الفصل الثاني

من رواية "القاضية والملياردير"

للكاتب عبد الله خمّار

 

الخيط الثاني: امبراطورية مصباح

-12-

كان شاطئ زرالدة مساء ذلك اليوم خاليا من الرواد. خرجت سوسن من البحر حيث كانت تعوم وبدأت تجفف جسمها بالمنشفة لتتمدد وتسترخي تحت أشعة الشمس. فجأة، ظهرت علجيّة بوجهها العابس المتجـهم تحمل مكنسة ذات عصا طويلة غليظة وانهالت بها على سوسن ضربا فأوقعتها على الأرض. حاولت سوسن أن تنهض ولكن ضربات العصا المتكررة على كل مكان في جسمها منعها من الحركة. أمسكت علجية سوسن من شعرها ثم جرّتها إلى البحر وهي تصرخ وتتألم. صاحت علجية في وجهها: "اخرسي، سأعلمك أيتها اللقيطة كيف تحترمين أسيادك الذين أطعموك وآووك فكنت ناكرة للجميل وبدلا من أن تشكريهم وتخدميهم طيلة العمر تخليت عنهم، ثم غطست رأسها في البحر طويلا وسحبته. كادت سوسن تختنق وتتوقف عن التنفس، وبدأت تسعل لتخرج الماء الذي دخل إلى جوفها. غطست علجية رأسها من جديد ثم أخرجته وهي تصرخ. فتحت سوسن عينيها فرأت محجوب واقفا قرب علجية. قال لها مستعطفا: " سامحيها إنها صغيرة لا تحتمل".

صرخت علجية في وجهه: "اسكت أنت. لا تتدخل بيني وبين خادمتي" .

ثم غطست رأسها وتركتها فبدأت تغرق وأحست بذراعين تنتشلانها وتسحبانها إلى الأعلى ثم تضعانها على الشاطئ. نظرت إلى من أنقذها فوجدته نفس الشاب الذي أنقذ ليندا. سألها:" هل أنت بخير؟" 

أجابته:" نعم".

 في هذه اللحظة جاءت علجية ومحجوب فوقفا بجانبها. أرادت علجية أن تعيد الكرة معها فأمسك بها الشاب ثم طواها بيد واحدة فطارت في السماء ثم هوت على الأرض بلا حراك. أراد الشاب أن يفعل بمحجوب كما فعل بعلجية، فقالت له سوسن: "أرجوك. هذا الرجل لم يؤذني. تلك الأفعى هي التي آذتني وأشكرك لأنك خلصتني منها".

قبل الشاب يدها وقال: "أريد أن أعترف لك بشيء". وقبل أن يتم حديثه فتحت عينيها فوجدت نفسها في الفراش. كانت بداية الحلم مرعبة فذكرى علجية التي مكثت في بيتها ثلاث سنوات تعمل كخادمة جعلتها ترتجف هلعا. وقد ظهرت في الحلم كما تصورتها سوسن دائما بشكل متوازي مستطيلات ضخم ركبت في أعلاه يدان نحيلتان وفي أسفله رجلان قصيرتان منتفختان. أما رأسها فكرة قدم مستديرة ألصقت في أعلاها كومة من الشعر المصبوغ بالأصفر دون تناسق، بينما برزت من تحته جبهة عريضة، وعينان غائرتان حمراوان دائما لأنهما تفيضان بالحقد والغضب على من حولها وما حولها. وتحتهما أنف كبير أفطس وفم عريض يكاد يصل إلى الأذنين حين تفتحه، وينطلق منه وابل من الشتائم البذيئة بصوت خشن قبيح، مع رائحة كريهة تنبعث من أسنانها الصفراء فتشعر مستنشقها بالغثيان. كانت نهاية الحلم سعيدة. ليت الشاب الذي أنقذها في الحلم ينقذها من وحدتها ويصبح شريك حياتها ويحميها إلى الأبد. ولكنه حلم بعيد المنال فلا يمكنها أن تحب كبقية البنات. تذكرت فجأة زهير الصواف.

-13-

هرب النوم من عينيها فلم تستطع النوم لأن حلم علجية ذكرها بطفولتها. لم تحس سوسن باليتم في السنوات الأولى من عمرها فقد عاملتها الحاجة حبيبة وزوجها الحاج شريف اللذين تبنياها معاملة الأبوين الحقيقيين لابنتهما وأفاضا عليها من الحنان ما جعل طفولتها الأولى سعيدة مشرقة مليئة بالحيوية وواعدة بمستقبل زاهر. أدخلاها الحضانة في السنة الخامسة لا ليستريحا منها بل لتبدأ رحلة التعلم واكتشاف الحياة، وفي السادسة دخلت المدرسة وفرحت بها معلمتها لذكائها ونشاطها، لكن الأمور تغيرت بعد موت راعييْها.

حين انتقلت إلى دار محجوب أخي حبيبة رفضت علجية أن تعيدها إلى المدرسة وقالت لمحجوب: "أنا أحتاج إليها في المنزل". كانت تخدم الأخوين اللذين يكبرانها في العاشرة والثامنة وترعى الأخوين اللذين يصغرانها في الخامسة والثالثة. وكانت تسرق من الوقت القليل الذي تغفل فيه عنها عين علجية لتقرأ في قصص الأطفال التي يقرأها الأخوان الكبيران.

تركت سوسن المدرسة وتألمت معلمتها لفقدانها. توقف الأمر عند هذا الحد فإلزامية التعليم الموجودة في الدستور لا تطبق بإحصاء أسماء التلاميذ الذين يبلغون سن المدرسة في البلديات لإجبار أوليائهم على إحضارهم بقوة القانون، أو عدم السماح لهم بمغادرة المدرسة إلا بعد إتمام مرحلة التعليم الإلزامي.

قضت سوسن السنوات الثلاث في عذاب ومعاناة، ولم تستطع فهم هذا التغير المفاجئ من السعادة الغامرة إلى الشقاء المريع. لم يكن لديها الوقت لتفكر في الأسباب، فهي تنهض من صلاة الفجر لتعاون علجية في التنظيف والكنس والطبخ والغسيل، ولا تنام إلا في ساعة متأخرة. وقد أصبحت في نهاية هذه السنوات شبحا هزيلا من الضنى والتعب والجوع أيضا، لأن علجية تطعمها بقدر يختلف تماما عن تغذية أولادها. ولولا لطف الله الذي ساق لها السيد مصباح ليخلصها ويكلف الزوجين ماما زهرا وبابا عزوز بتربيتها لبقيت حتى الآن خادمة لعلجية وأولادها.

أذن المؤذن لصلاة الفجر فنهضت وتوضأت ثم تبعتها ماما زهرا وعزوز فصلوا معا ورددوا بعض الأذكار ثم تناولوا القهوة.

-14-

فرغت السكرتيرة دليلة من إعداد قاعة الاجتماعات الخضراء، ووضعت على الطاولة المغطاة بالمخمل الأخضر عشرة ملفات أمام كراسي الزان العشرة المنجدة بالجلد الأخضر الفاخر والمتقابلة على جانبي الطاولة، تتضمن جدول الأعمال ومشاريع القرارات التي ستبحث في جلسة مجلس إدارة مجمع شركات مصباح المساهمة. 

ألقت السكرتيرة نظرة متفحصة على القاعة وعلى جدرانها الزيتية المزينة باللوحات السريالية. وضعت بعد ذلك باقتي الورود البيضاء الكبيرتين في المزهريتين الضخمتين على الطاولة، فبدأت الرائحة المنعشة تنتشر في القاعة. كانت تعرف أن السيد مصباح يحرص على وجود الورود البيضاء في مكتبه وفي قاعة الاجتماعات، والفضل يعود في توفرها على مدار السنة للمشاتل المغطاة بالخيم البلاستيكية. أعلمت السيد خلدون مدير مكتب مصباح بأن كل شيء على ما يرام، فتوجه إلى القاعة ليتأكد بنفسه من جاهزيتها.

تعود أن يتلمس الجدران والمقاعد والطاولة ليرى إن كان هناك أثر للغبار. عاين زجاجات الماء المعدني والكؤوس ليتأكد من نظافتها ونقائها. لاحظ ترتيب الورود البيضاء وعددها. تأكد من ضبط درجة حرارة المكيف. فتح الملفات واحدا واحدا ليدقق في عدم نقص أي ورقة منها، فلا يقبل السيد مصباح أي إهمال أو هفوة مهما صغرت إذ أنها قد تؤدي إلى فصل السكرتيرة أو فسخ عقد شركة التنظيف بالإضافة إلى توبيخه شخصيا أمام أعضاء مجلس الإدارة كما حدث ذات مرة.

بدأ أعضاء مجلس الإدارة يتوافدون على القاعة منذ الساعة التاسعة والنصف ليس للتشاور فيما يفعلون في الاجتماع فلا أحد يجرؤ منهم على مخالفة مصباح أو التآمر عليه وراء ظهره، ولكن ليتبادلوا المنافع والمصالح فيما بينهم، فأربعة منهم من رجال الأعمال وثلاثة من السياسيين وثلاثة من مديري البنوك وكل منهم محتاج إلى الآخرين في حل مشاكله وتلبية حاجاته وحاجات عائلته والمحسوبين عليه. كان أغلبهم في عطلة، لكنهم قطعوا إجازاتهم ليحضروا اجتماع اليوم الأربعاء فهم لا يستطيعون الاعتذار أو التأخر عن اجتماع دعا إليه مصباح حتى وإن كان في أوت.

لم يتشعب الحديث كالعادة إلى أمور كثيرة فقد استحوذت عليه قضية كريم العرفي مدير مصرف القروض العقارية، فقد تساءل السيد عبد المعطي السياسي المستقل المخضرم والمقرب من السلطة عما يشاع عن هذه القضية وأضاف:" لابد أن يشرح لنا السيد كريم عند حضوره ما حدث"، لكن السيد عامر مدير بنك القرض الفوري أجاب في لهجة أسى:

    "لا أعتقد أن السيد كريم سيحضر اليوم فقد ورد اسمه في قضية قرض بدون ضمان لأحد الزبائن الذي استولى على ملياري دينار وهرب إلى الخارج دون أن يسدد سنتيما واحدا". ثم أضاف: "أخبرني بالأمس أنه لن يحضر لكنه يأمل أن نقف معه في محنته وأعتقد أن من واجبنا دعمه ماديا ومعنويا".

علق السيد حسان العايد وهو مدير البنك المختلط وأبو سامر خطيب ليندا ابنة مصباح: "كلنا معرضون لأن نكون ضحية النصب والاحتيال ويجب أن نتكافل ونتضامن معا لمصلحتنا جميعا".

تحدث الجميع وأثنوا كل بدوره على السيد كريم ووعدوا بطرح قضيته في الاجتماع ومساعدته بكل الوسائل، وتعهد السيد عبد المعطي أن يستعمل نفوذه ويبذل قصارى جهده للفلفة القضية أو التقليل من مسؤولية كريم فيها لكنه لامه لتغيبه عن الاجتماع، وأضاف: "إنه واحد منا وأخ عزيز علينا فلا يجب أن يخجل من مواجهتنا وشرح قضيته لنا". وقبل أن يتم حديثه دخل مدير المكتب معلنا حضور السيد الرئيس المدير العام لمجمع شركات مصباح المساهمة. نظر الجميع إلى ساعاتهم فإذا هي العاشرة تماما.

-15-

وقف الجميع في أماكنهم كعادتهم عند دخول السيد مصباح، وبدا بقامته العملاقة وهيكله الضخم كأنه هو وحده الواقف وكلهم جالسون. كان لا يختلف عنهم في طوله وضخامة جسمه فحسب بل في تناسق أعضائه كذلك، فجسمه يبدو، حتى وإن لفته بدلته الرمادية، بعيداً عن الترهل الذي أصاب أجسامهم، وكرشه لم تبرز كمعظم كروشهم. ورغم أن أعمارهم متقاربة فأصغرهم تجاوز الخمسين إلا أنه يبدو أصغرهم في لياقته البدنية وخلو وجهه الناصع البياض من التجاعيد، وكذلك جيده الذي تغطي ياقة القميص وربطة العنق الجزء الأسفل منه. ولولا بعض الشعيرات البيضاء في لحيته الشقراء الصغيرة المدببة في أسفل ذقنه وفي شعر رأسه الأشقر المسرح بعناية لظننته شابا في الثلاثين. لمعت عيناه الزرقاوان الحادتان كعيني الصقر فهو لا يضع نظارة للقرب أو البعد، ورن صوته الجهير في آذانهم بنبرة فصيحة: "صباح الخير"، فردوا عليه جميعا بصوت واحد، وكأنهم تلاميذ مدرسة ابتدائية يحيون معلمهم: "صباح الخير".

كان أنيقا دون تكلف وزادت وسامته من مهابته. جلس في رأس المائدة فجلسوا.

 

 

-16-

رن جرس الهاتف في مكتب خلدون وأعلمه موظف الاستعلامات أن السيد كريم في طريقه إلى المصعد.

فتح باب المصعد في الطابق الخامس عشر وخرج منه كريم. فوجئ بخلدون مدير مكتب مصباح عند باب المصعد يسد عليه الطريق ويسأله: "إلى أين؟"

تجاهل كريم السؤال سائلا بدوره: "هل بدأ الاجتماع؟"

لم يجب خلدون عن السؤال بل سأله من جديد: "ألم ينصحك السيد مصباح بعدم الحضور ووعدته بذلك؟"

رد بحزم: "ولكني غيرت رأيي. أريد أن يسمعني أعضاء مجلس الإدارة".

وقف خلدون في طريقه متحديا وهاتفا: "لا أستطيع السماح لك بالدخول".

 قال باستعطاف وبلهجة تقارب البكاء: "لا بد أن أدخل. أرجوك. إنها قضية مصير بالنسبة لي، ويتوقف عليها مستقبلي وربما حياتي".

رضخ خلدون لتذللِهِ فتنحى عن طريقه قائلا: "تعال إلى مكتبي".

مر الاثنان بمكتب الأمانة الفسيح وفيه سكرتيران وسكرتيرتان مشغولون بالرقن على أجهزة الإعلام الآلي أو بترجمة الوثائق ومراجعتها، ودخلا إلى مكتب خلدون وهو مكتب واسع أنيق. حمل خلدون سماعة الهاتف وكلم مصباح بصوت منخفض ثم التفت إلى كريم قائلا: "أنت تعرف الطريق إلى قاعة الاجتماعات".

-17-

دخل كريم قاعة الاجتماعات وأغلق الباب وراءه ثم ألقى التحية وجلس. سأله مصباح بلهجة هادئة: "لماذا حضرت؟"

أجاب بحماس: "أريد منكم أن تسمعوني قبل أن تحكموا علي".

خاطبه مصباح ببرود: "نحن لسنا قضاة لنسمعك ونحكم عليك. قضيتك الآن في العدالة، متى برأتك، مرحبا بك بيننا".

رد باستعطاف وتذلل: "ولكني أحتاج إلى دعمكم ووقوفكم إلى جانبي".

كان مصباح يتكلم بهدوء وبطء فيبرز في عباراته مخارج الحروف، بينما يتكلم كريم بعصبية وسرعة ويحرك يديه وجسمه كله وهو يرتجف اضطرابا. تابع مصباح المحاورة ببرودة أعصاب متسائلا: "نقف معك ضد من؟ ضد العدالة؟ وبأي صفة؟"

تلعثم كريم بحثا عن جواب مقنع ثم قال: "بصفتنا أصدقاء".

ابتسم مصباح ورد بهدوء: "من قال ذلك؟ إن علاقتنا مهنية بحتة. لا صداقة في مجال الأعمال".

ارتفع صوت كريم مناشدا ومخاطبا الجميع: "أريد أن تسمعوني فقط. لن آخذ من وقتكم الكثير".

رد مصباح ببرود: "وأنا أكرر أننا لا نريد أن نسمع تبريرات. وفر ما تريد قوله للمحكمة".

رد كريم بنفاد صبر مطلقا آخر سهم في جعبته وهو ينظر في وجوه المجتمعين مستنجدا متوسلا: "ربما كان أعضاء مجلس الإدارة الأكارم يريدون سماعي".

نظروا إليه جميعا ولم يجبه أحد. لم يكتف مصباح بصمتهم فخاطبهم بقوله: "طيب. من يريد منكم سماع تبريرات كريم؟"

أرخى الجميع رؤوسهم ولم يتكلم أحد. نظر إليهم كريم نظرة يائسة ولكنه لم يستطع أن يرى وجوههم لأنهم تفادوا نظراته اللائمة. وقف في مكانه واقترب من عامر قائلا:

"ألم تعدني بالأمس أن تقف إلى جانبي؟". ثم اقترب من حسان وخاطبه: "لماذا أنت صامت ياحسان؟ أين تشجيعك لي بالأمس وحثك لي على حضور الجلسة؟"

عاد كريم إلى مكانه وظل واقفا ورفع صوته متحديا بعد أن فقد أعصابه: "لكني ما زلت عضوا في مجلس الإدارة ولي الحق في الكلام، ولن أسمح لأحد أن يقمعني ويسكتني. إن ما فعلته ليس بدعة، كلنا نقرض دون ضمان". ثم التفت إلى السيد مصباح قائلا: "كم مرة أقرضتك دون ضمان، ألا تذكر؟"

أجاب مصباح بهدوء: "هذا صحيح. أنا لا ألومك لهذا ولكن ألومك لغبائك. صحيح أنني اقترضت من مصرفك ولكني رجل أعمال معروف أهتم بسمعتي وأسدد ما علي. وأنا اقترضت الملايين لا الملايير. ألم أحذرك من سامي العشاب؟ ألم أنصحك ألا تقرضه مبالغ ضخمة؟ ولكنك طمعت لأنه أغراك بطعم شهي يسيل اللعاب. دفع لك خمسة وعشرين بالمئة عمولة من مبلغ القرض، ولم يخطر ببالك أن أي رجل أعمال لا يستطيع أن يدفع مثل هذه العمولة إلا إذا كان لا ينوي تسديد القرض. ألم تتساءل حين دفع لك هذا المبلغ: ماذا يدفع للآخرين ليسهلوا تجارته؟ وبماذا يتاجر؟ وماذا سيربح؟"

لم يجد كريم ما يقوله إلا لوم القدر فتمتم: "إذا وقع القدر عمي البصر".

علق مصباح موبخا: "هذا كلام لا يقوله رجل أعمال فطن. رجل الأعمال يصنع قدره بنفسه ولا يقبل المفاجآت، فهو يؤمن على أمواله وأعماله وحتى على حياته وصحته، وللأسف ليس هناك تأمين ضد الطمع. أنت ضمنته على مسؤوليتك والضامن شريك للمقترض وعليك السداد".

أجاب كريم في لهجة خضوع وتذلل: "ليس معي هذا المبلغ فأرجو أن تساعدوني".

أجابه مصباح بحزم: " نحن رجال أعمال ولسنا جمعية خيرية. حين طمعت بالعمولة الضخمة ووضعتها في حسابك لم تشارك أحدا فيها. عليك أن تقبل بقوانين اللعبة، جازفت فخسرت وعليك الآن أن تتحمل خسارتك وحدك".

ران الصمت بضع دقائق على الجلسة قطعه مصباح بقوله: "أقترح تجميد عضوية كريم حتى تنتهي المحاكمة ثم تفصل الجمعية العامة نهائيا في عضويته. من الموافق؟"

ارتفعت الأصابع التسعة. قال مصباح موجها الخطاب لكريم: " لم يعد من حقك الآن حضور الاجتماع، فلا تضيع وقتنا".

حمل كريم محفظته بعصبية وخرج وهو يتمتم بكلام غير مفهوم.

-18-

دخل فاتح إلى مكتب رئيس التحرير طارق العابد في جريدة العدالة فوجده مستغرقا في قراءة جريدة "الأقلام الحرة" حتى أنه لم ينتبه لدخوله. ضحك وسأله: "هل أصبحت من قراء هذه الجريدة؟ أتساءل عمن يمول جريدة تهتم بالفضائح؟"

هز طارق رأسه مجيبا: "هناك فعلا فضيحة، ولكنها لا تستحق كل هذا العناء. انظر إلى هذه الزاوية".

تناول فاتح الجريدة وقرأ حيث أشار طارق في زاوية "أخبار صيفية بقلم سليمة":

"فضيحة جديدة لابنة الملياردير مصباح قلب الحديد". قالت الصحيفة في تفصيل الخبر بأن ليندا ابنة مصباح تظاهرت بالغرق في شاطئ زرالدة لتلفت نظر شاب وسيم في الدفاع المدني فينقذها، وهب شاب شهم لم يعرف بأنها تحسن السباحة فرمى بنفسه لإنقاذها فقاومته ثم وبخته وأهانته بدلا من شكره على شهامته".

قال فاتح في نفسه: "إذا هي ابنة ذلك الأفاق! يقول المثل "مَنْ شابه أباه فما ظلم. من حسن الحظ أن الصحفية التي أوردت الخبر لا تعرفني".

علق طارق: "أليس غريبا أن تنتقد هذه الجريدة ابنة مصباح، وتنقل خبرا حدث أمس الثلاثاء بهذه السرعة؟"

-   وما الغرابة في ذلك؟

-   أنسيت أن هذه الجريدة متحيزة له دائما؟

-   لم أنس، فهي تعتبر الناطق الرسمي باسمه.

-   ماذا حدث إذا لتغير الجريدة اتجاهها وتنقل خبرا حدث أمس الثلاثاء؟

-   لعلها صحوة ضمير مدير الجريدة.

-   صحوة ضمير! لا أعتقد أن لمديرها ضمير أصلا لينام أو يصحو. لابد أن لهذه الفضيحة سببا ماديا على الأرجح.

-   بمناسبة الفضائح، عرفت اليوم خبرا مثيرا عن مصباح لو ثبت لشكل فضيحة كبرى له.

سأل طارق باهتمام: "فضيحة اقتصادية؟"

- بل أخلاقية وعائلية.

قال طارق بلهفة: "هات ما عندك".

أجاب فاتح ببطء وهو يؤكد على كل كلمة: "ليس قبل أن أجري تحقيقا في الموضوع وأتأكد من الخبر".

-19-

ركبت سوسن سيارتها في الصباح الباكر واتجهت إلى شاطئ زرالدة. لم تعد تهتم بجمال الشاطئ الذي كان يخلب لبها دائما منذ أن كانت تأتي وهي صغيرة مع مربيتها ماما زهرا ولم تنقطع عنه إلا مؤخرا بعد تخرجها من الجامعة وعملها عند السيد مصباح. لم تعد تضحكها المتناقضات التي يجمعها الشاطئ من أجسام شبه عارية وفتيات متحجبات يكتفين بالجلوس تحت المظلات ويشتغلن بالسنارة دون أن يفكرن أو يسمح لهن بالعوم، ونساء يأتين متلحفات بالحايك ثم يخلعنه ويخلعن ثيابهن فإذا تحتها "المايوه". كل ذلك لم يعد يهمها كل ما يهمها الآن وتبحث عنه جيئة وذهابا على طول الشاطئ هو ذلك الشاب.

ظلت يومي الأربعاء والخميس في الشاطئ من الصباح إلى المساء أملا في العثور عليه وكانت تسأل نفسها دائما: "ترى لو وجدته والتقيت به ماذا أفعل؟ هل أكتفي بتسليمه الأوراق، أم أحاول التعرف عليه؟ وماذا سأقول له؟"

 لم تستطع الوصول إلى إجابة شافية، إنها تتمنى رؤيته وكفى. تتمنى أن تراه مرة واحدة وتعرف من هو وماذا يعمل. ولكن ذلك لم يحدث. استعرضت في هذين اليومين وجوه رواد الشاطئ والباعة المتجولين مئات المرات وهي ما تفتأ تستريح تحت المظلة بعد جولة بحث حتى تهب مرة أخرى في جولة بحث جديدة. وانقطع عند الغروب خيط الأمل الذي تمسكت به طيلة اليومين الماضيين.

كم مرة تساءلت: هل هو الحب؟ أيمكن أن تصدق حبا من أول نظرة؟

كان بجانبها طيلة اليوم فلم تأبه به ، وفي اللحظة التي قفز فيها إلى البحر لينقذ ليندا تعلق قلبها به وأصبح يشغل كل فكرها. فكرت من جديد أن تسلم أوراق الرواية للحماية المدنية أو لمكتب الخدمات، ولكنها عدلت عن ذلك واكتفت بتسليم ورقة فيها اسمها وعنوانها ورقم هاتف المكتب واسم الرواية التي بحوزتها لمن يسأل عنها، ثم عادت مسرعة إلى المنزل لتستعد لزيارة جارتها الجديدة بعد العشاء مباشرة.

-20-

وضعت أنيسة قطعتين من الشاش على عيني أمها المغمضتين وقالت وهي تغطي وجهها الحنطي بقناع من الحليب والخيار:

-                        هذا القناع يطري البشرة وينزع التجاعيد.

-                        لا حاجة لي بذلك يا ابنتي فلم أعد صغيرة.

-                        مازلت صغيرة يا أمي، ألا تعرفين أن كل زملائي يظنون أنك أختي الكبيرة بل الصغيرة؟

-                        لا تبالغي يا ابنتي فأنت أولى مني بهذا القناع والاهتمام ببشرتك وجمالك.

بالغت أنيسة قليلا فقد بدأت التجاعيد تغزو وجه أمها. صحيح أن آثار الجمال ما زالت باقية، لكنها مجرد آثار تذكر بالفتاة السمراء ذات العينين السوداوين والشعر الأشقر المسترسل. آثار تذكر بالماضي ولا علاقة لها بالحاضر. لم تكن أنيسة تشبه أمها إلا في عينيها السوداوين أما بشرتها فأقل سمرة وشعرها كستنائي مجعد، وهي أطول منها قامة وأكثر عصبية.

قالت أمها باسمة: "متى أفرح بك أنت وسليمان؟"

توقفت أنيسة عن إكمال وضع القناع وبان على وجهها الانزعاج وقالت بعصبية: "بصراحة، لا أريد أن اسمع اسمه بعد الآن".

رن جرس المحمول فجأة رنة واحدة ثم توقف، قالت الأم:

-                        هاتفك يرن

-                        إنها رسالة sms

-                        ألا تقرئينها؟

-                        أعرف أنها من سليمان، هذه الرسالة الخمسون التي تصلني منه لأني لم أرد على هواتفه.

-                        ربما يكون مظلوما يا ابنتي والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، أليس هذا مبدأكم في القضاء

-                        بلى يا أمي ولكنه حول إلى التحقيق ليس لمجرد الشكوك.

-                        ربما كان هذا الاتهام باطلا.

-                        لا أعتقد فقد لمست منه خلال مناقشاتنا الكثيرة اهتمامه الشديد بمصلحته المادية قبل أي شيء آخر. واكتشفت أن ذمته مرنة كالمطاط وانه مستعد لبيع نفسه إذا كان الثمن غاليا.

-                        غريب! هل قال لك ذلك؟

-                        لم يقل ذلك صراحة بالطبع ولكن ما قاله عن الواقعية والبراغماتية يوحي بذلك، ولم أفاجأ حين حول مع بعض القضاة إلى التحقيق.

-                        كل إنسان يخطئ يا ابنتي، ربما يكون نادما ويريد أن تصفحي عنه.

-                        هناك أخطاء تغتفر لأنها تأتي عن حسن نية، وهناك أخطاء لا تغتفر لأنها تمس بشرف المهنة ، ويجب أن يدفع مرتكبها ثمنها حتى وإن ندم على فعلها. ولست مستعدة للحياة مع إنسان من هذا النوع حتى وإن برأه القضاء فنحن نختلف في القيم، وهو لا يصلح لي زوجا ولا صديقا.

تذكرت أنيسة فجأة المحامي الذي التقته في القطار ووجدت نفسها معجبة به لأنه يختلف عن كثير من الرجال الذين عرفتهم من قبل، ومن ضمنهم خطيبها. لم يكن فضوليا، ورغم أنه ساعدها وفتح لها قلبه إلا أنه لم يسألها عن اسمها وماذا تعمل في العاصمة. هو يبدو إنسانا نزيها مستقيما فالمال ليس أولوية في حياته بل القيم والمثل العليا. وعلاوة على ذلك فهو خجول رغم جرأته في الحق.

قارنت بينه وبين خطيبها، واستنتجت أنه رجل نظيف. تمنت لو كان شريكا لحياتها. خفق قلبها وقالت في نفسها: " أريد مثل هذا الرجل بل ليته بالذات يكون لي".

لاحظت الأم شرود ابنتها لأنها لم تنتبه إلى حديثها، لكن أنيسة استدركت سائلة:

  - ماذا قلت يا أمي؟

-                        كنت أتعجب يا ابنتي من وصول الفساد إلى العدالة!

-                        لا تتعجبي يا أمي ففي كل مهنة نزيهون وفاسدون، والقاضي إنسان مثل غيره قد يبهر عينيه المال وتغويه الشهوة فينحرف عن الحق. ألم يقل الرسول الكريم (ص): قاضيان في النار وقاض في الجنة؟

-                        وكيف يمكن للقاضي أن يحكم بغير الحق وعيون الناس كلها تراه؟

-                        ليس الحق دائما واضحا وضوح الشمس، ولو كان الأمر كذلك لما كان هناك داع للقاضي والمحامين والشهود. الله وحده المطلع على السرائر، أما نحن فنحكم حسب الأدلة وشهادة الشهود. وقد تكون الأدلة مفبركة ويكون الشهود زورا. نحن نحكم بالقانون، والقانون دليل عام لا يراعي الحالات الخاصة دائما، لذلك كثيرا ما يسترشد القاضي بضميره وقناعته ليصل إلى الحقيقة.

تابعت أنيسة بعد أن أتمت وضع القناع مغيرة الموضوع هامسة: "سأنزع القناع بعد نصف ساعة، وسأعتني بتزيينك وتجميلك لتنافسي ملكات الجمال. أريد أن أرى الإعجاب والدهشة في وجه جارتنا سوسن وأمها."

-                        وما علاقتهما بهذا؟

-                        أنسيت أنهما ستزوراننا هذا المساء؟

-                        نسيت فعلا. أنت تدللينني كثيرا يا ابنتي.

ومن لي أعز منك في هذه الدنيا حتى أدلـِّله؟ أنت أمي وأبي وصديقتي وحبيبتي وكل شيء عندي.

-                        من يراك الآن يظن أنك خبيرة تجميل ولست قاضية يهاب سطوتها أكثر المجرمين.

-                        القاضي يا أمي هو بشكل من الأشكال خبير في التجميل، يحاول نزع القبح من جسم المجتمع، فالعدالة حق والخير والحق يرتبطان بالجمال.

-                        إنك فيلسوفة أيضا، رحم الله أباك فقد تنبأ لك بالنجاح، لو رآك الآن وأنت قاضية لافتخر بك.

-                        رحمه الله يا أمي.

 

 

-21-

جاءت زيارة سوسن وماما زهرا لجارتيهما الجديدتين وفقا للأعراف السائدة بترحيب الساكن القديم بالساكن الجديد. حملتا معهما بعض الحلوى العاصمية التي تتقن ماما زهرا صنعها. كان الحديث عاما تطرقت فيه فريدة إلى الحديث عن زوجها المرحوم الذي كان يعمل محاميا، وعن أخي زوجها القاضي المتقاعد مالك الشقة التي اشتراها ليسكن في العاصمة، لكنه لم يستطع البعد عن وهران، وأعار الشقة لابنة أخيه أنيسة ريثما تحصل على سكن وظيفي. وقد حذت ابنتها حذوهما فدرست القانون وأصبحت قاضية. أما ماما زهرا فتحدثت عن عزوز ووظيفته الكبيرة في المؤسسة التي يعمل فيها، وعن سوسن واستعدادها لتحضير الماجستير. وكان حديث الصبيتين أنيسة وسوسن عن دراستهما الجامعية في كليتي الحقوق بالعاصمة ووهران ودراسة أنيسة في المدرسة العليا للقضاء. كانت الجلسة جلسة تعارف شبه رسمية تميزت بفخر كل من المرأتين بزوجها وابنتها وتحفظ الفتاتين فلم تنفتح فيها مغاليق القلوب ولم تنشرح فيها النفوس فتبدو على سجيتها.

حين خرجت سوسن وماما زهرا وودعتهما أنيسة وأمها، كان عزوز يقف بجوار الشقة المجاورة. قالت سوسن: "هذا بابا عزوز وصل".

نظرت فريدة إلى عزوز فارتعدت فرائصها فجأة. إنه هو بشحمه ولحمه. عرفته رغم الأعوام الستة والعشرين التي انقضت وتركت آثارها في جسمه فأنحلته وشيبت شعره ولكنها لم تغير ملامحه. أغلقت الباب وقالت لابنتها: "أرجوك يا ابنتي، لا نريد إقامة علاقة مع هؤلاء الجيران".

-  لماذا يا أمي؟

أجابت الأم بقلق: "لا تسأليني عن السبب فإن قلبي يحدثني بأن هذا الرجل شرير، ولا تسأليني لماذا. مجرد حدس، ولكنه حدس قوي وأعتقد أنه لا يخطئ".

ابتسمت أنيسة مجيبة: "أنسيت أني قاضية يا أمي ولا أقتنع إلا بالأدلة الملموسة. أما الحدس فليس في قاموسي".

-22-

بدأت سوسن قراءة الرواية التي تتضمن سيرة مرزاق الحمّال. كان الطفل مرزاق ذكيا منذ صغره درس في الكتّاب مع أقرانه وتعلم العربية والحساب. كانت عائلته تسكن في القصبة وكان أبوه يعمل حمالا في الميناء. حين اندلعت الثورة كان في الرابعة عشرة من عمره وجعلت فطنته وذكاءه وذاكرته البصرية مَنْ حولـَهُ يسمونه الهدهد، لأنه يلتقط ما يراه بعينه وعقله. وقد استفاد المجاهدون من موهبته هذه فكان يجوب الشوارع وينقل إليهم تحركات الجنود الفرنسيين، كما كانوا يكلفونه بمهمات استطلاعية وإيصال بعض الرسائل التي يقوم بها بمهارة واقتدار.  وتطورت موهبته هذه بعد الاستقلال فأخذ يجمع المعلومات عن كل من حوله وما حوله وبدأ العمل في الولاية بالمصلحة المكلفة بتوزيع المساكن والأراضي والأملاك الشاغرة. لم يكن له نفوذ في البداية ولكنه بدأ شيئا فشيئا يشارك في التوزيع ويستفيد ماديا ومعنويا. كانت عينه على الميناء وحاويات الميناء فانتقل إلى العمل مع صاحب مكتب لتخليص البضائع. وبعد سنوات أصبح شريكا له ثم استقل بمؤسسته الخاصة للبناء. ودخل مجال القروض والاستثمار حتى أصبح مليونيرا ثم مليارديرا ولديه شركات ومؤسسات ووكالات وفروع في مختلف أنحاء الولايات. وأصبح الناس يسمونه الأخطبوط ذا المائة ذراع.  لم تكن أعمال صاحبنا كلها مشروعة بل على العكس من ذلك، فهو يسير أموره بالرشوة والتحايل على الجمارك بإدخال بضاعة لم يصرح عنها باسم بضاعة أخرى، كما مارس الغش والتزوير وتبييض أموال المخدرات. غير اسمه أثناء ذلك من مرزاق الحمال إلى مرزاق العسال.

لكن المهم في رواية مرزاق الحمال أنه بدأ اشتراكيا بعد الاستقلال وكان من أشد المتحمسين للثورة الزراعية ثم أصبح من دعاة الانفتاح ثم أصبح يدعو إلى اقتصاد السوق فهو يتلاءم مع كل عهد من العهود.

كانت الخاتمة تبدأ بالعبارة التالية : " كنت أتمنى ان تكون الخاتمة مريحة للقارئ ومحققة للعدالة، لكنني للأسف سأخيب أمل القارئ لأنني لا أريد أن أكون خياليا فأضلله وأخدره، فالواقع يقرر أن هذا الأخطبوط مازال يمتص دم ضحاياه، وأنه سيبقى كذلك إلى أن يموت ويرث أبناؤه غناه ويرث أبناء ضحاياه فقرهم. ولا أستطيع تغيير الخاتمة المؤلمة لهذه الرواية لأن ذلك تزييف للواقع. كل ما يمكنني رجاؤه أن يتغير هذا الواقع إلى الأحسن ليستطيع الكاتب تسجيل ذلك التغيير، ولا يكون ذلك إلا إذا تدخلت عدالة السماء لأن عدالة الأرض لا تستطيع أن تطال هذا المخلوق، فهو شديد الذكاء يعرف ثغرات القانون وعيوبه ويستطيع التلاعب به كما يشاء. وأتساءل مع القارئ:

" هل يأتي اليوم الذي يجد فيه هذا الجبار المتعجرف من يوقفه عند حده؟ وما دامت القوانين لم تطله فلا بد من تدخل العناية الإلهية، وما دامت عدالة الأرض لم تفلح فلندعه لعدالة السماء".

لم تعجب سوسن خاتمة الرواية فبعد أن يمتلئ القارئ غيظا من تصرفات هذا الشخص، وينتظر عقابا له يماثل ما ارتكبه من جرائم، يجده يفلت من العقاب بهذه الخاتمة المفتوحة التي ترجو وتأمل ولا تحدد وتقطع .

قالت سوسن: " ربما كانت الرواية تعكس الواقع أحيانا ولكنها لا يجب أن تكون صورة أمينة عنه، وإذا أفلت بعض المجرمين في الواقع فيجب ألا يفلتوا من العقاب في الرواية. الكاتب سيد الموقف وهو الذي يحدد ما يجب أن يفعله، ونهاية كهذه مثبطة للقارئ ومخيبة لآماله، وحتى وإن كانت حجة الكاتب أنها نهاية واقعية فلا بد من وضع خاتمة مناسبة لها".

لم تكن سوسن خبيرة بفن الكتابة أو مختصة في علم النفس البشري، ولكنها كانت قارئة متذوقة بالفطرة تدرك أن الرواية كأي شيء آخر في الحياة لا بد فيها من التوازن. أوحى إليها إلحاح الكاتب في نهاية الرواية على ضرورة تدخل العدالة الإلهية ، كما أوحى إليها اللقب الذي كان ينادى فيه مرزاق في صغره وهو "الهدهد" بخاتمة أخرى للرواية.

تذكرت سوسن أن ماما زهرة كانت تقول لها أحيانا: "عذبتني عذاب الهدهد"، وسألتها حين كبرت عن عذاب الهدهد فأجابتها بأن النبي سليمان توعد الهدهد مرة حين أرسله في مهمة وتأخر بأن يعذبه عذابا شديدا وبعض المفسرين يقولون بأنه توعده أن يضعه وسط من لا يفهمونه ولا يفهمهم، وهذا أقسى عقاب يمكن أن يواجهه مخلوق ".

شطبت سوسن الخاتمة والتساؤل الذي أنهى به فاتح الرواية وكتبت بدلا من ذلك ما يأتي:

"نهض مرزاق في اليوم التالي فنادى الخادمة ولكنها لم ترد عليه فأخذ يصرخ فتجمع حوله أولاده وزوجته وسألوه: "ما بك؟"

لكنهم لم يفهموا ما يقول، كان يتكلم بلغة لا يفهمها أحد ويتضايق حين لا يفهمونه لأنه متأكد مما يقول. قالت له زوجته : "ما بك؟ نحن لا نفهم ما تقول؟"

اكتشف أن هناك خللا ما في جهازه الصوتي، فالأوامر التي تأتي من المخ إلى جهازه الصوتي تختلف عن الأصوات التي تصدرها حنجرته وحلقه ولسانه. أمسك ورقة وقلما وكتب ولكنه كتب بالعربية كلاما غير مفهوم. نظر إلى ما كتبه فظهرت الدهشة في وجهه وتملكه الرعب. حاول أن يكتب بالفرنسية وكانت النتيجة عبارات مبهمة غامضة لا تنتمي إلى أي لغة.

لم يستطع أمهر الأطباء أن يشخصوا حالته. أثبتت الفحوص العادية أن الجسم سليم والنطق سليم ولكنه غير واضح وبلغة لا يفهمها أحد. لقد فقد لغة التواصل مع الناس وأصبحت له لغة خاصة لا يفهمها مخلوق.

كان في الماضي لا يستمع إلى ما يقوله الآخرون ولا يهمه ذلك. المهم أن يسمعوه ويفهموه. هكذا الدكتاتور، لا يسمع ولا يفهم. المهم أن يسمعه الآخرون وأن ينفذوا ما يريد. انقلبت الآية الآن فأصبحوا يسخرون منه أمامه وهم يظنونه لا يفهم ما يقال. وفي نهاية المطاف حجر عليه ووضع في مصحة للمجانين.

-23-

كانت فيلا مصباح المكونة من طابقين ضخمين في أعالي الأبيار قديمة جديدة، فقد بناها قبل الاستقلال أحد الأثرياء القلائل المتعاونين مع فرنسا بناء جمع فيه بين الطرازين العربي والأوربي. ولم يبخل في بنائها وفرشها فجاءت تحفة معمارية فريدة أشبه بقصور الملوك والأمراء. تحتوي على أربع وعشرين قاعة وغرفة، منها الصالون الرئيسي الدائري الملحق بالطابق الأرضي للأفراح والذي يتسع لأكثر من مائتي مدعو وهو مجهز بالطاولات والكراسي الفخمة وثلاثة صالونات أخرى مفروشة على الطراز الجزائري والعربي والأوربي على التوالي. اشتراها مصباح من ورثته وجدد طلاءها وفرشها واعتنى بحديقة الزهور والأشجار المثمرة الفسيحة التي تحيط بها وخصص لها جنائنيا مختصا وبنى فيها حوضا للسباحة وملعبا للتنس ليمارس فيه هوايتيه المفضلتين هو وزوجته ليلى وابنتهما ليندا. لكن ملعب التنس ظل مهجورا لأن زوجته وابنته لا تحبان هذه اللعبة، ونادرا ما يدخل الملعب ليلعب وحده. أما حوض السباحة فكانوا يستعملونه في السنوات العشر الأولى من الزواج حتى ذلك اليوم المشؤوم الذي خرجت فيه ليندا من الحوض وسمعت أبويها يتخاصمان ويتباريان في إظهار كرههما لها، فتغير سلوكها وتوتر الجو في الفيلا، وبدأت المشاكل فأصبح حوض السباحة مهجورا كملعب التنس. وأما الحديقة فكثيرا ما تلجأ إليها ليلى نهارا أو ليلا فتجلس في ظل الليمونة أو أمام شجيرات الورد والفل والياسمين وتمارس أحيانا هواية الرسم فيها.

كانت الساعة تشير إلى الثامنة تماما حين دخل مصباح قاعة الطعام. عكست الأواني الذهبية والفضية في الخزائن الزجاجية التي تحتل أطراف القاعة أضواء الثريا العملاقة والأنوار المنبعثة من الأباجورتين الضخمتين على يمين ويسار الطاولة الفخمة المحفورة على طراز لويس مع كراسيها من نفس الطراز. جلس في كرسيه المعتاد على رأس المائدة المستطيلة المفروشة بغطاء من الأغباني الدمشقي المذهب والملائم للون الجدران الذهبي بينما اصطفت فوقها الأواني والأطباق الفضية المليئة بأصناف اللحوم والأسماك والفواكه كما وضعت مزهرية الورود البيضاء في منتصف المائدة. جلست ابنته ليندا على يمين المائدة وزوجته ليلى على اليسار. تناولت ليلى من الخادمة الصبية الطويلة السمراء زليخة ذات الخمسة وعشرين ربيعا وعاء حساء الدجاج الفضي ووضعته على المائدة وأشارت لها بالانصراف ثم أخذت طبق زوجها فوضعت فيه فخذ دجاجة وملأته بالحساء هي كل وجبة مصباح المسائية التي تقلصت من مائدة حافلة بالمشويات والمقليات والحلويات إلى قطعة دجاج وقليل من المرق مع نصف تفاحة. أما ابنته ليندا فأمسكت موزة ولما طلبت منها أمها أن تأكل وتهتم قليلا بصحتها أجابتها بعصبية وجفاء: "وفري نصائحك ودروسك لنفسك". والتفتت إلى أبيها قائلة: "تناولت الحلوى مع صديقاتي على الشاطئ". أشارت السيدة ليلى للخادمة بالانصراف ولم تمد يدها إلى الطعام ولم يطلب منها أحد ذلك، لأنها كانت في العادة تعتذر بفقدان الشهية للطعام ثم أصبح من عادتها أن تنام دون عشاء.

لم يعلق مصباح فقد تعود منذ زمن على تناول العشاء وحده ولو بالحضور الرمزي لزوجته وابنته، كما تعود على المشاحنات اليومية بين الاثنتين. كان في البداية يغضب ويرغي ويزبد ثم أصبح يحتج ويعترض وأصبح الآن يقبل بالأمر الواقع. لم يعد يستطيع أن يجبر زوجته التي تطهو الطعام بنفسها رغم وجود خادمتين في المنزل، وتسكب له العشاء بيديها على تناول الطعام معه رغم أنفها، كما لا يمكنه الاعتراض على سلوك ابنته المدللة. أدرك منذ زمن أن حزمه وتحكمه في العمل لا ينجح في المنزل فالتعامل مع المرأة يحتاج إلى أسلوب مختلف لا يحسنه مصباح، لأسباب تتعلق بالنظرة التي ورثها عن أبيه إليها. لذلك توسعت الهوة بينه وبين زوجته ثم بينه وبين ابنته عندما كبرت، فأصبحت تعليقاته الساخرة تعبيرا عن عجزه على فرض أسلوبه في المنزل. 

انسحبت السيدة ليلى بعد أن أكمل مصباح العشاء وأحضرت الخادمة الشاي الأخضر. قال مصباح لابنته:"ألم تمل أمك من الذهاب إلى المرسم كل يوم بعد العشاء؟ هل تعتقد حقا أنها فنانة؟ ما أعرفه أن الفنانين يرسمون في الصباح".

أجابت ليندا بلا مبالاة: "لا أدري. ربما تشغل نفسها بالرسم".

علق مصباح: "ألا يكفيها أنها زوجة أهم رجل أعمال في البلد؟ الفنانون يرسمون ليكسبوا قوت يومهم، فلماذا ترسم أمك ولديها ما لا يحلم به أعظم الفنانين في العالم؟ إنها تضيع وقتها وتفسد حياتنا".

نهضت ليندا قائلة: "اسمح لي أن أذهب إلى غرفتي لأرتبها".

- ألن تشربي الشاي؟

حملت الكأس بيدها مجيبة وهي تهم بالتوجه إلى السلالم: "سأشربه في غرفتي".

نهض مصباح ودخل إلى غرفة الجلوس الملاصقة لقاعة الطعام. أمسك بمفتاح التحكم عن بعد وبدأ يبحث في جهاز التلفزيون عن آخر الأخبار الاقتصادية. صعد السلالم بعد ذلك، وتوجه إلى غرفته المواجهة لغرفة زوجته في آخر الرواق بالطابق العلوي، ودخلها وأغلق الباب لينام.

لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الخيط الثالث: حكاية ليلى

لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الخيط الأول: أيام الحر

للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: القاضية والملياردير

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات