ [يسكت ولا يكمل العبارة.]

كروان: لا لا لا، احترم نفسك أرجوك. أنا لست كما تظن. أنا فنانة محترمة. كنت أُسعد الناس وأطربهم طيلة الليل.

المستشار: في العرس طبعا.

كروان: لا، لست مغنية أعراس. [تظهر قرفها تم تتابع بفخر]: أنا أغني وأرقص في كباريه ليالي الأنس وهو أرقى كباريه في المدينة. الآن أريد أن أعرف أين هو؟ [تضرب الأرض بقدمها.]  

الوالي[يخاطب المستشار]: إنها سكرانة. [يشمها]: رائحة العطر القوية غطت على رائحة الخمر.

كروان: لا، احترم نفسك. أنا فنانة حرة، أفعل ما أريد. أشرب لكنني لا أسكر. [تضرب الأرض بقدمها من جديد]: أريد أن أعرف أين هو.

الوالي: الفن سلاح ذو حدين. إما أن يرفع الفنان والمجتمع إن كان فنا راقيا، أو يفسد الفنان والمجتمع إن كان فنا هابطا.

كروان: [تضرب الأرض بقدمها من جديد]: أريد أن أعرف أين هو.

المستشار: عمن تبحثين بالضبط؟

كروان: عن خطيبي صاحب هذه الشقة: "حميدو السقا".

الوالي: سافر في عطلة إلى تونس ليزور أخته.

كروان[تضحك بسخرية]: ليزور أخته، ليس له أخت في تونس.[تغير لهجتها وتقول بغضب]: لكنه سافر دون أن يأخذني معه.

المستشار: لو كان خطيبك فعلا لما أخفى عنك سفره.  

كروان: اتفقنا أن نذهب معا لنعمل في أحد الكباريهات بتونس، وصاحب الملهى أراد أن يأخذه وحده، لكنني لن اسكت. سأفضحه عند الوالي.  

المستشار: وما علاقة الوالي بالأمر؟

كروان: ألا تعلم؟  هو يعمل مستشارا عند الوالي.

الوالي[يلتفت متعجبا]: مستشارا! من قال لك ذلك؟

كروان: هو بنفسه أكد لي أن الوالي لا يقوم بأي عمل قبل استشارته، حتى أنه يستشيره في أكله وشربه.

الوالي: في أكله وشربه أيضا؟

كروان: نعم. لكن مستشار الوالي غبي.

الوالي: ماذا قلت؟

كروان: قلت إن مستشار الوالي غبي وحمار أيضا.

الوالي[للمستشار]: هل تسمع؟

المستشار: أنت تتجاوزين حدودك يا امرأة.

كروان: المستشار غبي وحمار، ومن عينه مستشارا غبي مثله.

المستشار[للوالي]: هل تسمع؟

الوالي: الآن، أنت تجاوزت الحدود فعلا.

كروان[تتابع دون أن تبالي]: سأفضحه، سأعلم الوالي أن مستشاره يعمل طبالا في ملهى ليالي الأنس.

الوالي[متعجبا]: طبال! كنت اعتقد انه موسيقي يعزف على العود.

كروان: نعم يعزف على العود والقيثار والناي، لكنه أيضا ضابط الإيقاع في ملهى ليالي الأنس. [تهز جسمها]: لا أستطيع أن أرقص وأغني إلا على إيقاع دربوكته.

الوالي: ما شاء الله ! يعمل في الولاية صباحا وفي الليل يضرب الدربوكة في ملهى، ماذا تقول ياصالح؟

المستشار: هذا مخالف للقانون طبعا. لكني اعتقد أن هناك سوء تفاهم. لو كان حميدو يعمل في الملهى لا نكشف منذ زمن.

كروان: لا، إنه يضع باروكة ونظارات على عينيه كي لا يعرفه أحد، لكني سأفضحه إذا لم يتزوجني عندما يعود من تونس.

الوالي: هل وعدك بالزواج؟

كروان: لا. [بتصميم]: أنا التي وعدته وصممت أن أتزوجه. عيب أن يبقى شاب في مثل سنه دون زواج، بعد أن طلق زوجته.

الوالي: إذا أنت آنسة؟

كروان: نعم، الآنسة كروان وهو اسمي الفني. اسمي الحقيقي بركاهم.

المستشار: بركاهم!

كروان: نعم، أمي رزقت بسبع بنات وكان أبي يريد الولد فحين ولدت سماني بركاهم.

الوالي: أنت لم تتزوجي إذا؟

كروان[بأسف وحزن]: بل تزوجت ثلاث مرات، لكن الحظ لم يحالفني. الأول مات بالسكتة القلبية في شهر العسل، والثاني سرق مجوهراتي التي اشتراها لي الزوج الأول فطلقني القاضي منه، والثالث قبض عليه في قضية مخدرات وحكم عليه بالمؤبد. [تبكي وتخرج منديلا من حقيبتها وتمسح دموعها]: لست محظوظة مع الرجال.

الوالي: لا تبكي يا سيدتي.

كروان: آنسة من فضلك فأنا مازلت آنسة.

المستشار: لن يطول غيابه، سيعود بعد أسبوعين.

كروان: لا، هو كذب عليكما كما كذب على الوالي. بعد خمسة عشر يوما سيدعي أن أخته مريضة ويمدد العطلة ثم يدعي أنها ماتت ويمددها فترة أخرى، وبعدها يرسل تقريرا طبيا بأنه مريض لأنه تأثر بوفاة أخته، وإذا وجد عملا مناسبا سيرسل استقالته في آخر الصيف.

الوالي: لماذا ؟ هل العمل في الولاية غير مناسب؟

كروان: العمل المناسب هو المربح أكثر، في تونس يدفعون له بـ"الدوفيز" والسياح يعطونه أيضا.

الوالي: وهل يتخلى عن عمله وعن تقاعده ببساطة؟

كروان: قل لي أنت، أنا لا أدري ماذا تعمل، ولكن إن وجدت عملا في الخارج مثل عملك الآن في هذه المدينة، ولكن بالعملة الصعبة "الدوفيز"، ماذا تفعل؟

الوالي[يسأل]: مثل عملي في المدينة وبالعملة الصعبة؟

كروان: نعم.

الوالي: وماذا تعتقدين أنني أفعل؟

كروان: تستقيل طبعا وتذهب إلى الخارج لتعمل "بالدوفيز". المسألة ليست بحاجة إلى تفكير. [تتثاءب]: أريد أن أنام، يكاد النعاس يقتلني. 

المستشار: ونحن أيضا نريد أن ننام، اذهبي واتركينا ننام.

كروان: أين أذهب في هذا الليل؟

المستشار: كما أتيت في الليل تذهبين في الليل. 

كروان: أوصلني صاحب الملهى وذهب. [تتذلل وتتدلل]: أين شهامتكما؟ هل تتركان امرأة ضعيفة تخرج وحدها في الليل؟

الوالي: نامي على هذه الكنبة حتى الصباح.

كروان: أخاف أن أنام وحدي.

المستشار: نعم، نعم، ماذا تقولين؟

كروان: ربما يأتي أحدكما بحجة شرب الماء أو ...

الوالي: لا تخافي نحن متزوجان ولدينا أولاد.

كروان[تضحك بسخرية]: متزوجان! زبائن الكباريه كلهم من المتزوجين، لكنهم ملهوفون. كأنهم لم يروا امرأة في حياتهم. [بتصميم]:أريد النوم في غرفة أغلقها بالمفتاح من الداخل.

الوالي[يصرخ فيها بحزم]: إما أن تنامي هنا أو تخرجي.

كروان: طيب، لا ترفع صوتك علي فأنا حساسة.

[يحضر لها المستشار غطاء من غرفة النوم وتتمدد على الكنبة، يدخل الوالي والمستشار إلى غرفة النوم وتطفأ الأضواء].

ستار

 لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الفصل الثالث

 

 لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الفصل الأول

 

للاطلاع على فصول المسرحية، انقر هنا: عطلة السيد الوالي

للاطلاع على المسرحيات الأخرى للكاتب انقر هنا: المسرحيّات