الورقة الثالثة

من رواية حب في قاعة التحرير

     للكاتب عبد الله خمّار

 

 الهاربة

    كنا نحتفل بعد ظهر الثلاثاء  في قاعة التحرير احتفالا عفويا بصدور العدد العاشر، حيث أحضرت "كريمة" تورتة كبيرة كتب عليها "الضياء: عقبال مائة سنة". تكلمت المديرة فشكرتنا على جهودنا وحاولت تشجيعنا وإزالة بعض الإحباط الذي شعرنا به من الزيادة البطيئة في مبيعات الجريدة. وتدعونا إلى الصبر لأن درب الجريدة لن يكون ممهدا ولا مفروشا بالزهور والورود. ولابد من بذل بعض التضحيات للوصول إلى أهدافنا وتكوين قرائنا بأنفسنا لأن  جريدتنا ليست للإثارة أو الفضائح بل جريدة تسعى إلى تكوين رأي عام وطني رصين وتقدمي ومتسامح وهو ما يحتاج إلى وقت و...".

قطعت المديرة حديثها حين دخلت علينا فجأة فتاة نحيلة ترتدي ثوباً رمادياً منزلياً منكوشة الشعر في حوالي العشرين من عمرها ترتجف قائلة: "أغيثوني!. سيقتلونني!". كانت تتلفت وراءها بفزع ظاهر وقد ارتسمت على وجهها الصغير المستدير وعينيها البنيتين أمارات الرعب من خطر وشيك تخشى أن يداهمها في كل لحظة كقدر محتوم. دعتها المديرة إلى الجلوس فجلست وتحلقنا حولها لنطمئنها ونشعرها بالأمان ونفهم سبب خوفها. قالت بعد أن التقطت أنفاسها وشربت شيئا من العصير المعد للحفلة: "أبي يريد تزويجي من شيخ كبير في الستين. قال إنه سيقتلني إن لم أتزوجه، وأنا أعرف أنه سيفعل. احموني أرجوكم!"

قالت لها آسيا: "اهدئي يا ابنتي، أنت في أمان. لن يؤذيك أحد ما دمت هنا. من أين أنت؟" 

ترددت قليلا ثم أجابت: "من المديّة وقد ركبت في سيارة أجرة وهربت. وصلت الآن من المدية".

قالت زبيدة:" مسكينة! آباء مثل هؤلاء يجب حرقهم، كيف تسمح له نفسه بتزويج وردة مثلك من شيخ فان؟ سنتكلف بك ونقطع يده إن امتدت إليك، وسنكتب قصتك في الجريدة لنفضح هذا الأب وأمثاله. والتفتت إلى المديرة قائلة: "ألم أقل لك ياسيدتي إن المرأة بحاجة إلى حماية. وأن قانون الأسرة يجب إلغاؤه؟"

همست كريمة في أذني حين رأت تعجبي: "حذفت المديرة في اجتماع الجمعة معظم افتتاحية رئيسة التحرير وعدلتها بعد مناقشة صاخبة اعترضنا فيها على ما كتبته".

اشتد ارتعاد الفتاة وهي تتوسل لرئيسة التحرير: "لا تكتبي شيئا أرجوك. سيعرفون عنواني ويصلون إليّ". وبدأت ترتجف من جديد.

ردت المديرة: "لا تخافي. لن نكتب شيئا في الجريدة وستتولى جمعية إغاثة النساء العناية بك".

كنت أعرف أن مديرتنا ورئيسة التحرير عضوان نشيطان في جمعية إغاثة النساء. وقد ظهرتا في أكثر من برنامج في التلفزيون تتحدثان عن هذه الجمعية ومساعدتها للنساء عند الضيق.

قالت آسيا: "تعالي معي إلى مكتبي، لتعطيني بعض المعلومات: اسمك وعنوانك واسم أبيك، لنتأكد منها قبل إرسالك إلى الجمعية". بدأت الفتاة ترتجف من جديد.

-" قلت لكم اسمي نصيرة وعنواني في المدية. وأبي متقاعد. تريدون العنوان لتتصلوا به ليأتي ويأخذني".

قالت لها زبيدة:

" لا أبدا."

والتفتت إلى آسيا قائلة: "أترين حالتها؟ من الأفضل أن نرسلها فورا إلى مقر الجمعية لتطمئن وتنتهي محنتها". ثم أضافت: "أنا سأوصلها بنفسي". وخرجتا.

 عدنا إلى احتفالنا ولكن بفتور فقد أفسدت الفتاة المظلومة عرسنا.

 *

كانت الساعة تقارب السابعة حين غادرت الجريدة. خرجت من باب العمارة لأقطع الشارع إلى الرصيف المقابل وأنا ألعب بالقلم بين أصابعي كعادتي حين أفكر في شيء، فوقع القلم من يدي بين الرصيف والسيارة المتوقفة بجانبه. انحنيت لأبحث عنه فلم أجده، لكنني وجدت حقيبة يد جلدية. التقطتها فإذا هي أنيقة وفاخرة. عدت إلى العمارة وفتحتها في النور فإذا فيها كيس من البلاستيك تلمع داخله قطع مجوهرات حمراء وخضراء وبيضاء. بحثت في جيب الحقيبة عن شيء يقودني إلى صاحبتها فوجدت بطاقة التعريف ورخصة السيارة. فتحتها فإذا هي باسم سماح زيّاني. إنها لسماح إذن! نظرت إلى أعلى فوجدت النور مضاء في الطابق الثالث. صعدت وقرعت الجرس. فتحت لي شابة لم أرها من قبل. سألتها عن سماح فأخبرتني بأنها تغسل يديها، ودعتني إلى الدخول. أعطيتها الحقيبة قائلا: "هذه الأمانة لها"، وانصرفت.

تساءلت: "هل كان علي أن أسلمها الحقيبة بنفسي؟" ثم قلت لنفسي: "حسنا فعلت حين سلمت الحقيبة لإحدى موظفاتها، فلا أريد أن يكون بيني وبينها أي حديث أو لقاء".

 *

وصلت إلى قاعة الموقار في التاسعة والنصف فوجدت «كريمة" في انتظاري بجانب القاعة. كانت تلبس على غير العادة بلوزة وتنورة زرقاوين. قلت لها ضاحكاً: "لم أرك من قبل ترتدين ثياباً كلاسيكية!"

أجابت: "لكل مقام ثياب. ونحن الآن في المسرح. أتعجبك؟"

-      "جداً".

دخلنا فوجدنا الاستعدادات بدأت لعرض الفصل الثاني. كانت القاعة فارغة إلا من بعض المسرحيين المعنيين.

 *

فتح الستار على الشياطين الأربعة وهم يرددون ما قالوه في الفصل الأول. الفصل طويل ويمكن أن نلخصه في الصراع بين الشياطين الأربعة الذين يبدؤون بتنفيذ مخططهم في فك الروابط المتينة بين أفراد المجتمع وبين ذات الرداء الأبيض التي تحاول منعهم.

يدخل أحدهم وهو شيطان الطمع ويخاطب الجمهور:

اِسمي شيطان الطمع ِ       أحيا باللهفة والجشع ِ

وأفكك أوصال الأسر ِ      وأبدِّد شمْل المجتمع ِ

أغرس فيهم حبَّ الذاتْ     ورفاهَ العيشةِ واللذاتْ

وشعاري دوما هاتْ هاتْ    وخذوا عني الممْنوعاتْ:

لا تتعاونْ، لا تتبرَّعْ         لا تتضامَنْ، لا تتطوَّعْ

إيّاكُمْ مِنْ لفظةِ خـُذ ْ         قولوا دوماً: هاتْ هاتْ

تطفأ الأضواء ثم تنبعث موسيقى مثيرة، ويدخل شيطان التعصب الديني مخاطبا الجمهور:

وأنا المتعصب  فاخشوني    أعتى شيطان في الكون ِ

يخلع قناعه ورداءه فإذا به في جبة وقميص ولحية. يخبىء قناعه ورداءه في صدره ويتم كلامه:

وأتاجر دوماً بالدين ِ      أفتي أفتي فاستفتوني

سأكفِّرُهم وأعزِّرُهُمْ       وبالإرهابِ أدمِّرُهُمْ

وأحـيلُ الحُبَّ  إلى بغضاءْ  وسـماحَ الدّين إلى شـحناءْ

      أعواني قد صاروا أمراءْ       بجبال الموْطن والصحراءْ

فلتَرْو ِ الأرضَ بحورُ دِماءْ        وليُفـن ِ الأبـنـاءُ الآبـاءْ

تطفأ الأضواء وينبعث صوت الموسيقى ثم تعود الأضواء من جديد على شيطان التعصب العرقي الذي يدخل ويخاطب  الجمهور:

وأنا الشـيطان الخنّـاسْ    أهدي البغضاءَ  إلى الأجناسْ

وأحيل الثقة إلى وسواسْ       وشكوكٍ تنهش صدر النّاسْ

أذكى النّعرات العِرْقِيَّهْ       وأثيرُ  الحرب  اللغَويَّهْ

وأؤجِّجُ نار العصَبيَّهْ       وأدقُّ  طبولَ  الجهَويَّهْ

يبدأ شيطان الطمع بإغواء مجموعة الإطارات ورؤساء البلديات الذين يدخلون إلى المسرح في أزياء أنيقة وهم يشتكون من زيادة النفقات بتعاطي الرشوة. ويحرض بعد ذلك الموظفين والمعلمين والعمال الذين يشتكون من ضعف الأجور على الإضراب. ويغري البطالين بالهجرة إلى الخارج لينعموا بالرفاهية. يتبعه بعض أفراد هذه المجموعات ويقاومه آخرون. كل ذلك في حوار شعري تحاول فيه ذات الرداء الأبيض تنبيهم عبثا إلى مخطط هذا الشيطان.

أما شيطان التعصب الديني فيفتي بأن المرأة عورة يجب أن تتغطى وتمكث في الدار. ويفتي كذلك بقتل الكتاب والفنانين والشرطة بحجة أنهم كفرة فتنقسم المجموعات على المسرح بين من يتبعه وبين من يقاومه.

ويبث شيطان التعصب العرقي بذور الفرقة اللغوية والجهوية بين المجموعات التي تمثل الجزر فيتبعه بعضهم ويشتد النزاع بين المجموعات فيصبح دمويا.

أما الشيطان الرابع  فيدخل بعد ذلك مخاطبا الجمهور:

وأنا شيطانُ الاستبدادْ    أحيا بالكَبْتِ والاسْتِعْبادْ

تخنقني ريح الحُريَّهْ    وخُفوق ِ الأرواح الحَيَّهْ

سأعلّمهمْ حَنْيَ القامَهْ   تمريغَ الجَبْهَةِ والهامهْ

وألقـِّنُهُمْ خَفْتَ الأصْواتْ     ليصيروا خُرْساً كالأمْواتْ

وسأجْعَلُ مِنْهُمْ أغْناما    يَستحْلونَ الاسْتِزْلاما

تدخل ذات الرِّداء الأبيض وتخاطبه قائلة:

 لنْ تخْنُقَ فينا الحُريَّهْ    لنْ نرْضى الديكتاتوريَّهْ

يضحك ضحكة شيطانية، ويخاطب  ذات الرداء الأبيض:

ستروني حينَ يجِدُّ الجِدْ    وسَيأتي دَوْري مِنْ بَعْدْ

ذات الرِّداء بانفعال:          لنْ يأتي دوْرُكَ أبَدا

 يجيبها بهدوءٍ شيْطاني:      بل يأتي ـ ستريْنَ ـ غَدا

حينَ يسودُ الطَّمَعُ     ويسْتبِدُّ الجَشَعُ

 كلٌّ يقولُ" أنا أنا"    ولا يقول " المَوْطِنا"

 والكرهُ يشيعُ في الأجناسْ      وتعُمُّ الفُرقَة ُ بيْنَ النّاسْ

وتسود الفوضى في البلدِ    لا يُعْرفُ أحدٌ مِنْ أحَدِ

سأنصّب فوقهمو صَنَما     تُحْنى القاماتُ لهُ رَغَما

 يضحك ضحكة هستيرية ويتابع:

 وسأظهرُ حينَ يجِد الجَدْ    وسيأتي دوري مِنْ بَعْدْ

يختفي الشيطان وتطفأ أضواء المسرح وتسمع أصوات المجموعات يشتبك بعضها مع بعض:

تختلط الأصوات ويعلو صوت ذات الرداء الأبيض تصرخ مستَنْهِضَة ً الهـِمَم:

أين الزعماءْ؟ أين الحكماءْ؟ أين الأدباءْ؟ أين الشعراءْ؟

مَنْ ينقذُ هذا الوطنـا؟        من يوقف هذي المحنا؟

الصّوت تلاشى دون صدى    كل الصَّيْحاتِ غدتْ بَدَدا

تضاء الأضواء الخافتة في المسرح. تظهر ذات الرداء الأبيض وقد ارتدت رداء أسود وتنشد:

الشمسُ انطفأتْ  في الجُزُر ِ    والظُّلمَةُ نزلتْ كالقَدَر ِ

       هبّ الإعصار ْ        إعصار الكُرْهِ على وطني

                              أُضْرِمَت النّارْ        نيـرانُ الفُرْقـةِ والفِتَنِ

    الدَّمُ يجري أنهارْ      والنَّغمُ رَصاصٌ ودَمارْ

والحبُّ توارى في خَفَر ِ     والبُغْضُ تَحَكَّمَ في الجُزُر ِ

تُطفأ الأضواء ويسدل الستار.

 

 *

كانت كريمة تسجل بعض الملاحظات حين وصلت راضية بعد أن بدلت ملابسها ومعها المخرج. قدمت لهما كريمة التي سلمت عليهما، وطلبت نسخة مكتوبة عن الفصل الأول الذي لم تشاهده. وعدها المخرج بتحضير ذلك للمرة القادمة. قالت: "سأحتفظ بهذه الملاحظات حتى أرى الفصل الثالث وآخذ فكرة عن الأول".

جلست راضية عن يساري وبجانبها المخرج الذي قال فجأة: "أعتذر للمرة الثانية فزوجتي وطفلي في انتظاري. أرجو أن تسمحوا لي"، وانسحب.

نهضت كريمة قائلة: "علينا أن نذهب الآن. ولأني بقيت جالسا، أمسكت يدي بتلقائية وشدتني: "هيا بنا".

التقت عيناي فجأة بعينيْ راضية فرأيت وجهها محمراً، وفي عينيها نظرة عتاب واستنكار لهذه الحميمية بيني وبين كريمة. لم أعرف كيف أتصرف. أنقذني هاتف كريمة المحمول. قالت موجهة الكلام إلي: "عليَّ الانصراف الآن، نسيت أن اليوم "عاشورا"، ويبدو أن لدينا ضيوفاً في البيت. كنت أريد أن أدعوك أو تدعوني إلى الغداء في "بزيريا" قريبة  لنتحدث عن المسرحية، ولكن الغداء خارج المنزل غير ممكن في عاشورا. إلى اللقاء".

*

ذهبنا إلى المطعم نفسه فوجدناه مزدحما. طال انتظارنا فاقترحت راضية أن نذهب إلى ضاحية "الجميلة" ونتغدى في مطعم تعرفه. ركبنا سيارتها "الغولف" وانطلقنا في جو يكاد يكون ربيعيا. كانت أغاني وردة تنبعث من مسجلة الكاسيت، وكانت النزهة ممتعة رغم ازدحام المرور بالقرب من "عين البنيان".

وجدنا طاولة فارغة داخل المطعم. واقترحت راضية أن نجلس في القسم المكشوف في الخارج. الطقس جميل ونسائم البحر لطيفة منعشة. جلسنا في طاولة تطل على الخليج الصغير الذي تشغله بعض الزوارق الرابضة، ولم أدر هل خرجت للصيد وعادت مبكرة ووزعت أسماكها أم لم تخرج. طلبنا طبقا مشكلا من الأسماك التي تعرف بها الجميلة. كان حديثها خلال الطعام عن أنواع الأسماك وأسمائها بالفرنسية والإنجليزية والإيطالية، وحين تسألني عن أسمائها بالعربية أجيب عن بعضها ولا أعرف بعضها الآخر بل ربما لم تتح لي رؤيتها من قبل، فهي بحكم حياتها في الخارج برفقة دبلوماسي تعرف أنواع الأسماك وأسماءها بمختلف اللغات.

سألتها ونحن نتناول القهوة: "ما آخر أخبارك؟"

  تجهم وجهها فجأة، ثم تنهدت تنهيدة عميقة وقالت: "أنا تعيسة يا شريف، ومنذ فترة أتمنى أن أجد صديقاً أثق به لأشكو له همي. فكرت في الاتصال بك لأنك أهل للثقة ولكن.."، وتوقفت عن الكلام.

تذكرت فجأة أنها قالت لي ذلك في المرة الماضية وخافت أن تذكرني بـ"بسمة"، ثم بدأت تحدثني عن زوجها الذي ملك عليها قلبها وعقلها رغم فارق العشرين عاما بينهما، فتزوجته وتركت الدراسة بعد الثانوية وسافرت معه إلى الخارج:

"كنت صغيرة لا أعرف الحياة وبهرني بمعرفته وسعة اطلاعه وكثرة رحلاته وأسفاره، وفوق ذلك بإمكانياته المادية، وجاذبية الحياة الدبلوماسية. أضف إلى ذلك عزفه على البيانو الذي جعلني أتخيل أنه عالم بالموسيقى. قلت لها: "كانت مفاجأة لنا جميعا ولي بالذات لأني كنت..."، ولم أستطع إكمال الجملة.

- "لا أنكر أنني كنت أميل إليك وأرى الحب في عينيك، وأنتظر أن تعترف لي بحبك. لكن هذا الرجل دخل فجأة في حياتي وحياة أسرتي، وحاصرني من كل ناحية. احتل عقلي وغزا قلبي فاستسلمت دون مقاومة".

-     "ما الذي جعلك تعيسة إذن؟"

- "اكتشفت أنني بهرت بنور صناعي لا يستمد ضوءه من طاقة دائمة بل من بطّارية مشحونة مغشوشة تضيء مرة واحدة ثم تنطفئ. اكتشفت أنه رجل ضحل لا يشغل في الحقيقة عشر الحجم الذي أفسحته له في عقلي وقلبي. معرفته ليست موسوعية كما ظننت بل اعتباطية. يحفظ بعض العبارات والكلمات ويرددها، ويروي بعض النكت التي ربما أعجبتك حين تسمعها للمرة الأولى، ولكنك ستكره حياتك حين تسمعها للمرة الألف. أما الموسيقى فهو يعزف مقطوعتين تعلمهما في الصغر ولا يعرف غيرهما. يعرف أسماء الموسيقيين الكلاسيكيين، ولكنه لا يعرف أعمالهم وليس لديه الوقت ليتعلم. إنه يعطي وقته كله للسياسة وطموحه لا حدود له".

لا أدري لماذا سررت داخلياً باعتراف راضية بتعاستها. هذا الرجل الذي تركتني لأجله وجعلتني أحس بالنقص، حتى أن ارتباطي ببسمة كان نوعا من محاولة رد الاعتبار لنفسي بعد الصدمة التي تلقيتها بخطبة راضية وزواجها السريع. أعترف أننا لم نتكلم في موضوع الحب أو الزواج ولم تعدني بشيء، ولكن هناك ما هو أهم من الكلام: لغة المشاعر التي كانت تعِدُ كلاً منّا بالآخر. كان كل من حولنا يرون هذه المشاعر ويقرؤونها في أعيننا، لذلك فوجئوا بزواج راضية كما فوجئت، وتقدمت بسمة لتواسيني ولتعيد لي اعتباري. أحببت بسمة لأنها أظهرت حبها لي في الوقت المناسب، ولكن القدر وأيادي الغدر كانت لها بالمرصاد.

سألتها: "لمَ لمْ تطلبي الطلاق؟"

-     "من أجل ولديّ التوأم.  لم أرد حرمانهما من أبيهما".

-     "مازلت تعيشين معه إذن".

-     "مازلت على ذمته، لكننا منفصلان منذ خمس سنوات. وهو الآن لاجئ سياسي في أوربا ولا يستطيع الدخول إلى الجزائر".

-     "لماذا؟ ما اتجاهه السياسي؟ هل هو إسلامي؟"

-     "أبداً. ليس له لون سياسي، وهو أبعد ما يكون عن الإسلام. كان قنصلاً في إحدى البلدان الأوروبية فاستدعي للدخول سنة 1998 فطلب المكوث سنة أخرى فلم توافق الوزارة. طلب مني الدخول أنا وولديّ على أن يلحق بنا بعد أن يصفي أعماله. فجأة رأيناه في إحدى القنوات الفرنسية يهاجم النظام ويدعي أنه معارض سياسي يدافع عن حقوق الإنسان".

-     "كيف حدث ذلك؟"

-     "خطأ في الحسابات السياسية كما قال أبي. أراد أن يسجل موقفاً وهو في الخارج لأنه شخصية مغمورة غير معروفة لا حزبياً ولا أدبياً ولا فنياً. ظنَّ كما يظنّ معظم المعارضين أنَّ انقلاباً أو ثورة ستحدث خلال الأيام القادمة ثم الأسابيع القادمة ثم الأشهر القادمة. لكنَّ ذلك لم يحدث. إن هي إلا أوهام المعارضين وأحلام اليقظة التي يعيشون عليها".

-     "ألا يتصل بك وبولديه؟"

-     "كان يتصل بنا في الأيام الأولى ثم توقف. سمعنا أنه تزوج بإنجليزية ويعيش معها في لندن. وهو يظهر أحيانا في بعض الفضائيّات العربية يجتر نفس الكلام الذي كان يردده في القناة الفرنسية".

-     "ألا يرسل لك ولأولاده مالا؟"

-     "من أين؟ راتبه توقف. وهو يعيش على راتب اللجوء السياسي ولكنها مستورة. وضع أبي المالي كما تعلم جيد وأنا أغطي بعض نفقاتي من عملي في الإذاعة".

قلت لها صادقا: "أنا آسف لما حدث لك". 

ردت بمرارة: "نحن نأخذ أهم قرارات حياتنا في سن لا تسمح لنا بالتمييز". ثم أضافت بلهجة توسل: "هل سامحتني؟"

-     "على ماذا؟"

-     "أنت تعرف بالضبط ما أقصد، وأرجو بصدق أن تسامحني فقد ندمت أشد الندم لأني خسرتك".

استيقظ حبها فجأة في داخلي. اشتعلت الجذوة التي كنت أظنها انطفأت في قلبي فرأيت من جديد بريق عينيها ولمعان شعرها وتوهج طلعتها. قلت بصدق: "سامحتك".

مدت يدها ووضعتها فوق يدي وقالت: "شكراً". أحسست برعشة لذيذة، ومددت يدي الأخرى لأضعها فوق يدها لكن رنين جرس هاتفها المحمول جعلني أجفل. أخرجته من محفظتها. كان ولداها يستعجلانها في الدخول ويطلبان منها إحضار بعض الأغراض لهما.

سألتني راضية في طريق العودة: "لِمَ اخترت مهنة الصحافة؟"

- "لأنني أحبها. حلمت منذ الصغر بأن أكون صحفيا".

- "أهل أبيك تجار وأهل أمك أيضا إن كانت الذاكرة لا تخونني. لماذا لم تصبح تاجرا؟"

- "لأنني عشقت الصحافة لا التجارة".

كان ما قالته راضية حقا. أبي كان تاجر أقمشة في مدينة سطيف وتوسعت تجارته إلى العاصمة. أصبحت لدينا محلات ومخازن في القصبة وباب عزّون، ولكن أكبر مخزن لنا في القصبة احترق في أوائل التسعينات. أغلب الظن أن الإرهابيين أرادوا أن يرهبوا التجار ليدفعوا لهم إتاوة حين يطلبونها فأحرقوا أكبر المخازن. كانت فيه أقمشة تقدر قيمتها بالملايين. هذه الحادثة أفقرتنا لأن البضاعة لم تكن مؤمنة، فثقافة التأمين مازالت في بلادنا جديدة. أهلنا يفضلون دائما الاتكال على الله، ولا يحبون أن تطلع الحكومة على بضائعهم وقيمتها. مازال أبي حتى الآن يسدد قروض التجار والبنك وقد اكتفى بمحلنا في سطيف، وبمحل صغير يديره أخي في شارع "بوزرينة" بالعاصمة. لم تعد تجارة الأقمشة هذه الأيام مربحة حتى بالنسبة لأهل أمي فقد انتشرت البضائع المهربة التي تباع في السوق الموازية، كما أن الطبقات الفقيرة وجدت ضالتها في الملابس المستعملة المستوردة التي أصبحت تباع في كل مكان. لم أقل ذلك لراضية التي ابتسمت وهي تتأملني قائلة: "لا أتصوّرك أبدا صحفيا".

-     "لماذا؟"

-     "أنا لا أحب الصحفيين لأني أعتقد أنهم يعيشون على فضائح الناس، ويجرون وراء الإثارة. يتاجرون بمآسي الأفراد، وأحيانا الشعوب، يلفقون الأخبار ويختلقون الإشاعات، وأنت طيب لا تليق بك هذه المهنة".

-     " أتكرهين الصحافة إلى هذا الحد؟"

-     "أخافها أكثر ممّا أكرهها، لأنني بدأت أتلمس طريقي في عالم الفن، وأخاف من أقلام الصحافيين وانتقاداتهم. زوجي أيضا يكره الصحفيين ويخافهم".

-     "زوجك  يخاف من الصحفيين لأنه سياسي وكثير من السياسيين يخافون الصحفيين لأن لديهم ما يخفونه عن أعين الصحافة. أما أنت فلست سياسية. أنت فنانة حقيقية. إنْ تجنّى عليك صحفي فسينصفك عشرة. لسنا من آكلي لحوم إخوتنا. قلائل هم المسيئون منّا والذين يستخدمون مهنتهم كسلم للوصول إلى أغراضهم الخاصة ويبيعون أقلامهم وضمائرهم. وهذه النسبة تجدينها في كل مهنة".

ظننت أنني أقنعتها فأضفت: "تصوري عالماً بلا صحافة، بلا جرائد، بلا إذاعة ولا تلفزيون. تصوري بلداً بلا صحافة كيف يكون؟"

فاجأتني بجواب لم أكن أتوقعه: "نستريح من سماع أخبار الحروب والكوارث والجرائم".

قلت بحماس: "ومن أخبار الخير أيضاً. الصحافة تنقل بأمانة ما يجري في العالم، فإن كانت الصورة بشعة تلقي الأضواء عليها لتغيّرها. رقابة الصحافة تمنع حدوث مآس ٍكثيرة وتكشف جرائم الديكتاتورية والاحتلال وفساد الأنظمة. هل يمكن أن نبني عالماً خيّراً دون خبر وتعليق وكاريكاتير؟ الصحافة رسالة".

-     "ستجعلني أحب الصحافة!"

لم أحدثها عن خيبة أملي بعد عملي في الصحافة بسبب الظروف التي نعيشها كصحافيين. شبح البطالة يواجه معظمنا في كل يوم، فوظيفتنا ليست قارّة وليست هناك نقابة حقيقية قويّة توحدنا وتحمينا. بعضنا يتعرض لإغراءات شراء الذمم، وبعضنا يواجه التهديد بالملاحقات القضائية والسجن. كنت أحلم بالعمل بمؤسسة صحفية ضخمة تمكنني من التنقل إلى بؤر التوتر في العالم لأستقي الأخبار ساخنة من مواقعها الحيّة، لا من مطابخ الأنترنت ووكالات الأنباء. ذلك أمر يستحق مجازفة الصحفي بحياته ويحسِّسُه بأهمية عمله. لكن الصحافة في بلادنا ما زالت بدائية وفردية كالدكاكين الصغيرة في عصر الأسواق والمجمعات الكبرى، لا تتوفر فيها كل السلع ولا تصمد في مجال المنافسة. لا توجد مؤسسة واحدة عامة أو خاصة قادرة على إصدار صحيفتين يومية وأسبوعية، وعدة مجلات شهرية منوعة ومختصة للبالغين وللأطفال.

قلت لها بصدق: "الصحافة نصيرة الفنانين والموهوبين وهي التي تعرف بهم وبإنتاجهم وإن انتقدتهم فالنقد ضروري للفنان. الإطراء والمديح هما اللذان يقتلانه لا النقد".

أرادت أن تغير الموضوع فقالت باحتشام وتردد في طريق العودة، وهي تنظر إلى الأمام وتقود السيارة: "ما الذي بينك وبين هذه الصحفية؟"

-     "مَن؟ كرمين؟"

-     "وتدلـّلها أيضاً!"

-     "اسمها هكذا".

-     "اسمها كريمة. هكذا قدمتها لنا".

-     "كلنا نناديها كرمين".

-     "طيّبْ. كريمة أوْ كرمين، ما الذي بينك وبينها؟"

-     "زمالة عمل".

-     "فقط".

-     "فقط".

-     "ولكنها تعاملك كما لوْ كانت.."

-     "إنها مجنونة، تلقائية، تعامل كل الناس هكذا".

سكتت راضية، ويبدو أن الغيرة بدأت تنهش قلبها. هذا يعني أنها تحبني كما أحبها. كدت اسألها: "أتغارين عليَّ؟" ولكنني أحجمت، وقلت بدلا من ذلك: "ليس هناك إلا واحدة تسكن قلبي، وأنت تعرفين من هي".

خفـَّفت من سرعة السيارة فأمسكت بيدها. ابتسمت بدلال وسحبت يدها قائلة: "أريد أن أصل بسلام إلى ولديّ". 

أرجعتني حين ذكرت ولديها إلى الواقع الذي كنت قد نسيته. إنها متزوجة. ما زالت على ذمة رجل، ولديها ولدان منه. تجهم وجهي فجأة وبدا علي الانزعاج، ولم أفتح فمي بكلمة طوال الطريق، واحترمت راضية صمتي فانشغلت  بالقيادة ولم تعلق.

 *

كانت الساعة الرابعة والنصف عندما وصلنا إلى العاصمة. تركتني راضية في شارع ديدوش مراد قرب سوق فرحات سعد. بدأت أتجول وأنا أرى البضائع المعروضة على الأرصفة. السوق مكتظة فاليوم هو العاشر من محرم، وهو يوم عطلة رسمية لأنه يوم عيد المسلمين، ولكنك لا تلمح فيه مظاهر أفراح العيد، ولا مظاهر الحزن التي تجدها عند الشيعة في ذكرى يوم كربلاء. مظهر العيد الوحيد تراه في أسواق اللحوم والخضر حيث تعد العائلات أطباق الثريد والشخشوخة والكسكسي، كل حسب منطقته احتفالا بهذا اليوم. والأهم في يوم عاشوراء أنه يوم تضامن مع الفقراء فكثير من الأغنياء يخرجون زكاتهم ويوزعونها على الفقراء فيه.

 التقيت في الطريق بزميلي الصحفي توفيق الذي يعمل في التلفزيون. لم أره منذ عاد من جولة في المشرق العربي كانت آخر محطاتها "بغداد". أكد لي قول ساطع عبد الحسين وهو أن الشعب العراقي اليوم بين نارين: نار الديكتاتورية ونار الغزو الأمريكي الوشيك. والعرب كلهم أنظمة وشعوباً يشعرون بالعجز تجاه ما يجري. لا تريد الأنظمة أن تستفيق شعوبها لأن حساب النظام العراقي سيفتح العيون على ممارسات الأنظمة الأخرى. ولا تقبل الشعوب بالغزو الأجنبي، وتعرف أنه ناتج عن أطماع استعمارية لا عن سعي حقيقي لتحرير الشعوب من الدكتاتورية.

سألني بدوره: "هل قرأت ما كتبته صحيفة "الغد" صباح اليوم؟"

-     "لم أقرأها. هل فيها ما يهم؟"

أخرج من محفظته الجريدة وناولني إياها مشيراً بإصبعه إلى المقال المقصود. كان هجوماً عنيفاً على جريدتنا وصاحبتها، وتساؤلا عن مصدر تمويل الجريدة، وعن الثروة المفاجئة التي هبطت على مديرتها فحولتها من صحفيّة موظفة في وكالة الأنباء إلى مليونيرة ثرية ومالكة لجريدة. لم يكتف المقال بهذا بل أكد أنَّ أحد محرري الجريدة الرئيسيين هو عراقي يحمل الجنسية الأمريكية، وأنه ليس من المستبعد أن يكون تمويل الجريدة وتوجيهها يأتيان من الخارج. وهذا اتهام صريح بالعمالة لأمريكا بالطبع. لم أصدق عيني. هل يمكن أن يكون هذا صحيحاً؟  وما الداعي له إن لم يكن صحيحا؟

من أعسر الأمور على الصحفي أن يضطر إلى العمل في جريدة لا يوافق على خطها السياسي. إنه يحس بأنه يخون مبادئه ويسير عكس قناعاته. كيف  يعمل في جريدة عميلة لدولة أجنبية؟  ليس المهم أن يكون حرا في قول ما يريد في الجريدة. ما يهم أكثر من ذلك أن تكون الجريدة نظيفة في تمويلها، نزيهة وموضوعية في مقالاتها، مستقيمة في اتجاهها.

تألمت وتساءلت: "هل يمكن أن تكون هذه السيدة عميلة أمريكية؟ من أين  لها الثروة  لتمويل جريدة لا تغطّي عشر نفقاتها؟ وساطع عبد الحسين الذي يوحي إليك وهو يتحدث بالصدق والتلقائية، هل هو عميل سري أيضاً؟ كل شيء ممكن في الزمن الذي نعيش فيه ولا يعلم ما في القلوب إلا الله. وماذا لو تأكدت من صحة ما كتِب؟ هل أستمر في الجريدة وأدفن رأسي في الرمل كالنعامة أم أنسحب؟ أنا بحاجة ماسة إلى هذا العمل، ولكن مبادئي تأتي في الصدارة قبل العمل وقبل الخبز. يقول المثل العربي: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها"، وأكل المرأة بثدييها أهون من خيانة الرجل لمهنته وبلده".

أعدت قراءة المقال من جديد وفجأة لفتت نظري صورة في نفس الصفحة لفتاة كتب تحتها: "خرجتْ ولم تعد". الصورة تشبه تماماً تلك الفتاة الهاربة التي التجأت إلى الجريدة. الاسم المكتوب تحت الصورة "ناجية". لكنها تقدمت لنا باسم "نصيرة". كتِبَ تحت العنوان في الجريدة:

"خرجت من دار أهلها في "الحراش" وهي ترتدي جلابة رمادية وحذاءً أسود".

أخبرتنا بأنها تسكن في "المديّة". ربما اضطرت إلى  تغيير اسمها وعنوانها خوفا من عقوبة أبيها. ختم الإعلان بالعبارة الآتية:

 "يرجى ممَّن رآها أو يعرف أية معلومات عنها الاتصال بولي أمرها في رقم الهاتف الآتي، والرقم يبدأ بـ 021 أي في العاصمة. تساءلت  لماذا الاتصال بولي أمرها وليس بأبيها؟ نظرت إلى الساعة فإذا بها الخامسة. من المؤكد أن عبد الحفيظ ما يزال في الجريدة. اتصلت به في هاتف صديقي المحمول وحدثته عن قصة الفتاة وعما كتب في جريدة الغد.  سألني: "هل لديك عنوان الفتاة؟"

-     " نعم".

-     "انتظرني بجانب سينما الجزائرية. سأكون هناك خلال ربع ساعة".

 *

  وصل عبد الحفيظ في سيارة الجريدة "الدايو". ركبت معه فسار في اتجاه الأبيار سألته "ألسنا ذاهبين إلى عنوان الفتاة في "الحرّاش؟"

-     "بل نذهب إلى مركز جمعية إغاثة المرأة. "آسيا" هناك تحضر اجتماع  الجمعية  الأسبوعي. كلمتها فطلبت  منّا الحضور".

 الطريق إلى الأبيار مزدحمة وسرعة تحرك السيارة تقاس بالسنتيمترات لا بالكيلومترات. أبلغني عبد الحفيظ بأنه قرأ المقال وأن خلفيات الهجوم على آسيا يتعلق بملف الحاويات الذي فتحناه. سألته عن مصدر ثروة آسيا فأجابني متحمساً: "ورثتها عن زوجها المليونير الذي مات في فرنسا قبل سنتين".

-     "معلوماتي تقول إنها انفصلت عنه منذ أعوام. كيف ترثه إذا؟"

-     "الانفصال ليس طلاقا، وعلى كل حال تلك قصة طويلة لا مجال لحكايتها الآن. المهم أن تعرف أن زوجها السابق وأبا سماح قسم ثروته بينها وبين ابنتهما. باع كل أملاكه حين عرف أن السرطان تمكن منه، وفتح حسابا باسمها وباسم ابنتها في جنيف وحول أمواله إليها حتى لا ينازعهما أحد فيه في فرنسا أو الجزائر".

-     "من يمكن أن ينازعهما؟"

-     "أخوه في الجزائر وزوجته الأخرى في فرنسا".

-      "ألا يجوز أنها ادعت الإرث وأن مصدر ثروتها شيء آخر؟"

ضحك عبد الحفيظ وقال: "آسيا زميلة قديمة. تعاونا معا في الماضي حين كانت في وكالة الأنباء وأعرف كل شيء عنها تقريباً. كانت السيارة قد اقتربت من الأبيار حين سألته: "هل صحيح أن ساطع عبد الحسين يحمل الجنسيتين العراقيّة والأمريكيّة؟"

أجابني ببساطة لم أكن أتوقعها:" وماذا في هذا؟"

قلت مستنكراً: "أنت تهَوِّنُ من هذا الأمر الخطير". وأضفت بلهجة حازمة: "لا يمكن الولاء لبلدين وجنسيتين. من يحمل جنسيتين لا بدَّ أن يخون إحداهما".

ردّ بهدوء وثقة: "ليس بالضرورة. نحن الآن في زمن العولمة ومسألة الجنسية مسألة معيشة وحياة وتطبيق لقوانين البلد الذي يعيش فيه الإنسان. ولا علاقة لها بالولاء أو الخيانة وإلا لكان المهاجرون الجزائريون الحاصلون على الجنسية الفرنسية خونة كلهم، ولكان الجزائريون في الجزائر وطنيين كلهم. أكثر المهاجرين في العالم يحملون  جنسيتين. قد يحمل الإنسان جنسيتين ولا يخون أياً من المجتمعين الذي نشأ فيه والذي يعيش فيه، فالولاء للمبادئ التي يؤمن بها الإنسان لا للأنظمة والحكومات. ثم إن ساطع عبد الحسين رجل مبادئ ولا يمكن أن يكون عميلاً. صحيح أنني لم أعرفه إلا منذ فترة قصيرة ولكنني أثق به ثقتي بك". وأردف عبد الحفيظ ونحن نصل إلى مقر الجمعية في فيلا بأحد الشوارع الفرعية: "بعض المسؤولين في الدولة يحملون جنسيتين ومن المؤكد أن الهجوم على جريدتنا لا يدخل في هذا المجال وإلا لوردت أسماء هؤلاء المسؤولين أيضا. المسألة  تتعلق بملف الحاويات الذي فتحناه".

 *

وجدنا"آسيا" في الصالون تسكب الطعام لامرأة في الثلاثين من عمرها تحلقت مع أطفالها الثلاثة حول طاولة ثم بدأت بإطعام الصغيرة منهن. قالت لنا وهي تقودنا إلى مكتب رئيسة الجمعية بعد أن انتهت من إطعامها: "هذه امرأة رمى عليها زوجها يمين الطلاق اليوم وطردها مع بناتها من السكن ليتزوج امرأة أخرى. كنا في اجتماعنا الأسبوعي حين وصلت. لم تذق الزاد مع بناتها منذ الصباح، وليس لديها نقود. أما مجوهراتها، فسطا عليْها الرجل طبعاً ليعطيها لزوجته القادمة".

عرفتنا آسيا برئيسة الجمعية ثم خرجت لتكمل مهامها. تركت الرئيسة مكتبها وجلست معنا على الكراسي الجلدية الموزعة في الغرفة. هي سيدة في الخمسين ممتلئة الجسم من دون سمنة ولا قصر. لا يبدو أن كثرة مشاكل النساء قد تركت أثراَ في سلوكها أو في تعبيرات وجهها، فهي هادئة دائمة الابتسام. قالت حين رأت إعلان الجريدة: "كل يوم تأتينا حالات مختلفة بعضها زائف وبعضها الآخر حالات عاجلة تحتاج إلى حلول سريعة. ومعظمها حالات طلاق تعسفي مع احتفاظ الزوج بالسكن. نحن نحقق في كل الحالات ونكشف الحالات الزائفة بسرعة، لكننا لا نستطيع مواجهة الحالات المتزايدة. لا بدَّ من تعديل قانون الأسرة لضمان حق المرأة المطلقة وأطفالها في السكن. سوف نحقق في موضوع "ناجية" أو "نصيرة"، وإذا كانت كاذبة فأعتقد أن  نأ،ننأأهناك ما يدعوها لذلك".

عادت إلى مكتبها واتصلت بالرقم المذكور في الإعلان فرد عليها صوت رجل. سألته عن علاقته بالفتاة فأجاب بأنه زوج أمها وقد اختفت من المنزل دون سبب، وأمها قلقة عليها ولا تكف عن البكاء. وسألها الرجل بلهفة إن كانت تعرف شيئا عن الفتاة فأجابته بأنها ستتصل به لاحقاً.

طلبت الرئيسة الفتاة ودعتها إلى الجلوس على كرسي يواجه المكتب. تغير مظهرها هذه المرة فتورد وجهها وانسدل شعرها الناعم المسرح على كتفيها وزادها ثوبها الأحمر الزاهي بهاء. وبدا من الصعب التصديق أنها هي نفسها التي حضرت إلى الجريدة قبل يومين منكوشة الشعر بالية الثياب. ناولتها الجريدة مشيرة إلى الإعلان. بدا القلق والخوف في وجه الفتاة.

سألتها الرئيسة بلهجة ودية: "قولي لنا الحقيقة. هل هذا الإعلان يخصك؟"

أجابت الفتاة بصوت خافت وهي خافضة رأسها: "نعم يا سيدتي".

-     "هل هذا هاتف زوج أمك؟"

-     "نعم".

-     "هل أبوك وأمك مطلقان؟"

-     "لا. أبي توفي منذ عام تقريباً".

-     "لماذا كذبت علينا وادعيت أنك من المدية وأن أباك يريد تزويجك من شيخ مسن؟"

أطرقت الفتاة برأسها ولم تجب. أشار إلي عبد الحفيظ وفهمت أنه يريد أن نخرج. وحين هممنا بالخروج قالت رئيسة الجمعية: "أرجوكما أن تبقيا".

أجابها عبد الحفيظ: "من الأفضل أن نخرج لتأخذ الفتاة حريتها في الكلام".

-     "لقد لجأت إلى جريدتكم قبل أن تأتي إلينا، ومن حقكم معرفة الحقيقة".

بدأت الفتاة حديثها بأن أقسمت على أن ما تقوله هو الحقيقة، وأنها أخفتها احتراما لمشاعر أمها. ثم أضافت: "كان زوج أمي يلاحقني منذ الأسبوع الأول لزواجه من أمي. وكنت أتهرب منه باستمرار حتى اعتدت ذلك. في ذلك اليوم كنت أطبخ وأغسل. ذهبت أمي إلى دار خالي لتمكث مع أولاده الصغار لأن امرأة خالي تلد في المستشفى. أوصلها بنفسه في الصباح وعاد إلى المنزل. حين فتح الباب قال لي بلهجة المنتصر: "لن تستطيعي الهرب مني اليوم".

صمتت قليلا ثم تابعت: "أسمعني كلاما لا أستطيع أن أردده وهو يغويني ويغريني بالحب واللذة والوعود والمال. رجوته أن يسمح لي أن أنظف نفسي وأغير ملابسي. وكأنه أحس بأنني أبحث عن وسيلة للخلاص منه فهو رجل ضخم وقوي البنية لا أستطيع مقاومته.

أجابني: "أريدك كما أنت فلا تحاولي التملص".

-     "اسمح لي إذنْ أن أذهب دقيقة إلى دورة المياه".

دخلت إلى دورة المياه لكسب الوقت وأنا أفكر في طريقة للخلاص. لفتت نظري زجاجتا "روح الملح" و"ماء جافيل" بلونهما الأصفر. فكرت في البداية في أن أقذف على وجهه روح الملح لأعمي هاتين العينين المخيفتين اللتين بدأتا تسببان لي الكوابيس وتحرمان روحي السكينة. لكنني عدلت عن ذلك خوفا على أمي من الفضيحة، وفكرت في أنّ أحداً لن يصدقني إذا اتهمته فهو لم يعتدِ عليَّ بعد. فكرت في ماء جافيل لكنني خفت إذا عميت عيناه أن ينتقم من أمي. خطرت لي فكرة ودعوت الله أن أنجح في تنفيذها. أفرغت زجاجة ماء جافيل وغسلتها جيدا ثم ملأتها بالماء العادي. بدأ يدق باب دورة المياه وهو يردد بصوته الأجش الغليظ: "ألم تنتهي بعد؟ إن لم تخرجي سأكسر الباب".

-     "أنا خارجة".

فتحت الباب وأمسكت الزجاجة بسرعة بيديَّ الاثنتين. كان ينتظرني بجانب الباب فقذفت ما بها في وجهه وأنا أقول: "خذ روح الملح الذي يعمي لك عينيك".

من المؤكد أنه رأى الزجاجة الصفراء في يدي وحسبها فعلا روح الملح حين قلت له ذلك. فصرخ صرخة قوية مفزعة وهو يضع يده على عينيه. أما أنا فانطلقت بسرعة وفتحت الباب وخرجت من الدار وأنا لا أصدق أنني نجوت.

لم أرد أن أذهب إلى دار خالي حتى لا أسبب فضيحة لأمي. لا أريد أن أشقيها فهذا الرجل زوجها وهو الذي ينفق على البيت بعد وفاة أبي. خطرت ببالي الجمعية لأنني سمعت في إذاعة البهجة وفي القناة الأولى عن نشاطها، فركبت الحافلة إلى العاصمة ورجوت امرأة مسنة أن تدفع لي ثمن التذكرة. لا أدري ما حدث للقدر الذي تركته على النار. لم أكن أعرف عنوان الجمعية لكنني أعرف أن مديرة جريدة الضياء إحدى العضوات المؤسسات للجمعية. سألت عن عنوان الجريدة في أحد الأكشاك وأنتم تعرفون الباقي.

سألتها الرئيسة: "هل لك إخوة أو أخوات؟"

-     "أخت واحدة في الثانية عشرة وهي في المدرسة".

-     "سنعلم أمك بما حدث".

-     "لا تعلموها أرجوكم. لا أريد أن أسبب لها أي أذى".

-     "لا بدّ أن تعرف أمك كل شيء. هذا الرجل ليس خطراً عليك وحدك بل على أختك الصغيرة أيضا، وهو ليس جديرا بتربيتها. لا تقلقي يا ابنتي وعودي إلى غرفتك فكل شيء سيكون على ما يرام".

 

 لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الورقة الرابعة: معركة الحاويات

 لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الورقة الثانية: سحر الحبر الأسود

للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: حبٌّ في قاعة التحرير

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات