الفصل الأول

من رواية "القاضية والملياردير"

للكاتب عبد الله خمّار

      

 

الخيط الأول: أيام الحر

 

-1-

اشتدت موجة الحرارة في الأيام الأخيرة من شهر أوت لهذا العام ولا سيّما في الواحد والعشرين منه، حيث تجاوزت درجة الحرارة في العاصمة نفسها الأربعين بقليل. وأحس رواد شاطئ زرالدة بأنهم محظوظون فهم ينزلون إلى البحر كلما أحسوا بوطأة الصهد ليتبردوا ويقضوا فيه أضعاف ما يقضونه على الشاطئ الذي كان مزدحما في تلك الأيام، وفي هذا اليوم الثلاثاء على وجه الخصوص. كان من العسير على الوافدين الجدد بعد الظهر أن يجدوا مكانا لمظلة أو موضعا للاستلقاء والاسترخاء، فالأجسام على الشاطئ كادت تتلاصق. وكانوا بالكاد يجدون في المياه القريبة من الشاطئ حيزا يحركون فيه أيديهم وأرجلهم دون أن يستطيعوا العوم بحرية، أما أولئك الذين يبتعدون عن الشاطئ فيعرضون أنفسهم لمجازفة غير محمودة العواقب.

جلست سوسن تحت المظلة تحتمي من الحر قبالة ماما زهرا، بعد أن أوصلهما بابا عزّوز إلى الشاطئ بسيارته قبل أن يتوجه إلى عمله كعادته منذ بداية هذا الشهر. رمت الجريدة التي كانت تستعملها كمروحة لأنها تجلب الهواء الساخن، فلم تهب ذلك اليوم ولو نسمة واحدة من نسائم البحر. وزاد الطين بلة، ارتفاع نسبة الرطوبة، ولا سيما في الظهيرة. ورغم أنها كانت بثياب البحر إلا أنها لم تكن ترغب في النزول إليه مع أنها سباحة ماهرة. بدأ الناس يتناولون الغداء وفرشت الملاءات والأغطية والصحف القديمة على الرمل واختلطت روائح المشويات والمقليات بروائح البحر وروائح الكريمات الواقية من الشمس ومزيلات العرق. اليوم هو عيد ميلادها السادس والعشرون. هي تحس ببعض الاكتئاب الذي يعاودها كل سنة في عيد ميلادها، ليس لأنها نشأت في دار رعاية الأيتام ولأنها مجهولة النسب، بل لأن أمها ماتت يوم ولادتها. وهي تعتقد أنها بوجودها حرمت أمها من أهم نعم الدنيا وهي نعمة الحياة. وفي كل عام تذكرها ماما زهرا بأن لكل أجل كتابا وليس عليها أن تشعر بالذنب. حاولت اليوم أن تخفي مشاعرها عن مربيتها واكتفت بتناول لقمة واحدة من الدجاجة المشوية التي حضرتها خصيصا لها وتفاحة هي كل وجبة غدائها. أحجمت ماما زهرا منذ سنوات عن ارتداء "المايوه" والنزول إلى البحر بسبب بدانتها المفرطة لكنها ترافق دائما سوسن إلى الشاطئ لترعاها وتسليها. نظرت إليها بحب وإشفاق وسألتها: "ما بك يا حبيبتي؟ لماذا لا تأكلين الدجاجة؟ إنها شهية".

-       لا شيء يا ماما، لا أجد رغبة في الطعام، ربما بسبب الحرارة.

لكن ماما زهرا كانت تعرف السبب. قالت في نفسها: 

"لا شك أنها في كل سنة تكتئب بحلول عيد ميلادها، ولكنها في غير هذا اليوم راضية بقدرها لا تشتكي ولا تتذمر وقد عوضني الله بها وعوض عزوز عن الولد الذي لم ننجبه فأصبحت شغلنا الشاغل ومنبع سعادتنا". 

أغمضت ماما زهرا عينيها الرماديتين الصغيرتين وقالت لسوسن بصوت رقيق لا ينم عن ضخامة جسم صاحبته وبدانتها المفرطة: " حاولي أن تسترخي قليلا حتى تخف موجة الحر".

سمعت سوسن صوت الشابين المتمددين تحت المظلة على يمينها، يقول أحدهما للآخر: "فتاة أحلامي عيناها عسليتان وأنا أحب أن أتيه في بحار العسل الصافي". التفتت فرأتهما ينظران إليها. عرفت أنها المقصودة فابتسمت ناسية كآبتها، ثم أرخت رأسها وأغمضت عينيها. تابع الشاب: "وابتسامتها الجذابة تزين وجهها الملائكي بغمازتين أنيستين خجولتين". سأله الآخر: "وشعرها؟"، أجاب: "شال من الحرير الأسود الهندي ينسدل على كتفيها ويغطي نصف ظهرها".

-       وقامتها؟

-       معتدلة لا طويلة ولا قصيرة.

-       وجسمها؟

-       ما شاء الله. يذكرني بتماثيل الحسان الإغريقيات الرشيقات. مرمر لوحته الشمس فحولته إلى عنبر.

-       وصوتها؟

-       لم أسمع صوتها، لكني أتخيله عذبا كتغريد البلابل.

-       وماذا ترتدي؟

أراها على شاطئ البحر ترتدي "مايوها" أزرق.

-       قم بنا، قم بنا. الإجازة انتهت وعلينا أن نلتحق بعملنا. سيفوتنا قطار الشلف إذا لم نستعجل.

-       وفتاة أحلامي؟

-       ستجد فتاة أحلام أخرى في الفندق الذي نعمل فيه.

-2-

لم تكن سوسن الوحيدة التي لم تنزل إلى البحر، فالشاب الجالس تحت المظلة المجاورة كان مشغولا بأوراقه التي لم يرفع رأسه عنها منذ الصباح. يتأمل برهة وهو يمسح عرقه ثم ينكب على الكتابة لا يشغله عنها شيء، ولم يتوقف إلا ليأكل سندويتشا اشتراها من احد البائعين المتجولين على الشاطئ. لفت نظرها بعينيه الخضراوين فلم تر قبل الآن مثل هاتين العينين في وجه أسمر وشعر أجعد.

كانت الساعة تقارب الثالثة حين وصلت ثلاث فتيات جدد يتنافسن في الجمال والطول والرشاقة وتبدو على قمصانهن الحريرية الأنيقة المتشابهة والمموجة باللونين الأحمر والأزرق، وسراويل الجينز الضيقة آثار النعمة والغنى. كانت أوسطهن شقراء ذات عينين زرقاوين وبشرة حليبية تشبه ببياضها الناصع بشرة سوسن بينما كانت الفتاتان عن يمينها وشمالها تبدوان سمراوين بالمقارنة بها. كانت إحداهما أطول قليلا منها والثانية أقصر منها بقليل بحيث تشكل الأجسام الثلاثة شبه منحرف خطه الأعلى المائل يلامس الرؤوس الثلاثة. كن يتضاحكن ويتمايلن ويتحدثن دون اهتمام بمن حولهن. مررن بالقرب من سوسن فتابعتهن لحظة ولم تعرف منهن إلا الفتاة الشقراء. إنها ليندا ابنة السيد مصباح قلب الحديد. استسلمت بعد ذلك لإغفاءة قصيرة، وهبت مذعورة فجأة على أصوات صراخ وضجيج غطى على الهرج والمرج الذي ينبعث من رواد الشاطئ. نظرت بقلق بالغ إلى حيث يشير الناس فرأت الفتاتين السمراوين تصرخان وتشيران إلى بعيد حيث تظهر فتاة ثم تغطس ويبدو أنها تستغيث. شعرت بمسؤوليتها في نجدة الغريقة ليس لأن أباها ذو أفضال كثيرة عليها فحسب ولكن لأنها سباحة ماهرة ومن واجبها أن تنقذ حياة إنسانة مهددة بالغرق. زاد الانفعال من احمرار وجهها الذي لوحته الشمس، واتسعت عيناها العسليتان، وحزمت أمرها في ثانية واتجهت إلى البحر بخفة يساعدها عليها قوامها الممشوق، ولكنها وجدت من سبقها إلى نجدة الغريقة. كان المنقذ يحاول أن يمسك بها لكنها تقاومه وتفلت منه ويحاول من جديد حتى استطاع الإمساك بها من الخلف وجرها نحو الشاطئ.

تابع الشاب الوسيم من الحماية المدنية المشهد وحين تأكد أن الشاب المنقذ يعرف ما يفعل لم يتدخل بل أخذ يراقب الشاطئ، ولما رأى أمّاً تستغيث لابتعاد ابنها عن الشاطئ هب لنجدتها. أما الشاب المنقذ فحمل الفتاة إلى حيث أشارت له صديقتاها أن يضعها تحت المظلة. وصح ما توقعته سوسن فالفتاة المسعفة هي ليندا.

استطاع من حظي بإنقاذها أن يمسك بها من تحت ذراعيها ويسحبها إلى الشاطئ ولم يكن إلا ذلك الرجل الذي لم يرفع رأسه عن أوراقه طيلة اليوم. لم تستطع أن تحدد عمره فهو يبدو بقوته ونضارة جسمه شابا في السابعة أو الثامنة والعشرين. تنفست سوسن الصعداء عندما فتحت الفتاة عينيها واطمأن الشاب عليها وابتسم لها سائلا: "هل أنت بخير؟" أجابت الفتاة بهزة من رأسها. سألها من جديد هامسا: "لماذا قاومتني حين حاولت إنقاذك؟ هل تريدين قتل نفسك؟".

سعلت الفتاة بحدة لتخرج الماء من جوفها ثم أجابته صارخة: " أنت غبي. لماذا تتدخل فيما لا يعنيك؟" ثم عادت إلى السعال من جديد. لم ينزعج من ردها واعتقد أن لديها هموما ومشاكل دفعتها إلى محاولة الانتحار، ولم ترد أن ينقذها أحد. انصرف عائدا إلى مكانه بعد أن جفف جسمه بالمنشفة التي ناولته إياها إحدى الفتاتين.

ظنت سوسن في البداية أن هذا الشاب لا يحسن العوم لذلك لم يتجرأ حتى على بل جسمه بالماء، ولكنها تدرك الآن بأنه كان مشغولا بشيء أهم من العوم في نظره وهو الكتابة. نسيت كآبتها وانشغلت به متسائلة: "ماذا يكتب يا ترى؟"  لو أنها تطلع على تلك الأوراق.

مكثت سوسن برهة لتطمئن على الفتاة التي استعادت حيويتها بعد قليل وفتحت فمها متذمرة بسخط وغضب قائلة: "تبا لهذا الطفيلي، لماذا حشر نفسه في مسألة لا تخصه؟ من قال له أن يحاول إنقاذي؟ إنها مهمة الدفاع  المدني".

عجبت سوسن من قولها وتلكأت لتعرف سبب محاولتها الانتحار، ورأت الأطول من صديقتيها تضع إصبعها على فمها قائلة: "حذار أن يسمعنا ياليندا".

لكن صديقتها الأخرى ضحكت وأجابتها: "لا تقلقي يا فاتن وانظري. إنه يحمل حقيبته ومظلته ويمضي".

أجابت ليندا وهي تصر على أسنانها: "لا ردّه الله".

امتعضت سوسن من دعائها على الشاب الشهم ونظرت إلى حيث كان يجلس فرأته يغادر الشاطئ، فأحست بغصة لم تدر لها سببا وأملت أن تراه في الغد.

تابعت صديقة ليندا حديثها: "ألم تقولي إنك تريدين الهرب من خطيبك اليوم لنبقى وحدنا لأنك سئمت منه ومن كل الرجال؟ ولهذا جئنا إلى هنا".

أجابتها ليندا بخبث: "ولكن هذا يختلف. انظري إليه يا أزهار. إنه شديد الوسامة. ما أجمل جسمه إنه يشبه التماثيل الإغريقية والرومانية التي نراها في الصور، كنت أريد ان ألفت نظره لينقذني لكن هذا الغبي أفسد كل شيء بتدخله".

سألتها أزهار: "لماذا استسلمت للشاب إذا وتركته يمسك بك؟"

-                        لم أستسلم له في البداية وصددته عدة مرات، كانت عيني على الآخر وأنتظر أن يهب لنجدتي فهذا من صميم عمله في الحماية المدنية، ولكنني رأيته يهب لنجدة امرأة أخرى فاضطررت للاستسلام. لم يكن بوسعي أن أقول لهذا الشاب المتطفل: "ابتعد عني فانا أمهر منك في السباحة ولكني أتصنع الغرق لينقذني الشاب الوسيم الواقف هناك".

قالت لها فاتن: "لن تستطيعي إعادة هذه التمثيلية في هذا الشاطئ" .

-                        لا يهم سأجد سببا آخر لألفت به نظر هذا الشاب.

قالت فاتن: "من أنقذك كان وسيما أيضا، بل إن سمرته أكثر جاذبية من فارسك الإغريقي".

-                        لم ألحظ ذلك أبدا.

-                        لأنك كنت مغرمة بالفارس المزيف.

كانت سوسن تستمع لهذا الحوار وهي في غاية العجب والدهشة. ألهذا الحد يبلغ الاستهتار بليندا ؟

مسكين ذلك الشاب الشهم الذي غامر بإنقاذها وبدلا من أن تشكره تشتمه وتسخر منه . ماذا حصل للدنيا ؟ ثم قالت لنفسها: "كانت فاتن على حق فالشاب الذي أنقذ ليندا أكثر وسامة وأعظم شهامة أيضا من ذلك التمثال الإغريقي".

عجبت من هذا التصرف السخيف والوقح وعادت إلى مكانها فوجدت ماما زهرا غلبها النعاس فاستسلمت له ولم تشعر بما يجري حولها. نظرت بأسى إلى حيث كان يجلس الشاب فلفت نظرها فجأة وجود كيس بلاستيكي صغير يلمع في الشمس فظنت في البداية أن فيه القمامة التي ربما نسي الشاب أن يرميها في إحدى سلال المهملات الموجودة هناك. اقتربت لتلتقط الكيس وتعرف ما فيه فوجدت بداخله ملزمة أوراق مكتوبة بالحاسوب وعلى الصفحة الأولى عنوان بالخط العريض:

"زمن الميليارديرات"، رواية بقلم الأستاذ فاتح الطيب. أمسكت الملزمة وعادت إلى مكانها وهي تردد الاسم. اسم الطيب ليس غريبا عنها فقد سمعته قبل الآن. أين؟

-3-

قفز إلى ذهنها فجأة اسم "هدى الطيب".  تذكرت هذه المرأة التي رأتها مرة واحدة في مركز رعاية الأيتام بالبليدة. عرفتها رئيسة المركز بها بوصفها رئيسة جمعية إغاثة الأمهات العزباوات. كانت تتكلم بحماس بحضور سوسن وقالت: "لا فرق بين الأم العزباء المغتصبة أو المخدوعة بالكلام المعسول، فكلتاهما ضحية يجب الدفاع عنها وعن طفلها".

كان رأي رئيسة المركز أن المغتصبة هي الضحية، أما الثانية فقد استسلمت بإرادتها للخطيئة ولا يجب أن توضعا في مستوى واحد.  ردت السيدة هدى بقولها: "حين تقع فتاة في الحب تصبح مسلوبة الإرادة، فترى الرجل الذي أحبته ملاكا يمشي على الأرض، وحين تسلمه نفسها تفعل ذلك وهي موقنة تمام اليقين بأنه لن يخونها".

علقت رئيسة المركز: " أعتقد أن هذا سببه الجهل وقلة الوعي".

ردت هدى: " على العكس. معظم الفتيات المخدوعات متعلمات ويقرأن الروايات ويشاهدن الأفلام ويعرفن هذه الأمور، لكن الحب أعمى فهو يجعل الفتاة تعتقد أن هذه الأمور لا يمكن أن تحدث لها، فحبيبها فارس شهم يختلف عن سائر الرجال، وهو على استعداد لأن يفديها بحياته إذا اقتضى الأمر، ولا تكتشف كذبه وخداعه إلا بعد فوات الأوان".

كان حماسها شديدا وحجتها مقنعة لدرجة أن سوسن اعتقدت أنها تعرضت للتجربة وأنها أم عزباء. أعجبت سوسن بهذه المرأة التي بدأت التعامل مع المركز وإرسال بعض أطفال الأمهات العزباوات إليه ومتابعتهن مع المركز. هي امرأة قوية الشخصية في حوالي الخمسين سمراء جذابة تأسر محاورها ومستمعيها بحضورها وفصاحتها. تساءلت سوسن: "ترى هل هناك قرابة بينها وبين فاتح الطيب؟"

-4-

سمعت صوتا أجشّ خلفها شد انتباهها يسأل: " ألم ترينهن قبل الآن؟"

كان يتحدث عن ليندا وصديقتيها. لم تلتفت إلى الخلف بل تمددت وأغمضت عينيها وأخفت رأسها تحت المنشفة كي تستمع إلى ما يقال دون أن ينتبه إليها أحد.

أجاب الصوت الناعم الرقيق: " سمعت عن ليندا وفضائحها ولكني لم أرها قبل الآن".

تابع الصوت الأجش: "هؤلاء الفتيات معروفات في الأمكنة التي يرتادها علية القوم باسم الفارسات الثلاث. الشقراء ذات العينين الزرقاوين هي ليندا ابنة الملياردير مصباح قلب الحديد أما الفتاتان السمراوان فهما صديقتاها الأختان فاتن وأزهار ولكنهما تبدوان كوصيفتيها ليس لأنها أجمل منهن بل لأنها ابنة الملياردير مصباح قلب الحديد والمال وليس الجمال هو محور الكون".

دخل صوت أخن على الخط متسائلا: " مصباح قلب الحديد، الغول ؟

- طبعا الغول والأخطبوط، سمِّه كما تشاء ، ولكن هناك من يقول عنه "المحسن الكبير" و"راعي الأيتام والمعاقين"، فهو ينفق بسخاء على الجمعيات الخيرية، ويدفع إعانات للتلاميذ الفقراء.

علق الصوت الأخن ساخرا: "لا بد أنه يغطي استغلاله واستثماره لعرق العمال والفقراء بهذه التبرعات".

- لا أعتقد، فلا أحد يطلب منه ذلك, أنت ترى كثيرا من رجال الأعمال الأغنياء لا يدفعون قرشا واحدا لأعمال الخير. كل ما يهمهم الكسب. أما هذا فهو يربح باليمين ويدفع باليسار.

- هذا لا يمنع من أنه رأسمالي مستغل ومحتكر. الزيوت عليها علامة مصباح والمعجنات لمصباح والأجهزة الإليكترونية من غسالات وبرادات لمصباح وسيارات الأجرة لمؤسسته، حتى سلسلة الفنادق الجديدة هو الذي يبنيها. هو رأسمالي مستغل ومحتكر.

علق الصوت الناعم: "أنا أثق بعلامة مصباح، الزيوت والزبدة والمرغرين والمعجنات التي تحمل هذه العلامة من أجود الأنواع".

رد الصوت الأجش بحماس: "أرأيت؟ رأسمالي نعم، ولكنه يبني صناعة وطنية، أما مستغل ومحتكر فلا أعتقد، ومؤسسة مصباح ليست ملكه وحده فلديه شركاء يملكون معظم الأسهم. كل ما يشاع عنه من قبيل الحسد، فكل ذي نعمة محسود كما يقال، ولم يثبت عليه يوما أنه كسب مالا بطريقة غير مشروعة. أنا أحترم هذا الرجل وأحبه".

- لأنك لا تعرفه جيدا. صناعته ليست وطنية. هو يضع اسمه وعلامته على الأشياء المصنوعة في الخارج والمستوردة. أنا لا أثق به وأعتقد أنه كون ثروته كما كونها كثيرون بالغش والخداع واستغلال أموال الدولة وعقاراتها.

- بل أعرفه أكثر مما تعرفه فهو ابن منطقتي.

- ماذا تعرف عنه بالضبط؟

- أعرف أن الناس يتهامسون بأن أباه كان حركيا قتله الثوار، إذا كان هذا ما تقصده، ولكن أمه كانت مجاهدة وشهيدة صعدت إلى الجبل ولم تكتف بالتمريض بل حملت البندقية وقتلت في قصف الطائرات على إحدى المناطق التي كان يتحرك فيها المجاهدون. وأخواله المجاهدون الثوار هم الذين ربوه بعد الاستقلال حيث كان في العاشرة من عمره.

- إن معلوماتي تقول بأن أباه هو الذي رباه بعد أن طلق أمه. فشابه أباه ولم يشابه أمه وأخواله.

- أبوه ليس من منطقتنا ولا أعرف من أين أتى بالضبط. كل ما أعرفه أنه أتى إلى المنطقة وعمل خماسا وصادق أخواله ثم تزوج من أمه، ولكنه تطوع في الحركة ووقف ضد الثورة حين قامت، لذلك عاداه أخوال مصباح وطلقوا أختهم منه ولكنه احتفظ بالولد بقوة أسياده الفرنسيين وحرم أمه منه، ولكنها ما لبثت أن صعدت إلى الجبل واستشهدت. وحين قتله الثوار تولى أخواله تربيته.

- يكفي أن أباه كان حركيا.

- لنفرض أن أباه كان حركيا، ما ذنبه هو؟ "ولا تزر وازرة وزر أخرى". هو الآن رجل أعمال ناجح وملياردير كبير لا يستطيع الوزراء مقابلته إلا بموعد مسبق، وترى كبار الشخصيات يتسابقون إلـى إرضائه. لماذا تتجنى عليه؟ كأن هناك ثأرا بينك وبينه.

- أقف ضده وضد كل من على شاكلته لأنهم مستغلون.

تدخل الصوت الناعم لفك الاشتباك قائلا: " جئنا لنستمتع بالبحر لا لنتناقش في السياسة. سألت عن هؤلاء الفتيات لأني لم أرهن في هذا الشاطئ من قبل وليتني لم أسأل".

أجابها الصوت الأجش: "من عادتهن أن يذهبن إلى شاطئ قصر الصنوبر. ولا أدري ما أتى بهنّ اليوم إلى هنا".

قالت سوسن في نفسها: "من أجل هذا لم أرهن في زرالدة".

في تلك اللحظة فتحت ماما زهرا عينيها فابتسمت سوسن لها وبدأت تحادثها. التفتت بعد قليل فلم تجد أحدا ولم تعرف من المتحدثين إلا أصواتهم.

-5-

في نفس ذلك اليوم الحار من أيام أوت كان القطار السريع متجها من وهران إلى العاصمة، وكان ركاب الدرجة الأولى ينعمون نوعا ما بجو لطيف مقبول لأن عربتهم مجهزة بمكيف. جلس بدر الدين عبد السلام المحامي في الزاوية اليمنى من مؤخرة العربة بجانب النافذة باتجاه القطار على أحد المقاعد الجلدية الفاخرة الأربعة. بينما جلست قبالته فتاة في حوالي السادسة والعشرين من عمرها شديدة الأناقة تقرأ منذ ركوبها كتابا بالإنجليزية. كان يحسن هذه اللغة وشد انتباهه عنوان الكتاب: "المحاكمات الكبرى في القرن العشرين". خمّن أنها لا بد أن تكون محامية أو أستاذة في القانون لتقرأ مثل هذا الكتاب. كان يشغل المقعدين الآخرين بجواره وجوار الفتاة زوجان يبدو أنهما متخاصمان فلم يتحدثا معا إلا حين وصلا حيث قال الرجل لزوجته: "اجلسي هنا بجوار السيدة"، وانشغل بقراءة رواية بوليسية بالفرنسية أما هي فانشغلت بعمل السنارة.

بدأ بدر الدين يراقب الفتاة منذ صفر القطار في محطة وهران صفرته الطويلة المعهودة إيذانا بانطلاقه نحو العاصمة. سرح في عينيها السوداوين المستغرقتين في القراءة، وخفق قلبه في البداية ببطء ثم بدأ النبض يتسارع. هاتان العينان السوداوان الحالمتان الفاتنتان هما نفس عيني شريفة زميلته في كلية الحقوق التي أحبها وأحبته وتعاهدا على الزواج والكفاح معا لبناء المستقبل، ولكنها قبل التخرج تزوجت من أستاذها الدكتور صلاح والمحامي الشهير في الوقت نفسه. اختصرت طريق الكفاح وانقطعت فجأة عن لقائه والرد على هواتفه حتى سمع بخطوبتها ثم بزواجها.

ليس هناك تشابه بينها وبين شريفة إلا في عينيها. هذه سمراء البشرة شعرها كستنائي تتميز بطولها، وتلك بيضاء شعرها أسود أملس تميل إلى القصر. كلتاهما ذات وجه أنيس جذاب تزينه شامة صغيرة، مرسومة على وجنة شريفة السفلى، وفي أسفل الشفة المكتنزة لرفيقة سفره.

ما قصته مع العيون السود الحالمة؟ هاتان العينان السوداوان تحاولان أسره من جديد، ضحك في سره فليس هناك خطر هذه المرة. هذه رفيقة سفر ولا يمكن أن تربطه بها أية علاقة من أي نوع.

وصل القطار إلى الشلف و مكث حوالي ربع ساعة في المحطة ثم بدأت عجلاته تدور ببطء في البداية وتشتد سرعتها شيئا فشيئا إلى أن غادرت المحطة. أحس الركاب فجأة بثقل الجو وارتفاع درجة الحرارة فقد توقف المكيف عن العمل. صبروا قليلا وتركوا فرصة للعاملين لإصلاح الخلل، وحين طال انتظارهم وبدأت الحرارة تلسع أعصابهم والعرق يغسل أجسامهم، أخذوا يتذمرون همسا ثم جهرا ثم بدؤوا يحتجون بصوت عال أمام العاملين في القطار، لكن هؤلاء لم يكن بيدهم ما يفعلونه فتقبلوا الاحتجاج والنقد الجارح ببرودة أعصاب تعودوها مع الركاب منذ سنين.

طوت الفتاة الكتاب فجأة ووضعت يدها على بطنها ثم على رأسها وبدا من تعبيرات وجهها بأنها تتألم وليست على ما يرام. حاولت النهوض ولكنها ما إن وقفت على قدميها حتى تهالكت على المقعد.

قال بدر الدين للفتاة في لهجة لا تخلو من اللهفة : "ما بك يا آنسة ؟ هل أستطيع أن أساعدك بشيء؟"

أجابت بصوت ضعيف محاولة أن يكون طبيعيا: "لا. شكرا. أحس فقط بالغثيان وأردت أن أقوم إلى المغسلة".

قام من مكانه ممسكا بيدها قائلا: "سأساعدك. لا بد أنك تناولت وجبة ثقيلة هذا الصباح، من الأفضل أن تفرغي جوفك لتستريحي".

-                        لم أتناول شيئا منذ الأمس.

-                        هذا الغثيان من التعب والجوع وليس من الإفراط بأكلة دسمة. ليس هناك ما تفرغينه إذا. لنتبادل الأماكن. خذي مكاني في نفس اتجاه القطار فهذا يخفف إحساسك بالغثيان.

أجلسها بدر الدين مكانه وجلس في مكانها. أشار الرجل فجأة إلى زوجته أن يتبادلا الأماكن أيضا، لتجلس بجانب الفتاة ويجلس بجانب الرجل. فتح بدر الدين محفظته وأخرج منها زجاجة دواء وملعقة بلاستيكية ملأها من الزجاجة وناولها للفتاة قائلا: "اشربي هذا فإنه يوقف الغثيان".

نظرت الفتاة إلى الزجاجة وسألت: "برمبيران؟"

-                        نعم.

تناولت الملعقة ووضعتها في فمها.

قال لها: "استريحي الآن، ولكن لا بد أن تأكلي شيئا بعد قليل".

-                        لا أستطيع أن أضع شيئا في فمي. عذرا يبدو أنني أفرطت في السهر فقد حضرت عيد ميلاد صديقتي. انصرف المدعوون في التاسعة والنصف وسهرت معها حتى الثالثة صباحا ونحن نتحدث، ولم أستطع تناول شيء في الصباح.

-                        ستأكلين بعد قليل تفاحة، فالتفاح خفيف على المعدة وسيمتص الحموضة و لن يؤذيك.

بقيت الفتاة مسترخية مدة عشرين دقيقة. قشر لها بدر الدين تفاحة كبيرة حمراء وأخذ يناولها قطعة بعد قطعة وهي تأخذ منه حتى أتمتها.

قال لها: "بعد ربع ساعة يمكنك أن تتناولي بعض اللبن الرايب "الياورت".  

-                        من أين آتي به؟

-                        معي في المحفظة.

نظرت إليه الفتاة نظرة تفيض بالعرفان بالجميل مرددة بحرارة: "شكرا لك، هل أنت طبيب؟"

-                        لا، أنا قانوني مثلك، أعمل في المحاماة، لكن أمي ممرضة وقابلة وتعلمت منها الاهتمام بالأمور الصحية.

-                        كيف عرفت أنني قانونية؟

-                        من الكتاب الذي تقرئينه. لا بد أن تكوني محامية أو أستاذة في القانون.

نظرت إليه الفتاة نظرة ود ونسيت واجب التحفظ الذي تفرضه عليها مهنتها، فقد لفت نظرها بلطفه وأدبه ورقته. نظرت إلى وجهه الأسمر البشوش وعينيه البنيتين الملتمعتين الذكيتين. إنه رجل مكتمل الرجولة. قارب أو بلغ الثلاثين. في مثل قامتها تقريبا، ولكنه يبدو نحيلا، ربما من الإرهاق في العمل. سألت مستفهمة: "هل تمارس المحاماة في وهران؟"

- بل في العاصمة ، ولكن لدي قضية في وهران وكنت أزور موكلي في السجن.

- كيف وجدت الحالة في وهران ؟

-- إذا كنت تقصدين حالة المحامين فهي نفس الحالة عندنا. تدهورت الأمور منذ سنوات، وأصبح بإمكان أي كان أن يصبح محاميا. أصبح الشباب الصغار يجوبون أروقة المحاكم بلا تكوين ولا تجربة.

رفعت الفتاة حاجبيها مندهشة فقال بدر الدين: "أرجو المعذرة يا أستاذة فأنا لا أقصدك أنت، بل لا أقصد أحدا بالتحديد. أحرص فقط على الحفاظ على سلامة المهنة وأخلاقياتها. بعض المحامين الجدد يتخاطفون الزبائن في أروقة المحاكم وهذا لا يليق بسمعة المحامي والمهنة ويجب أن يأتي الزبون إلى مكتب المحامي لا أن يخرج المحامي من مكتبه لتصيد الزبائن.

-                        أهذا هو الحال عندكم في العاصمة ؟

-                        وعندكم في وهران أيضا، لقد لمست ذلك بنفسي.

-                        هذا يعتمد على شخصية المحامي.

-                        طبعا طبعا ، أنا آسف فلا  يجوز التعميم في هذه الأحوال، ولكنك سألتني عن الحال عندنا في العاصمة فأجبتك. ثم سأل مستفهما:

-                        هل تنوين العمل في العاصمة ؟

-                        ربما. سأدرس الأمر.

-                        لا بد أن تحسني اختيار المكتب الذي تعملين فيه حتى لا يستغلك صاحبه.

-                        ماذا تقصد؟

-                        أقصد أن يجعلك تقومين بالعمل كله ويحصد الأرباح.

-                        هل هذا ممكن؟

-                        طبعا إذا كنت جديدة وبحاجة إلى مقر فستكونين فريسة سهلة الاستغلال .

-                        هل لديك مكتب؟

-                        مع الأسف لا . جعلت الغرفة الخارجية في منزلي مكتبا. يمكنني استضافتك بكل سرور، لكنني أعزب والمكتب جزء من الدار وأخاف أن تتعرض سمعة من تقاسمني المكتب إلى الأقاويل. إذا كنت من النوع الذي لا يهتم بأقوال الناس فمرحبا بك.

لم تدر الفتاة لِمَ قفز إلى فمها دون وعي منها هذا السؤال: " لماذا لم تتزوج حتى الآن ؟"

فوجئ بسؤالها فقد كان شخصيا ومحددا وليس فيه مواربة أو تمهيد ولكنه لم ينزعج من سؤالها. أجابها ببساطة:" من كنت أنوي الزواج بها وبناء المستقبل معها، اختصرت الطريق وتزوجت من محام جاهز لديه كل شيء وهو أستاذها في الوقت نفسه".

-                        أليس هناك غير هذه الفتاة ؟

-                        كنت أحبها وصدمت ولم أستطع أن أحب غيرها بعد ذلك .

-                        فهمت. أنت تعمل منذ عشر سنوات في المحاماة: لماذا لم نفتح مكتبا حتى الآن ؟

-                        لأنني آخذ نصف القضايا التي أرافع عنها بالمجان للأهل والأقارب والأصحاب والفقراء وأدفع الرسوم والطوابع من جيبي أحيانا، والنصف الآخر لا أتقاضى عنه شيئا كبيرا لأنني لا أقبل إلا قضايا المظلومين فعلا، أما الظالمون فأرفض الدفاع عنهم.

-                        لماذا؟

-                        لأنني أعتقد أن مهنة المحامي مساعدة العدالة وليس تضليلها والدفاع عن الظالمين هو تضليل للعدالة وانتصار للباطل.

-                        فهمت. وماذا عن القضاء عندكم؟ أقصد القضاة في العاصمة.

-                        ليسوا بأحسن ولا أسوأ من المحامين، لكنني لا ألوم القضاة فهم يتعرضون لضغوط اجتماعية كبيرة وربما سياسية أيضا والعدالة في المجتمعات المتخلفة نسبية كما تعرفين. ولا يثق الناس بها كثيرا عندنا.

-                        بالمناسبة هل ربحت قضيتك في وهران؟

-                        مع الأسف الشديد لم أربحها.

-                        ماذا كانت القضية؟

-                        قضية مخدرات.

-                        مخدرات! ألم تقل أنك لا تدافع إلا عن المظلومين ؟

-                        قلت ذلك فعلا. موكلي بريء وأنا مقتنع كل الاقتناع بأنه ضحية خدعة لمجرمين محترفين.

-                        كل المتهمين يدعون البراءة كما تعرف ويذرفون الدموع على أنهم ضحايا.

-                        إلا هذا الرجل. أعرفه حق المعرفة فهو إنسان مستقيم ومخلص وأمين، ينقل البضائع على شاحنته الخاصة ولديه سائق محترف، وقد طلب منه نقل أجهزة إليكترونية من سيدي بلعباس إلى العاصمة. كان السائق مريضا فاضطر للذهاب بنفسه، وطلب منه أن يمر على وهران في طريق العودة لاستلام طرد لإيصاله إلى العاصمة. تأخر تسليم الطرد فبات في وهران واتجه إلى العاصمة في الصباح. وفي الطريق أوقفه الدرك الوطني وفتش الشاحنة فوجد فيها مخدرات مع الإلكترونيات وحين استجوبوه لم يعرف بماذا يجيب. قال لي:

"أشرفت بنفسي على تحميل الإلكترونيات في سيدي بلعباس ولم يكن بها أي شيء وما حصل لا بد أن يكون حدث في وهران أثناء إقامتي في الفندق".

- أنت متحمس كثيرا له وثقتك به كبيرة. ألا تخاف أن تكون مخطئا في تقييمه؟

- أبدا فأنا أعرفه حق المعرفة لأنه جاري.

صمتت أنيسة قليلا ثم سألت: "وأين كانت الشاحنة؟"

-                        وضعها في مرآب عمومي طلب منه أن يضعها فيه حتى الصباح واسمه مرآب الأمانة. حقق الدرك في القضية فلم يجدوا ما يثير الشك في المرآب وشهد صاحب المرآب بأن السيارات محروسة ليلا. اتهمه رجال الدرك بأنه هو الذي وضع المخدرات في الشاحنة وطلبوا منه اسم من سلمها له، ولكني متأكد من براءته.

-                        من صاحب الوكالة الذي كلفه بنقل الإلكترونيات ؟

-                        رجل أعمال اسمه مصباح قلب الحديد وهو يعمل في المواد الغذائية والزيوت ومواد البناء والإلكترونيات أيضا.

لم يبد على الفتاة أي تعبير يدل على معرفتها بهذا الإنسان أو سماع اسمه قبل الآن. سألت من جديد: "كم حكم على صاحبك؟"

-                        خمس سنوات ولكنني سأستأنف الحكم.

صفر القطار إيذانا بوصوله إلى محطة الآغا في العاصمة. ساعد بدر الدين الفتاة في حمل حقيبتها ووقف معها حتى ركبت سيارة الأجرة، وسمعها تقول للسائق : "حي الشراقة الجديدة".

لم يسألها عن اسمها ولم تسأله، وكما يحصل مع معظم الركاب في القطارات والطائرات يذوب الجليد بينهم أثناء الرحلة ويتحدثون عن أدق تفاصيل حياتهم ثم يعودون في نهاية الرحلة أغرابا كما كانوا.

-6-

لم تكد السيارة تسير ببطء بضعة أمتار في شارع المتنبي المزدحم بالمسافرين القادمين والذاهبين حتى اعترض طريقها رجل ضخم اضطر السائق إلى إيقاف السيارة. نظرت أنيسة الجالسة في المقعد الخلفي إلى الرجل الذي مد رأسه الأصلع ليتحدث مع السائق. رأت رجلا أسمر الوجه يرتدي بدلة أنيقة رمادية صيفية. كان وجهه المتجهم وعيناه الجاحظتان الحادتان نذيرا بالشر. خاطب السائق بلهجة آمرة: "أريد أن تأخذني إلى الحراش فلدي عمل عاجل هناك"

أجاب السائق بلطف: "معي زبونة والحراش ليست في طريقي ياسيدي الكوميسير".

- إلى أين تذهب؟

- إلى الشراقة.

قال الكوميسير بنفس اللهجة الآمرة: " أنا مستعجل، أوصلني إلى الحراش ثم أوصل زبونتك". وحاول أن يفتح الباب الأمامي للسيارة ولكنه كان مقفلا.

قال السائق : "إسأل الزبونة إذا لم تكن مستعجلة فسأوصلك".

ردت أنيسة قبل أن يسألها أحد: "أنا مريضة ومتعبة وأريد أن أصل إلى الدار بأقصى سرعة ".

هز الكوميسير رأسه وقال للسائق من النافذة: "أصبحت الآن ترفع صوتك علي وتعصي أوامري لأنني متقاعد ولكنك ستندم أنت وهذه "الـ..." التي تركب معك".

صعقت أنيسة لسماع هذه الكلمة البذيئة، ولم ترد عليه. أضاف: "منذ زمن وأنت تحاول أن تتحداني. أرسلت إليك عدة مرات ولم تحضر ولكنك هذه المرة ستدفع الثمن".

انطلق السائق بالسيارة وقال بلهجة يائسة: "لا أدري ماذا أفعل مع هذا الرجل".

سألت أنيسة: "من يكون؟"

زفر السائق زفرة حارة وأجاب: "كان كوميسيرا في حينا وكان حاكما بأمره، ولأنني أريد أن أكسب عيشي دون مشاكل فقد كنت أسايره وأدفع له، وحين أحيل على التقاعد تنفس أهل الحي الصعداء. الكوميسير الجديد إنسان نزيه وطيب ومحبوب ولا يقبل الرشوة. لكن هذا الكوميسير لم يقبل بوضعه الجديد ويريد أن يستمر في ابتزازه للسائقين والمواطنين. أرسل لي عدة مرات يريد أن يستخدمني وكأني سائقه الخاص وأنا مسؤول عن عائلة ولا أستطيع خدمته مجانا. إنه يهددني الآن وأنا متأكد بأنه سيِؤذيني ".

-  لن يستطيع أن يفعل لك شيئا ما دمت تسير وفق القانون.

-  ضحك السائق قائلا: "لا يوجد قانون يا سيدتي في بلادنا. كل مسؤول له قانونه الخاص. قبل أن يتقاعد هذا الكوميسير كان هو القانون، وحكمه يمشي على الضعفاء أمثالي، أما الأقوياء فيخافهم لأن لهم قانونهم أيضا".

-  لا تخف فليست بيده سلطة. إنه يجعجع ويبعبع  فقط.

رد السائق بإصرار: "لا يا سيدتي، إنه حقود وأنا متأكد أنه سيؤذيني، ولكن كيف؟ لا أدري".

-7-

يقع حي 74 مسكنا في الشراقة الجديدة وهو عبارة عن صفين متقابلين من المساكن التي تجمع بين مزايا الفيلات والشقق الصغيرة، فهي مستقلة ولكنها ليست كبيرة. يحتوي الأرضي على غرفتين للاستقبال والجلوس ومطبخ، أما العلوي ففيه غرفتان للنوم والحمام ويصل بين الطابقين سلم حجري صغير. وخلف المسكن مساحة صغيرة مخصصة للحديقة التي يمكن لرب البيت أو ربته العناية بها دون حاجة إلى جنائني. يتميز هذا الحي عن غيره من الأحياء السكنية الأخرى في العاصمة بتهيئة المرافق الحيوية فيه قبل تسليم المساكن للسكان، فالحي رغم صغره يتوفر على مساحات خضراء تفصل بين مجموعتي المساكن اليمينية واليسارية من جهة كما تحيط بثلاث جوانب لكل منها، ناهيك عن وجود مساحة كبرى يحولها الشباب تارة إلى ملعب كرة القدم وتارة أخرى لكرة الطائرة أو اليد، إلى جانب حديقة صغيرة تحوي أجهزة ألعاب الأطفال. أما العمارات فيحتوي كل منها على خمس طوابق يتضمن كل طابق شقتين بثلاث غرف وصالون مما لا يطرح مشكلة المصاعد التي تعاني منها الأحياء السكنية الأخرى التي يصل عدد الطوابق فيها إلى خمسة عشر طابقا كحي العناصر مثلا. والواقع أن المرافق الحيوية كانت مسطرة على المخطط في الأحياء الأخرى، إلا أن الصلاحيات المعطاة لرئيس البلدية والتدخلات الفوقية الجهوية الحزبية والسلطوية جعلت المساحات الخضراء تتقلص وبعض المرافق والملاعب تلغى وتستبدل برخص تمنح هنا وهناك لمتنفذين وراشين ومرتشين لتحويلها إلى استثمارات تجارية ومساكن إضافية. ليس هذا فحسب بل إن الرخص المخصصة لبعض العيادات الطبية بدلت إلى مساكن أو مقرات لشركات ومؤسسات، فرئيس البلدية يعتقد أن الصلاحيات المعطاة له هي امتيازات يمنحها لمن يشاء وليست مسؤولية يراعي فيها مصلحة السكان وحماية البيئة.

ويبدو أن الأمور تسير على ما يرام في هذا الحي حتى الآن، ولكن ليس هناك ما يضمن استمرارها وألا يستعمل رئيس البلدية صلاحياته في منح الرخص لتغيير طبيعة العقار أو تقليص المساحات الخضراء ما دامت إرادة رئيس البلدية هي العليا ومصلحة السكان هي السفلى.

 

-8-

 

انتظرت سوسن أن يعود الشاب إلى الشاطئ للبحث عن أوراقه، لكنه لم يعد. تساءلت: "ماذا تفعل بالأوراق؟" فكرت في البداية أن تسلمها إلى الموكل بتأجير المظلات والمقاعد أو إلى عون الحماية المدنية ولكنها عدلت عن ذلك يدفعها شوق خفي لرؤية الشاب من جديد. وقررت أن تعود وحدها في الغد إلى الشاطئ فربما حضر وسلمته الأوراق بنفسها.

أما ليندا فحاولت نصب شباكها من جديد حول عون الحماية المدنية، لكنه كان مشغولا عنها بالحوادث المتعاقبة وطلبات العون والنجدة مما زاد من حدة غيظها ونقمتها على من ضيع بشهامته فرصة ثمينة عليها، كان يمكن أن تكون بداية لعلاقة جديدة بينها وبين عون الحماية المدنية الوسيم. قضت بقية النهار عصبية المزاج، ولم تفلح محاولات صديقاتها في تسليتها وتهدئتها وأقسمت أنها لن تقصد هذا الشاطئ بعد اليوم.

-9-

غادرت سوسن الشاطئ مع بابا عزوز وماما زهرا إلى شقتها في حي الشراقة الجديدة، وما إن دخلت حتى رن جرس الباب، فتحت فإذا بصبية شابة تقول لها:

"أرجو أن تعطيني قليلا من الماء البارد، أنا جارتك. جئت إلى شقة عمي اليوم من وهران فوجدت الماء مقطوعا، والبراد لا يعمل لأن الشقة مقفلة منذ أشهر".

-                        تفضلي بالدخول سأحضر لك الماء حالا.

-                        آسفة للإزعاج.

أجابتها سوسن وهي تحضر زجاجة ماء من البراد: "بكل سرور، ليس هناك إزعاج".

ناولتها الزجاجة وهي تقول: "مرحبا بك في أي وقت. اسمي سوسن".

-                        وأنا أنيسة.

-                        إذا احتجت إلى أي شيء فلا تترددي.

-                        شكرا. تصل أمي غدا من وهران وسنتشرف بزيارتك ومعرفتك.

-10-

تناولت سوسن عشاء خفيفا مكونا من شوربة خضار وعنقود من العنب ولم تمد يدها إلى الأطباق المختلفة من المشويات والمقليات. ولم تدعها ماما زهرا تساعدها في التحضير ووضع المائدة كما تعودت، فاليوم عيد ميلادها. قدم الشاي بعدها مع كعكة عيد الميلاد، وأطفأت سوسن الشموع وهي تتصنع الفرحة والابتسام. حان وقت تقديم الهدايا. أهداها بابا عزوز مجموعة من الأقراص المضغوطة تتضمن باقة متنوعة من الأغاني العصرية، بينما أهدتها ماما زهرا منامة حريرية وردية. أما الهدية المتميزة فهي هدية السيد مصباح التي يرسلها كالعادة مع عزوز وتتمثل في طقم مجوهرات مكون من عقد وخاتم وسوار من الذهب والألماس إضافة إلى باقة الورود البيضاء التي يرسلها إليها في كل عام في عيد ميلادها.

جلست على البيانو لتعزف قليلا لكنها تذكرت أوراق الرواية فأخرجتها من الكيس البلاستيكي وبدأت تتصفحها. وجدت بداخلها ورقة مطوية فتحتها فإذا بها رسالة مخطوطة مؤرخة في 21/08/2007 أي بتاريخ اليوم، وموجهة إلى صديقه البشير يقول له فيها بعد التحية:

"أرسل لك نسخة من روايتي الأولى التي ستعرف قريبا طريقها إلى النشر، وقد سميتها "زمن المليارديرات"، وربما تتساءل عن سبب اختياري لهذا الاسم.

ليس هناك في الحقيقة زمن محدد لصناعة الملياردير. كل الأزمنة صالحة لنشوئه وتكوينه وليس كل الأمكنة، فالمبدع في البلدان المتقدمة يبني أحلامه وفق احتياجات مجتمعه فيقدم مشروعا صناعيا أو علميا أو فنيا يخطو بمجتمعه خطوة إلى الأمام ويقطف ثمار نجاح مشروعه أرباحا تتضاعف كل يوم فيصبح مليارديرا. أما في دول العالم الثالث فالمغامر وليس المبدع هو الذي يصبح مليارديرا. وهو يكيف أطماعه وفقا لأطماع من حوله فيحقق لهم بعضا منها ليفسحوا الطريق له ولأحلامه وأطماعه. وكلما وجد عائقا أو حاجزا تغلب عليه وتجاوزه بإرضاء حراس هذا العائق أو الحاجز عملا بمقولة: "كل وأطعم ولا تأكل وحدك كي لا تصاب بعسر الهضم". وهكذا تفتح له الأبواب وتتهاوى الحواجز.

في زمن الأحلام الطوباوية بعد الاستقلال، حيث كان الناس يحلمون بإقامة مجتمع عادل، وبناء صناعة ثقيلة قوية والخروج من التخلف، كان بطل الرواية يهتم بصيد العقارات وساعده وشاركه في ذلك بعض المسؤولين في الإدارات والبلديات.

وفي زمن الانفتاح بعد وفاة بومدين حين حلم الناس بحرية الفكر والعقيدة والتنقل وبدؤوا يشكلون الجمعيات والأحزاب وجّه صاحبنا اهتمامه إلى القروض البنكية وشارك في ذلك مع موظفين سامين في البنوك.

وفي زمن التطرف الديني والعلماني بعد استقالة الشاذلي، حين حلم المتطرفون الإسلاميون بإقامة مجتمع إسلامي يكون نواة لدولة إسلامية عظيمة تمتد من طنجة إلى كابول. ونادى غلاتهم بإلغاء الدستور والقوانين الوضعية واتباع أحكام الشريعة. وخاف العلمانيون أن تضيع حرية الإنسان وحقوقه المشروعة بقيام نظام دكتاتوري استبدادي يلبس رداء الدين ويصم كل من يخالفه بالكفر. وفي أوج الصراع بين هؤلاء وهؤلاء وبدء نشاط التنظيمات الإرهابية، كان صاحبنا يتصيد رخص استيراد المواد الغذائية ومواد البناء، ويشارك في الأرباح من ييسرون له ذلك من أصحاب العقد والحل.

هذه الأزمنة الثلاثة هي زمن واحد بالنسبة لبطل روايتنا، فالناس وإن لم يتغيروا فيه ولم تتغير معادنهم، خبا لمعان من كان معدنه ذهبا، وازداد بريق من كان معدنه نحاسا فخلب الألباب وحسبه الناس ذهبا. في الزمن الذي تضعف فيه سلطة القانون ورقابة الصحافة، وتقوى فيه سلطة الرشوة والمحسوبية، تختل المعايير فيعلو النحاس ويتوارى الذهب، ويكثر فيه المليارديرات ممن يزعمون أنهم عصاميون صنعوا أنفسهم بأنفسهم. وإذا كان كل زمن صالحا لصناعة الملياردير المبدع فهذا الزمن الذي نتحدث عنه هو زمن المليارديرات الطفيليين ممن لا يبنون صناعة ولا يطورون زراعة ولا ينهضون بثقافة أو فن".

ويطلب الكاتب في نهاية الرسالة من صديقه أن يقرأ الرواية ويرسل له رأيه فيها. ليس على الرسالة أي عنوان، لا عنوان المرسل ولا المرسل إليه. استنتجت سوسن أن الشاب كان مشغولا بكتابة مسودة هذه الرسالة ولم يكفه الوقت لتبييضها بعد وإضافة العنوان إليها فهي مليئة بالشطوب.

 

-11-

لم تدر لماذا ذكرها عنوان الرواية "زمن المليارديرات" بالسيد مصباح قلب الحديد. كانت تعجب من اعتبار بعض الناس هذا الرجل غولا مخيفا، بل إن بعضهم يسميه أخطبوطا بثمانية أذرع لأن نشاطه المتعدد يمتد إلى المواد الغذائية والمنزلية والطبية ومواد البناء. ولكنها ترى فيه أبا رحيما عطوفا، يرعاها ويشرف على تعليمها ويدفع بسخاء لبابا عزوز وماما زهرا للإنفاق عليها في المدرسة الثانوية ثم في كلية الحقوق وفاجأها بعد تخرجها من الجامعة بإهدائها سيارة جديدة، وشجعها على دراسة الماجستير بشراء شقة باسمها الخاص انتقلت إليها مع بابا عزوز وماما زهرا من شقتهما في الأبيار التي أغلقاها مؤقتا. هو الذي اشترى لها بيانو بعد أن عرف تفوقها في الموسيقى وخصص لها أستاذا يعلمها في المنزل، وهو الذي كان يرسل لها مع عزوز قصص الأطفال بالعربية والفرنسية ويشتري لها الملابس الفخمة الغالية.

كانت تبحث عن تفسير لعلاقتها بهذا الرجل وتسأل نفسها دائما: "لماذا اختارني أنا بالذات من دون أطفال المركز ليتولى رعايتي؟" ولا تجد جوابا عن هذا السؤال.

فجأة قفزت صورة الشاب الشهم إلى ذهنها ومنت نفسها بلقائه في الغد ثم استسلمت لنوم حافل بالأحلام سيطرت على معظمها صورة ذلك الشاب وهو ينقذها من الغرق ويحملها إلى الشاطئ ويعترف لها بحبه ويقبلها.

 

لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الخيط الثاني: امبراطورية مصباح

 

للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: القاضية والملياردير

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات