الفصل الأول

من مسرحية عطلة السيد الوالي

للكاتب عبد الله خمّار

 

المشهد الأول

 

[تفتح الستارة على مكتب الوالي. فيه طاولة مكتب فخمة مواجهة للجمهور على يسار المسرح وخلفها كرسي هزاز متحرك، وبجانب المكتب كرسيان جلديان فاخران يظهر كرسي المكتب في وسطهما. الأرض مفروشة بالسجاد الفاخر الأحمر. والجدران مطلية باللون الأصفر الفاتح. علقت على الجدار المواجه للجمهور لوحتان لرساّميْن جزائرييْن تتوسطهما لوحة كبيرة كتبت بماء الذهب وبخط جميل واضح: "الولاية تكليف لا تشريف.". وعلى يسار المسرح طاقم كنبات مؤلف من كنبة طويلة تتسع لثلاثة أشخاص في الوسط وكنبتين مفردتين على يمينها ويسارها. ضوء الشمس يتسلل إلى الغرفة من النافذة الموجودة على يمين المسرح والمغطاة بستائر بيضاء شفافة. تدخل السكرتيرة من باب المكتب الموجود على يسار المسرح والمتصل بمكتبها، وهو الباب الوحيد الذي يتم الدخول والخروج منه. تبدأ بترتيب طاولة المكتب وهي فتاة في حوالي الثلاثين، متوسطة الطول أنيقة،  تلبس ثوبا أزرق يصل بالكاد إلى الركبتين، وحذاء من نفس اللون، وتعتني بمكياجها وتسريحة شعرها.

يدخل رئيس الديوان وهو رجل في الخامسة والأربعين، أبيض البشرة، بدين، بطنه بارزة إلى الأمام، يميل إلى القصر، مستدير الوجه، شعره الأسود مسرح إلى اليمين واليسار مع فرق في الوسط. يضع نظارة طبية على عينيه. يرتدي بدلة خفيفة زيتية اللون وقميصا أبيض، ويضع ربطة عنق حمراء. يتكلم بصوت أجش.]

رئيس الديوان: صباح الخير يا حفيظة.

السكرتيرة: صباح الخير يا سيدي.

رئيس الديوان: أريد أن أذكرك أن اليوم هو 25 جويلية.

السكرتيرة: نعم يا سيدي. ذكرى مرور سنتين على عمل السيد الوالي. لم أنس ذلك.

[يقرع جرس الهاتف في مكتب الوالي، فتجيب السكرتيرة].

السكرتيرة: صباح الخير يا سيدي. من معي؟ السيد حنفي. سيدي الوالي لم يصل بعد.

[يشير إليها رئيس الديوان بأن تعطيه الهاتف.]

السكرتيرة: معك السيد رئيس الديوان.

رئيس الديوان:[يشير بيده إلى السكرتيرة أن تذهب ثم يحمل سماعة الهاتف]: قلت لك يا سيد حنفي لا تتصل بالوالي مباشرة. عليك ألا تظهر في الصورة فتفسد كل شيء.

حنفي: أريد دعوته إلى حفلة التكريم بمناسبة مرور سنتين على ولايته.

رئيس الديوان: سأبلغه الدعوة باسم جمعية حراس المدينة. يجب ألا يعرف أنك وراء هذه الجمعية فيرفض التكريم. [يسمع صوت جلبة]: أظن الوالي وصل، سأكلّمك فيما بعد. [يغلق رئيس الديوان الهاتف ويخرج.]

[يدخل الوالي وهو رجل في الأربعين، أسمر الوجه، معتدل القامة، يميل قليلا إلى الطول. يرتدي بدلة الوالي الزرقاء، ويضع على رأسه "كاسْكِيتة" زرقاء.  ينزعها فيظهر شعره الخرنوبي المجعد وكأنه مكوي. يخاطب السكرتيرة التي تدخل وراءه ويظلان واقفيْن.]

الوالي: ما أخبار المدينة يا حفيظة؟

السكرتيرة[مبتسمة]: أخبار طيبة يا سيدي. المدينة بخير ما دمت واليا عليها.

الوالي: أليست هناك شكاوى من المواطنين؟

السكرتيرة: لو كانت هناك شكاوى لعرضتها عليك ياسيدي.

الوالي: ألم يطلب أحد مقابلتي من المظلومين؟

السكرتيرة: ليس هناك مظلومون في عهدك ياسيدي.

الوالي: هل حضر المستشار؟

السكرتيرة: هو ينتظر قدومك. [تنظر إلى جهة الباب وتقول]: ها هو قادم يا سيدي.

[يدخل المستشار. وهو رجل في حوالي الأربعين، أبيض البشرة. نحيل الجسم. متوسط الطول. تخرج السكرتيرة].

المستشار: صباح الخير.

الوالي: صباح الخير. قل لي يا مستشاري العزيز. كيف أحوال المدينة؟

المستشار[بطريقة مسرحية]: اطمئن. فكل شيء على ما يرام، وليس في الإمكان أبدع مما كان.

الوالي: دائما تردد هذه العبارة. أتمنى أن أصدّقك بأن كل شيء على ما يرام.

[يدخل رئيس الديوان وهو يحمل ملفا في يده، وقد سمع العبارة الأخيرة.]

رئيس الديوان: صدّقه يا سيدي فهو يقول الحق. صباح الخير يا سيدي.

الوالي[وهو واقف بينهما]: صباح الخير.

رئيس الديوان: وكل عام وأنت بخير.

الوالي: ما المناسبة؟

رئيس الديوان: مرور عامين على تسلُّمك الولاية، وعلى نجاحك الباهر في إدارتها.

المستشار: كل عام وأنت بخير يا سيدي.

الوالي: وأنت بخير.

رئيس الديوان[بتذلل ونفاق]: والله إن كل سكان المدينة يلهجون بالثناء عليك. عملت مع خمسة وُلاة، ولم أر أكثر منك إخلاصا في العمل ونشاطا وعطفا على سكان المدينة. ليس في وجهك يا سيدي ولكننا دائما نتحدث عن تواضعك وطيبتك وحزمك. أليس كذلك يا سي صالح؟

المستشار: بلى. كل الناس يدعون لك بالخير يا سيدي.

رئيس الديوان: نسبة المساكن التي بدأنا بها هذا العام ازدادت خمسين بالمائة، ونسبة الطرق تجاوزت الأربعين بالمائة، ونسبة المدارس والثانويات الجديدة تجاوزت ثلاثين بالمائة. ليس هناك وال حقق مثل هذه الأرقام من قبل.

[تدخل السكرتيرة وتحمل باقة ضخمة من الزهور. ترتب الزهور وتجلب لها أصيصا تضعه على الطاولة الصغيرة بجانب الكنبات]:

الوالي: من أين هذه الزهور؟

السكرتيرة: من موظفي الولاية.

رئيس الديوان: إنه تعبير عن مشاعرهم وعرفانهم لما قدّمته من جهود في خدمة الولاية. وأنت مدعو في المساء لحفل تكريم بالمناسبة تقيمه جمعية حراس المدينة وتحضره شخصيات المجتمع المدني.

الوالي: لقد تعبت هذا العام كثيرا. كل يوم عمل مستمر، واجتماعات من الصباح إلى المساء. [بحماس]: لكن تعبي كله زال الآن بعد أن عرفت أن أحوال المدينة بخير وأن الناس سعداء بما أنجزناه من أعمال لصالحهم. أستحق الآن عطلة مريحة أقضيها مع ولدي الذي أهملت شؤونه طيلة العام.

رئيس الديوان: اقض العطلة وأنت مطمئن. فستسير الأمور على ما يرام كما لو كنت موجودا.

الوالي[يجلس على كرسي مكتبه بينما يجلس المستشار ورئيس الديوان على الكرسيين المتقابلين بجانب المكتب. أعرف أعرف. إن كنت نجحت فبفضل تعاونكم معي. أنت يا سي عامر، وأنت يا سي صالح وأنت يا حفيظة. أنا مدين لكم بهذا النجاح. نحن مجموعة منسجمة وأرجو أن  نستمر في العمل معا.

رئيس الديوان: مع الأسف، ستتركنا حفيظة لأنها ستتزوج في الشهر القادم وتسافر مع  زوجها.

الوالي: صحيح. مبروك يا حفيظة. تستطيعين بدء العطلة منذ الغد، لتستعدي للعرس.

السكرتيرة[تنهي ترتيب الزهور]: شكرا لك يا سيدي. اللجنة الاجتماعية في قاعة الاجتماعات في انتظار حضورك. [تخرج.]

الوالي[يحمل "كاسكيتته" وينهض]: سأذهب حالا.

رئيس الديوان: انتظر يا سيدي فقرارات اللجنتين الاقتصادية والصحية تنتظر توقيعك.

الوالي: سأوقعها بعد الاجتماع.

رئيس الديوان[بخبث]: إنها عاجلة يا سيدي. يجب أن نكسب الوقت.

المستشار: سأذهب إلى مكتبي.[يخرج]

الوالي: هل راجعتها جيدا؟

رئيس الديوان: راجعتها بدقة فلا تقلق.

الوالي: هات لأوقّع. [يفتح الملف ويبدأ الوالي التوقيع.]

[تطفأ الأضواء.]

 

المشهد الثاني

[تنار الأضواء من جديد على مكتب الوالي. ضوء الشمس يتسلل إلى الغرفة من النافذة الموجودة على يمين المسرح. يدخل رئيس الديوان ومعه السكرتيرة الجديدة أنيسة، وهي فتاة في الخامسة والعشرين ترتدي ثوبا رماديا بسيطا يكاد يغطي حذاءها الأسود، سمراء البشرة معتدلة الطول متوسطة الجمال مقطبة الجبين، دون مكياج في وجهها وشعرها. يقفان وسط غرفة المكتب يقابلان الجمهور.]

رئيس الديوان: كما علمتكِ، ابتسمي دائما في وجه الوالي. وإذا سألك عن الأحوال أجيبي دائما: " كل شيء على ما يرام". إياك أن تحدثيه عن مشاكل المدينة. وإذا سألك عمّا يقوله الناس، أجيبي بأنهم يدعون له بالخير لأنهم يعيشون في رخاء منذ توليه الولاية. إياك أن تشتكي من المواصلات أو غلاء المعيشة أو الأمن أو الفساد. مفهوم!

السكرتيرة[تتابع ما يقوله باهتمام ثم تبتسم ابتسامة مصطنعة وتجيب]: مفهوم.

رئيس الديوان: كل الشكاوى التي تصل إلى الوالي حوليها إلي، وإياك أن تطلعي الوالي عليها. وجدول مقابلات الوالي أنا الذي أعده وأقرر من يقابله ومن لا يقابله. مفهوم!

السكرتيرة: مفهوم!

رئيس الديوان[ينظر باستعلاء إليها وإلى هندامها من اليمين ومن اليسار ويقول بحزم]: من الآن عليك أن تهتمي بأناقتك وزينتك فأنت سكرتيرة الوالي. [يتابع]: شيء آخر. أريد أن تنقلي لي كل أخبار السيد الوالي، وكل ما تسمعينه منه ومن زواره من تعليقات.

السكرتيرة: عن أي موضوع؟

رئيس الديوان: عن كل المواضيع. من أجل حمايته. يجب أن نراقب من يتصلون به ويقتربون منه. هل فهمتِ؟

السكرتيرة: نعم فهمت. [تقطب وجهها من جديد.]

رئيس الديوان[بحزم]: ابتسمي.

[ترسم السكرتيرة على وجهها ابتسامة مصطنعة.]

رئيس الديوان: هل أعطتكِ حفيظة مفاتيح المكتب والأدراج؟

السكرتيرة: نعم يا سيدي.

[تدخل حفيظة ويظهر الفرق بين أناقة السكرتيرة القديمة والجديدة.]

حفيظة: أريد أن أودّعك يا سيدي.

رئيس الديوان[يخاطب السكرتيرة الجديدة أنيسة]: اذهبي أنت إلى مكتبكِ. [تخرج أنيسة ويتابع]: تكاليف العرس سوف يتكفل بها السيد حنفي كما اتفقنا مع هدية مناسبة. طلب الاستيداع سيوافق عليه الوالي حتى تتأكدي من سير حياتك الزوجية. وإذا احتجتِ إلى شيء فأنا هنا.

حفيظة: شكرا يا سيدي.

رئيس الديوان: مع السلامة ومبروك.

[تخرج حفيظة ويدخل المستشار ويتحدث مع رئيس الديوان وهما واقفان.]

المستشار: قيل لي إنك سألتَ عنّي.

رئيس الديوان: نعم. أردت أن أعرف أين ستقضي عطلتك؟

المستشار: في الحقيقة، زوجتي تريد قضاء العطلة هي والأولاد مع عائلتها في المغرب، وأنا لا أحب قضاء العطلة مع أهل زوجتي. أحاول منذ أيام حجز مكان في أحد الفنادق على الساحل لكنني لم أوفـَّق.

رئيس الديوان: لك عندي مفاجأة. بطاقة سياحية لقضاء عطلة شهر في أي بلد أوربي تختاره مع كافة التكاليف من وكالة سياحة حنفي.

المستشار[مسرورا]: هذا كثير!

رئيس الديوان: ليس كثيرا على من يتعاون معنا في حل مشاكل المدينة ويزوّد الوالي بآرائه السديدة.

المستشار: شكرا، شكرا.

[يدخل الوالي ببدلته الرسمية. يضع "كاسكيتته" ومحفظته على المكتب ويبقى واقفا والمستشار على يمينه ورئيس الديوان عن يساره.]

الوالي: صباح الخير. هل تأخرت عليكما؟

رئيس الديوان: لا يا سيدي كنا نتحدث عن العطلة. بالمناسبة أين ستقضي عطلتك هذا العام؟

الوالي: قبل أن نتحدث عن العطلة أريد أن أشكرك على حفلة التكريم ليلة أمس فقد كانت رائعة.

رئيس الديوان: جمعية حراس المدينة هي التي أقامتها تقديرا لجهودك في خدمة المدينة. أنت الذي تستحق الشكر على عطائك.

الوالي[بحماس]: لم أكن أعرف أن الناس يحبّونني إلى هذه الدرجة. أسعدتني الكلمات والخطب لممثلي المجتمع المدني. وحتى قصيدة الشعر كانت مؤثرة.

رئيس الديوان: نعم إنها قصيدة جميلة.[يردد مطلعها]:

كرّموا والي المدينَهْ     واهتفوا سلمتْ يَمينَهْ

نعم، سلمت يمينك يا سيدي.

الوالي[بانفعال وتأثر]: ولكني تأثرت أكثر، ترقرقت الدموع في عيني حين سلّمني رئيس الجمعية وسام الحارس الأول للمدينة.

رئيس الديوان: ليس غريبا فأنت بالفعل الحارس الأول للمدينة.

الوالي[يمسح دمعتين انحدرتا من عينيه تأثرا]: أما بشأن العطلة فسأقضيها في تونس مع ولدي سليم. ولو أني لا أعرف كيف أتعامل معه. هو لا يتكلم إلا قليلا ويتأتئ في الكلام، ونتائجه ضعيفة في المدرسة والمعلمون يشتكون من انعزاله عن بقية التلاميذ.

رئيس الديوان: أعرف أن طبيبا نفسيا يشرف عليه. فما رأيه؟

الوالي: الصدمة التي أصابته بفقد والدته فجأة بالسكتة القلبية جعلته لا يصدق أنها ماتت، ولا يستطيع التلاؤم مع المحيط. هو مصاب باكتئاب شديد لم أجد له علاجا.

رئيس الديوان: لماذا تقضي العطلة في تونس؟ اذهب إلى بلد أوربي. اقض العطلة في الريفييرا الفرنسية مثلا. هناك  الهدوء والطبيعة الجميلة.

الوالي: تونس بلاد جميلة وأحب زيارتها. وإمكانياتي المادية لا تسمح لي بقضاء العطلة في أوربا.

رئيس الديوان: أنا أحضر لك دعوة مجانية سياحية إلى أي بلد أوربي ترغب فيه مع كافة التكاليف من إحدى الوكالات السياحية.

الوالي: مقابل ماذا؟

رئيس الديوان: دون مقابل. هي بطاقة مجانية للشخصيات العامة مكافأة على خدمتها.

الوالي: هل تصدق ذلك؟ لا عطاء في الحياة دون مقابل إلا عطاء الأم والأب والصدقة. ومن يعطي بطاقة من هذا النوع يطلب مقابلا لها أضعاف ثمنها. إنها رشوة مبطنة ومقنعة وأنا لا أقبل الرشوة. [يلتفت إلى المستشار]: وأنت أين تقضي عطلتك؟

المستشار[متلعْثِمًا]: أنا! لم أقرر بعد.

الوالي: عليك أن تسرع وتحجز بسرعة.

رئيس الديوان: بدأت السكرتيرة الجديدة عملها اليوم وسأرسلها إليك فورا. بإذنك.

المستشار: وأنا أيضا أستأذن.

[يخرج رئيس الديوان والمستشار ثم تدخل السكرتيرة.]

 

المشهد الثالث

 

الوالي[يبقى واقفا يتفرس فيها]: أنت السكرتيرة الجديدة؟

السكرتيرة[ تبتسم في وجهه ابتسامة مصطنعة]: نعم يا سيدي.

الوالي: ما اسمك؟

السكرتيرة: أنيسة.

الوالي[متحمّسًا]: لا شيء يبهج الإنسان أكثر من نشوة النجاح. عمل سنة كاملة نسيْتُه في لحظة واحدة.

السكرتيرة: نعم يا سيدي.

الوالي[يقف مواجها لها]: اصدقيني القول يا أنيسة وأخبريني بصراحة. ما أخبار المدينة؟

السكرتيرة[تدير وجهها وتتحدث بينها وبين نفسها بحيث يسمعها الجمهور]: لو لم تقل لي اصدقيني القول وأخبريني بصراحة. أكاد أنفجر. لابد أن أقول الحقيقة. [تواجهه وتسأل]: بصراحة، بصراحة؟

الوالي: نعم.

السكرتيرة[تتكلم بحرارة وبصوت عال]: أخبار المدينة سيئة يا سيدي. أحياء المدينة قذرة، والمواصلات مزدحمة، وأسعار الخضر والفواكه ترتفع باستمرار والناس يشتكون من فقدان الأمن وكثرة الجرائم وانتشار الرشوة والفساد.

الوالي[مستنكرا وقد فوجئ بجوابها]: مهلا. مهلا. ما بك؟

السكرتيرة: أنت قلت لي: اصدقيني القول وتكلمي بصراحة.

الوالي: من أين أتيت بهذه المعلومات الخاطئة؟ لغة الأرقام تؤكد أن المدينة تعيش أحسن أيامها.

السكرتيرة[بصدق]: أنا لا أفهم لغة الأرقام بل لغة الواقع المحسوس.

الوالي[بحماس]: بالأمس حضرت حفلة تكريم وكل الموجودين تحدثوا عن نظافة المدينة وحسن تسييرها.

السكرتيرة: هؤلاء سكان القصور والفيلات يا سيدي. أما سكان الأحياء الشعبية فلهم رأي آخر.

الوالي: أين تسكنين؟

السكرتيرة: أسكن في حي المحقورين يا سيدي.

الوالي[متعجبا]: هل هناك في المدينة حي بهذا الاسم؟

السكرتيرة: اسمه حي المنصورين، لكن أهل الحي يسمّونه حي المحقورين.

الوالي: لماذا سمّوْه هكذا؟

السكرتيرة: لأنه حي مهمل يا سيدي. الأرض فيه محفرة، والعمارات لا لون لها. مجرد مأوى للسكن ليس فيه أي مرافق حيوية اجتماعية أو ثقافية أو ترفيهية. انتظر دقيقة يا سيدي. [تخرج ثم تعود وهي تحمل جريدة تسلّمها له.]

الوالي[يمسك الجريدة ويقرأ]: ما هذا؟ جريدة أصداء المدينة. لم أسمع بها قبل الآن. لماذا لم يحضروها لي؟ انظري ماذا يقول: مشاكل المدينة تتفاقم والوالي يغط في نوم عميق.

[يدخل رئيس الديوان وتخرج السكرتيرة.]

الوالي: ماذا يا رئيس الديوان؟ كيف لم ترسل لي هذه الجريدة مع الصحف؟ [يريه الجريدة.]

رئيس الديوان[بحماس وهو ينظر إلى الجريدة]: إنها جريدة تافهة يا سيدي. أصحابها يحسدون الناجحين ويغارون منهم. إنهم أعداء النجاح ياسيدي. يحاربونك لأنك استطعت أن تحل مشاكل المدينة.

الوالي: ومشاكل حي المنصورين؟

رئيس الديوان[مندهشا]: حي المنصورين!

الوالي: نعم. حدثتني السكرتيرة عن مشاكله. أريد أن تعد لي ملفا عن هذا الحي لأدرسه. [تدخل السكرتيرة تحمل ملفا]:

السكرتيرة: هذه العريضة يا سيدي عاجلة جدا وقد وصلت الآن.

الوالي[مستفهما]: عريضة! من مقدمها؟

السكرتيرة: جاءت من المجلس الولائي يا سيدي.[ يحاول رئيس الديوان أن يأخذ العريضة فيسبقه الوالي]:

الوالي: أرني. إنها موقعة من ثلث أعضاء المجلس الولائي يطالبون بعقد دورة استثنائية للمجلس لمناقشة مشاكل المدينة المتزايدة.

رئيس الديوان[يخاطب السكرتيرة]: اذهبي أنت إلى عملك. [يخاطب الوالي بخبث]: إنهم قلة من المعارضين في المجلس الولائي يا سيدي. اقترب موعد الانتخابات وهم يريدون التشويش وإثارة الضجيج لكسب أصوات ناخبي المدينة. مع الأسف هم شعبويون ومشاكل المدينة ليست إلا أوهاما في مخيلتهم. على كل حال لدينا أكثرية الثلثين. والآن وقت عطلة ولا لزوم للدورة الاستثنائية. فالدورة العادية تبدأ في سبتمبر بعد العطلة.

الوالي: ماذا تقترح؟

رئيس الديوان[بهدوء وبابتسامة عريضة]: أقترح أن تذهب إلى العطلة وأنت مطمئن. ألم تقنعك حفلة التكريم بحب سكان المدينة؟

الوالي[متحيرا]: لا أدري. لم أعد متأكدا من شيء.

رئيس الديوان: لا تقلق يا سيدي. سأكلم رئيس المجلس. سأحل المشكلة معه فورا.[يخرج]

الوالي[يخاطب نفسه بصوت مرتفع أمام الجمهور]: من أصدق يا ترى؟ رئيس الديوان والمستشار والسكرتيرة حفيظة وخطباء حفلة التكريم أم السكرتيرة أنيسة وجريدة أصداء المدينة وعريضة ثلثي أعضاء المجلس الولائي؟ من الصادق منهم ومن المخادع؟ كيف أكون الوالي ولا أستطيع أن أعرف الحقيقة؟ سأذهب فورا إلى المجلس الشعبي الولائي.[يخرج]

 

المشهد الرابع

 

[يدخل رئيس الديوان فيبحث في المكتب ثم ينادي السكرتيرة.]

رئيس الديوان: أنيسة!

[تدخل السكرتيرة ويقفان معا أمام المكتب.]

السكرتيرة: نعم يا سيدي.

رئيس الديوان: أين العريضة؟

السكرتيرة: أخذها السيد الوالي معه. قال إنه ذاهب إلى المجلس الشعبي الولائي.

رئيس الديوان[غاضبا]: لماذا فعلت ذلك؟

السكرتيرة: ماذا فعلت؟

رئيس الديوان: لماذا أعطيته العريضة قبل أن أطلع عليها؟

السكرتيرة: لم أكن أدري أنني يجب أن أسلمها لك.

رئيس الديوان: ولماذا أعطيته الجريدة؟ وكلّمته عن حي المنصورين؟

السكرتيرة: سألني عن أخبار المدينة فقلت له الحقيقة.

رئيس الديوان[بغضب]: الحقيقة! ومن نصّبك مدافعة عن الحقيقة؟ منذ البداية أوصيتك بأن تقولي له: "كل شيء على ما يرام". ويبدو أنك لم تفهمي الدرس. هل تريدين العودة إلى كتابة البطاقات الرمادية وأرقام السيارات من الصباح إلى المساء؟

السكرتيرة: لو أخفيت عنه الحقيقة فسيعرفها في اجتماعات اللجان.

رئيس الديوان: في اجتماعات اللجان نقول له الحقيقة بطريقتنا.

السكرتيرة[بعناد]: للحقيقة وجه واحد. ولا أعرف أن لها وجوها متعددة.

رئيس الديوان[بخبث]: طبعا، طبعا. لكن الطريقة التي نقول بها الحقيقة تختلف. فمثلا: بدل أن نقول إن نسبة البطالة ارتفعت إلى عشرين بالمائة، نقول إن ثمانين بالمائة من الشعب يعملون.

السكرتيرة: وما الفرق؟

رئيس الديوان: الفرق. أننا أبرزنا الوجه الإيجابي من الحقيقة. إذا أردت أن تظلي سكرتيرة الوالي وتحصلي على بعض الامتيازات عليك أن تنفذي ما أقوله لك بالحرف وإلا أعدْتك إلى كتابة البطاقات الرمادية. مفهوم؟

السكرتيرة: مفهوم يا سيدي.

[يخرج رئيس الديوان والسكرتيرة.]

 

المشهد الخامس

[يدخل الوالي وتدخل بعده السكرتيرة ويظلان واقفين.]

الوالي: هل سأل عني أحد ؟

السكرتيرة: نعم. السيد رئيس الديوان.

الوالي: سوف أذهب غدا قبل العطلة لزيارة حي المحقورين. أقصد حي المنصورين.

السكرتيرة[تشير إلى بدلته]: إذا ذهبت بهذه البدلة فلن ترى شيئا.

الوالي: لماذا؟

السكرتيرة[تخرج وتنظر إلى الباب ثم تعود]: سيذهبون بك إلى أي حي آخر ويخبرونك أنه حي المنصورين.

الوالي: ماذا تقترحين؟

السكرتيرة: أن تذهب إليه متخفيا. هناك لا يعرفك أحد وتستطيع رؤية كل شيء.

الوالي: سأذهب غدا صباحا أو مساء.

السكرتيرة[تنظر مرة أخرى إلى الباب ثم تعود]: إذا أردت أن ترى الحي وتعرف مشاكله يجب أن تعيش فيه خمسة عشر يوما على الأقل.

الوالي: ماذا ؟ أقضي عطلتي فيه؟ هل جننت؟

السكرتيرة[تخاطب نفسها بحيث يسمعها الجمهور]: العمر واحد والرب واحد. لا يهم إذا عدت إلى كتابة البطاقات الرمادية. [تخرج لترى إن كان هناك أحد قادم ثم تعود وتخاطب الوالي بحماس وصوت منخفض]: من حولك يا سيدي يغشّونك. وإذا أردت أن تعرف الحقيقة عليك أن تراها وتلمسها بنفسك. لكن دون أن يعرف أحد أنك الوالي.

الوالي: فهمت. هل هناك فندق أقيم فيه؟

السكرتيرة: ليس هناك فندق في هذا الحي الشعبي. وفي الفندق لن ترى شيئا أصلا.

الوالي: ماذا أفعل؟

السكرتيرة: هناك راقن على الآلة من حيّنا يعمل هنا وهو سيقضي العطلة في تونس. هو يبحث عن مستأجر لشقته مدة غيابه. سأبلغه بأني وجدت مستأجرا ولن يعرف بالطبع أنها لك. ولكن أرجو ألا يعلم أحد بذلك وخاصة رئيس الديوان.

الوالي: اطمئني. سيبقى الأمر سرًّا بيننا.

[تطفأ الأضواء.]

المشهد السادس

 

[تنار الأضواء من جديد. نرى السكرتيرة وهي ترتب المكتب صباحا. يدخل المستشار ومعه رجل في الخامسة والخمسين أشيب الشعر يرتدي نظارات طبية يحمل في يده محفظة، معتدل الطول يرتدي بدلة رمادية من النوع الرفيع.]

المستشار: صباح الخير يا أنيسة، تفضل يا دكتور.

[يجلسان على الكنبة الطويلة. يدخل رئيس الديوان مستعجلا ومتوترا. تخرج السكرتيرة.]

رئيس الديوان[يبقى واقفا]: ما الأمر؟ ومن هذا السيد؟

المستشار[يقف]: هو الدكتور محمود دلال الخير رئيس مصلحة الطب النفسي في المدينة وهو يريد مقابلة السيد الوالي.

رئيس الديوان[يخاطب الدكتور]: أهلا وسهلا. [يخاطب المستشار]: ألم يكن من المناسب أن نتبع البروتوكول؟ ينتظره في قاعة الانتظار عند السكرتيرة، ويرى إن كان وقته يسمح باستقباله. هو ذاهب إلى العطلة غدا، ووقته لا يسمح باستقبال احد. ربما بعد العطلة.

المستشار: اتصلت بالسيد الوالي وهو الذي طلب مني أن انتظره مع الدكتور في مكتبه لأهمية الموضوع.

رئيس الديوان: إذا كان الأمر هكذا فلا بأس. هل لي أن اسأل عن هذا الموضوع الهام؟

المستشار: أخبره يا دكتور فهو رئيس الديوان ويجب أن يعرف ما يجري في المدينة.

د.دلال الخير[ينهض ويقف بينهما ووجه الجميع إلى الجمهور]: لاحظت أنا ومجموعة الأطباء في المصحة تزايد عدد المرضى النفسيين بنسبة غير طبيعية فأجرينا دراسة ميدانية في المدينة واكتشفنا وجود وباء في المدينة يسببه فيروس جديد يعدي ويسبب حالة الاكتئاب العام.

رئيس الديوان: لا أعتقد أن الاكتئاب وباء. هو مجرد حالة تصيب بعض الأفراد، حتى أن ابن السيد الوالي مصاب بالاكتئاب ولم أسمع أن له فيروسا.

د.دلال الخير: أصبح له فيروس في هذا العصر لأنه أصبح وباء عاما. الفيروسات العادية تصيب الجسم حين تكون مناعته ضعيفة، وفيروس الاكتئاب يصيب الإنسان حين تضعف معنوياته.

رئيس الديوان: لست مقتنعا بهذا التقرير.

د.دلال الخير: الأطباء الذين أعدوه هم من خيرة الأطباء النفسيين بالاشتراك مع بعض الأخصائيين الاجتماعيين.

رئيس الديوان: الأطباء النفسيون أنصاف مجانين مع الاعتذار لكم يا سيدي. [ينحني له بسخرية]: ها أنا أمامك أنا والسيد المستشار، فهل ترانا مصابيْن بالاكتئاب.

د.دلال الخير: يجب أن تعرف أعراض هذا الوباء أولا، لترى إن كنت مصابا به أم لا.

رئيس الديوان: وما أعراضه؟

د.دلال الخير: التوتر الدائم والعبوس وعدم الرضا عن النفس ورفض قبول الواقع.

رئيس الديوان: [يبتسم ابتسامة مصطنعة]: أنا لست متوترا ولا عابسا وراض كل الرضا عن نفسي ومقتنع بالواقع.

د.دلال الخير: ربما لست مصابا، لكن معظم سكان المدينة مصابون، والنتائج واضحة: ارتفاع نسبة الجريمة وحوادث السيارات والسرقة والقتل والنصب والاحتيال والتزوير وتعاطي المخدرات، تفشي العنف في المجتمع وكثرة حوادث الطلاق والشقاق بين أفراد الأسرة الواحدة، ازدياد نسبة الخصومات في العمل وفي المحاكم، التسرب المدرسي، الزهد في العمل وقلة النشاط، الحرقة، الإرهاب.   

المستشار: كل هذا يحدث في المدينة ونحن لا ندري.

رئيس الديوان: هذا غير صحيح والإحصائيات التي عندي تقول إن المدينة بخير، والناس سعداء ومتفائلون. 

المستشار[يتجاهل ما قاله رئيس الديوان]: وما الأسباب التي ذكرها التقرير لانتشار الوباء؟

د.دلال الخير: كثرة الإحباطات بسبب فقدان ثقة المواطن في المسؤولين وفي التجار وفي الأمن. يحس الإنسان أنه مغبون ولا يحصل على حقوقه.

المستشار: بمعنى آخر، انعدام العدل.

د. دلال الخير: بالضبط بسبب المحسوبية والعشائرية والرشوة والتمييز بين المواطنين وغش التجار.

المستشار: هذا يعني أن الوباء يصيب الفقراء.

د. دلال الخير: نسبة المصابين في الأحياء الغنية والفقيرة تكاد تكون واحدة.

المستشار: عجيب! وما السبب؟

د.دلال الخير: عدم الرضا لا يطال الفقراء وحدهم بل الأغنياء أيضا بسبب تزايد القبح السياسي والإداري  والاجتماعي والبيئي، والقبح يدعو إلى الكآبة.

رئيس الديوان: هذا تجن على الوالي وهجوم على القيادة السياسية.

د. دلال الخير: بالعكس، أنا أتيت لأنبه الوالي ليحل مشاكل المدينة قبل حدوث الانفجار.

المستشار: كان أجدادنا يعرفون أن الحزن يعدي والفرح يعدي لذلك كانوا يقيمون الأفراح في كل مناسبة لقتل الكآبة، لكن أحدا لم يتصور أن يصبح هناك فيروس للكآبة ينتقل بالعدوى.

د.دلال الخير: هناك شيء محير في التقرير.

رئيس الديوان: ما هو؟

د.دلال الخير: هناك حي واحد لم يصبه الوباء هو حي المسطولين الذي تغير اسمه إلى حي النشاط.

رئيس الديوان: اسمه حي المسطولين في سجلاتنا وليس حي النشاط.

د.دلال الخير: إنه اسم موروث عن الاستعمار للإساءة إلينا وقد تفطن أهل الحي إلى ضرورة تغييره.

المستشار: هناك أسماء كثيرة موروثة عن الاستعمار لمناطق وأحياء وعائلات، ومهمة الولاية والبلديات أن تسعى إلى تبديلها.

رئيس الديوان: كيف عرفتم أن الوباء لم يصل إلى هذا الحي؟

 د.دلال الخير: لأن نسبة الجريمة والحوادث والسرقة والمخدرات متدنية جدا فيه، ولم نعرف السبب حتى الآن.

المستشار: وما هو أكثر الأحياء تضررا من الوباء؟

د.دلال الخير: هو حي المنصورين فنسبة الجريمة والآفات الاجتماعية مرتفعة فيه. [ينظر إلى الساعة]: متى يأتي السيد الوالي؟

السكرتيرة[تدخل وتقول]: يعتذر الوالي لأنه لن يقابل أحدا اليوم. ذهب ليجهز نفسه للعطلة التي تبدأ غدا.

المستشار: لكنه أخبرني بالهاتف أنه سيأتي.

السكرتيرة: هو أتى بالفعل. كان هنا في مكتبي وسمع كل شيء.

د. دلال الخير[متعجبا]: ولم يقل شيئا عن التقرير؟

السكرتيرة: بلى، قال: العطلة أولا وكل شيء ينتظر.

رئيس الديوان[مبتسما]: حسنا فعل.  تعب كثيرا خلال العام ويجب أن يستريح.

د.دلال الخير[بأسف]: هكذا يدير ظهره لمشاكل المدينة.

السكرتيرة: بالعكس، طلب من المستشار أن يحمل له التقرير إلى منزله ويستعد للذهاب معه في العطلة ليفكرا معا في حل مشاكل المدينة.

ستار

 لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الفصل الثاني

للاطلاع على فصول المسرحية، انقر هنا: عطلة السيد الوالي

للاطلاع على المسرحيات الأخرى للكاتب انقر هنا: المسرحيّات