الورقة الثانية

من رواية حب في قاعة التحرير

     للكاتب عبد الله خمّار

 

 سحر الحبر الأسود

تنقسم مواد جريدتنا عادة إلى قسمين: الأركان والزوايا التي يراجعها سكرتير التحرير ورئيسة التحرير ويوافقان عليها قبل الاجتماع، وهي الصفحات والزوايا الفردية التي يعدها كل منا بمفرده. كريمة تعد صفحة "المرأة جمال وتدبير"، ومسعودة زاوية الطفل "العبْ وتعلم"، وسمير زاوية "من حكايات وأساطير الشعوب"، وشاكر صفحة "استبيان العدد"، وسامي ركن الرياضة، وحفيظة زاوية "صور مشرقة ومعتمة"، أما أنا فأعد ركن التسلية "فكّرْ وتمتـَّعْ". الأركان التي تناقش في الاجتماع هي الزوايا السياسية والاقتصادية وبقية الزوايا الاجتماعية والثقافية المشتركة. لكن عدد اليوم مزدوج ففيه ملحق خاص بعيد المرأة الذي يحل غدا السبت الثامن من مارس.

بدأت مناقشة مواد العدد العاشر بالافتتاحية. في هذا العدد بالذات هناك افتتاحيتان: واحدة للعدد العادي والثانية للعدد الخاص. يتناوب على كتابة الافتتاحية عادة تحت شعار: "بلا رياء" المديرة المسؤولة ورئيسة التحرير وسكرتير التحرير. لغة المديرة آسيا جيدة وكانت تعمل في مجال الترجمة من وإلى العربية في وكالة الأنباء. وأما رئيسة التحرير فعربيتها مقبولة إلا أنها متمكنة أكثر من الفرنسية ولكن لا مجال للمقارنة بين عبد الحفيظ وبينهما في إتقان العربية. كانت افتتاحية هذا العدد له، وافتتاحية العدد الخاص لرئيسة التحرير. قرأها علينا بصوته الجهوري المعبرّ، وهي كما قال تذكير للقراء بخط الجريدة الذي التزمت به في أعدادها العشرة، واعتمدت بالإجماع وهي بعنوان "سحر الحبر الأسود":

"ما السحر الذي يجعل من بقع الحبر الأسود الكالحة فوق الورق الأبيض والأسمر قناديل مضيئة تطرد عتمة الجهل والكره والتعصب، وجسور محبة بين الناس على اختلاف أعراقهم ومعتقداتهم وجهاتهم وطبقاتهم؟ أو يجعل منها أنيابا قاطعة وأظافر حادة وإبرا لاسعة وبنادق وسكاكين وفكوكا مفترسة؟"

ذكرتني الأنياب القاطعة والأظافر الحادة والفكوك المفترسة على الفور بعزوز الكاسر.

تابع عبد الحفيظ: "ما السحر الذي يجعل الصحفي الحاوي يدخل زجاجة الحبر في قبعته فيخرجها ورودا وزهورا، ويجعل صحفيا آخر يخرجها ثعابين وخفافيش وأفاعي؟

إنها القلوب العامرة بالحب للإنسان، المؤمنة بالمساواة بين البشر والطافحة بالتسامح الديني والعرقي أو تلك القلوب المفعمة بالكره والأنانية وحب الذات والتعصب العرقي والطائفي.

هذا الكم الهائل من الحبر الأسود مما يسفح كل يوم على ملايين الأطنان من الورق الأبيض والأسود في العالم لا يساوي شيئا بذاته ما لم يمزجه الصحفي بدم قلبه فيتحول إما إلى هذا وإما إلى ذاك. الصحفيون هم السحرة الخيّرون الذين يمارسون السحر الأبيض الذي يرقى بالإنسان والإنسانية ويفتح لها طريق الحب والأمن والسلام أو هم السحرة الشريرون الذين يمارسون السحر الأسود الذي يحول الحبر إلى مناشير تدعو إلى الكره والبغضاء، وإلى غابة مخيفة يتقاتل فيها الناس وتتصادم فيها الحضارات والأديان، وتشتعل فيها نيران الفتن العنصرية والجهوية في كل مكان.

عهد علينا أن نحول الحبر الأسود في جريدتنا إلى قناديل مضيئة وجسور محبة، وميثاق تسامح وطني وقومي وإنساني".

همست كريمة في أذني: "جعلنا عبد الحفيظ سحرة حواة، لو كنا سحرة حواة حقا لحولنا الحبر الأسود إلى دولارات، لا إلى ورود وزهور". غلبني الضحك.

دقت رئيسة التحرير على الطاولة ونظرت إلينا شزرا. قالت  كريمة همسا دون أن تلتفت إليّ: "ماذا تريد هذه البالونة المنفوخة؟" 

كانت رئيسة التحرير فعلا تشبه بالونة منفوخة فجسمها متضخم من كل الجوانب، ووجهها ورقبتها أيضا منفوختان من السمنة المفرطة، وأردفت كريمة:

" لوْ وَخزتها بدبوس لخرج الهواء الفاسد منها، ولأصبحت رقيقة وإنسانة عادية مثلنا".

غلبني الضحك مرة أخرى وأنا أتصور كيف يمكن أن يحدث ذلك. من حسن الحظ أن ساطع عبد الحسين  الصحفي العراقي بجانبها كان ثقيل السمع فقد جاوز الستين ولعل عذابيْ السجن والغربة جعلاه يبدو في الثمانين، وهو مع ذلك لم يتعود بعد اللهجة الجزائرية. قالت كريمة:

"ماذا نخسر دعنا نجرب. معي دبوس. هل تخزها أنت أم أنا؟"

نظرت إلينا زبيدة مرة أخرى من خلال نظارتها السميكة ووجهها الأحمر يكاد يتفجر الدم منه سمنة وغيظا.

عرض " سليمان" رسمي الكاريكاتير المصاحبين للافتتاحية. الأول يمثل حاويا بوجه باسم يدخل في قبعته زجاجة كبيرة كتب عليها "حبر أسود" ثم يقلب القبعة فيخرج منها ورودا وزهورا وقناديل مضيئة وكتب تحت الرسم: "الصحفي الإنسان"، والرسم الثاني  يمثل حاويا  يشبه "دراكيولا" بأنياب طويلة حادة، يدخل في قبعته الزجاجة نفسها ثم يقلبها فيخرج منها عقارب وأفاع وسكاكين ومسدسات. وكتب تحتها: "الصحفي الشيطان".

وبالمناسبة " سليمان" هذا هو نفسه رسام جريدة "صوت المواطن" باللغة الفرنسية. وهو فنان  يرسم لك ما تريد على هواك. فإذا تركته على هواه يتجاوز كل الخطوط الحمراء السياسية والدينية والأخلاقية، فهو لا يؤمن بأي قيمة سوى الفن. ويعتبر تجاوزاته هذه نضالا في معركة التنوير. وكثيرا ما تعرّض للسجن، وعرّض الجريدة التي يعمل فيها للإغلاق لخرقه كل الطابوهات. وغالبا ما ينجز رسومه في الحانة، يقولون: "إن رسومه تدوّخ لأنه يمزجها بالخمر التي يعاقرها". لكن جريدتنا لا تتركه يرسم على هواه  بل على هوى الخط الذي رسمته لنفسها

 *

عرض عبد الرزاق الشعّال الملف السياسي والاقتصادي الذي يتضمن الجزء الأول من تحقيق حول مافيا التهريب وحاويات الميناء، ومقابلات مع بعض مسؤولي الجمارك وبعض الأعوان والعمال والصحفيين  الذين تابعوا هذا الملف منذ زمن.

قالت رئيسة التحرير:

"كتب الكثير عن هذا الموضوع ولم يخرج منه شيء حتى الآن".

أجابها عبد الحفيظ: "نحن دولة حديثة، وأجهزة الرقابة لدينا ليست لديها السلطة الكافية، فمفتشو الدولة لا يتحركون إلا بأمر السلطة التنفيذية. ولابد أن ندعم الأيدي النظيفة التي تحاول تنظيف الميناء بتركيزها على هذه المواضيع. ومن الضروري أن تستمر رقابة الصحافة وتقوى مهما تعرضت للضغوط والخطر". اعتمد الملف بعد مناقشة قصيرة.

 *

عرض الصحفيان مسعودة وشاكر ملفا عن المتشردين والمتسولين الذين امتلأت الشوارع فجأة بهم. وزعت علينا صورٌ التقطت نهارا وليلا لعائلات كاملة تفترش الأرض مع أطفالها الصغار بعمر البراعم وعمر الزهور وأكبر قليلا ثم أكبر فأكبر، يمدون أيدهم وأوانيهم ويطلبون الصدقة بألسنتهم وبأوراق وضعوها أمامهم مكتوبة بالعربية والفرنسية، وبوصفات طبية. لم نكن بحاجة لرؤية هذه الصور فهذه المشاهد تقابلنا يوميا بشوارعنا وقرب مساكننا. صور تنغص القلوب وتضعف الثقة في الإنسانية.

قالت مسعودة: "الحقيقة أن ذلك لم يحدث فجأة، بل خلال عشرية كاملة، فعل فيها الإرهاب فعله فأجلى كثيرا من سكان المناطق المعزولة عن أحواشهم وبيوتهم بعد أن أمعن فيهم ذبحا وقتلا، وفعل فيها النظام فعله بتبنـّيه، اقتصاد السوق الوحشي الذي لا يرحم دون ضوابط أو حماية لعائلات العمال الذين سرحوا بسبب إغلاق المصانع والمعامل المفلسة من سوء التدبير والتسيير".

أضاف شاكر: "ليس هناك من لا يسمع كل صباح برنامج الأسرة في القناة الأولى وبرنامج سليم سعدون في إذاعة البهجة، وبرامج القناة الثانية والثالثة أيضا. كلها تحولت إلى برامج إغاثة للمعوزين والمحتاجين. طلبات عاجلة لا تنتهي للغذاء والدواء والكراسي المتحركة والأعضاء البلاستيكية للمعاقين، والكتب والمأوى وغيرها. وكل حصة منها حافلّة بالقصص التي تملأ القلوب غصات وتورم العيون من البكاء".

كنا جميعاً نستمع باهتمام إلى شيء أصبح خبزنا اليومي. قلت في نفسي: "هذه المناظر سجلها محمد ديب في ثلاثيته، ولكن في الأربعينيات من القرن الماضي زمن الاستعمار وها هي تعود الآن. لماذا الآن؟ ماذا حدث؟!"

قال "شاكر" وكأنه يقرأ أفكاري ويرد على سؤالي:  "حين يدير المسؤولون ظهورهم لنا، ويبحثون عن أمنهم وأمن أولادهم وأحفادهم وغذائهم وغذاء أولادهم وأحفادهم، وسكنهم وسكن أولادهم وأحفادهم، وحين تتشابه الأحزاب في التسابق نحو الكراسي لا في رقابة المسؤولين. يحدث هذا ". اعتمد الملف.                 

رأيت دمعتين تنحدران من عيني كريمة وهي تتفحص الصور وحانت مني التفاتة إلى سماح فوجدتها شاردة. ليست معنا بالمرة، وكأن هذه المواضيع لا تعنيها. طبيعي ألا تحس بنت الأكابر بآلام الفقراء.

قلت لكريمة: "تجلدي. يجب أن يكون الصحفي قوي القلب كالطبيب والممرض ليتمكن من ممارسة مهنته". مسحت دموعها، ولم تستطع أن تجيبني لأن صوتها خنقه البكاء.

فجأة شهق ساطع عبد الحسين وكاد يقع على الأرض، أمسكه عبد الحفيظ وكريمة. حلّ ربطة عنقه الخضراء والأنيقة وأحضرنا له قليلا من الماء فتناول حبّة من علبة في جيبه وبلعها مع الماء.

قال له عبد الحفيظ: "هل نحضر الطبيب أو ننقلك إلى المستشفى؟"

-   "لا. أحس بتحسن ولكن أحتاج إلى عشر دقائق لأستريح ثم أعود بعدها لتكملة الاجتماع".

أخذه عبد الحفيظ إلى مكتبه وطلب من العم صالح البواب أن يبقى بجانبه وعاد إلينا.

 *

جاء دور التعليق السياسي الساخر الذي يكتبه عزوز الكاسر بعنوان "صيد الأسبوع" ويوقعه باسم "قنّاص". كنت أقرأ له في الصحف اليومية قبل أن يكتب في جريدتنا. معظم مفردات قاموسه من الشتائم القبيحة التي لا علاقة لها بالنقد السياسي. لم يكن حاضراً، فهو يكتب من خارج الجريدة. أعرف أنه وسيم إلا أن هناك تناقضاً واضحاً بين وسامته وقبح هجائه. لا بد أن المديرة وظفته ليتم تشكيلة الصحافيين، ولأن تعليقه يزيد من مبيعات الجريدة فقراؤه كثيرون. وفي الحقيقة لم أهتم كثيرا بسماع التعليق، وهو اليوم عن أحد الوزراء في الحكومة، لكن بالتلميح دون التصريح حتى لا يتعرض للمساءلة القانونية.

سألت عبد الحفيظ مرة: "لماذا سمحتم لهذا الصحفي بالعمل وأنتم تعرفون أن توجهه يخالف خط الجريدة المتمثل في مد جسور المحبة بين الناس؟"

حكى لي قصة ناشر فرنسي في القرن التاسع عشر  كان ينشر الموسوعات العلمية العظيمة، وفي الوقت نفسه ينشر الروايات البوليسية. وحين سئل كيف يقبل نشر هذه الراويات التافهة؟ أجاب: "لو لم أنشر هذه الروايات لما استطعت أن أخدم العلم بنشر هذه الموسوعات المكلفة والتي لا يشتريها إلا عدد قليل من العلماء ولو لم أنشر هذه الراويات لنشرها غيري لأن لها قراءها".

- "لكن الأمر مختلف هنا".

-" بالعكس، فبعض الناس لا يقرؤون  الصحف لمجرد الأخبار. هم  يريدون أن يجدوا شيئا جديدا مثيرا فيها. لا بد أن تحتوي الجريدة على بعض البهارات الحارة وتعليق عزوز الكاسر هو هذه البهارات".

- "أخاف أن تصبح مدرسة يتبعها كثيرون".

- "المدرسة التي تعتمد على سلاطة اللسان في الصحافة منتشرة بكثرة في العالم الثالث أكثر من تلك التي تعتمد على منهجية التحليل والتعليل. ولا نستطيع الوصول إلى صحافة نظيفة من السنة الأولى. لا بد أن نجمع في جريدتنا بين المدرستين، حتى يتعود الشعب تدريجيا على صحافة بلا هجاء".

 *

 اقترحت المديرة استراحة لمدة عشر دقائق وخرجتْ على الفور مع عبد الحفيظ للاطمئنان على ساطع عبد الحسين. جلست أتأمل وجوه من حولي وأستعيد ذكريات الشهور السابقة التي قضيناها معا عند الإعداد لصدور الجريدة وبعد صدورها. تساءلت في البداية: "كيف يمكن أن تشكل هذه الأنغام المتنافرة من صحفيي الجنسين المختلفين في الاتجاهات والطباع والأمزجة والأعمار سمفونية متناغمة؟"

كنت معتادا على النغم الواحد ولم أنشأ على سماع  السمفونيات متعددة النغمات. كنت أعد هذا التعدد نشازا واكتشفت أنه ليس كذلك. نظرت إلى صور الصحفيين المعلقة على الجدران من ضحايا الإرهاب. كانوا مثلنا من الجنسين ومن مختلف الأعمار والاتجاهات، ولاشك أنهم كانوا مختلفين  في الأمزجة والطباع. كانوا من صحفيي القطاع العام والخاص، من الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية، ممّن يكتبون بالعربية والفرنسية. لم يفرق القتلة الإرهابيون بينهم. قتِلوا لأنهم كانوا يقومون بواجبهم كصحفيين. قتلوا لتموت الكلمة سواء أكان من يقولها رجلا أم امرأة، يمينيا أم يساريا، متدينا أم ملحدا. من القطاع العام أم الخاص، يكتب بالعربية أم بالفرنسية.

بدءاً من العدد الماضي بدأت أحس بروح الفريق، وبدأت أقبل الاختلاف كحقيقة واقعة وأؤمن أن جريدتنا سمفونية متناغمة يثريها تعدد النغمات ولا يفقرها.

وقف عبد الحفيظ بجانبي وهمس وهو يشير إلى صور الصحفيين بصوت أقرب إلى الحشرجة منه إلى الحديث: "معظمهم قـُتِلوا في أحيائهم وأمام بيوتهم. كنّا نعرف أنّنا مستهدفون ولكن لم يكن باستطاعة معظمنا تغيير مقرّ السَّكن هرباً من الإرهاب أو الإقامة بأماكن محروسة، فسقط بعضنا شهداء المهنة والواجب. لم يحِنْ أجلنا بعد فذهبوا وبقينا، ولكنهم وهبوا دمهم فداءً للحريَّة التي يجب أن نحافظ عليها كيْلا تذهب تضحيتهم هدراً".  

 *

استؤنف الاجتماع وطلِبَ مني أن أقدم عرضا عما أنجزته هذا الأسبوع. لم يكن دوري ولكنّ عبد الحفيظ طلب مني قبل بداية الاجتماع مرافقة الصحفي العراقي إلى منزله بعد تقديم عرضي مباشرة. أوردت ملخصاً عن المقابلة الأدبية وأشرت إلى استيائي من حذف المخرجة بعض الأبيات منها. نظرت إليها. كان وجهها كالعادة متجهما كالحاً غير مبالية بي وباستيائي، ثم قدمت بعض الأخبار الثقافية بما فيها بدء التدريبات على أوبريت "أعداء الحب" مع وعد بإجراء حوار مع المخرج والملحن والبطلة في الأعداد القادمة.

توقعت أن يحتج سامي زميلي في الصفحة لأنه شاعر وأديب وأحق مني بتغطية الحدث، وفوجئت على العكس باحتجاج كريمة بقولها: "لقد اعتديت على اختصاصي فالمسرح الغنائي من اختصاص الصفحة الفنية لأن فيه غناء ورقصا وليس مجرد شعر".

أجبتها بلطف: "الحدود متداخلة في المسرح الغنائي بين الأدب والفن، ولكن الثقافة تشملهما معا. وإذا رأيتم نقل هذا الموضوع إلى الصفحة الفنية لتتكفل به الآنسة كريمة فلا مانع عندي".

قالت رئيسة التحرير: "يبدو لي أن هذا أفضل".

قاطعتها المديرة موجهة الكلام إلي: "أنت بدأت الموضوع، فتابعه إلى النهاية ولا مانع من التنسيق بينكما".

سكتت رئيسة التحرير وقالت كريمة هامسة: "لماذا لم تخبرني عن المسرحية؟ حسابك فيما بعد".

قاطعني عبد الحفيظ حين أردت استعراض الأحداث الثقافية العربية: "حان الوقت لترافق الأستاذ ساطع، وسنتكفل نحن بالباقي".

لم أستطع معرفة ما ورد في العدد الخاص بالمرأة الذي بدأ الإعداد له منذ شهرين، وفيه مواضيع وتحقيقات لكريمة ومسعودة وشاكر عن وضع المرأة في المدينة والريف واقتحامها كل مجالات العمل والمسؤولية، وصور مختارة عن المرأة الجزائرية في القرنين الماضيين أخذت من الأرشيف الوطني. كان زملائي مشغولين جدا في الأسابيع الماضية فلم نتبادل الآراء كالعادة عن المواضيع التي أعددناها.

خرج  معي عبد الحفيظ وقال لي قبل أن نصل إلى مكتبه: "إنه مريض بالقلب والسكر وعدة أمراض أخرى، فأرجوك أن ترافقه إلى المنزل وتطمئن عليه. لا أستطيع الاعتماد على غيرك، سائق الجريدة سيوصلكما". أمسكته أنا وعمي صالح ونزلنا السلالم فالمصعد معطل منذ الأزل. خرجنا من باب العمارة فقال لي: "لا داعي للسيارة فالبيت قريب وأنا بحاجة إلى المشي".

 *

كان بيته في شارع ديدوش مراد قريبا من البريد المركزي. أمسكت يده ورغم قامته المنحنية من المرض والتعب بدوت قصيرا أمامه لطوله المفرط. صعدنا شارع علي بومنجل ببطء ثم سرنا في شارع العربي بن مهيدي حتى وصلنا إلى ساحة الأمير عبد القادر قال بلهجة متقطعة: "هل يمكن أن نجلس لأستريح قليلا؟"

كان صوته يرتعش وعينه اليسرى نصف المغمضة ترتجف بشدة. جلسنا في مقهى "الميلك بار" على إحدى الطاولات على الرصيف المحاذي للساحة. كنت رغم تشوقي الشديد لأخبار العراق أتحاشى الحديث مع ساطع عبد الحسين. ماذا سيخبرني هذا القادم من أمريكا عن العراق؟ من المؤكد أنه كان ابن أحد أعوان الاستعمار لذلك ابتعد عن العراق؟ وينتظر الآن الغزو الأمريكي المرتقب ليعود إليه. عنايته الشديدة بمظهره وتأنقه المفرط في لباسه تدلان على ذلك.

كان حليق الوجه ذا بشرة سمراء جذابة. شعره الأشيب سرح بعناية إلى الخلف. لا ينقص من تألقه إلا عيناه الغائرتان وإحداهما نصف مغمضة ترتجف باستمرار. هذا اليوم يرتدي بدلة خضراء فاخرة وقد فتح ربطة العنق قليلا ليسمح لقبة القميص الأبيض أن تريح الرقبة، أما حذاؤه المخملي الأخضر المشجر فلم أر مثله من قبل في واجهات محلات الأحذية في العاصمة.

سألته مجاملة: "ما أخبار العراق؟"

أجابني بمرارة: "أي عراق؟"

وفجأة انفجر بالبكاء كالطفل الصغير. طلبت كأس ماء من النادل الذي مر بقربي وناولته إيّاه، وقلت له: "اسمح لي. لم أشأ أن أنكأ جرحك، وأقلب مواجعك".

تنهد بحرقة وقال: "لا عليك. الجراح ترخص للأوطان. ولكني لم أدر بماذا أجيبك. العراق اليوم بين نارين: نار الديكتاتورية، ونار الغزو الاستعماري، وكلاهما مر. الشعب العراقي ضحية في الحالتين".

كان التعب باديا عليه. قلت له: "لا تتعب نفسك بهذا الحديث لنؤجله إلى وقت آخر حتى تستريح".

 تجاهل ما قلته وسألني: "هل سبق وأن عذبت واقتلعت أظافرك واستعمل صدرك مطفأة للسجائر، وكسرت يدك وساقك وجرحت عينك حتى سالت منها الدماء أمام نظرات التشفي والحقد وعلى وقع ضحكات السخرية، وقهقهات الاستهتار، وتحت وابل من الشتائم والسباب التي يحمر الصخر من سماعها؟

أنا عذبت، وزملاء وزميلات لي عذبوا في سجون الديكتاتور لا لشيء إلا لأننا عبرنا عن رأينا بحرية. اتهمنا بالتآمر واعتقلنا دون محاكمة ثم حوكمنا محاكمة صورية، وسجنا لسنوات".

عرفت أن عينه نصف المغمضة المرتجفة هي أثر باق من آثار التعذيب فتأثرت، ولاحظ ذلك في وجهي فسألني مرة أخرى: "هل تدرك ماذا يعني ألا تعرف مصير أقربائك؟ هل ماتوا أم مازالوا على قيد الحياة؟ تحس بالظلم وبالعجز ولا تستطيع أن تسأل أحدا عنهم، ومن حاول  أن يسأل أو يبحث كان مصيره مجهولا مثلهم".

قاطعني قبل أن أرجوه أن يستريح بقوله: "كنت بعثيا متحمسا، ولكنهم حولوا الحزب إلى مؤسسة لعبادة الشخصية وأصبح الناس يترحمون على زمن الملكية. قسم الدكتاتور الشعب العراقي الذي  كان موحدا إلى شيع وطوائف، وخاض حربين ظالمتين ضد إيران والكويت. كيف يمكن للشعب أن يدافع عن هذا الحكم ضد الغزو؟ وكيف يمكن للشعب أن يواجه الغزو وهو ممزق من الداخل؟ هل عرفت لماذا أبكي؟"

-      "أرجو أن تستريح قليلا. ماذا تشرب قهوة أم عصيراً؟"

بدأ هذا الرجل الأشيب الطويل الأنيق في لباسه وفي انتقاء مفرداته يتسلل إلى قلبي فقد أحسست أنه إنسان بكل معنى الكلمة.

 *

تقع قاعة الأنترنت التي أعمل فيها في الشارع الذي يتوسط حسيبة بن بوعلي وديدوش مراد ويوازيهما ليس بعيدا عن سوق "رضا حوحو". وهو محل في الطابق الأرضي مفتوح على الشارع  بواجهة زجاجية  يفتح بابها الخشبي باستمرار لدخول وخروج الزبائن. استطعنا فتح هذا المحل بفضل قرض من صندوق تشغيل الشباب استفدت منه أنا وبوعلام.

وصلت إلى المحل في الثامنة والنصف فوجدت المرأة  التي تنظفه على وشك الانتهاء. أغلقته بعد ذهابها وعاينت الأجهزة ورتبت الأدوات وجربت الاتصال بالشبكة فوجدتها جيدة. كتبت رسالة وبعثتها بالبريد الإلكتروني لصديقي الحميم تميم الذي بدأ عمله كمهندس ميكانيك في الإمارات قبل شهرين وترك لي فراغا رهيبا. فتحت الأبواب للزبائن في التاسعة والنصف كالعادة.

كنت أتابع  في جهازي الرئيسي ما يجري في الأجهزة الفرعية لأتأكد من صلاحيتها وأتدخل إذا احتاج الزبون إلى معونة. المحل عبارة عن قاعة بشكل مربع ضلعه خمسة أمتار يؤدي إليه بهو بعرض ثلاثة أمتار. مكتبي على الجانب الأيسر منه، وقبالة المكتب علقت على الحائط حاملات الأقراص المضغوطة المعروضة للبيع لأنظمة "الميكروسوفت" المختلفة و"الوورد" و"الفوتوشوب" و"الكوريل"  و"السيبيليوس" وغيرها من برامج الكتابة والرسم والصور والموسيقى بالفرنسية والعربية والإنجليزية. وإلى جانبها بعض البرامج العلمية والموسوعات المختلفة وبرامج البستنة والطبخ والطب وألعاب الأطفال والكبار. وبعض هذه الأنظمة والبرامج مثبتة على الأجهزة لاستعمال الزبائن. وفي آخر البهو سلم يقود إلى سقيفة علوية فيها حمام ومرحاض بينما اصطفت كراسي الزبائن وأمامها الأجهزة الأربعة عشرة حولي بجانب جدران القاعة الثلاثة.

ما يلفت النظر أن الأقراص المضغوطة الأجنبية علمية وطبية وفنية وموسيقية وموسوعية تشمل كل مناحي الحياة. أما الأقراص العربية فهي دروس ومواعظ دينية وكتب في الرقية ضد السحر والشعوذة. هل معنى هذا أن لهم الدنيا ولنا الدين؟ أقراص البرامج المُعَرَّبة قليلة ونادرة وما لم يعرف المستخدم لغة أجنبية أوربية حيّة فلن يستطيع الاستفادة من معظم البرامج العلمية والطبية والموسوعية وحتى الفنية والموسيقية.

 *

استنشقت فجأة رائحة عطر أنثوي منعش، وداعب أذني حفيف ثوب نسائي، التفت لأرى من الزبونة التي تقف أمامي فوجدت "راضية". ابتسمت وقالت:

"صباح الخير. جئت لتعلمني كيفية التعامل مع الأنترنت. أدخلت الأنترنت إلى المنزل ولكني لم أتعلم كيفية استعماله".

- "صباح الخير، يسعدني أن أساعدك رغم علمي بأنك لن تحتاجي إلا إلى جلسة واحدة، تستطيعين بعدها العوم والإبحار في بحاره ومحيطاته".

- "أنت تبالغ".

- "بأي لغة تودين العمل؟"

- "باللغتين إن أمكن".

قدتها إلى أحد الأجهزة التي تعمل باللغتين وسحبت كرسيا وجلست بجانبها. أريتها أهم العناوين المستعملة في الدخول. أخرجت من حقيبتها دفترا وفتحته، قرأت أسماء بعض أعلام المسرح الإغريقي والأوروبي وبعض المصطلحات المسرحية، والمسرحيات الثقافية الإغريقية واللاتينية ثم بعض أعلام المسرح العربي وأهم أعمالهم. سألتها: "هل تدرسين المسرح؟"

- "دراسة شخصية، ثقافة عامة لأستطيع فهم المهنة التي أمارسها".

-  "ظننت أن المسرح مجرد هواية؟"

- "وعمل أيضا فأنا أشارك في تمثيليات الإذاعة، وربما أعمل في التلفزة قريبا".

كانت نصف ساعة كافية لتعرف كيفية البحث عن الأسماء والمصلحات بواسطة محركات البحث المعروفة لدرجة أنني شككت في أنها تعرف جيدا ما تدعي جهله. تنهدت بارتياح وقالت: "وجدت لذة عجيبة في اكتشاف هذا العالم ومراجعة أغنى الموسوعات. سجلت بعض ما جمعته من معلومات في هذا القرص اللين "ديسكات" فهل تتكرم بطباعتها لي؟"

  - "أليس لديك طابعة في المنزل؟"

- "ليس بعد".

-  "الطابعة ضرورية".

- "كأنك لا تريد أن تراني في محلك".

- "على العكس تماما، أنا سعيد بحضورك.." تلعثمت ولم أدر ما أقول.

- "إذن لا تحاول مرة أخرى إبطال الحجج التي يمكنها أن تجمعنا".

نظرت إلى ساعتها وقالت: "أنا مستعجلة. اليوم الأحد. لدي تسجيل في الإذاعة، سأراك فيما بعد. كم حسابك؟"

- "المرة الأولى على حساب المحل وتدفعين في الثانية".

- "هل هذا النظام يسري على كل الزبائن؟"

- "بل على واحدة فقط اسمها راضية".

- "شكراً"

 *

غدا يوم الاثنين موعد صدور الجريدة، ومع ذلك بدأ النعاس يداعب جفوني باكرا هذه الليلة. لاحظت ذلك أمي فنصحتني بالذهاب إلى الفراش، وتركتها وحدها أمام التلفزيون تتابع مسلسلا في إحدى القنوات العربية. ابتسمت وأنا أتذكر ليلة صدور العدد الأول. لم أنم حينها وبقيت أتقلب على الفراش حتى الصباح. لم أكن مريضا أو عاشقا ولكنني متلهف على رؤية العدد الأول من الجريدة. عملت قبلها في صحيفتين يوميتين، لكنني كنت مجرد ناقل أخبار من وكالات الأنباء، مع بعض التصرف أحيانا ودون تعديل غالبا. كان رئيس التحرير يصر على إغفال ذكر وكالات الأنباء التي نستقي منها الأخبار وينسبها للجريدة ومن الطبيعي ألا تذكر أسماؤنا أيضا. الأمر يختلف هذه المرة فأنا أشارك في إعداد الزاوية الثقافية. أشهد المحاضرات والندوات في الجاحظية واتحاد الكتاب والمكتبة الوطنية وأعلق على الإصدارات الجديدة. لأول مرة أحس بوجودي كصحفي مبدع. كنت في السابعة تماما في الشارع. قال لي صاحب الكشك: "ليس من عادة الموزع أن يتأخر، فما الذي حدث اليوم؟"

كانت الأمطار  تنهمر دون انقطاع بحيث تنعدم الرؤية. وقفت وأنا انتظر وأرتجف من البرد رغم المعطف الذي ارتديته فوق البدلة الرياضية. بعد نصف ساعة حسبتها قرنا توقفت سيارة الموزع. تلقفت العدد الأول بيد مرتعشة. كان حجم الجريدة معقولا وإخراجها أنيقا. لم أنتظر أن أعود إلى المنزل وفتحت الصفحتين الثانية والثالثة عشرة وقرأت: "هموم ثقافية: يعدها شريف الصادق وسامي العسل". رأيت اسمي مضيئا وكأنه كتب بحروف من نور. اشتريت نسخة ثانية وأعطيتها لأمي فهي حاصلة على الشهادة الإعدادية وتقرأ الصحف بالعربية والفرنسية. بقيت طيلة اليوم في المحل أفتح الجريدة على الصفحة الثقافية ثم أغلقها عندما يحدثني أحد الزبائن. قرأت الجريدة عشرات المرات، وتصورت الملايين في ولايات الوطن وهم يطالعون ما كتبته ويتساءلون: "من هو شريف الصادق؟ من هو هذا الصحفي اللامع الذي أنجز هذا الإبداع؟"

من المؤكد أن رسائل كثيرة ستصل إلى الجريدة وإلى الصفحة الثقافية بالذات.

مررت في المساء ببائع الصحف ونظرت إلى الأعداد التي بقيت وعددتها. لم ينقص منها إلا النسختان اللتان اشتريتهما في الصباح. شعرت بشيء من الإحباط. قلت لنفسي: "الناس في هذا الحي لا يهتمون بالثقافة، أو ربما لم يسمعوا بالجريدة رغم الدعاية الكبيرة التي قمنا بها في الصحف والإذاعة والتلفزيون".

اكتشفت أن مبيعاتها في الأحياء الأخرى متواضعة جدا ولا تكاد تذكر، وصدمت حين لم تتلق الصفحة الثقافية أية رسالة خلال الأعداد الخمسة الأولى. ها نحن نصل إلى العدد العاشر والمبيعات زادت كثيرا ولكنها لا تزال دون مستوى أحلامنا وطموحنا. المهم أن حجمي بدأ يصغر مع كل عدد إلى أن وصلت الآن إلى حجمي الطبيعي. غلبني النعاس فنمت حتى الصباح. انتظرت حتى أفطرت مع أمي واشتريت الجريدة وأنا في طريقي إلى قاعة الأنترنت.

 *

كنت متشوقا إلى قراءة العدد ومعرفة ما قدمه زملائي لأني لم أكمل معهم اجتماع الجمعة. فتحت الجريدة على الصفحة الأولى بعد أن جلس الزبائن خلف شاشات الحاسوب. شدّ انتباهي العنوان العريض بالأحمر: "متى تفتح الحكومة ملف الحاويات؟"

  إخراج الجريدة رائع ومذهل، وكذلك إخراج العدد الخاص بالمرأة المليء بالصور المعبرة والإحصائيات والتحقيقات التي تعطي صورة واعدة عن المرأة الجزائرية. ورغم سخطي الشديد على سماح وعجرفتها وعدم اهتمامها بالمضمون، إلا أني لا أنكر براعتها في الإخراج. حين استلمت آسيا مخطط إخراج العدد الأول، انتقدته ابنتها لأنه تقليدي لا يختلف عن شكل الصحف الأخرى. سألتها الأم: "وماذا تقترحين على المخرج؟"

"أقترح أن أتولى إخراج العدد الأول. سأقدم لكم مخططي بعد غد، ولكم الاختيار".

     فوجئت آسيا بطلب ابنتها وأشفقت عليها من النتيجة. سوف يقارن عملها بعمل مخرج محترف، وهي مهندسة كمبيوتر لم تدرس الإخراج ولم تعمل في الصحافة من قبل. وحين قدمت المخطط إلى أمها وإلى رئيسة التحرير وعبد الحفيظ والمحررين الذين كانوا في ذلك الوقت، فغر الجميع أفواههم من الدهشة. لم يكن إخراجها ملفتا للنظر فحسب بل كان مبهرا. لم تعد الصفحات مجرد أعمدة وخطوط مستقيمة متقاطعة تتشابه فيها الزوايا والصفحات برتابة تدعو إلى الضجر. أصبحت صفحات العدد وزواياه ذات أشكال بيضاوية ومفلطحة ودائرية تتقاطع فيما بينها بخطوط مستقيمة ومنحنية. وزادها جمالا ورونقا التناسق في الألوان والتنويع بين الحروف وحجمها واستقامتها أو ميلها، وفي توزيع الصور والكاريكاتير على الصفحات، وكأن الجريدة ثوب من ثيابها الأنيقة تبدله كل أسبوع وتسبغ عليه من سحرها وأناقتها. وهكذا أصبحت مهندسة الكمبيوتر محاسبة الجريدة ومخرجتها في الوقت نفسه. وأثبتت أن الإخراج ككل فن يحتاج إلى موهبة قبل الدراسة.

  قرأت افتتاحية العدد الخاص بالمرأة للسيدة زبيدة رئيسة التحرير وفوجئت بلهجتها المعتدلة. كانت تطالب بتعديل قانون الأسرة وإنصاف المرأة من تجاوزات بعض الرجال والحكم لها بالسكن في حالة الطلاق وحضانة الأولاد. كنت أظن أنها ستنتهز الفرصة لتفجير قنبلتها ضد قانون الأسرة وتطالب بإلغائه نهائيا، ولكنها لم تفعل.

 *

دخلت إلى قاعة التحرير دون أن يلمحني شاكر وكريمة. توقفت لحظة عند الباب حتى لا أقطع حديثهما. كانا يجلسان متقابلين على الطاولة. سمعتها تشرح له ما أعدت لصفحة المرأة وهي زاوية تتضمن ثلاثة أركان: "يوميات ربة بيت"، وتعالج فيها مختلف المشاكل التي تواجه المرأة في المطبخ وتنظيف الثياب والأثاث وإزالة البقع والخياطة والطرز. وركن "كوني جميلة"، وتقدم فيه بعض الأقنعة الطبيعية من الزيوت والبيض والخضر والفواكه لحماية البشرة ومعالجة التجاعيد والأمراض الجلدية. وركن: "كيف تتصرفين" وتشرح فيه كيفية معالجة مشاكل الزوج والأولاد.

كانت كريمة تتحدث بلطف وأدب بالغين وتتلعثم في الحديث، ويزداد احمرار خديها وأرنبة أنفها تحت نظرات شاكر الباردة. عادة ما نبدأ صباح الثلاثاء في استشارة يعضنا بعضا فيما كتبنا وفيما ننوي كتابته، وفي الغالب يحضر معظم الصحفيين وإن لم تكن مناوبتهم في ذلك اليوم. ويستمر ذلك أحيانا إلى يوم الأربعاء فلا أحد يتقيد حقاً بالمناوبة إلا أنا لظروف عملي في محل الأنترنت. الطريف في الموضوع أن كريمة ترتبك تماما حين تكون لوحدها مع شاكر، تماما كالتلميذ المشاغب الذي يتوقف عن الضجيج عند رؤية المراقب العام. هل تخافه أو تكرهه؟ لست أدري! كانت تسميه "الدب الأبيض"، ربما لبياض بشرته أو تحول بدلته الرمادية اليتيمة من الاهتراء وكثرة الاستعمال إلى لون محايد لا وجود له في قائمة الألوان.

قال لها: "كيف تنصحين الزوجات والأمهات وأنت عازبة؟"

أجابته بحياء وبصوت خفيض: "أستفيد من خبرة أمي وجدتي وأختي الكبرى المتزوجة".

خطوت إليهما وألقيت تحية الصباح. تغيرت لهجتها عند قدومي واختفى احمرار وجهها وتلعثمها واستعادت رباطة جأشها وطيشها ومرحها المعتاد. الأغرب من ذلك أنها في حضور الآخرين تنتقد شاكر وتهاجمه بشدة أحيانا. هي كالنعامة حين تكون لوحدها معه، وكالنمرة حين يحضر الآخرون. جلست بجانبها فسألتني:

"هل قرأت ما كتب الأستاذ شاكر عن المرأة؟"

-                   "في العدد الخاص بالمرأة؟"

-                   "لا. في العدد الخاص بالمرأة نافقها كثيراً، ولكن في زاويته "استبيان العدد".

-                   "ماذا كتب؟"

أجابت بلهجة مستفزة وهي تنظر إلى شاكر بعينين ناريتين، وكأنها لم تكن ذلك الحمل الوديع قبل لحظات: "هل المرأة الجزائرية عصبية ونكدية؟"

-                   "وماذا كانت نتيجة الاستبيان؟"

-                   "المهم العنوان المستفز الذي يوحي بالنتيجة".

احتج شاكر قائلا: "كانت النتيجة في صالح المرأة وهي أن المشاكل التي تتحملها لا تتحملها الجبال".

ناولتني كريمة ما أعدته لهذا العدد، قرأت في ركن "كيف تتصرفين؟": "كيف تعاملين الزوج الغيور والبخيل والعنيد والمشاكس والعصبي والبصباص للنساء؟"

سألتها مستنكرا: "ولماذا تحافظ المرأة على الزوج البخيل والبصباص للنساء؟"

-                   "إنه قدرها، وحظها العاثر. هل تظن أن المرأة تستطيع تغيير الرجال مثلما تغير الثياب؟"

-                   بعضهن يفعلن ذلك.

تناولت الأوراق بعصبية وهي تقول لي: "الحق معك. أعلمها في هذه المرة كيف تحتفظ بالرجل، وفي المرة القادمة كيف تتخلص منه، وعليها أن تختار".

 *

قرأت علينا مسعودة حكاية للأطفال عن معلم استطاع أن ينزع من أحد تلاميذه الميل إلى السرقة بعد أن كان يسرق زملاءه في القسم. أحضر له أبوه مرة قلما فاخرا ثمينا. وحين خرج إلى الساحة وقت الاستراحة، أخفى الأستاذ القلم فبحث عنه التلميذ حين عاد ولم يجده، وكاد يجن جنونه. وشعر لأول مرة بما يشعر به زملاؤه من التلاميذ حين يسرقهم. أعاد له المعلم في اليوم التالي قلمه بعد أن أحس بفداحة ما يقترفه حين يسرق.

وجاء دور "حفيظة" المصورة وطلبت منا اختيار لقطتين مناسبتين لزاويتها "وجهان" للعاصمة: وجه مُشْرق ومُعتِم "نيجاتيف" من الصور التي عرضتها علينا.

ورثت حفيظة حب التصوير عن أبيها الذي جاء من بشار لدراسة العلوم ولأنه كان هاويا وشغوفا بالتصوير عمل في الصحافة وفي التلفزيون، واشترك في إنجاز بعض الأشرطة الوثائقية. تزوج من بلده، واستقر في العاصمة. أصيب بحادث وهو يصور فيلما للتلفزيون في جبال القبائل مات على إثره بعد فترة.

ذكرت حفيظة أن أباها علمها لغة الصورة بالأفلام الصامتة التي كانت تنتج في أوائل القرن العشرين، واكتشفت معها لعبة الضوء والظل. كانت صورها إنجازا تقنيا مبهرا، فهي تريك صورة لنفس المنظر أو الشخص من زوايا مختلفة فتحار في هذه القدرة العجيبة على إنطاق الصورة.

علمتنا في الجريدة كيف ننظر إلى الكاميرا وكيف نتصادق معها ونحاورها. أصبحت أرى الأفلام السينمائية والتلفزيونية بعين جديدة، ولا أهتم بالممثلين والمخرج فقط بل بمدير التصوير أيضا فهو الذي ينطق تعبيرات وجوههم وحركات أجسامهم إن كان مصورا ماهرا أو يجمدها إن لم يكن كذلك. الكاميرا في يدها ريشة تتحكم بها كيفما تشاء ترسم بها بالأبيض والأسود أو بالألوان الفاتحة أو الغامقة.

كانت حريصة على أن تري صورها لسليمان وتأخذ رأيه فيها قبل أن يراها أحد غيره. وكانت بالمقابل أول من يرى رسومات سليمان للجريدة، وكان يهمه أن يسمع تعليقها، ويعدل أحيانا في الرسم حتى قبل أن نراه نحن، فرأيها في نظره هو رأي فنانة محترفة ورأينا هو رأي الجمهور العادي. وربما لم نكن لنرى ألبوم رسومه الخاصة لو لم يحضرها لحفيظة. كلاهما فنان يتقن لعبة النور والظل، سليمان بالريشة، وحفيظة بالمصوِّرة.

كان عجيبا أن ترى سليمان الملحد والذي لا يتكلم إلا بالفرنسية مع حفيظة المتحجبة المتدينة والتي تتحدث دائما بالعربية. كانا يجلسان معا ويتناقشان في صورها ورسومه بالدارجة المخلوطة بالعربية والفرنسية والأمازيغية. الطيور على أشكالها تقع، وهذان بلبلان يغردان معا بلغة الفن ويجتازان كل العوائق التي تفصل بينهما.

من الواضح أنه كان لدى سليمان حكم مسبق عن الصحفيين المعربين وكان يعتبر رئيسة التحرير هي الوحيدة بيننا التي تفهم في الصحافة والفن والأدب والحياة لأنها مثقفة بالفرنسية. وبما أنه ملحد، كان يعتقد أن كل معرب منا فقيه ومشروع إرهابي، وأننا سوف ننظر إليه شزرا ونصدر بحقه الفتوى تلو الفتوى. وشيئا فشيئا اكتشف بأننا أناس عاديون مثله ولسنا عدوانيين، أو من كوكب آخر. بدأ الجليد يذوب شيئا فشيئا، وبدأ الحكم المسبق يترك مكانه لحكم التجربة والعشرة.

ما في رسوم سليمان عن السياسيين أبلغ من عشرات المقالات، لأنه بالإضافة إلى المتعة التي يثيرها في النفس فهو يشحذ الفكر ويثير ألف تساؤل. لكن هذه الصور ممنوعة ومحظورة إلى إشعار آخر، لأن نشر أي واحدة منها يمكن أن تدخله السجن لشهور طبقا لقانون الإعلام المعمول به. ونشرها مجتمعة تجعله يقضي بقية عمره فيه، مع أن هذا النوع من الرسوم لا يعاقب عليه القانون في أوربا. اكتشفت أن معظم رسامينا لديهم ألبوم خاص يعبرون فيه بحرية عن آرائهم السياسية والاجتماعية، وألبوم مهني يرسمون فيه ما يطلب منهم في الصحف والمجلات التي يعملون فيها.

 

لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الورقة الثالثة: الهاربة

 لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الورقة الأولى: أعداء الحب

للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: حبٌّ في قاعة التحرير

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات