الورقة الرابعة

من رواية حب في قاعة التحرير

     للكاتب عبد الله خمّار

 

معركة الحاويات

قال لي عيد الحفيظ في طريق العودة: "لم تكن الأسرة الجزائرية في الماضي تعرف قانون الأسرة أو تسمع به. كان قانونها هو الأعراف والتقاليد. فلا يمكن أن يتجرأ رجل على طرد زوجته وأولاده من السكن مهما كان سيئا إذ يجد من أهله وأهلها ورجال الحي من يردعه عن الظلم. لم يكن يلجأ إلى المحاكم إلا قليل من الناس، أما الآن فقد توسعت المدن وتفاقمت أزمة السكن وبدأت المشاكل. أصبح الرجل يتجرأ على طرد زوجته وأولاده باسم القانون، ولا تجد المطلقة لمن تلجأ مع أولادها بعد الطلاق. لم تعد أسرتها قادرة على استقبالها فالشقق ضيقة ولا تجد أمامها إلا الشارع".

كان عبد الحفيظ متحمساً لتعديل قانون الأسرة بما يتماشى مع الواقع. أضاف بلهجة أسى ومرارة: "إنَّ جمود معظم الفقهاء هو أحد الأسباب الأساسيّة في تخلف العرب والمسلمين. أغلقوا باب الاجتهاد بإحكام شديد، فما إن ينهض فقيه متنوِّر لحل مشاكل العصر إلاّ وتصدّوا له بالرَّجم بحجارة من العيار الثقيل، مسَفـِّهينَ رأيه طاعنين في دينه، مُشَكـِّكينَ في خُلُقِه. وليس مثال الشيخ علي عبد الرّازق ببعيد عناّ. هكذا وقف المسلم حائراً أمام معضلات عصره حيث حرَّموا عليه وضع أمواله في البنوك كما حرّموا تأمين البضائع والعقار والسيّارة والتأمين على الحياة. وأفتوا كذلك بتحريم الدّيمقراطيّة لأنها تتنافى مع نظام الإمامة والخلافة وهذه الأمور هي عصب المجتمعات الحديثة ولا يمكن لمجتمع أن يتقدم ويتطوَّر دونها. وهاهم عندنا يقفون حجر عثرة أمام تعديل قانون الأسرة بما ينسجم مع ظروف العصر".

وأجابني حين سألته عن الجمعية: "لديها متطوعون من المحامين والأطباء النفسيين ومتبرعون من الرجال والنساء ولكنها مع ذلك عاجزة عن حل المشاكل في ظل هذا القانون".

*

خيم على جلسة يوم الجمعة جو من التساؤل والترقب الحذر نتيجة ما كتبته صحيفة "الغد". أبلغتنا "آسيا" أنها تلقت مكالمات من مسؤولين في الجمارك يرجون أن تواصل الجريدة فتح هذا الملف لتساعدهم ضد بعض المتنفـِّذين الذين يواصلون ضغوطهم ليبقى الميناء بعيداً عن الرقابة الحقيقية للجمارك، كما تلقت مكالمات من جهات تنصحها بالكفِّ عن الخوض في هذا الموضوع.

قال "عبد الرزاق الشعّال" مُعِدُّ ملف الحاويات: "نحن لا نقصد من كتاباتنا إيذاء أشخاص معينين أو فضحهم بقدر ما نقصد إيقاف الفساد، لذلك كانت المعلومات التي أوردناها منتقاة ومحددة، ولكنها تظهر أننا نكشف الجزء العائم من جبل الجليد وأنَّ ما خفِيَ أعظم".

الحق ما قاله عبد الرزاق، فقد أوضح الملف طرق التهريب من الميناء في زوارق نحو الشواطئ البعيدة أو التصريح الكاذب بما يوجد في الحاويات مع تواطؤ بعض الأعوان لإخراج الحاويات في أوقات تواجدهم. ولكنها كانت خالية من الأسماء. المهم تسليط الضوء على الأساليب، والمطالبة بإخضاع كل الحاويات لفحص جهاز "سكانير". لم يتوسع الميناء منذ الاستقلال، ولم يعد يستطيع استقبال وتكديس البضائع التي تضاعفت في السنوات الأخيرة. هناك جهات لا تريد توسيعه فالتوسيع يعني التنظيم الجيد والمراقبة الدقيقة، وهذه الجهات تريد بقاء الميناء ضيقاً يغصُّ بالحاويات ليسهل التلاعب بها".

سألت حفيظة: "أليس هناك خوف على عبد الرزاق؟" 

اتجهت الوجوه نحو عبد الرزاق الذي ابتسم مجيبا: "هذا من ضمن أخطار المهنة، ولكن أصحاب المصالح يعرفون أن إيذائي لن يوقف النشر، لذلك هم يستهدفون الجريدة ومديرتها لتوقفه". 

عارضت رئيسة التحرير بشدة مواصلة نشر الملف لأن الصحيفة جديدة، ولا حاجة لأن تخوض معركة من هذا المستوى قبل أن يشتد عودها ويصبح لها قراء يدعمونها. أجاب عبد الحفيظ: "نحن فتحنا ملفا ومن الجبن أن نغلقه قبل أن نتمّه".

حسمت "آسيا" الموضوع قائلة: "لابد أن نقوم بواجبنا لمساعدة الشرفاء من مسؤولي وموظفي الوطن".

 وباستثناء سامي شريكي في الصفحة الثقافية الذي أيّد رئيسة التحرير، فقد أجمع الصحافيون بمن فيهم ساطع عبد الحسين والمصورة حفيظة على مواجهة التحدي مهما كان خطراً.

اعتمد الجزء الثاني من الملف وأرسل مع المواضيع الأخرى إلى المطبعة. رجوت كريمة أن تتصل بي غدا في محل "الأنترنت" إن جدّ شيء في الجريدة، فعبد الحفيظ مشغول، ولا أستطيع الاتصال به دائماً. أعطيتها هاتف المحل وعنوانه وخرجت مع ساطع عبد الحسين.

 *

كانت لدينا رغبة مشتركة في الخروج معاً. كنت أود أن أعرف عنه أكثر بعد اتهامه بالعمالة وازدواج الجنسية، وهو يريد إكمال الحديث الذي بدأه معي بعد أن رأى فيَّ مستمعاً جيداً.

تحدث ساطع عبد الحسين كثيراً ونحن نسير ثم عند جلوسنا في "الميلك بار" في ساحة الأمير عبد القادر وبالقرب من تمثاله برغم لذعات البرد، فهو يأنس بهذا المكان. والجزء المهم من هذا الحديث هو هجرته إلى أمريكا بعد خروجه من السجن بفترة. قال: "هاجرت إلى أمريكا وقد أصبحت الحرية بعد السجن الثابت الوحيد في حياتي الذي أدافع عنه. استبدلت لغة أخرى بلغتي وقلت: "اللغة ليست من مقومات الأمة ولا الأرض ولا التاريخ. قيل لي إن الإرادة المشتركة في إقامة مجتمع يحترم حقوق الإنسان وفي مقدمتها الحريّة هي أهم مقومات الأمة. أردت أن أكون أمريكيا لأكون حرّاً". 

 كنت أسمعه باهتمام وهو يتحدث بصوته المرتعش وبحركة يده وتعبيرات وجهه: "نسيت تاريخ العراق والعرب لأنه يذكرني بالماضي. أصبحت الهجرة إلى أمريكا بدءُ تاريخي وجغرافيتها جغرافيتي. أليست أمريكا هي الأرض الموعودة لكل الأعراق والأديان؟ كنت أرى "اللّوبيّات" ومراكز القوى تتصارع: "اللوبي الأنجلوسكسوني، الصهيوني، الفرنسي، الإيرلندي، الإيطالي، الصيني". ليس هناك أمريكيون مائة بالمائة إلا الهنود الحمر. وفيما عدا ذلك كل أمريكي يفخر بانتمائه وبأجداده الأصليين إلاّ أنا. كنت أؤمن بأمريكا موحَّدة لا فرق بين أبنائها. لم أكن أخالط العراقيين والعرب. كنت أتجنبهم وأتهرَّب منهم حتى لا أنضمَّ إلى عرقهم. كنت أتكلم الانجليزية حتى في المسجد كيْلا يعرف أحد عرقي أو جنسيتي".

سكت قليلاً ثم أضاف بلهجة ضعيفة واهية: "لكنني بعد الحادي عشر من سبتمبر صنفت معهم رغماً عنّي، وحوسبت كما حوسبوا. أي عمل يقوم به مواطن لك في الهجرة يحسب عليك. نظرات الناس في مؤسسة النشر التي كنت أعمل بها تغيرت. عبارات المجاملة والود صارت مختصرة وجافة. أولادي في المدرسة بدؤوا يسمعون عبارات الإهانة، وبدأ الجيران يغلقون الباب في وجه زوجتي. اكتشفت أن الإنسان لا يمكن أن يتـنكَّر لانتمائه، وأنني هربت من الديكتاتورية إلى عالم مجهول لا يُؤْمَنُ فيه خطر العنصرية مثل كل البلدان. اكتشفت وهم الحلم الأمريكي".

كنت أود سؤاله عن سبب اختياره المجيء إلى الجزائر، وكأنه قرأ أفكاري فتابع: "هربت من الضغوط التي تدفعني إلى اتخاذ موقفٍ ضدَّ قناعاتي. صحيح أنني أحارب الديكتاتوريّة بكل قوّتي ولكنني لا أعتقد أن الغزو الأمريكي هو سبيل الخلاص. إنني أعارض هذا الغزو بصفتي عراقياً وبصفتي مواطناً أمريكياً. لم أشأ أن أذهب إلى دولة من الدول المجاورة للعراق فيشتد الضغط عليَّ من الجانبين. اخترت الجزائر لبعدها نوعاً ما عن مشاكلنا في المشرق ولتمتعها بسمعة طيبة بين الدول. عرفني صديق جزائري بآسيا، واقترحت علي العمل معها فوافقت".

 *

وصلت صباح السبت مبكراً إلى المحل. كانت عاملة التنظيف قد أنهت عملها، ولم يحن الوقت بعد لدخول الزبائن. أغلقت الباب وبدأت استعرض مواقع الصحف الوطنية في الأنترنت. وجدت بعضها نقلت ما كتبته جريدة "الغد". سمعت طرقاً خفيفاً على الباب. فتحته فوجدت "راضية" أمامي .

سحبت كرسيا وجلست بجانبي وتعمدت أن تلتصق بي، ثم أمسكت يدي قائلة بدلال واضح: "هل أنت غاضب عليّ؟"

-          "لا أبدا. لماذا؟"

خلعت معطفها البنفسجي وظهر تحته ثوب صيفي مفتوح الصدر عاري الأكمام يبرز كل مفاتنها ولكنه لا يصلح  لهذا الفصل. أجابت بعد جلوسها: "لأنني قلت لك: اتركني أقود وسحبت يدي من يدك يوم الخميس".

 كانت تظن أنني انزعجت من كلامها، ولكنني انزعجت من نفسي حين تحدثت عن أولادها وتذكرت أنها متزوجة. أجبتها: "لا يمكن أن أنزعج منك، ولكنك ستبردين بهذا الثوب".

همستْ في أذني وهي تلتصق بي أكثر: "أيعجبك؟ ارتديته من أجلك. فإذا بردت فالذنب ذنبك".

 أحسست بالنار الخامدة في قلبي وجسدي تتوقد من جديد. يدها في يدي ووجها قريب من وجهي وطعم حديثها العذب في فمي. قرَّبت وجهي من وجهها أكثر، وطوقتها بين ذراعي ووضعت فمي على فمها... وإذا بجرس الهاتف يرن.

انتفضتْ فجأة وقالت: "أجبْ".

-          "دعيه يرن".

وأردت أن أعانقها مرة أخرى فدفعتني بلطف قائلة بإصرار: "أجبْ".

كان الهاتف يرن بقوة فيمزق ذلك الصمت الجميل ويشوه الأجواء السحرية التي خلقها الحب. رفعت السماعة فإذا هي كريمة.

أخبرتني بأن الجريدة مهددة بالإغلاق. جاء محامي آسيا إلى الجريدة وأبلغنا أن أخا زوجها رفع دعوى مستعجلة للحجز على الجريدة وتعيين حارس قضائي عليها لأنها جزء من ميراث أخيه. كما أبلغتني أن مدير المطبعة أبلغ آسيا عدم تمكنه من طبع هذا العدد لأعطال تقنية حدثت بالمطبعة. ليس هذا فقط فقد سحبت مؤسسة حكومية إعلاناً عن مناقصات في صفحتين كاملتين كانت قد خصّت بها الجريدة بدعوى إعادة النظر في شروط المناقصات. حين وضعت السماعة كانت راضية قد ارتدت معطفها وأشارت إلى الساعة قائلة: "حان وقت دخول الزبائن. سأنصرف قبل أن يدخلوا وسنلتقي يوم الخميس كالعادة".

لعنت في سرّي الجريدة والحاويات والمكالمة التي أفسدت هذه اللحظة السعيدة.

 *

كان شعار جريدتنا منذ البدء أننا لا نعادي الحكومة ولا نهادنها. لسنا مع أحد أو ضد أحد من الأشخاص في الإدارة. نحن مع أو ضد المواقف التي يتخذها هؤلاء الأشخاص. ونحن لا نعتبر الحكومة والإدارة كلاً لا يتجزَّأ، فهناك موظفون نظيفون وهناك مرتشون. هناك نزهاء وهناك فاسدون، وقرارات صائبة وأخرى خاطئة. جريدتنا تقف ضد الفساد والرشوة وتدعم النظافة والنزاهة، وتقف ضد  القرارات التي تخدم مصالح الأقلية على حساب العمال والفقراء، وتدعم القرارات التي تدفع المجتمع إلى الأمام.

 لذلك كنا نؤمن أن من تحرك ضدنا في الإدارة ليس كل الحكومة وليس كل موظفي الإدارة. تحرك ضدنا أولئكالناس الذين يأتمرون بأمر أصحاب المصالح، وعلينا أن نصمد لنقوي وندعم الطرف الذي يرفض الفساد. بعض الموظفين والصحافيين يستسلمون بسرعة وفي بداية المعركة بحجة أن الحكومة تريد هذا. الحكومة لفظة غائمة فضفاضة تخفي وراءها تفسيرات كثيرة، وأحيانا يتستر موظف تافه ومرتش وراء هذه اللفظة. صمود موظف نزيه أو صحيفة شريفة في الدفاع عن قضية عادلة يسقط الأقنعة عمن يحرّكون الدمى وقد يسقط وزيراً أو حكومة، فلا أحد فوق القانون.

 *

اتصلت بعبد الحفيظ صباح يوم الأحد، فأخبرني بأن العدد لن يصدر هذا الأسبوع وبأن بعض مديري الصحف بالعربية وبالفرنسية زاروا مقر الجريدة وأظهروا تضامنهم مع المديرة. ثم زارتني كريمة في محل الأنترنت يوم الاثنين وأخبرتني بأنَّ المديرة قررت سحب ملف الحاويات من المطبعة، وأرسلت عوضاً عنه ملفاً يتحدث عن إمكانيات السياحة في الجزائر أعدته رئيسة التحرير. وسيصدر مع العدد ملحق مزيّن بالصور عن أهم الأماكن السياحية. كلمها مدير المطبعة بعد قليل ليزف إليها بشرى إصلاح الأعطال التقنية، وصدور العدد صباح الأربعاء.

أزعجني هذا الخبر وأحسست بإحباط شديد. إذن فقد أجبروا الجريدة على الرضوخ، وأذعنت آسيا مضطرة لضغوطهم. تملكني الغضب واليأس، وبقيت منزعجاً طيلة اليوم.

زارني عبد الحفيظ في الساعة الخامسة مساء في المحل على غير العادة. وقبل أن أسأله عمّا جرى همس في أذني بعض الكلمات ثم انصرف. تهللت أساريري ورجعت إليَّ روح التحدي. هتفت إلى شريكي بوعلام فحضر ليستلم المناوبة عنّي كما هتفت لوالدتي لأخبرها أن لدي عمل في الليل يضطرني للبقاء خارج المنزل. غادرت المحل مبكراً وتوجهت إلى الجريدة.

 *

كانت الأصوات الحادة والغليظة تنبعث من قاعة التحرير وتصل إلى آخر الرواق بلهجة غاضبة ثائرة ميزت منها بسهولة صوتيْ شاكر وكريمة. وفي طريقي إلى قاعة التحرير دقت الساعة السادسة. لمحت مكتب آسيا مفتوحا لكنها لم تكن في المكتب. أما عبد الحفيظ فوجدته يحاول تهدئة المحررين المعترضين على سحب ملف الحاويات.

كانت رئيسة التحرير تنتقد المعترضين. قالت موجهة كلامها  لكريمة بالفرنسية: "هل تريدين إغلاق الجريدة من أجل هذا الملف؟ إن قرار المديرة هو قرار حكيم لاستمرار الجريدة".

قال عبد الحفيظ: "مازالت أمامنا معارك كثيرة وإن خسرنا هذه الجولة، فأمامنا جولات أخرى"

أجابه شاكر بامتعاض: "لقد استسلمنا من أول جولة ورفعنا الراية البيضاء. ما المعارك التي أمامنا إن كنا نرضخ للتهديد دون مقاومة؟"

انبرى سامي للرد عليه مدافعاً عن رئيسة التحرير: "إنكم تريدون محاربة طواحين الهواء على طريقة دون كيشوت".

أجاب شاكر بلهجة غاضبة: "ما أسوأ المثل الذي ضربته. وما وظيفة الصحافة إذن؟ إن مافيا الحاويات ليست طواحين هواء بل هي واقع أليم تقيم قواعد لسلطة داخل السلطة تسمم الحاضر وتحاول مصادرة المستقبل لصالحها".

انسحبت رئيسة التحرير من الغرفة وعلى وجهها علامات الاشمئزاز. قالت حفيظة محاولة تهدئة الجو: "ربما اضطرت المديرة إلى هذا الإجراء لأن الجريدة كانت مهددة بالإغلاق".

 سألتني كريمة: "ما رأيك في الموضوع؟"

-          "المديرة صاحبة القرار، وتعرف ماذا تفعل".

 قال شاكر معترضا وهو ينظر إلي: "ولكننا لسنا مجرد بيادق في الجريدة. يجب أن يكون لنا رأي".

 أجبته رافعاً يديَّ دون أن أقول شيئاً بمعنى: "ليس باليد حيلة".

كان النقاش يسخن وتزداد حدته ثم يهدأ قليلا، وعلى مدار الساعة تناقص عدد الموجودين في القاعة. كانت كريمة آخر المغادرات، وسألتني: "ألست خارجا؟"

-          "لا. لديَّ عمل مع عبد الحفيظ".

 *

 خرجت مع عبد الحفيظ في الساعة السابعة تماماً وصعدنا إلى الطابق العلوي. فتحت سماح لنا الباب بعد أن أبلغها عبد الحفيظ هاتفيا بصعودنا، وأكدت له خروج كل الموظفين والإداريين. قادتنا إلى مكتبها الأنيق الذي يتوسط الرواق على اليسار.

سألها: "هل الطابعتان جاهزتان؟"

-          "نعم كل شيء على ما يرام".

قال لي قبل أن يخرج: "إذا احتجت إلى شيء الآن اطلب من سماح قبل أن تغادر، وإذا احتجت إلى شيء في الليل كلمني في الهاتف".

كانت ترتدي بدلة أنيقة من سترة وبنطلون بلون سكّري وتنتعل حذاءً متوسط الكعب من نفس اللون. وقفنا أمام طاولة متوسطة الحجم في زاوية الغرفة وضعت عليها طابعتان تطبعان الورق من القطع الكبير متصلتان بجهازي حاسوب. قالت لي سماح برقة لم أعهدها فيها: "الملف جاهز للطبع. الصفحة الأولى في الجهاز الأول والثانية في الجهاز الثاني. سأساعدك في البداية قبل أن أذهب".

 تقضي الخطة التي قررتها المديرة مع عبد الحفيظ بطبع الملف سرّاً كملحق للجريدة واستبداله بعد استلام العدد من المطبعة بالملحق السياحي. لم يعلم أحد بهذا الأمر حتى رئيسة التحرير كيْلا تفشل الخطة. كان علي أن أشرف على الطابعتين طيلة الليل لأضمن تجهيز الموزع بكمية كافية من أعداد الملحق. ومن الطبيعي أن أعداد الملحق لا يمكن أن تصل إلى العشرة آلاف نسخة التي نطبعها، ولكننا سنطبع ما يكفي لنشر الملف بين الناس، وتفويت الفرصة على من يودون أن يعبثوا في الظلام دون رقابة.

 بدأت طبع الصفحات الأولى ثمَّ أخذت أعداداً منها ووضعتها في الطابعة الثانية، وهكذا أخذ الملحق شكله النهائي. فتحت سماح درج مكتبها وأخرجت لوْحاً من الشكولاطة السويسرية وناولته لي قائلة وهي تشير إلى الدرج: "هناك تفاحتان وشكولاطة، قد تحتاج إليها في الليل". بدت لي إنسانة مختلفة أنيسة لطيفة. أحضرت لي زجاجة من عصير البرتقال وأرتني موضع الكؤوس البلاستيكية. رن جرس الهاتف. رفعت السماعة وقالت بلهجة عصبية: "انتظرني في الخارج. سأنزل بعد قليل". حملت حقيبتها ودخلت دورة المياه الملاصقة لمكتبها لتتزين. قرع الباب بعد قليل ورن جرس الشقة. حين لم تخرج لتفتح الباب خرجت وفتحته، فرأيت شاباً طويلا أبيض شديد الأناقة في بدلة رمادية و"بابيون" أسود يزين به ياقته. خرجت سماح وقالت له بغضب: "طلبت منك أنْ تنتظرني خارج العمارة. ألا تفهم؟"

سألها بنبرة شك: "من هذا؟"

أجابته بلهجة آمرة: " انتظرني في الخارج. ألم تسمع؟"

-          "سأنتظرك هنا".

-          "بل خارج العمارة". دفعته إلى الخارج وأغلقت الباب وراءه. قلت في نفسي: "هذه سماح التي أعرفها، المتسلطة المتعالية الآمرة".

عدت إلى المكتب لأتابع العمل. جاءت إلي بعد قليل وقالت بلهجة ودية تختلف عن لهجتها مع الآخر وهي تناولني ورقة: "سأذهب مع خطيبي إلى فندق الشيراتون. الليلة عيد ميلاده. هذا رقم المحمول إن احتجت إلى شيء فكلمني". وخرجت.

 *

كان الملحق عبارة عن صفحتين كبيرتين يتضمن ملفا مدعمًا بالأرقام وضعت له آسيا مقدمة صغيرة كتبت فيها:

  "حين كنت صغيرة في السادسة مرضت أمّي مرضًا طويلاً ألزمها الفراش، واضطر أبي للاستعانة بامرأة تخدمها وتخدمنا. كانت تروي لي قصص الجن والعفاريت وتخوفني منهم كلما أحببت أن ألعب. وتحول الخوف في داخلي إلى رعب شديد فلم أعد أستطيع النوم إلاّ إذا كان النور مضاءً. أخذني أبي إلى كثير من الأطباء ولم ينفع معي أي دواء. وفي يوم من الأيام زاره طبيب عجوز في مكتبته وهو زبون قديم له. حدّثه أبي عن حالتي فحضر إلى المنزل ليفحصني، فقد ترك العيادة وتقاعد منذ سنوات. ما زلت أذكر أنّ جسمه كلّه كان يرتجف حين فحصني بعيون نصف مغمضة. ربّت على كتفي وقال لأبي ضاحكا: "إنّ الدواء عندك وفي صيدليتك، فلماذا جئت إلي؟"

قال أبي متعجبا مندهشا: "عندي وفي صيدليتي؟ أيّ صيدلية؟"

-                    "مكتبتك! خوف ابنتك سببه الجهل، فليس فيها مرض عضوي، والعلم نور. أنت صاحب مكتبة فافسح المجال لابنتك لتقرأ ممّا فيها ليتنور عقلها ويذهب ذلك الخوف المعشش في داخلها".

منذ ذلك اليوم اهتم أبي بتوفير قصص علمية لي ولمن هم في مثل سنّي. كان يناقشني فيما أقرأ ومع الأيّام لم يعد ذهني يقبل الخرافات. أصبح عقلي منهجيا علميا، لكن أبي حرص على تنشئتي نشأة دينية وكان يردّد دائما: "العلم ينير العقل، والدين يضيء القلب. وحين يجتمعان ينتفي الخوف من الجهل والتعصب فالمتدين العالم لا يمكن أن يكون متعصبا".

  وحين كبرت قليلا بدأت أحلم بإنشاء جريدة تهدف إلى إنارة القلب وإضاءة العقل معًا، ونزع الخوف مهما كان نوعه من قلوب المواطنين ليواجهوا خرافات الماضي ومافيا الحاضر. لن نخاف ولن نستسلم وستظل جريدتنا كلمة مضيئة تكشف كل العابثين في الظلام".

أما المقدمة التي بدأ بها الشعال ملفه فكانت كالآتي:

"من قال بان المال ليست له رائحة؟ روائح المال الحرام والكسب غير المشروع والصفقات المشبوهة والرشاوى تزكم الأنوف بعفونتها ونتانتها مهما حاول تبييضها وتطهيرها الغشاشون والمحتالون والمرتشون. لكن بعض الناس فقدوا حاسة الشم وبعضهم لا يبالي بالروائح الكريهة المنبعثة منها وإن لم نتحد ونتكاتف لإزالة أسبابها فسوف ينتقل بسببها وباء فقدان حاسة الشم إلى معظم الناس".

 *

نظرت إلى مكتب سماح. مكتب أنيق مثلها مؤلف من طاولة متوسطة الحجم، فخمة من الخشب العالي الجودة، منقوشة بزخارف في واجهتها وأطرافها، مغطاة بزجاج سميك تحته بعض الصور لأشكال هندسية بديعة. وقبالة المكتب كنبتان فخمتان لجلوس الزائرين. ستائر حريرية زرقاء تغطي النافذة على يسار المكتب والمطلة على الشارع. لوحة واحدة تزيّن الجدار اليميني تمثـِّل امرأة بجسد واحد ووجوه متعدّدة. الوجه المرسوم على الجسد هو الوجه الطفولي البريء، أمّا الوجوه الأخرى فهي بشكل أقنعة متتابعة: الوجه الضاحك، الوجه الباكي، الوجه الغاضب، الوجه المتسلّط، الوجه الماكر، ثم وجوه مبهمة متلاصقة تبهت شيئا فشيئًا حتّى تتلاشى خلف الإطار المذهّب الفاخر. هناك لعب بالألوان يبرز تعبير هذه  الوجوه باستعمال اللّون الأحمر ممزوجا بالألوان الأخرى، إذ يظهر هذا اللّون باهتا كأنّه أبيض في الوجه الطفولي وورديا في الضاحك وقرمزيا في الوجه المغوي. أمّا العينان الزرقاوان فهما عينا ملاك في الوجه الطفولي. تشعان مرحا وبهجة في الضاحك وتنحدر منهما دمعتان في الباكي. هما آثمتان مغريتان بالخطيئة في الوجه المغوي وعينا شيطانة ساحرة تنضحان بالخبث في الوجه الماكر، وآمرتان قاهرتان في الوجه المتسلّط. تسريحات الشعر المختلفة بالضفائر وذيل الحصان والشعر القصير والطويل المسترسل والمموّج تبرز اختلاف هذه الوجوه وكلها جميلة حتّى في حالات الغضب والحزن والتسلّط والمكر. أليس هناك وجه قبيح لهذه المرأة؟ أكيد، ولكنني لا أراه وأتمنى ألا أراه ولا أكتوي بناره.

  كنت أنظر أحيانا إلى اللوحة وأتساءل عن الشبه العجيب بين صاحبة الصورة وسماح. الجسد مستور بثوب أسود عاري الكتفين ويصل إلى الركبتين. الجسد بديع متناسق ولكنّه محايد. الوجوه هي التي تبرز براءته أوغوايته. الجسد جسد سماح والعينان عيناها أو هكذا خيّل إليّ. ترى ما الوجه الحقيقي لهذه المرأة؟ أو بالأحرى ما الوجه الحقيقي لسماح: هل هي متسلطة متعالية كما بدت لي من قبل ومن بعد مع خطيبها؟ أم هي طفلة بريئة سمحة كما بدت لي اليوم في تعاملها معي؟ على كل حال هي امرأة بعدّة وجوه. ومن الصّعب الحكم عليها سريعا.

   تابعت العمل وأنا أحس بأنّ هذه الوجوه خرجت من اللوحة وبدأت تحيط بي من كل جانب.

في الساعة الحادية عشرة والنصف سمعت صوت باب الشقة يغلق برغم صوت الطابعتين فانتفضت مذعورا والتفت لأخرج وأرى حقيقة الأمر، وإذ بسماح تدخل وقد سبقتها رائحة عطرها النفاذة. قالت لي: "نسيت المفتاح معي وأحضرته لك".

كانت تحمل في يدها كيسا أخرجت منه علبة بلاستيكية وقالت: "هذا عشاؤك، جئت به من "الروم سرفيس" في الشيراتون".

كانت ترتدي ثوبا بنفسجيا قصيرا، عاري الكتفين مطرزًّا بالدانتيل في حوافه من الأعلى والأسفل، وقد غطّت كتفيها بشال بنفسجي معرق بالأبيض. بدت أجمل بكثير من لوحة الجدار. نظرت إلى رزمة الأوراق المطبوعة، وسألت: "ما الأخبار؟ هل كل شيء على ما يرام؟"

-                   "نعم".

-                   "هل تحتاج إلى شيء؟"            

-                   "سلامتك".

-                   "هذا هو المفتاح. أعطه لعبد الحفيظ حين يحضر. تصبح على خير".

 *

  دفعني إيقاع الطابعتين المتناغم وحركتي بينهما وأنا أضع الأوراق البكر ثم أرتبها بعد أن أصبحت صيحة حق في وجه الفساد إلى الشعور بالفخر. أنا صحفي صاحب قضية أحارب الفساد وأقف مع جريدتي في وجه المافيا التي دفعتنا إلى العمل السّري دفعا.

  لمعت في ذهني فكرة، جعلتني أشعر بالخزي. ألست فاسدا أستغل ظروف امرأة متزوّجة بعيدة عن زوجها فأغويها؟ هل أحارب خيانة الوطن وأنا أكاد أصبح خائنا للعرض؟ وخيانة العرض كخيانة الأرض. "راضية" لا تلام لأنها كانت صابرة وبدلا من أن أساعدها على الصبر، فتحت لها باب الخيانة. صرحت لي بأنها تحتاجني كصديق وإذا بي أراودها كعشيق.

  ماذا أفعل: كيف أكفر عن ذنبي؟ لن أستطيع أن أقول لها شيئًا، لأنني سأؤذيها بانسحابي. استصغرت نفسي فالاستسلام للغرائز سمة الحيوان وسأجعل من نفسي وأنا الشريك الآثم واعظا سخيفا. على الإنسان أن يقاوم ويتمسّك بالقيم وإلاّ فلا فرق بينه وبين الحيوان. بدأ النّدم ينهش قلبي، ليتني ما فعلت. لن أكلمها، ولكن إن كلّمتني هي ماذا أفعل؟

  قضيت وقتا طويلا أفكر في وسيلة أستطيع فيها الانسحاب دون مساس بشعورها. وسيلة أستطيع فيها الرّجوع إلى ما قبل القبلة المحمومة، القبلة الآثمة ولكن عبثا. لم أصل إلى نتيجة. أخيراً قلت لنفسي: "لماذا أعقـِّد الأمور وأبالغ في الشعور بالذّنب، إن هي إلاّ قبلة لم تكتمل. ليست خيانة ولا جريمة! المهم ألاّ أكلّمها أنا، فإن كلّمتني، سنرى، ولكل حادث حديث".

فكرت في الفتاة الهاربة، وتساءلت عما فعلته الجمعية لحل مشكلتها. وصل عبد الحفيظ  في الساعة السابعة ففرح برؤية رزم الأوراق المطبوعة، أعطيته المفتاح وقال لي: "شكرا على جهودك. اذهب ونم اليوم، نلتقي صباح الأربعاء".

*

سألته قبل أن أخرج عن الفتاة الهاربة وكيف انتهت قصتها. فأجاب بأنّ حكايتها واحدة من حكايات عائلات العمال المسرحين المحزنة. نظرت إليه متسائلا فشرح لي قائلا: "أبوها كان عاملا في مصنع للقطاع العام. أغلق المصنع وسرّح عمّاله بسبب الديون المتراكمة عليه. لم يتحمّل الأب صدمة البطالة فمات كمدا وقهرا. وبالتعبير الطّبي مات بالسكتة القلبية. الفتاة الكبرى متزوجة في فرنسا، وناجية هي الابنة الثانية. كانت متفوّقة في دراستها في المتوسطة والثانوية، توقفت منذ تسريح أبيها عن الدراسة لضيق ذات اليد ولم تستطع إيجاد عمل لتساعد أمها بعد وفاته. كان زواج أمها من البقال هو الحل الوحيد لتأمين لقمة العيش. ومن حسن الحظ أن السكن هو باسم زوجها المتوفى. حين استدعت رئيسة الجمعية الأم وزوجها بحضور آسيا ادعى الزوج أن سلوك الفتاة أصبح غريبا في الأيام الأخيرة وأنها بدأت تختلق أحداثا لا وجود لها.

قاطعته الأم باستغراب: "لم ألحظ ذلك عليها!"

- "أصبحت تكذب في الأيام الأخيرة، ولم أرد إزعاجك. نصحتها وظننت أنها ستستمع إلى النصيحة لكنها هربت".

- " لا تكذب ابنتي أبدا".

  اتضح للرئيسة وللسيدة آسيا أن الرجل كان يحاول إبطال شهادة الفتاة فاتهمها مسبقا بالكذب. واتضح لهما أيضا أن الأم تعرف ابنتها جيدا وتثق بها لذلك لم تقبل اتهام زوجها لها. وقد سهل هذا من مهمتهما. خرجت آسيا مع الأم لمقابلة ابنتها بينما واجهت رئيسة الجمعية الرجل باتهام الفتاة. ثار في البداية وأرغى وأزبد وقال: "سلموني الفتاة فأنا ولي أمرها. سأؤدبها وأعلمها ألا تكذب أبدا، وإن لم تسلموني إياها سأرفع عليكم دعوى في المحكمة".

أجابته الرئيسة بهدوء: "الفتاة بالغة راشدة وهي ولية أمر نفسها وهي الآن في ضيافتنا وتحت كفالتنا. كيف تحاول الاعتداء على ابنة زوجتك وهي بمثابة ابنتك؟ وتريد أن تؤدبها أيضا؟ أنت الذي تحتاج إلى تأديب، وإن لم تهدأ وتسمع ما أقوله لك، نحن من سيحولك إلى القضاء ولن تنام اليوم إلا في السجن".

كانت لهجة الرئيسة حازمة فأطرق برأسه وسكت. تابعت قائلة: "نحن الآن بانتظار قرار الأم فإن رضيت بالبقاء معك رغم ما حدث لابنتها طلبنا منك ومنها التخلي طواعية عن كفالة الفتاة الصغيرة فلست أمينا عليها. وإن طلبت الطلاق تعطيها كل حقوقها. سيعلمك محامينا قبل خروجك من هنا بكل الإجراءات. واحمد الله كثيرا على أن الفتاة لم ترض أن ترفع دعوى عليك وليكن هذا درسا مفيدا لك".

تغيرت لهجته وبدأ يحاول اللف والدوران ويتهم الشيطان بما حدث، ويتعهد ألا يتكرر ذلك أبدا. فتح الباب ودخلت آسيا وأسرت بضع كلمات في أذن الرئيسة فالتفتت إلى الرجل قائلة: "زوجتك تريد الطلاق ولا تريد أن تراك بعد الآن. منذ الآن لن تدخل الدار وسيصل محامينا بعد قليل ويخبرك عن الإجراءات".

وظفت الجمعية "ناجية" كسكرتيرة لأن مستواها جيد بالعربية والفرنسية وبدأت بأخذ دروس في الحاسوب، كما تعهدت الجمعية بمساعدة أسرتها أيضا".

 *

ظهرت الجريدة صباح الأربعاء واشتريت عددا فأعطاني البائع الملحق. مررت على باعة الصحف فوجدتهم يوزعون الملحق مع الجريدة دون ضجّة ودون أن يلفت ذلك انتباه أحد. لم يعرفوا بعد أهمية هذا الملف. وصلت إلى الجريدة في الثامنة والنصف فلم أجد أحدا. جاءت كريمة بعدي وسألتني باهتمام ممزوج بالفرح: "كيف حدث هذا؟  من الذي طبع الملحق وأين؟"

رفعت يديّ مشيرا بأنّني لا أدري. قالت وهي تهز رأسها: "يبدو أنّك تعرف الكثير من الأسرار ولا تحب البوح بها! تركتك يوم الاثنين مع عبد الحفيظ وكنت غائبا بالأمس عن الجريدة، فإن ربطنا هذا بخروج الملحق اليوم مع العدد، نستنتج أنّ لك ضلعا في الموضوع".

وصل شاكر ثمّ حفيظة ومسعودة، وعبّروا عن فرحتهم بالملحق ثم دخل عبد الحفيظ فسلّم علينا. تحلّق الجميع حوله متسائلين عن طباعة الملحق، فأشار إليّ وضحك قائلا: "قضى شريف ليل الاثنين بطوله يطبع الملحق".

نظرت كريمة إليّ نظرة عتاب وقالت: "كنت متأكدة أنّ لك ضلعا في هذا العمل. لماذا كتمت عنّي الخبر؟ كنت أساعدك بكل سرور. ألا تثق بي؟"

- "أثق بك بالتأكيد ولكن لم يكن من حقّي أن أكشف ذلك لأحد، فاعذريني".

- "لن أسامحك في المرّة القادمة".

دخلت رئيسة التحرير إلى القاعة غاضبة وثائرة لأنها فوجئت بالملحق وتمّت طباعته بمعزل عنها. وقالت موّجهة الكلام لنا ولعبد الحفيظ: "إذا كانت المديرة لا تثق بي، فما معنى وجودي هنا؟ كيف يطبع الملحق دون علمي؟ اليوم أقدّم استقالتي". ثم خرجت.

رفعت كريمة يديها ونظرت إلى الأعلى قائلة: "آمين". أشرت إليها أن تسكت. كان سليمان الرسام وسامي يدخلان القاعة، همست في أذنها: "الحيطان لها آذان".

أجابتني همسا: "هل تريدها أن تبقى؟"                           

لم أجبها ولكنني تمنيّت أن تستقيل، فأنا مثل كريمة لا أحبها. قالت لي كريمة مرّة بأنّها سمعت جزءًا من حوار بينها وبين عبد الحفيظ في مكتبها، قالت رئيسة التّحرير لعبد الحفيظ: "ومن قال لك بأنّي أريدهم بأن يتفقوا؟" 

- "ألا تريدين أن يكون المحررون أسرة واحدة؟"

- "ليتـَّفقوا علينا! نحن في جريدة ولسنا في عائلة. كل محرر يقدّم المطلوب منه وكفى. يسهل علينا التعامل مع كل منهم بمفرده، فإنّ تكتّلوا أصبحت لهم مطالب ومخالب وآراء وسوف يتدخّلون في سياسة الجريدة وإدارتها. من الأفضل أن تبقى الخصومات بينهم".

لكن عبد الحفيظ ساعتها أغلق الباب ولم تعد تسمع شيئا. وكان نقاش حاد حصل قبل هذا الحوار بيومين بين شاكر وسامي تطوّر إلى خصومة بينهما. قلت لكريمة: "نحن محرّرون منضبطون، لا يهمنا من يستقيل ومن يواصل العمل".

 *

بقيت وحدي في قاعة التحرير أكتب نصاً على الحاسوب بعد أن كانت كريمة آخر من غادر القاعة حين دخلت سماح. كانت الساعة السادسة إلا ربعاً. سألتني عن عبد الحفيظ فأجبتها دون أن أتوقف عن الكتابة بأني لا أعرف أين هو. عادت كريمة إلى القاعة وجلست في إحدى زوايا الطاولة الكبرى وانشغلت بقراءة الصحيفة. تلكأت سماح قليلاً ثم خرجت. قفزت كريمة إليَّ بصورة أفزعتني صائحة: "ماذا فعلت يا رجل؟ ابنة السيدة المديرة ولية نِعْمتِكَ تأتي إليك فتكلمها وأنت جالس ولا تتوقف عن الكتابة. ما هذا الاستهتار؟ أليس لديك طموح للصعود في السلم الوظيفي؟"

  -" ماذا تقولين؟"

  -" أليس هناك أدنى احترام للسلطة؟"

  -" هي تريد عبد الحفيظ وأخبرتها أنه خرج".

  أمسكت الكرسي بكلتا يديها وحركته لأواجهها هامسة بصوت مسموع: "عبد الحفيظ خرج أمامها الآن من الجريدة وحيّاها عند خروجه. كانت تريدك أنت! أليس لديك أي اعتبار للجمال؟"

  - "بالله عليك دعيني أتم مقابلة العدد على الحاسوب".

علقت وهي خارجة: "ربما تكون صحفياً جيداً ولكنك لست طموحا ولا تحسن اقتناص الفرص".

تساءلت عن سبب زيارة سماح وسؤالها عن عبد الحفيظ ما دامت رأته قبل أن يخرج، ولكنّني كنت مشغولا بالكتابة فلم أعر الموضوع اهتماما.

عادت سماح بعد قليل ومعها شابة في مثل سنّها. كانت ترتدي ثوبا أزرق أنيقا طويل الأكمام، زيّن صدره برسومات زهور صفراء إلاّ أنّه كالعادة فوق الرّكبة وقد تركت شعرها مسدلا على كتفيها، وانتعلت حذاء مخمليًّا ملائما للثوب. وقفت بيني وبين الحاسوب قائلة بلهجة حاولت أن تخفف فيها ما استطاعت من كبريائها: "الآنسة ربيعة لديها مشكلة، وأرجو أن تستمع لشكواها".

  كان هناك تقارب بينهما في السّن فكلتاهما تبدو في الثانية أو الرابعة والعشرين، وتقارب في القامة المتوسطة المربوعة كما أن هناك تشابها ملحوظا في البياض والجمال وسعة العينين، لا في لونهما فعيون سماح زرقاء كعيون أمها، وعيون ربيعة سوداء، لكن كفة سماح ترجح في الجمال.

أمّا اللباس فهناك تناقض صارخ بينهما فبينما تلبس سماح كعادتها آخر صيحة في عالم الأزياء، ترتدي ربيعة ثوبًا طويلا كان في يوم من الأيّام أزرق غامقا فأصبح باهتا من كثرة الاستعمال وقد غطّت شعرها بمنديل لا تظهر منه سوى الخصلة الأمامية من شعرها الأسود، وفي قدميها حذاء أسود بنصف عمر.

فتحت الآنسة ربيعة فمها بخجل واضح فظهرت أسنانها البيضاء اللاّمعة، لكنها فتحته وأغلقته دون أن تقول شيئا. لاحظت سماح خجلها وارتباكها فتناولت الكلمة عنها: "ربيعة تتعرّض للتّحرش الوظيفي من رئيسها في العمل، ولا تعرف كيف تتصرّف، وتريد أن تكتب شكوى في الجريدة".

سكتت قليلا ثم أردفت: "نريد رأيك في الموضوع".

سألت ربيعة عن طبيعة عملها فأجابت: "سكرتيرة إدارية. درست ثلاث سنوات بعد البكالوريا، وتخرجت تقنية سامية".

ذكرت لي أنها تعمل في مؤسسة عامة منذ بضعة أشهر، وأنّ المدير القديم انتقل منذ شهر إلى منصب في الوزارة، ونقل المدير الجديد السكرتيرة القديمة وأضافت:

"كنت أعمل سكرتيرة لرئيسة الدّائرة فأجبرني على أن أصبح سكرتيرته. وهو يطلب منّي أن أمكث بعد الدّوام بحجّة تصفية الملفات ودراستها معه ثم يقفل الباب بالمزلاج ويحاول إغوائي وإغرائي ويلوّح لي حين أصدّه بالتهديد بطردي وإلصاق تهمة بي. أنا لست مرسَّمة بعد، ولا بد من تقرير جيّد لرئيسي في العمل لأترسّم في الوظيفة. بالأمس قال لي بالحرف الواحد: "بدأ صبري ينفد. يجب أن تقرري قبل نهاية الأسبوع إن كنت ستبقين أو تفقدين عملك. لم أسمع قبل الآن بسكرتيرة تعصي أوامر رئيسها".

سألتها: "هل عرض عليك الزواج؟"

- "ليس هدفه الزواج وهو متزوّج وله أولاد في مثل سنّي. وأنا لا يمكن أن أتزوّجه لأنني مخطوبة وأحب خطيبي وأخاف إنْ أخبرته أنْ يرتكب جريمة، كما أخاف إنْ أخبرت أبي أن يحرمني من الوظيفة".

  كانت سماح تتابع باهتمام أسئلتي وتنتظر رأيي في الموضوع. فكّرت قليلا ثم قلت لها: "لا يمكن نشر شكوى ضد هذا المدير، فهو سينكر وسيقاضيك ويقاضي الجريدة وسيربح الدّعوى".

بدا الوجوم والحزن على وجه الفتاة، وقالت سماح بانفعال: "ما العمل إذن؟ أليس هناك طريقة لإيقافه عند حدّه؟"

أجبتها: "هناك طريقة واحدة ولكن... ". سكتُّ ولم أكمل الجملة.

كانت سماح في غاية التوتر. سألت بنفاد صبر: "ولكن ماذا؟"

أجبتها: "ولكن هذه الطريقة تعتمد على دقّة التنفيذ، وأخاف ألا تستطيع ربيعة تنفيذها".

أخرجت من محفظتي مسجلّة صغيرة بحجم الهاتف المحمول وقلت لربيعة: "هذه المسجلة آخر ما وصلت إليه تقنيات التسجيل. أنا أستعملها في التحقيقات الصحفية، واستعمالها سهل جدّا. اضغطي هذا الزر للتسجيل وستسجل لك عدّة ساعات. ضعيها في حقيبة مفتوحة أو في جيبك. اتركي مفتوحة وغطيها بمنديل ثم ادخلي إليه بالحقيبة. حاولي أن تتوسلي إليه ألا يقطع رزقك وأن يتركك بسلام، وأفهميه أن ضغطه عليك وإغواءه لك دعوة إلى الانحراف لا تليق به كمدير، و لنرَ ماذا يكون رد فعله".

قالت بلهجة يائسة: "لن يستمع إلى توسلاتي. أنا متأكّدة من ذلك".

قلت لها مطمئنا: "ما يقوله ستسجّله الآلة، وسيكون دليلا ضدّه فلا تخشي شيئًا".

-  "لكنني خائفة. لن أستطيع أن أفعل ذلك".

قالت سماح بحزم: "بل تستطيعين ومستقبلك متوقف على ذلك. يجب أن نوقفه ونوقف أمثاله عند حدّهم".

-  "سأحاول".

قلت لها مشجعا: "بل ستفعلين وتنجحين. ثقي بنفسك".

نهضتا وقبل أن تغادرا قلت لربيعة: "عليك أن تمثلي دورك جيّدا. توسلي إليه بصدق، واتركي المسجلة تقوم بالباقي، فإن استجاب لتوسلاتك فقد نجا، وإن لم يستجب فقد وقع في الفخ".

بان الارتياح في وجهها وقالت: "الآن فهمت".

 *

وصلت إلى المنزل والساعة تقارب الحادية عشرة منهكا مكدودا، فنهار اليوم كان حافلا. أمّي طلبت منّي إحضار مبيد جديد للصراصير شاهدته في التلفزيون وهو مبيد فعال يقضي عليها نهائيا. أنا ضد استعمال المبيدات الفعالة ومع التعايش السلمي، فللصراصير الحق في العيش لأنها مخلوقات مثلنا بشرط أن يظل التوازن قائما، وألا تزيد أعدادها بشكل ملفت للنظر. أمّا المبيد الفعال فيقضي على الحشرات المفيدة والضارة معًا. سأحضر لها المسحوق الذّي يضمن هذا التوازن بحيث "لا يموت الذئب ولا تفنى الخرفان"، كما يقـول المثل القديم.    

أمّي لا يهمها التوازن البيئي، تهمها النظافة وإبادة الحشرات الضارة. تقول لي: "أنت تتهاون اليوم مع الصراصير، وغدا العنكبوت، ثم ربما تغزونا العقارب والأفاعي".

 

 لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الورقة الخامسة: بداية إعجاب

لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الورقة الثالثة: الهاربة

للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: حبٌّ في قاعة التحرير

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات