رواية جرس الدخول إلى الحصة
للكاتب عبد الله خمّار
-7-
العطلة الشتوية أ
الحياة الحب والحب الحياة
-65-
غداً الجمعة هو آخر يوم في الثلاثي الأول قبل عطلة الشتاء بالنسبة إلي، فأنا لا أعمل يوم السبت. رن جرس الهاتف لأول مرة في شقتي وفي شقة وجدي اليوم. توجهت لحضور آخر درس قبل العطلة في المدرسة الإنجليزية، فهي تعطل الاثنين القادم أسبوعا واحدا لا أسبوعين كالمدارس الجزائرية والفرنسية. كان من المفروض أن يشترك تلاميذ القسم الراغبين في حفل سهرة رأس السنة، وأن يتقاسموا تكاليف العشاء والمشروبات. لكن الأستاذة اعتذرت في بداية الحصة عن تغيير البرنامج لاضطرارها إلى السفر مع زوجها، واقترحت المشاركة في حفل ليلة عيد الميلاد بدلا من ليلة رأس السنة. اتفقت مع جانين على المشاركة، ورحبت الأستاذة بحضور وجدي مادام يجيد الإنجليزية. أما عصام فيقضي العطلة في تونس مع زوجته لطيفة.
قررت مع جانين أن نبدأ عطلتنا بجولة في الشريعة بعد غد السبت، كما قررنا ألا نكتفي بعطلة أسبوع في المدرسة الإنجليزية، فعطلة أسبوعين من حقنا كاملة كأستاذين و تلميذين.
- 66 -
وصلنا في سيارتها إلى أعالي الشريعة. كان الطقس شديد البرودة ولكن السماء كانت قليلة الغيوم، والشمس فقدت معظم حرارتها. جرينا ولعبنا بالثلج، وتمتعنا بجمال الطبيعة الخلاب. لبست جلابتي البوسعادية، وارتدت جانين بدلة الجينز والجزمة، ومعطفا من القماش الكاكي. اشتريت لها هناك أسطوانتين فرنسيتين هدية، إحداهما لفرانسواز هاردي: "سترين كم أحبك" والثانية لجاك بريل: "لا تهجريني". ورغم معرفتها السابقة بالأغنيتين، أصبح لهما معنى خاص لديها لأنهما توصلان مشاعري إليها بلغتها. قالت لي: "أنا لا أعرف أغانيكم لأهديك ما يحمل مشاعري إليك بلغتك فاختر ما تحب". بدأت أترجم لها عناوين الأسطوانات الموجودة، وأعجبتها اغنية فضيلة الجزائرية: "والله ما نسيتك يا ليلة البارح، يالو كان زعما تعود لي ليلة"، فاشترتها وأهدتها لي.
دخلنا إلى محل الألبسة التقليدية فاشتريت لها ثوباً بوسعادياً بيتياً بلون أزرق، مطرز في صدره وأكمامه النصفية بخيط بسيط من القصب. وضعت الثوب على جسمها لترى مقاسه، وأبدت فرحها الشديد به. وفاجأتني حين دخلنا محلا يبيع بعض التذكارات المحلية والبضائع الأوروبية، بشراء قبعة زرقاء من الجوخ الفاخر، وضعتها على رأسي فكان المقاس مناسبا. قالت: "هذه تلائم بدلتك الزرقاء".
وقفنا نتفرج على المتزلجين والمتزلجات على الثلج، حتى كدنا نبقى دون غداء، فالمطاعم مزدحمة ولم ننتبه إلى الحجز باكرا. حصلنا على طاولة لشخصين بعد انتظار طويل، ورشوة النادل بمبلغ معتبر. كان الطعام مقبلات و"بفتيك" وخضرة وسلطة فواكه. كنا جائعين فلم تشبعنا الوجبة، وعدنا في المساء نتوثب سعادة ونشاطا.
اقترحت على جانين أن نذهب إلى "تلاغيلاف" في جبال جرجرة في اليوم التالي لنتغدى هناك، وندرس إمكانية قضاء ليلة رأس السنة فيها. سلكنا الطريق الجبلي، وحرصنا على أن لا نضيع في الدروب المتعرجة. من حسن الحظ أننا وجدنا مكانا في المطعم وجلسنا نتناول الغداء ونستمتع بطبيعة جرجرة الخلابة،. كانت الخدمة ممتازة. لبست القبعة التي أهدتها لي جانين. كنت أنيقا فيها، وأعجبني شكلها في المرآة مع بدلتي الزرقاء. أحسست أنني أصبحت أقرب إلى جانين. خلعتها عند جلوسي، ووضعتها أمامي على الطاولة. كنت مزهوا بها لدرجة شعوري أن نطقي للفرنسية صار أفصح.
التقينا ببعض الفرنسيين في المطعم. زوجان منهما يعملان معها في ليسيه ديكارت، ومهندس يعمل مع زوجته الأستاذة في تيزي وزو. تعارفنا وكانوا لطفاء معي. وافترضوا أنني ما دمت مرافقا لمواطنتهم وأعتمر القبعة، فأنا أقاسمهم طروحاتهم السياسية والتربوية. بدأوا نقدهم اللاذع للتعريب وبومدين والشرقيين والمصريين، وتأسفوا على الخطر الذي يهدد الثقافة في الجزائر. وقبل أن أفتح فمي، تدخلت جانين وعرفتهم أنني أستاذ في اللغة العربية فكبحوا جماح هجومهم.
سألني أحدهم فجأة بلهجة حاول أن تكون بريئة: "كيف نقول "ساتيليت" باللغة العربية؟"
فأجبته: "قمر صناعي"، وترجمت له معناها بالفرنسية.
قال لي: "عجباً، قيل لي إنه ليس هناك مقابل لهذه الكلمة، ولكثير من التعابير العلمية في اللغة العربية".
قلت له: "حتى وإن لم يكن، يمكن استعمال الكلمات الحديثة كما هي، فاللغة لا تعجز عن التطور والاستيعاب". وقلت في نفسي: "ولكن أهلها لأسباب تاريخية، منها استعماركم أنتم، هم العاجزون".
قام جدار في لحظة بيني وبين هؤلاء الفرنسيين. بالتأكيد لم يقصدوا إهانتي كشخص. ولكنهم اعتبروا أنهم هم الثقافة والحضارة، ولغتهم أداتها، وأن لغتي متخلفة. وهذا مع الأسف صحيح، وهو ما جعلني أشعر بالإهانة، فاللغة تتقدم بتقدم أهلها. لم أستسغ الجلوس معهم وأحسّت جانين بتوتّري فغمزتني، وانسحبنا في هدوء. عرفت جانين أنني لا أنسجم مع أصحابها الفرنسيين فتحاشتهم بلباقة.
كانت الأماكن كلها محجوزة لسهرة رأس السنة فعدنا مساء، ووصلنا إلى العاصمة في ساعة متأخرة من الليل. ركبت سيارة أجرة إلى مسكني، ولم أرض أن توصلني جانين بسيارتها، وتعود وحدها حتى لا أعرّضها إلى مخاطر الليل في المدينة.
- 67 -
كانت السيدة "ديبورا ستيفنس" وزوجها السيد "ريتشارد ستيفنس"، على عكس الصورة التي ارتسمت في ذهني عن الإنجليز بصورة خاصة والأنجلوساكسون بصورة عامة، فقد كانا مثالا للتواضع معي ومع التلاميذ الجزائريين في القسم، بل مع كل الأجناس من إفريقيا وآسيا. كنت قد قرأت في التاريخ عن الاستعلاء العنصري للأنجلوساكسون والجرمان من إنجليز وألمان وهولنديين، مما نجم عنه الترفع عن الاختلاط مع الهنود الحمر في الولايات المتحدة، وكذلك إضفاء الشرعية على الاتّجار بالأفارقة واتّخاذهم عبيدا. ثم نشوء عصابات "الكوكلكس كلان" التي تطارد السود بعد تحرير العبيد، وأخيرا أنظمة التمييز العنصري في بعض الولايات الأمريكية الجنوبية، والنظام النازي في ألمانيا، ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقية. أما الفرنسيون والإيطاليون والإسبان الكاثوليكيون، فربما كانوا متعصبين دينيا إلى أبعد الحدود، ولكنهم لم يستعلوا عرقيا على أحد. كان استعلاؤهم دينيا وثقافيا، لكنهم لم يميّزوا أبداً بين الأعراق. وكانوا يتزوجون من الشعوب التي اختلطوا بها دون عقدة. ولا شك في أن الأمور قد تغيرت بعد الحرب العالمية الثانية، وسقوط النظام النازي والتمييز العنصري، رغم بقاء آثاره في جنوب إفريقيا، وفي بعض الولايات الأمريكية الجنوبية. أزال تعامل السيدة ستيفنسون وزوجها معي ومع الناس الحكم المسبق السلبي الذي كونته عن الأنجلو ساكسون وعن الجرمان. فقد كانوا يعاملون كل الناس كأنداد لهما بصرف النظر عن العرق والدين. ولعل عمل السيدة ستيفنسون وزوجها في تعليم الإنجليزية مدة عشرين عاما في إيران والعراق ومصر، وتأثرهما بما شاهداه من آثار الحضارات الغابرة قد زاد من احترامهما للأعراق الأخرى. كانا في منتصف الأربعينات، معتدلي القامة مع ميل إلى النحافة والطول عند الزوج، وكلاهما يتميز ببشرة ناصعة البياض وشعر بالغ الشقرة، وعينين زرقاوين قاتمتين مما ينبئ بأنهما من سكان المناطق الباردة في الشمال الأوربي.
تجاوزت الساعة التاسعة بقليل من مساء الأحد 24 ديسمبر حين وقفنا تحت منزل جانين في سيارة وجدي. رأتنا من الشرفة فنزلت وانطلقنا إلى العنوان المطلوب في طريق "جليسين" الصاعد من ساحة "أديس أبابا"، والنازل من شارع الشيخ البشير الإبراهيمي. كنا جميعا في ثياب السهرة. جانين في ثوب أسود مشغل بالدانتيل، تزين جيدها بعقد بديع من اللؤلؤ متوسط الحبات. وتضع معطفا جميلا من الفرو، أصرت على أن توضح أنه صناعي وليس طبيعيا، لأنها تكره إبادة الحيوانات لزينة النساء. أما وجدي فكان يرتدي بدلة سوداء أنيقة، وقميصا حريريا أبيض وربطة عنق حريرية فاخرة. ولبست أنا بدلتي الزرقاء. لم تكن زهرة "الحلوة" التي سمي الطريق باسمها، تتكئ وتتدلى على أسوار الفيلات، وتشكل مع الأغصان الخضراء سورا ثانيا طبيعيا رائع الجمال كدأبها في الربيع. فنحن الآن في فصل الشتاء. لكن بعض فروع شجيرات الياسمين كانت تتدلى على بعض الأسوار.
وصلنا إلى الفيلا. الجزء الأعلى من سورها درابزون من الرخام الأبيض البديع. فتح باب الفيلا. الحديقة مضاءة من كافة الزوايا. قابلتنا نخلتان متوسطتا الطول، ضخمتا الجذع، في وسط الحديقة. لكنهما تبدوان عملاقتين وسط أشجار اليوسفي والنارنج المحيطة بهما. قادنا البواب إلى قاعة كبرى في الحديقة عرفنا فيما بعد أنها شتوية صيفية. جدرانها تكاد تكون كلها من نوافذ زجاجية، تفتح وتغلق حسب الطلب. وتظل في الشتاء محكمة الإغلاق، يشع فيها الدفء من جهاز التدفئة المركزية. وتفتح في الصيف فتصبح القاعة الممزوجة بالطبيعة تشكل جزءا من الحديقة.
كل ما في القاعة بلون زهرة "الحلوة" أو "الجليسين"، بنفسجي فاتح: السجاجيد المتصل بعضها ببعض والتي تبدو وكأنها سجادة عملاقة، صنعت خصيصا لهذه القاعة، والستائر التي تغطي الجدران الزجاجية ومفارش الموائد، وكنبات الصالون المصفوفة جنبا إلى جنب في الجانب الأيمن من القاعة وتشكل مربعا ضلعه الأوسط مفتوح. الثريات الضخمة الثلاثة الموزعة على طول القاعة والثريات الأربعة الصغيرة الموضوعة في الزاويا، كلها على شكل شموع تضاء حسب الجو المراد خلقه فهي مبهرة، ونصف مبهرة، وعادية، وخافتة. والإضاءة تنسجم مع اللون البنفسجي السائد في القاعة.
استقبلنا السيد والسيدة ستيفنسون، وقادانا إلى الصالون الفخم في جزء من الركن الأيمن، بينما أعدت المائدة في الركن الآخر. أما الجزء الأيسر من القاعة فأعد للرقص. خمنت أن تكون هذه الفيلا للسفارة فالسيد والسيدة ستيفنسون يسكنان في شقة صغيرة بشارع محمد الخامس. تبادلنا التحية مع من وجدناهم في الصالون، ممن يدرسون معنا أو في الأقسام الأخرى.
الطاولات الصغيرة في الصالون حافلة بصحون المكسرات من البندق والفستق واللوز والكاوكاو، وبعض أطباق اللحوم والأسماك الباردة كالطون والسلمون المدخن التي تؤكل مع "الأبيراتيف". كان الحاضرون يتناولون كؤوس الريكار والويسكي والقهوة بالكونياك. أما نحن فتناولنا العصير، فأستاذتنا تعرف أننا لا نشرب الكحول. صوت الموسيقى المتنوعة الكلاسيكية والعصرية والجاز ينبعث من مسجلة ضخمة بصوت ناعم خافت، ونحن نتسلى بالأطباق التي أمامنا، وبالأحاديث المتنوعة المتشعبة لتعميق التعارف بالأشخاص وبالبلدان.
وعلى سبيل المثال دار الحديث بين وجدي وأستاذ الإنجليزية وزوجته حول مصر والحضارة الفرعونية وآثارها، فقد مكثا عدة سنوات في القاهرة والاسكندرية. وتشعب الحديث فجأة ليصل إلى قضية فلسطين التي أعاقت تطور المنطقة. عجبت وأنا أستمع إليهما. كانا ينتقدان بشدة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ولكنهما لم يستطيعا أن يريا أنه والنظام في إسرائيل توأمان. كانا يدافعان عن حق اليهود في العيش في سلام، وكأن هذا الحق هو المهدد، لا حق الفلسطينيين المحتلة أرضهم والمهجرين والمشردين. عجبت كيف يظهر المعتدي بصورة المعتدى عليه.
قال وجدي بلجة هادئة ولكنها مريرة: "هناك تشابه بين الحلمين الأمريكي والصهيوني، فكلاهما كان كابوسا بالنسبة إلى من تحقق الحلم على حسابهم. فالحلم الأمريكي كان كابوسا على الهنود الحمر الذين أبيد معظمهم، وعلى الزنوج الذين استعبدوا واضطهدوا ليحقق الأمريكيون حلمهم في الحرية. والحلم الصهيوني كان كابوسا على الفلسطينيين الذين ذبحوا وشردوا واضطهدوا، وعلى العرب الذين احتلت أراضيهم ليتمكن الصهاينة من تحقيق حلمهم في العودة إلى أرض الميعاد".
وقبل أن يتمكن أستاذ الإنجليزية من التعليق على ما قاله وجدي، تدخلت في الحديث مهندسة إيطالية، فاجأتنا بقولها: "لكن هناك فرقا جوهريا بين الحلمين، فالرواد الأمريكيون الأوائل حلموا بالحرية لكل البشر بصرف النظر عن أعراقهم وأديانهم. وكان حلمهم يهدف إلى بناء المستقبل رغم ما حدث فيما بعد، فهو حلم إنساني وتقدمي، بينما حلم هرتزل ورواد الصهوينية بالحرية لليهود وحدهم وعلى حساب غيرهم. كان حلمهم يهدف إلى إعادة بناء الماضي، فهو حلم عنصري، ورجعي، ومستحيل التحقيق لأن الماضي لا يمكن أن يعود". وأضافت بعد أن صمتت هنيهة بلهجة واثقة: "لا بد أن تقوم في فلسطين دولة علمانية حرة لكل الأعراق والأديان. ويعود إليها أهلها الذين شردوا منها".
تابعت هذه المناقشة باهتمام، وأعجبت بتحليل المهندسة الإيطالية. شعرت أن جانين تتعاطف مع القضية الفلسطينية، إذ قالت بالإنجليزية معلقة على العبارة الأخيرة: "أرجو ذلك من كل قلبي".
انتقلنا في الساعة العاشرة إلى المائدة، كنا عشرين شخصا من الأزواج والأفراد. أما الأزواج فزوجان إنجليزيان يدرسان في المعهد، وزوج فرنسي، وزوج جزائري. وأما الأفراد فهم جزائريتان، ونمساوية، وإيطالية، وسنغالية، وألماني، وبلجيكي وايرلندي، وجزائري، بالإضافة إلى ثلاثتنا. كان جالسا على رأس الطاولة من اليمين السيد ستيفنسن وزوجته. وكانت جانين في أول الطاولة على اليمين بيني وبينه. وقبالتنا وجدي وطبيبة نمساوية، وعلى يساري المهندسة الإيطالية. الكل في ثياب السهرة، والجزائريات الثلاثة لبسن قفاطين سهرة تدل على مناطقهن: عاصمي ووهراني وقسنطيني.
انقطع صوت الموسيقى فجأة، وبدأت الأغاني تصدر من جهاز الأسطوانات: الأغنية الأولى "دع الشمس تشرق"، ثم توالت أغاني "جون بيز" و"فرانك سيناترا" و"ماري هوبكن" و"كات ستيفنس" وغيرهم، لتضفي جوا رومنسيا عذبا وحالما. خفتت الأضواء حول المائدة، وبقيت الشموع الكهربائية المضاءة فوقها. الحديث بين الحاضرين وكذلك الأغاني باللغة الإنجليزية فهي القاسم اللغوي المشترك بيننا. المائدة مزينة بالزهور وعليها أطباق السلطات والأجبان وكذلك الخمور البيضاء والحمراء والوردية، وعلب البيرة الإنجليزية والهولندية. ووضعت تحت تصرف من لا يشرب الكحول علب العصير من كل الأنواع.
شدّ سَمْعي حديثٌ على يساري بين المهندسة الإيطالية وجارها على المائدة وهو مهندس جزائري، سألها بثقة فائقة: "ألا تعتقدين أن التصنيع سينجح عندنا، وسنستطيع منافسة الآخرين قريبا؟"
ـ "أنا مهندسة في الإليكترونيك، ولست مختصة في الاقتصاد. ليست لدي المعطيات الكافية بالنسبة للآلات المستوردة ومستوى العمال التقني، ولكن ما يلفت نظر المبصر والأعمى هو أن الأداة التي يكلف استيرادها خمسة سنتيمات يكلف تصنيعها عندكم خمسة دنانير".
ـ "أنت تبالغين. لا يمكن أن يكون الفرق بهذه الصورة!"
ـ "الأمر طبيعي حين تضاف إلى تكاليف المادة المصنعة مصاريف بناء فيلا المدير، وثمن سيارته الفخمة، ونفقاته الخاصة، وكذلك سيارات المديرين الفرعيين ورؤساء المصالح، ومهماتهم المتكررة، ولا سيما في فصل الصيف إلى الخارج، وأرباح العمال التي توزع كل سنة في احتفال عام. واحسب أنت إذا كانت هذه الصناعة بهذه التكاليف يمكن أن تنافس غيرها. وكم من الزمن يمكن أن تخفي الدولة الخسائر من هذا النوع وكأنها تغطي الشمس بالغربال؟ الصناعة تحتاج إلى صناعيين يهمهم أن تنجح صناعتهم وتربح لا إلى إداريين روتينيين يهمهم أن يربحوا من وراء الصناعة".
ـ "لكن التصنيع في النظام الاشتراكي لا يهتم بالربح وحده بل بترقية الإنسان ورفاهيته أيضا".
ـ "أنتم في سوق للمنافسة لا ترحم. وعليكم أن تثبتوا وجودكم أولا، وتقيموا صناعة ناجحة، ثم تأتي الرفاهية. أما أن تبدأوا بالرفاهية فهذا منطق مقلوب لابد أن يؤدي إلى كارثة".
كان يبدو أنها مطلعة على أحوال الشركة أو المؤسسة التي تعمل فيها. صدمني كلامها لأنني صدقت ما يقوله المسؤولون بأننا دخلنا عصر التصنيع. عرفت فيما بعد أن المهندس الجزائري مدير فرعي في مؤسسة وطنية هامة في نفس المؤسسة التي تعمل فيها المهندسة الإيطالية.
- 68 -
تولى طاهيان يرتديان بزة فندق الأوراسي وضع خروفين مشويين متوسطي الحجم، وأربعة ديوك رومية كبيرة على المائدة. ووزعت أطباق الأسماك المشوية والمقلية من نوع"الميرلون" و"الكروفيت" و"كلب البحر" وغيرها على المائدة توزيعا عادلا مع أنواع السلطات المختلفة والخضروات المسلوقة وسلال الفواكه الصغيرة المليئة بالأناناس والتفاح والكيوي والبرتقال والمندرين وعراجين دقلة نور. بدأ الطاهيان يقطعان الخروفين والديوك ويوزعانها على الأطباق، بينما وقف نادلان على طرفي المائدة استعدادا لتلبية أي طلب من الشراب. عجبت من فخامة هذه المائدة، فالاشتراك الذي دفعناه لا يغطي عشر تكاليف ما عليها. سألت الأستاذة فضحكت وأجابت: "أنتم اليوم في ضيافة السفير، فحين طلبنا منه استعارة القاعة، رحب باستضافتكم، وهذا لا يحدث دائما. ومع ذلك حرصنا على ألا تكون للحفلة صبغة رسمية، وأن تظل خاصة بتلاميذ المعهد. أما الاشتراك الذي دفعتموه، فسيرد لكم فيما بعد".
الأحاديث على المائدة ثنائية أو رباعية، ومواضيعها خفيفة حول الطعام والأغاني والعطل والسفر. وتتجه أحيانا نحو الجد، لكنها ما تلبث أن تعود إلى خفتها. بدأ الطعام على المائدة يتقلص، والزجاجات تتبخر، والكؤوس تفرغ. شرب الحاضرون نخب بعضهم بعضا ونخب بلدانهم، ونخب الحب، ونخب السلام. شربوا كل الأنخاب.
بدأ الراقصون يتجهون إلى الحلبة. دعا وجدي الطبيبة النمساوية إلى الحلبة وبدآ يرقصان. شجعتني جانين على اللحاق بالمجموعة. كانت الإيقاعات تتغير من ثنائية إلى ثلاثية إلى رباعية حسب الأسطوانات الموضوعة من "سلو" إلى"فالس" إلى "تانجو" إلى "جيرك". لم أكن أرقص مع جانين على هذه الإيقاعات، فكلانا لا يحسن الرقص. كنا نرقص على إيقاع حبنا، لا نأبه بأحد حولنا، ولا يأبه أحد بنا. ليس هناك متفرجون، فالكل في الحلبة يرقصون. حالة الوجد جعلتني أحس بنشوة لم أصل إلى عتباتها من قبل. شعرت أنني أسبح في الأعالي فوق غيوم من الشعر والعطر والسحر.
لا أدري كم رقصنا حين دقت الساعة الثانية عشرة ليلا. اطفئت الأنوار، وتلكأت قليلا قبل أن تضاء. استمر الرقص ساعات حسبناها دقائق. كانت مناجاتنا خلالها همسا، وصمتا بليغا أحيانا. أما الهمس فعبارات "أحبك" و "أنت حياتي" و "سنظل معا إلى الأبد" و "هل تحبني كما أحبك" و "أقسم على ذلك". كان بعض هذه العبارات بالإنجليزية وبعضها بالفرنسية، ويروق لجانين أن تطلب مقابلها بالعربية، فتحاول نطقها بلكنتها المحببة. رقصنا حتى التباشير الأولى من الفجر. قبضنا على السعادة بأيدينا، ولن نجعلها تفلت منا أبدا.
- 69 -
قالت لي ونحن ما نزال نرقص بأن جاك اتصل بها قبل أسبوع ليدعوها إلى سهرتي عيد الميلاد ورأس السنة، فاعتذرت. وأضافت وهي تنظر إلي لترى رد الفعل في عيني وتعابير وجهي: "اتصل بي ثانية بالأمس، ودعاني إلى حفلة عيد ميلاد إحدى موظفات السفارة".
ـ "متى؟"
ـ "بعد غد مساء"
لم أعلق، ولكنني شعرت بأني هويت من قمة النشوة التي حلقت إليها. ويبدو أنها قرأت في وجهي خطوط الأسى والحزن، فسألتني بدلال: "هل تغار منه؟"
ـ "أنا! لا أبدا. ولكني لا أحبه لأنه متعجرف، ولا يحب أحدا". كذبت عليها، لأني في الحقيقة، كنت أغار منه غيرة شديدة، وسألتها بعصبية ظاهرة: "وهل تحبينه؟"
ـ "ياله من سؤال، أنا أستثقله. لو كنت أحبه لكنت بين ذراعيه الآن، لا بين ذراعيك يا حبيبي".
كان جوابها منطقيا ومقنعا، ولكن المحب الغيور يجد دائما ما يثير شكوكه، وينغص عليه قناعته. وكان ردي يحمل هذا المعنى: "ولكنك ستذهبين معه إلى الحفلة".
أجابت بتصميم مقنع هذه المرة: "لا تنزعج فلن أذهب. سنكون معا طيلة العطلة، أيعجبك ذلك؟"
هززت رأسي بالإيجاب. وأمسكت يديها بيدي وأخذت ألثمهما قائلا: "شكرا ياحياتي".
فاجأتني بقولها: "أريد أن أزورك غدا في دارك، لأرى أين يعيش حبيبي".
فرحت بالزيارة، وسألتها بلهفة: "متى؟"
ـ "لنقل في الخامسة مساء. قلت لي بأنك تسكن قريبا من بلكور. اكتب لي العنوان".
لم أجد معي ورقة، ولا معها فكتبت العنوان على منديل ورقي من مناديل المائدة.
سمعنا كل الأشرطة، وأدرنا كل الأسطوانات، وتعب الراقصون فبدأوا ينسحبون من الحلبة. جلس بعضهم على المائدة يلملم بقايا الطعام والشراب، وجلس بعضهم في الصالون. وفيما عدا تجاوز المهندس الجزائري الحدود في السكر، وخروجه عن حدود الأدب مع مراقصته الإيطالية، كانت السهرة ناجحة بل رائعة.
روت لي مسز ستيفنس ما حدث في ركن من الصالون. قالت: "طلبت منه أن يحضر زوجته معه، وهي أستاذة إنكليزية في الثانوي، فادعى أنها مريضة لا تستطيع الحضور". وأضافت: "أنا أعجب من سلوكه، وقد وجدت من نمطه في بعض البلدان العربية التي زرتها، يحبون اتباع نمط الحياة الغربية في الاختلاط والرقص. ويودون أن تتبع زوجاتهم نمط الحياة التقليدية. ياله من تناقض!"
انسحبت النساء إلى ركن في الصالون يتحادثن في شؤون نسائية. ويبدو أن الإيطالية كانت في البداية محور الحديث، بينما جلس بعض الرجال في الركن الآخر من الصالون يتحادثون. فجأة أصبح النقاش أوربيا، انضم إليه الأوربيون الآخرون ساحبين بعض المقاعد من المائدة للالتحاق بالآخرين. انشغلت على المائدة مع وجدي والجزائري الآخر بالمهندس السكران الذي لم يفقد وعيه تماما فينام ويريحنا، ولم يخرج ما في جوفه فيصحو. فظل يغني تارة ويهذي أخرى، ويلعب بالكؤوس والزجاجات والصحون، ويرقص كأن في داخله نابض بطاقة لا تنفد. وكان حين يريد أن يسب الإيطالية يسبها بالعربية الدارجة بكلام بذئ. نهرناه ووبخناه ولكننا لم نستطع إسكاته.
كنت ألتقط بأذني أحيانا ما يحدث في الصالون حين يهدأ المهندس السكران، وقلما يفعل. كان الإنجليزيان والألماني والفرنسي والبلجيكي والإيرلندي يتناقشون في الوحدة الأوربية. تحدث الفرنسي عما يخسره الفلاحون الفرنسيون في هذه الوحدة، وتحدث الألماني عما يربحه الصناعيون الألمان وما يخسرونه، وتساءل الإنكليزي عن مصلحة البريطانيين فيه. وكذلك كان الآخرون يوازنون بين ما يستفيدونه وما يغرمونه. كان نقاشهم هادئا وبالأرقام، دون تشنج ودون أن يقاطع أحدهم الآخر أو يرفع صوته عليه. كانوا يريدون الوصول إلى وحدة تحقق مصالح شعوبهم بالتراضي والإجماع. شعرت بالغيرة فالديموقراطية عند الأوروبيين ليست شعارات بل سلوك يمارسونه فيما بينهم. وأما سلوك حكوماتهم معنا فذلك شيء آخر.
دقت الساعة الرابعة والنصف صباحا حين ودعنا أساتذة المعهد وخرجنا. تكفل الطبيب الجزائري وزوجته بإيصال المهندس السكران إلى داره. وركبت معنا الطبيبة النمساوية لأنها لا تقود السيارة إذا شربت، ولم تشرب في السهرة إلا بعد أن ضمنت أن من سيوصلها لن يشرب الكحول. أوصلنا الطبيبة إلى شارع صالح بوعكوير، وجانين إلى العربي بن مهيدي، ثم اتجهنا إلى الدار، وأنا أشعر أنني في حلم.
- 70 -
قضيت اليوم في تنظيف الدار وترتيبها، فزائرة اليوم ليست عادية. ولا أريد أن تقع عين جانين على ما يصغرني في عينيها أو يصغر من أنتسب إليهم. جاءت في الموعد. قرع جرس الباب مع دقات الخامسة. فتحت لها وتعانقنا طويلا. نزعت عنها معطف الفراء، ثم جلست وأمسكت يدها لأعبر لها عن سعادتي بقدومها، وقبل أن أفتح فمي قرع جرس الباب.
أجفلت فجأة وسألتني: "أتنتظر أحدا؟"
قلت: "لا" وتلكأت في الذهاب إلى الباب خوفا من زائر ثقيل يحرمني من الانفراد بجانين. نظرت من العين السحرية فوجدت رجلا وامرأة ولم أتبينهما جيدا في ضوء السلالم، وفتحت الباب فوجدت أمامي أمي وأخي محمود.
فوجئت بقدوم أمي وأخي وعانقتهما بحرارة، وحملت إحدى الحقيبتين وأدخلتهما، بينما أدخل محمود الأخرى. بدا علي الحرج وأنا أقدم جانين لهما وأقدمهما لها. تلعثمت واصطبغ وجهي بالحمرة. تبادلت أمي وجانين بعض عبارات المجاملة بالعربية والفرنسية التي تعرفانها، وأخذت كل منهما تبتسم للأخرى تأدبا ومجاملة، وهي تنظر إليها خلسة بعين المرأة الفاحصة.
أمي في الثانية والخمسين، وأنا أصغر أبنائها، ينبئ وجهها المنقط بالوشم في أعلى الجبين وأسفل الدقن، وإن علته بعض التجاعيد بما كان لها من جمال لم تزل عيناها السوداوان اللتان ورثت عنها لونهما وسعتهما وجاذبيتهما شاهدة عليه. وعليها ثوب أسود مطرز من الثياب التقليدية، وقد أزاحت الغطاء عن رأسها فظهر شعرها المحتفظ بأناقته مصبوغا بالحناء، وقد زينت جيدها ويديها بعقد وأساور فضية تقليدية. أما جانين فكانت في ثوبها القصير الأزرق العاري الذراعين والكتفين، والجزء الأعلى من الصدر والظهر، والذي ينحسر وهي جالسة فيرتفع شبرا فوق الركبتين. وشعرها الذهبي منسدل على ظهرها. كانت في أبهى زينتها، تنتعل حذاء أزرق بكعب سامق في العلو، وتزين جيدها بعقد اللؤلؤ الذي كانت تضعه بالأمس. هما تنتميان إلى حضارتين مختلفتين في النظرة إلى الجسد، حضارة العري، وحضارة الحجاب. فالأوربيون منذ الإغريق يهتمون بإبراز مفاتن المرأة في التماثيل واللوحات وتصميم الثياب ويعتبرون إبرازها يبهج الحياة ولا يشين الأخلاق. بينما سكان الشمال الإفريقي ينتمون إلى حضارة تحجب المرأة وتخفي مفاتنها، ويعتبرون إخفاءها وحجبها أساس الأخلاق.
نظرت إلى الساعة، وأدركت أني إن لم أشتر اللحم والخبز الآن للعشاء ستغلق المحلات. لم أدر ما أصنع، فأخذت القفة واعتذرت من جانين ولم أترك لها مجالا للكلام. تركتها مع أمي ونزلت مع أخي إلى السوق. من حسن حظ جانين أن أمي لا تعرف الفرنسية، وإلا لطرحت عليها عشرات الأسئلة عن أصلها وفصلها وعمرها وعملها، وماذا تريد من ابنها؟ وماذا تفعل في بيته؟ وما نوع العلاقة التي تربطها به؟ وهل تزوجنا فعلا أم أننا ننوي الزواج؟ إلى آخر ما هنالك من الأسئلة التي لا تعرف جانين حتى الآن، ولا أنا لها جوابا. لا أدري ما حدث بينهما، ولكنني عندما عدت مع أخي، همت جانين بالانصراف فرجوتها البقاء للعشاء معنا فاعتذرت.
هبطت معها إلى سيارتها وأنا أعتذر لها عن فشل مشروع السهرة. لم يظهر عليها الانزعاج في البداية وقالت لي: "لا تعتذر فليست الغلطة غلطتك". ولم تزد على ذلك. وما إن ركبت السيارة حتى عبرت عن غضبها بإطلاقها العنان لها دون توديع.
تهاطلت الأسئلة علي بعد صعودي إلى الدار عن علاقتي بجانين. وأدركت أن هذه الزيارة ليست بريئة، فلا شئ يخفى في هذه البلاد، ولكن من نقل الخبر إلى بوسعادة؟ طلبت أمي سجادة الصلاة، وأخرجت غطاء الصلاة الأبيض من الحقيبة، فوضعته على رأسها، وبدأت بقضاء صلاتي الظهر والعصر. ثم دخلت إلى المطبخ لتحضر العشاء.
كان ما خمنته صحيحا، ففي الجزائر كل الناس يراقب بعضهم بعضا. لا يفلت أحد من الرقابة، فكل فرد هو فرع صغير في شجرة مليئة بالفروع والأغصان، وما إن يتحرك فرع منها حتى ينتقل اهتزازه إلى فروع وأغصان الشجرة كلها. وقد وصل خبر علاقتي إلى "البلاد". ولم يصل إلى أمي حتى أخذ أشكالا مختلفة، فهناك من قال: "إنه تزوج برومية"، وهناك من قال: "إنهما ينويان الزواج"، وهناك من ادّعى أننا نسكن معا ونتعاشر دون زواج. صدمت أمي بالنبأ، وعندما أخبرتها بالهاتف بأني لن أحضر في العطلة كعادتي، قررت المجئ على جناح السرعة مع أخي محمود لأنه أحب إخوتي إلي ويقاربني في السن، ويمكن أن يعرف مني ما لا تستطيع معرفته.
دعوت وجدي إلى العشاء معنا. عرفته بأمي وأخي، فشكراه وأسرته على عنايتهم بي في القاهرة. وقالت له أمي: "لقد سمعنا بمجيئك إلى الجزائر، وكنا ننتظر حضورك مع وجدي إلى بوسعادة في العطلة". قلت لأمي: "سنحضر إن شاء الله في عطلة الربيع".
ـ "هذا وعد. ستحضر لنا وجدي، وتقضي العطلة معنا".
ـ "وعد أفي به إن شاء الله".
ـ "على بركة الله. سنؤجل ختان إبن اخيك محمود إلى حين قدومكما لتشاركانا الأفراح".
– 71 -
سألتني أمي بعد انصراف وجدي، وبينما كان أخي محمود يستحم: "هل تزوجتما؟"
ـ "لا يا أمي. ليس بعد".
قالت راجية مستعطفة: برضاي عليك يا بني، لا تتزوج رومية".
ـ "لماذا يا أمي؟ إنها امرأة طيبة وعاقلة"
ـ «حاشا لله يا بنيّ. أنا لم أذمها، ولم أقل إنها ليست طيبة. لكنها ليست من ثوبك. دينها ليس ديننا، وعاداتها ليست عاداتنا. انظر إلى ثوبها إنها شبه عارية. سيتحدث الناس عنك وعنا بالسوء. وستأخذك منا ويصبح أولادك روميين".
قلت لها ضاحكا وممازحا: "أليس حسنا أن يكون أولادي روميين شقرا؟"
ـ "أنا لا أمزح يا بنيّ. هل تريد أن تفضحننا في بوسعادة. وأن يقول الناس: "ابن الإمام تزوج من رومية".
ـ "لا تشغلي بالك بهذه المسائل، واتركي الأمور لله".
ـ "سبحانه فكل شيء بإرادته، ولكن عدني يا ولدي بألا تتزوجها".
ـ "لا أستطيع أن أعدك بشيء يا أمي، ولكني سأفكر في الأمر".
قلت لها ذلك لأطمئنها وأنهي النقاش، ولم تكن لدي نية ترك جانين. لكن ما قلته لم يطمئنها، فقالت: «صح ما توقعته إذن. سحرتك هذه الرومية وأخذت عقلك". وحين لم أعلق على كلامها، أضافت: "خيّرتُك بعد عودتك من القاهرة أن تتزوج ابنة عمك شريفة أو ابنة خالك أمينة، فقلت إنك لا تفكر في الزواج. واليوم إذا أردت، أخطب لك إحداهما أو غيرهما من بوسعادة أو باتنة أو حتى من العاصمة، جزائرية مسلمة مثلنا".
ـ "الزواج قسمة ونصيب كما تقولين دائما يا أمي".
ـ "أرجو أن يقدم الله ما فيه الخير".
سهرت طويلا مع أخي بعد أن نامت أمي، وعلمت أنها كلمت خالي بالهاتف من بوسعادة، وطلبت منه التدخل والضغط علي، كيلا أتزوج جانين، فرفض العروسي التدخل. ولكنها اتفقت معه أن تحضر إلى العاصمة لتراني، ثم ترافقه إلى باتنة. سألني بعد أن حدثته عن جانين: "هل قبّلتها؟"
ـ "نعم".
ـ "هل..."
وقاطعته قبل أن يكمل: "لا أحب أن يسألني أحد هذا النوع من الأسئلة".
ـ "ولكني أخوك وصديقك، ولم نتعود أن يخفي أحدنا عن الآخر شيئا".
كان ما قاله أخي صحيحا، فقد كنا من صغرنا صديقين حميمين، نتحدث في كل شيء، ولا يخفي أحدنا عن الآخر شيئا. هو أقرب إخوتي إلي في العمر والطباع، وأنا قريب الشبه منه في الشكل مع ميله أكثر إلى البدانة. ولكني منذ سفري إلى القاهرة ومكوثي بها أربع سنوات، أصبحت لي خصوصيات لا أحب أن أناقشها مع أحد. او على الأصح لا أحب أن أناقش تفصيلاتها. لا بأس أن يعرف أخي بعلاقتي بجانين وحبنا المتبادل. ولكني لم أعد أقبل أن يعرف كل صغيرة وكبيرة في حياتي العاطفية. تعودت أن تكون لحياتي الخاصة حرمة وألا تكون مشاعا كما كانت في الماضي.
قلت له: "أرجو ألا تنزعج فلكل إنسان أسرار خاصة يحتفظ بها لنفسه".
ـ "ليست لدي أسرار خاصة أخفيها عنك، فأنت أخي وصديقي".
ـ "لا علاقة لهذا بالأخوة والصداقة، فعلاقتي بجانين ليست ملكي وحدي، وأسرارنا تخصها هي أيضا، ولا يجوز لي أن أبوح بها لأحد".
انتهى النقاش عند هذا الحد، وسكت محمود مرغما. لم يقتنع ولكنه اعتقد أن الفتاة الفرنسية غيرتني. كنت صادقا فيما قلته. أحسست في هذه السنوات بفرديتي وحريتي، كما أحسست بحرمة علاقة الحب، وبأنه لا حق لي في أن أذيع أسرارها.
قال بعد برهة ليغير الموضوع: "هل تحتاج إلى السيارة في العطلة؟"
ترددت قليلا ثم أجبته: "لست بحاجة إليها فجانين لديها سيارة".
ضحك وقال: "لن أترك هذه الفرنسية تقودك فأنت الرجل. سأترك لك "الرينو" وسأستعمل الشاحنة الصغيرة. أنا عائد غدا صباحا، وأمك ستذهب مع أخيها إلى باتنة، وستحضر لي السيارة في عطلة الربيع".
شكرت أخي على السيارة. وكنت كثيرا ما أستعيرها منه وأستعملها في عطلة الصيف، ويكتفي بالشاحنة الصغيرة في عمله كتاجر للتمور والصناعات التقليدية. وهو شريك لعمي المقيم بفرنسا، ولديهما متجر في بوسعادة ومتجر في ليون.
- 72 -
تغدينا عند خالي. وصلنا قبيل العاشرة إلى بيته. أعدت زوجته لنا "رشتة بالمرق واللحم". لم يفتح أحد موضوع جانين معي. أوصلت أخي محمود إلى محطة سيارات الأجرة المتجهة إلى بوسعادة، وأخذت منه أوراق السيارة وعدت إلى بيت خالي لأمكث مع أمي حتى المساء. كنت تعبا من سهرة الليلتين السابقتين فنمت حتى السابعة. وحين نهضت ودعت أمي وخالي وزوجته وابنته الذاهبين إلى باتنة في الغد.
اشتقت إلى جانين وليس لدي هاتفها. وعدتها أن نقضي العطلة معا، لكن البرنامج اضطرب الآن. قررت أن أذهب إلى منزلها. وضعت إصبعي على الجرس في الساعة الثامنة. ترددت في البداية وضغطت عليه. فتح الباب جزئيا، وظهرت وراء السلسلة التي لا تسمح بفتحه كليا صبية شقراء في سن جانين تقريبا، في ثوب بيتي برتقالي. بادرتها بالسؤال: "هل الآنسة جانين هنا؟"
ـ "من يطلبها؟"
ـ "أنا عابد، زميلها في المدرسة الإنجليزية".
ـ "آ".
أغلقت الباب، ونزعت السلسلة ثم فتحته قائلة بحرارة، وبوجه بشوس: "مرحبا بك. أنا "مونيك"، شريكتها في السكن". مدت يدها لي ومددت يدي قائلا: "تشرفنا".
ـ "جانين ليست هنا. ذهبت إلى حفلة عيد ميلاد. وأعتقد أنها لن تعود قبل الحادية عشرة".
أحسست بقلبي يهوي من موضعه، وبقدمي تخوناني. إذن ذهبت مع جاك. تجلدت، وتحاملت على نفسي، وشكرت مونيك وهبطت السلالم. لم أدر إلى أين أذهب، فتركت السيارة قريبا من منزل جانين، ومشيت في الشوارع بلا هدف، والصور تتزاحم في رأسي. لكن صورة واحدة استبدت بمخيلتي وطردت الصور الأخرى: صورة جاك يراقص جانين ويضمها بين ذراعيه، وهي تعانقه طائعة مستسلمة.
الطقس شديد البرودة، والريح الصقيعية تلفح وجهي. بدأ المطر رذاذا ثم حبات ثم رشاشا. لم أبال بالريح والمطر فقد كنت أحترق من الداخل. وجدت نفسي من جديد في شارعها. كانت الساعة تقارب العاشرة. أحسست بجفاف في حلقي فدخلت إلى مقهى كتب عليه "قاعة الشاي" خلف بناء "الأروقة الجزائرية". لم أكتشف أنه حانة إلا بعد جلوسي على أحد مقاعد "الكونطوار". لم أنتبه لمن حولي. طلبت زجاجة من ماء "موزاية" المعدني مع شراب النعناع. ناولني النادل ما طلبت بسرعة وأخذ الثمن مقدما. كان صوت عمار الزاهي ينبعث من مكبر الصوت بأغنية "نستاهل الكية أنا اللي بغيت".
انبعثت من جانبي الأيمن فجأة رائحة عطر نفاذة اختلطت بروائح التبغ والخمور في الحانة. وسمعت صوتا أنثويا يتحدث، ولكني كنت مشغولا بالنار المشتعلة في روحي فلم ألتفت إلى اليمين. أحسست بشيء يضغط على قدمي. نظرت فإذا بقدمها فوق قدمي. ظننت أنها لم تتعمد، فسحبت قدمي. أعادت الكرة وضغطت بكل ثقلها. رفعت رأسي ونظرت إليها. لم أستطع أن أتبين وجهها الحقيقي. رأيت قناعا من المساحيق البيضاء والحمراء والسوداء على وجنتيها وفمها وحول عينيها تجعل من المستحيل تحديد عمرها. قالت وهي تضع في فمها سيجارة بلهجة سوقية، وهي تتمايل متصنعة الدلال: "أشعل لي".
ـ "أنا لا أدخن وليس معي كبريت".
أعطتني ولاعة كانت تخفيها في يدها، فأخذتها وأشعلت لها السيجارة، فأحاطت يدي بيدها وأنا أشعلها. ثم قالت بلهجة استعطاف ودلال: "اطلب لي حاجة".
ـ "بشرط أن تشربي مثل ما أشرب".
نظرت إلى كأس الماء المعدني بالنعناع، وقالت: "لا. اريد أن أشرب "أمباسادور". وأمسكت يدي بيدها ونفثت دخان سيجارتها في وجهي، وأضافت: "هل هذا كثير علي؟"
ـ "بل كثير عليّ أنا". قلت لها ذلك وأنا أسعل وأطرد بيدي دخان سيجارتها عن وجهي وعيني. لم أكمل كأسي، ونهضت مغادرا الحانة بسرعة قبل أن أسمع بقية سبها البذيء.
سرت على غير هدى والريح تضرب وجهي وتعبث بشعري وملابسي، والمطر تستمر بشدة ثم تتوقف. كنت أعود دائما من حيث بدأت. لا أدري كم مرة مررت قرب عمارتها، ووقفت مقابلا شرفتها. وفي المرة الأخيرة نظرت إلى الساعة فإذا بها تقترب من منتصف الليل. كنت أهم بالذهاب حين توقفت سيارة سوداء من نوع بيجو. إنها سيارة جاك، وهي جالسة بالقرب منه. كانا بلباس السهرة، وكان يتظرف أمامها ويتذلل. لا أدري ماذا قال حتى ابتسمت، وكأنني رأيت وجهها يحمر. لا أعرف كيف التقت عيناها بعيني، وكيف رأتني. تغير وجهها فجأة، ونزلت بسرعة من السيارة، لكنني كنت أسرع منها، فاختفيت في أول عطفة من الطريق. ظللت أركض كأنني مطارد. همت على وجهي في الشوارع والأزقة طويلا، والأفكار السوداء تلاحقني، والأوهام تنمو وتعرش في جدارن مخيلتي بسرعة كالنباتات الطفيلية المتسلقة. وجدت حزمة جرائد قديمة في مدخل إحدى العمارات، فأخذت واحدة. أخرجت قلمي وبدأت أسفح على هوامش الجريدة مشاعري التي تكاد تدمرني:
"حبيبتي
ماذا صَنَعْتِ بحُلمِنا؟ فجعلتِهِ في لحْظةٍ يَنْهارْ
أيْنَ تلاشى عِطْرُهُ المُسْكِرُ
كيْفَ خبا بريقُهُ المُبْهِرُ
كيْفَ استَبَدّ الأسْوَدُ القاتِمُ بالألْوانْ
وعادَ كابوساً مُريعاً يُمْطرُ الأحزانْ
فُجِعْتُ فيكِ يا حبيبتي
حسبتُ في عينيْكِ مَرْفأ الأمانْ
حلمتُ أنْ أغْسِلَ في صفْوِهِما الهمومَ والأحزانْ
ظننْتُ فيهما الملاذَ والمعاذَ من عواصف الزّمانْ
فكانتا أحبولةَ الشّيْطانْ
وهُوّةً سحيقةً بعيدةَ الأغوارْ
ولُجّةً بِلا قرارْ
تُهلِكُ مَنْ يخدَعُهُ بَريقُها
وتبتلعْهُ كائناً مَنْ كانْ
*
تُحيطُ بي الشّكوكُ يا حبيبتي
دوّامةً تحملُني لفوهةِ البُرْكانْ
تُحْرِقُني بِسَفّودَيْنِ ناريّيْنْ
تَعمى بهما العيْنانْ
*
تنْهشُني الشّكوكُ يا حبيبتي
تمسخُ إِنْسانِيّتي
تُحْرِقُ كلّ أخضرِ
تخْنقُ كلّ مُزْهِرِ
في داخلي
توقظُ الوحْشَ والدّودةَ والثّعْبانْ
*
أحارُ يا حبيبتي بيْن شُكوكي وَهَواكْ
لو أنّني أُشفى من الظّنونْ
لو أنّني أعرف باليقينْ
هل أنتِ يا حبيبتي ملاكْ
أمْ أنتِ يا مُغْوِيَتي شيطانْ".
لا أدري متى عدت إلى السيارة بعد ساعة أو ساعتين، فركبتها وانطلقت بها في الشوارع الفارغة. أثبتّ ليلتها كرويّة العاصمة. كنت أدخل في شوارع وأخرج من شوارع لا أعرفها في الأبيار وديار السعادة وحيدرة وباب الواد وحسين داي، وأجد نفسي من جديد في شارع العربي بن مهيدي. وحين وصلت إلى الدار كانت الساعة تدق الرابعة صباحا. وجدت منديل جانين على مقبض الباب مضمّخاً بعطرها وكتب عليه بأحمر الشفاه "أحبك" فشممته، وضممته، وقبلته. دمعت عيناي وقلت في نفسي: "ويلي من جانين، ومن حبها. لم أعد أثق فيها، ولكني لا أستطيع العيش من دونها". فتحت الباب، فوجدت ورقتين منتزعتين من مفكرة صغيرة تحت عقب الباب. كتب في الأولى "حضرت في الساعة الواحدة فلم أجدك. جانين". وكتب في الثانية: "حضرت في الساعة الثانية فلم أجدك. "حبيبتك المخلصة جانين".
ابتسمتُ ابتسامة ساخرة، ورددت بصوت عال: "المخلصة". وعدتني ألا تذهب معه، وذهبت فأين الإخلاص؟ كاذبة مخادعة. ورغم تعبي وإرهاقي لم أستطع أن أنام. وحركت في الرسالتان مشاعر جديدة، فرأيت نفسي مضللا وساذجا ومخدوعا أمام ممثلة تتقن الزيف والكذب. فأخذت قلما وورقة وكتبت: "إلى ممثلة". ثم نثرت مشاعري على الورقة، ناظرا إلى صورة جانين المعلقة على الحائط، كأني أخاطبها:
"لا تعجبي
إنْ بَخِلَتْ كَفّايَ بالتّصفيقْ!
وَلَمْ أُهَلّلْ
لَمْ أَثِبْ عَنْ مَقعدي مُشَجِّعاً
لمْ يَلْتمِعْ في مُقلتي بَريقْ
لا تعجبي
فلم تفُتْني روْعة المشْهَدْ
لكنّني وقفتُ مشْدوهاً
وحولي النّاسُ مُعْجَبينَ يَهْتِفونْ
كنتُ الأبْلهَ الأوْحَدْ
ولمْ أكُنْ أدري- كما يدرونْ
بأنّ ما رأيتُهُ مَشْهَدْ
بَهَرْتِني يا بَطلَهْ
يا نجْمَة الأدْوارِ يا مُمَثِلَهْ
*
زَرَعْتِ دَرْبي أحْرُفاً
مُخْضَرّةَ الظِّلالْ
أبْحَرْتِ بي
في مركبِ الأحْلامِ والآمالْ
لجنّةٍ... يمْرَحُ فيها اثْنانْ
ومَوْعِدٍ... يقطفهُ ثَغْرانْ
وقلتِ لي.. حلفْتِ لي
بأنْ تكوني العمرَ لي
رفيقة الحاضرِ والمستقبلِ
فلا تلومي طيّباً
ذوّبَهُ عذْبُ الكلامْ
ولمْ يُمَيّزْ ما بِهِ
مِنْ نَبْرَةٍ مُفْتعَلهْ
ما ذنْبُهُ
وقدْ أجَدْتِ الدّوْرَ يا مُمَثِلَهْ
**
حبيبتي
حبيبة الأمْسِ إذا ما ناحْ
يوماً بِرَوْضِكِ بُلْبُلٌ
كانَ بِها صَدّاحْ
وإذا لمَحْتِ بعينِهِ عَبْرَهْ
وإذا رأيتِ بجُنْحِهِ رَعْشَهْ
فلا تظُنّي أنّهُ حنّا
فصبا يُمَرِّغُ خَدّهُ
لِيَبُثكِ الأشْواقَ والحُزْنا
لكنّهُ.. وإِنْ رأى أحلامَهُ توأدْ
لم تُنْسِهِ أشْجانُهُ بَراعَةَ المَشْهَدْ
فأتى يدُقُّ البابَ لوْ سمحتِ لَهْ
لِيَقول: مَرْحى
قدْ بلغْتِ قِمّة الإبْداعِ يا مُمَثلَهْ".
نقلت القصيدة الأولى من الجريدة على ورقة، ثم قرأتها فلم تعجبني. فيها انفعال صادق، لكن بناءها الفني ضعيف. مزقتها واحتفظت بالقصيدة الثانية، واستسلمت للنوم مع إطلالة الفجر.
- 73 -
أيقظني جرس الباب وأنقذني من كوابيس مفزعة تتعلق بجاك وجانين ومقادري وحكيم بوعلام وعبد الرحمان السردي، وهم يطاردونني ويشتركون في تعذيبي. وأنا أستنجد بخالي ووجدي وعصام، وأحيانا أستنجد بجانين. أراها أحيانا تطاردني معهم. وأحيانا معي تشجعني على الهرب معها حتى لا نقع في أيديهم. وبرز وجه نوارة مرة تعاتبني وأنا أركض مع جانين بقولها: "تدّعي أنك مشغول بوجدي، وأنت مشغول بالفرنسية".
جرس الباب يرن باستمرار، ولا يتوقف. فتحت عيني بصعوبة، ونظرت إلى الساعة فإذا بها العاشرة. نهضت وفتحت الباب وأنا ما زلت مغمض العينين، فوجدت أمامي جانين ترتدي ثوبا ورديا، وتبدو فيه وردة حقيقية بدأت تذبل. كأنها لم تنم ليلة الأمس. قالت لي بصوتها الكناري: "صباح الخير". كانت تنظر إلي نظرة ذات مغزى متعددة المعاني. فيها عتاب، وفيها اعتذار، وفيها براءة، وفيها مكر، أو هذا ما خيل إلي. لا يمكنك أن تقابل هذا الوجه الجذاب المشرق إلا بالابتسام، وإلا لكنت إنسانا همجيا فاسد الذوق.
ابتسمت وأنا أرد التحية ودعوتها إلى الصالون. لم نتصافح أو نتبادل القبل كالعادة. غسلت وجهي، وقلت لها من المطبخ: "سأحضر القهوة". جاءت إلي، وقالت: "سنحضرها معا". أعددنا الحليب والقهوة في صمت. سألتها: "هل أنزل لأحضر لك كرواسان؟"
ـ "لا. شربت الحليب في الصباح. سآخذ القهوة معك". سألتني: "هل وجدت الرسائل والمنديل؟"
ـ "نعم".
فاجأتني بسؤال لم أكن أتوقعه: "هل تثق بي؟"
سكت، ولم أدر ما أقول، ثم أجبت: «وعدتني ألا تخرجي معه".
ـ "هذا صحيح وأنا لم أخرج معه. اتصلت بي "برناديت" صاحبة الحفلة، وألحت في أن أشاركها عيد ميلادها. حضرت وأخذتني في سيارتها، ولم تتركني أستعمل سيارتي. وفي العودة اقترح جاك أن يوصلني، ولم أرد أن أتعب "برناديت". هذا كل ما في الأمر. ثم إني ظننتك مشغولا مع أمك وأخيك. ولو كنت أعرف أنك ستحضر لاعتذرت عن الحفلة. أتراني أخطأت؟ ألا يحق لي أن أذهب مع أصدقائي عندما تكون أنت مشغولا؟".
لم أجبها. كنت أعرف أنني مخطئ.
قالت: "لم تجبني عن سؤالي الأول: هل تثق بي؟"
سكت مرة أخرى، فقالت: "اعرف إذن أنني لا أخون من أحب، ليس خوفا من أحد، ولكن هذه أخلاقي وطباعي. أحببتك لأني وثقت بك، وأنا مثلك لا أقبل الخيانة ممن أحب ولا أخونه. وفي اللحظة التي أتوقف فيها عن حبك، أقول لك ذلك في وجهك وبصراحة. حتى وإن كنا متزوجين".
كنت أجلس قبالتها في الصالون. اقتربت منها وأخذت يدها وقبلتها، ودمعت عيناي ثم انهمرتا بالدموع. لم أتعود أن أبكي أمام أحد، لكن دموعي غلبتني، ودمعت عينا جانين، وتعانقنا طويلا. قلت لها: "سامحيني فالغيرة كادت تدمرني. أنا لا أحب هذا الرجل، لا أطيقه".
ـ "وأنا أستثقله، ولن تراني معه مرة أخرى".
توسدت ركبتها. كانت تمسح دموعي، وأنا أروي لها كيف قضيت ليلة الأمس. ترجمت لها القصيدة الثانية: "إلى ممثلة" شفويا. ووعدتها أن أكتب لها ترجمتها فيما بعد. أصرت على سماع القصيدة الأولى، فأخذت الورقة الممزقة وأعدت تركيبها، فألحت علي أن أكتب ترجمتها كالأولى، وقالت: "لا تهمني قيمتها الفنية بل قيمتها العاطفية. سأحتفظ بها كذكرى وأرجوك أن تحتفظ بها كذلك ولا تمزقها".
روت لي جانين بدورها كيف قضت الليلة. قالت: "رأيتك وأنا أودع جاك، وأسمع رغما عني غزله السخيف. نزلت من السيارة وحاولت المجيء إليك فاختفيت. لم أستطع أن أناديك أو ألحق بك في منتصف الليل. لم يرك جاك، ولم يعرف ما حدث. قلت له: "خيل إلي أني رأيت أحدا أعرفه". ولكنه شك في الأمر. ودعته مهمهمة: "سأكلمك فيما بعد، وشكرا على السهرة". لم أترك له فرصة للصعود معي إلى الشقة أو للتفوه بكلمة. انطلقت إلى غرفة مونيك فأيقظتها. فهبت مذعورة تسألني: "ماذا حدث؟"
ـ "لا تخافي، لا شيء، ولكني أريد منك خدمة".
ـ "كم الساعة؟"
ـ "منتصف الليل وعشر دقائق".
ـ "ماذا تريدين؟"
ـ "أن تنزلي معي الآن. لدي زيارة هامة يجب أن أقوم بها".
ـ "في هذه الساعة من الليل؟"
ـ "نعم. ولا أستطيع أن أذهب وحدي. أرجوك ارتدي ثيابك، وأنا سأغير ملابسي ونذهب".
ـ "إلى أين؟"
ـ "سأخبرك في الطريق".
كانت مونيك نصف نائمة، فلم تناقش الأمر كثيرا. ارتدت ثيابها، ونزلت معي إلى السيارة. لم أكن راغبة في الحديث، ولم تسألني مونيك لأنها عادت إلى النوم. وصلنا إلى مسكنك. أوقفت السيارة في الساحة، وأيقظت مونيك هامسة: "اصعدي معي".
ـ "إلى أين؟"
ـ "إلى شقة عابد".
ـ "هل جننت؟ أنت بالتأكيد مجنونة. ولكن ما دخلي أنا. هل تعرفين ما تصنعين؟ بالمناسبة، جاء يسأل عنك اليوم في الساعة الثامنة، فأجبته بأنك ذهبت إلى حفلة عيد ميلاد".
ـ "تقصدين أنه سأل عني بالأمس فالساعة الآن الواحدة صباحا".
كانت ما تزال نصف نائمة. صعدنا السلالم ووصلنا إلى شقتك. قرعت الجرس مرتين فلم يرد أحد. بحثت في حقيبتي عن ورقة لأكتب كلمة فلم أجد. أخرجت منديلي وكتبت عليه بقلم الحمرة: "أحبك"، وربطته على مقبض الباب. فجأة تذكرت المفكرة فأخرجت ورقة منها، وكتبت لك الرسالة الأولى. كنت عصبية في سياقتي ولم أجب في الطريق عن أسئلة مونيك المتلاحقة بعد استيقاظها. تجولنا في السيارة مدة ساعة ثم عدنا من جديد، وتركت لك الرسالة الثانية.
قضينا بقية النهار في المنزل. كان يوما من أسعد الأيام. هدأت نفسي وانتعشت روحي، وتمتعت بصحبة من أحب. طرقت الباب على وجدي ظهرا فأعلمني أنه كان مشغولا بالأمس مع زملائه المصريين. وسيذهب اليوم بعد الظهر مع فايزة لمشاهدة فيلم في المركز الثقافي المصري.
خرجت مع جانين من المنزل في السابعة مساء. أصرت على أن نذهب في سيارتها. تعشينا مشويات في"اسطاويلي"، ثم قمنا بجولة في شاطئ سيدي فرج وموريتي. وقفنا على البحر في قصر الصنوبر. الساعة العاشرة ليلا، والجو بارد لكنه صحو. كان قمر ذي القعدة في يومه الثامن يلعب مع النجوم لعبة الاستغماية، فيتناوبان في الاختفاء وراء الغيوم. لم أشعر بالبرد وهي بجانبي. قلت لها: "أريد أن أقضي معك بقية عمري حتى نصبح عجوزين نمشي على العكاكيز". نظرت إلي نظرة عتاب وقالت بدلال: "هل تقضي بقية عمرك مع شيطانة وممثلة؟ وبماذا وصفتني أيضا؟"
ركعت على ركبتي أمامها قائلا: "سامحيني يا ملاكي فقد أخطأت بحقك".
لقراءة الجزء التالي انقر هنا: 8- عطلة الشتاء ب
لقراءة الجزء السابق انقر هنا: 6- الثلاثي الأول: بريء أم مذنب ب
للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: جرس الدّخول إلى الحصّة
للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا: الرّوايـات