الفصل التاسع

من رواية "القاضية والملياردير"

للكاتب عبد الله خمّار

الخيط التاسع: الانهيار

-110-

قال رياض لأبيه بعد عودته من مركز رعاية الأيتام: "حدثت اليوم حادثة طريفة في الشارع الذي يقع فيه المركز، حيث ولدت إحدى السيدات في الشاحنة التي كان يقودها زوجها. ولّدتها جارتها التي أرادت مرافقتها إلى المستشفى ولم يمهلها المخاض. طلبت الجارة من زوج المرأة الحامل أن يتوقف، وأنزلت الولد وهو بصحة جيدة، والأم كذلك".

سكت قليلا ثم قال: "لكن الخبر الذي أريد نقله لك هو أن سوسن حين تحدثنا عن هذه الحادثة في المركز، أكدت أنها ولدت في صيدلية، وأن أمها نقلت إلى المستشفي بينما أخذتها القابلة معها. اتصلت القابلة بالمستشفى بعد ذلك فأخبروها بأن الأم توفيت. سلمتها في اليوم التالي إلى مركز رعاية الأيتام مع ملف باسم أبيها وأمها.

لم يستطع الأب أن يتمالك نفسه فقد أصابه الدوار وطلب كأسا من الماء ثم قال لرياض: "لا تقل شيئا لأمك حتى نتأكد من هذا الموضوع. هل تعرف المركز الذي نقلت إليه؟"

-                         نفس المركز الذي أذهب إليه يوم الجمعة.

-                         حاول إذن أن تستخرج ملفها، قل لها أن تطلب من الإدارة ذلك.

لم يجد رياض صعوبة في إقناع المديرة بإعطائه صورة عن شهادة ميلاد سوسن بعد أن عرفت قصة ضياع أخته بعد ولادتها. عرف من الشهادة أن اسم الأم سميحة أو صبيحة، لكن تاريخ الميلاد هو نفس تاريخ ميلاد أخته سوسن.

قال الأب لابنه: "لو استطعت إحضار هذه الفتاة إلى المنزل لنتأكد ونتعرف إليها".

-111-

لم تنقطع سوسن عن زيارة مركز رعاية الأيتام وإسعاد الأطفال. تابعت خلال زياراتها الأسبوعية حلقات حكاية الخالة صابرة وشجاعتها في مقاومة مؤامرات "عرمط". روت لهم في إحدى الحلقات كيف حاول قافز المكار وملهوف الأكال إخافتها. حضرا في الليل والتفا بملاءتين بيضاوين وأخذا يقفزان في ساحة الدار وأخذا يضربان على زجاج نافذة نومها حتى أيقظاها. أرادا أن يقنعاها أنهما شبحان، فإما أن تخاف وتبيع منزلها وإما أن تخبر أهل الجزيرة بوجود أشباح في منزلها، وفي هذه الحالة يتهمها قافز وملهوف بالجنون ويضعانها في المصحة ويستوليان على منزلها وأرضها. نهضت الطفلة نجيبة من نومها على صوت نقر الزجاج. لكنها كانت شجاعة فلم تخف، وأخبرت صابرة أن الأستاذ عارف أوضح لهم أنْ لا وجود للأشباح إلا في الحكايات، وأنّ هذين ليسا شبحيْن بل هما لصان يريدان تخويفهما بقصد السرقة. أخذت صابرة عصا المكنسة وخرجت إليهما فأشبعتهما ضربا: "إن كنتما شبحين فلن تؤذيكما العصا، وإن كنتما لصين فخذا جزاءكما". هرب الاثنان وهما يصرخان ويتوجعان من الألم، وفشلت خطتهما.

وفي حلقة ثانية أحضر لها ملهوف الأكال وقافز المكار أكياس السكر والسميد والأرز والجوز واللوز والفستق وصفائح السمن والزيت والجبن وأقراط الموز وعراجين التمر. أخبراها بأنها مؤونة السنة هدية من سيدهما عرمط. واتفقا أن يرسلا في الليل من يسرق هذه الأرزاق ثم يطالبانها بها في اليوم التالي، وليس معها لتدفع ثمنها فيصادران منزلها وأرضها لبناء القصر.

أرسلت صابرة إلى جيرانها وإلى الفقراء من أهل الجزيرة فوزعت الأرزاق عليهم. كانت نجيبة تكتب قائمة بأسماء من استلموها. وحين عاد قافز وملهوف في اليوم التالي لم يجدوا الأرزاق وظنوا أنها سرقت. أخبراها أن الأرزاق وضعت أمانة عندها وأن عرمط طلب إعادتها فورا أو دفع ثمنها. قالت صابرة: "وزعتها على الفقراء وهذه قائمة بأسمائهم، فاذهبوا واطلبوها منهم". لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا. خسروا الأرزاق، وفشلت الخطة.

وفي حلقة أخرى نثر قافز وملهوف في منزل صابرة بعض العطوس الممزوج بالفلفل الحار والفلفل الأسود فبدأت صابرة ونجيبة تعطسان بشدة. ادعى قافز وملهوف أنهما مصابتان بوباء أنفلونزا الذباب، وهو داء خطير لم يسمع به أحد من قبل. طلبا من سكان الجزيرة وضعهما في قارب وإطلاقه في البحر حتى لا ينتقل إليهم الوباء بالعدوى. اكتشف الأستاذ عارف خطتهما حين وجد بقايا العطوس والفلفل في أرض المنزل فنثرهما في وجه قافز وملهوف فبدآ يعطسان باستمرار. قال لهما عارف: "أنتما مصابان بالوباء ويجب وضعكما في قارب أيضا وإخراجكما من الجزيرة". كانا يتكلمان بصعوبة وهما يعطسان وأخبراه بأنهما نثرا قليلا من العطوس والفلفل بقصد المزاح. ضحك سكان الجزيرة وسخروا منهما، وفشلت خطتهما.

كان الأطفال يصفقون في كل مرة تنتصر فيها الخالة صابرة على الأشرار وهم في قمة السرور والسعادة لانتصار العدل على الظلم. أما سوسن فسعادتها لا توصف وهي تراهم يصفقون ويضحكون.  

-112-

قررت قاضية التحقيق أن تضع حدا لصمت العقرب وثرثرة محمود الرواس، وذلك باستدعاء حاميهما مصباح قلب الحديد، الرجل القوي الذي يظنه الاثنان فوق القانون وينتظران منه أن يتدخل للفلفة القضية وإطلاق سراحهما. لم تكن لديها أدلة ضده، ولكنها مقتنعة بأنه رأس الأفعى، وما العقرب والرواس إلا ذيلان من ذيوله لا يهمه إذا انقطعا فسينبت له ذيل بل ذيول جديدة. تذكرت قول الشاعر:

لا تقطعَنْ ذنَبَ الأفعى وترسلـَها    إنْ كنتَ شهماً فأتـْبِعْ رأسَها الذ َّنَبا

هي تعرف مسبقا أنه سينكر علاقته بتهريب المخدرات وتجارة الأسلحة وتفجير سيارتها، لكن إنكاره يمكن أن يفيدها حين تواجهه بالمتهميْن، فيعرفان أنهما سيلبسان التهم وحدهما. انزعج مصباح من استدعاء القاضية وقرر تكليف المحامي بأن ينوب عنه في الحضور. كان رد القاضية حين اتصل بها المحامي تهديدا بإصدار أمر بإحضاره بالقوة إن تخلف عن الموعد المحدد في الساعة التاسعة من يوم الأحد القادم.

لم تفلح اتصالات خلدون ومصباح بالمسؤولين في التدخل لدى هذه القاضية. كان كل من يسمع اسمها يعتذر عن التورط في هذا الموضوع، ويتحجج بأنها ما زالت جديدة وشديدة ولا تداري أحدا لأنها لا تعرف مصلحتها.

أحس مصباح بالذل وهو يقف مع محاميه أمام مكتبها. جاءت القاضية في الموعد، وتركته ينتظر نصف ساعة، وهو الذي تعود أن ينتظر الكبار على باب مكتبه. لم يستطع المحامي التدخل حتى أذنت القاضية بدخولهما. طلب المحامي حضور الاستجواب فأجابته القاضية: "السيد مصباح ليس متهما لتحضر معه، وحين يتحول إلى متهم سننظر في الأمر". خرج المحامي مكرها وبقي مصباح وجها لوجه أمام القاضية.

نظرت القاضية إليه فهالتها قامته الضخمة ووسامته ووجهه الأنيس الذي لا ينبئ بأن صاحبه يمكن أن يكون رئيس عصابة تتاجر بالأسلحة والمخدرات. أما ثيابه بلونها العسلي المتنوع في الدرجة بين البدلة الفاتحة وربطة العنق والحذاء الغامقين والقميص المحايد، فتدل على الثراء والنعمة، كما تدل على الأناقة والفخامة. ذكرتها عيناه الزرقاوان ولحيته الشقراء بقصة ذي اللحية الزرقاء الذي كان سفاحا رغم مظهره الأنيق، واكتشفت زوجته فاطمة جثث زوجاته السابقات السبع في إحدى الغرف. قالت القاضية في نفسها: "حقا إن المظاهر خادعة".

أما هو فوجد أمامه فتاة شابة جميلة في ثوب القضاء الأسود مليئة بالحيوية. قال في نفسه: "لو كنت أصغر بثلاثين سنة لسحرتني هاتان العينان السوداوان كما سحرتني عينا "نور" من قبل، لكن سحر الجمال لم يعد يؤثر فيه منذ زمن طويل". سألته إن كان يعرف السيد مولود شاكر سائق الشاحنة فأجاب بالنفي.

-                         لكنه كان يعمل لصالح مؤسستك.

أجاب مصباح بهدوء وبابتسامة عريضة، وبلهجة متعالية: "عشرات السائقين يعملون لصالح مؤسستي، ولا أعرف إلا من لهم علاقة مباشرة بي. وحين سألته إن كان يعرف المحامي عبد السلام بدر الدين، أجاب بالنفي أيضا. ونفى كذلك معرفة محمود الرواس.

-                         وهل تنكر أنك تعرف حسن سلام الشهير بالعقرب.

اعتدل في جلسته وأجاب بهدوء: "كنت أعرفه قبل أكثر من ثلاثين عاما حين كنا نعمل معا في الجمارك. ومنذ قبض عليه وسرح من الخدمة لم أره أو أسمع عنه شيئا".

كانت تعرف أنه يكذب. سألته: "هل أنت متأكد؟"

أجابها بثبات: "كل التأكد ياسيدتي".

كانت القاضية قد أعدت العدة للمواجهة، فأدخلت العقرب. أنكر كل منهما اتصاله مؤخرا بالآخر، لكنها تعمدت أن يسمع العقرب بنفسه مصباح يتبرأ من كل الأفعال التي قام بها صاحبه. التفتت القاضية إلى العقرب قائلة: "هذه فرصتك الأخيرة لتقول الحقيقة فإن صمت فستتحمل التهم كلها وحدك. هل فهمت ما أعني؟"

كان العقرب يظن أن مصباح تدخل بما له من نفوذ لدى القاضية، وحين عرف أنه استدعي في القضية للإدلاء بإفادته تزعزعت ثقته به، لكنه مع ذلك لم يستطع توريطه لأن ذلك لن يفيده بشيء. وانتهت الجولة الأولى بين مصباح والقاضية بالتعادل.

-113-

كان شعور سوسن متناقضا حين دعاها رياض لتناول الغداء في بيته وليقدمها إلى والديه. سألته: "هل يعلمان أنني تربيت في ملجأ؟"

   - طبعا ولكن ذلك لا يغير في الأمر شيئا. إنهما يريدان معرفتك.

أفرحتها الدعوة وأحزنتها في الوقت نفسه. أفرحتها لأن رياض وعائلته ينظران إليها على أنها إنسانة جديرة بالمعرفة رغم أنها مجهولة النسب، وأحزنتها لأنها شعرت أن وراء هذه الدعوة تعلق رياض بها وحبه لها. لذلك دعاها ليعرف والديه بها قبل أن يخطبها. هي لا تستطيع الارتباط به لأن قلبها مشغول بحب فاتح رغم ما فعله بها. المنطق يقول إن علاقتها بفاتح قد انتهت إلى الأبد، لكن حدسها يؤكد لها أن فاتح لن يكون إلا لها، لذلك كانت محرجة من قبول الدعوة ومن رفضها. اقترحت عليه استبدال القهوة بالغداء وأصرت على ذلك فوافق على مضض.

حين دخلت إلى المنزل وجلست في غرفة الصالون وجدت صورة كبيرة نصفية معلقة في الحائط لامرأة جميلة ترتدي ثوبا عاصميا وتتقلد عقدا من الماس. فوجئت بالشبه بينها وبين الصورة في بعض الملامح؛ العيون العسلية نفسها، والشعر الحريري يكاد يكون هو، والجيد الطويل البديع. لكن الوجه المستطيل في الصورة يختلف عن وجهها المستدير، كما يختلف أنفها الدقيق الصغير عن أنف صاحبة الصورة البارز.

سألته: " من صاحبة هذه الصورة؟" أجابها: "هل تلاحظين الشبه في العينين والشعر والجيد؟" قالت: "نعم".

-                         إنها صورة جدتي.

في هذه اللحظة دخل الأب والأم ولاحظا الشبه بين سوسن وصورة الجدة. سلمت الأم على سوسن ثم لم تتمالك نفسها، فجرتها إليها وعانقتها قائلة: "أنت ابنتي. لا بد أن تكوني ابنتي سوسن التي فقدتها منذ ست وعشرين سنة . قال لي رياض بأنك ولدت في صيدلية".

- قيل لى بأني ولدت في صيدلية.

- أين؟

- لا أدري. ربما في البليدة.

-وما تاريخ ميلادك؟

- 22 أوت 1981

عانقتها من جديد وقد ترقرقت الدموع في عينيها هاتفة: "أنت ابنتي لا شك في ذلك".

روت سميحة لسوسن قصة ولادتها ونقلها إلى المستشفى، وفقدها ابنتها. لم تصدق سوسن أنها وجدت أسرتها. كانت مفاجأة مذهلة لم تتوقعها، فقد كانت تعتقد دائما أن أمها ماتت أثناء ولادتها. شعرت وكأنها في حلم لا بد أن تستيقظ منه بعد قليل. وخافت أن تكتشف فيما بعد أنها ليست سوسن المقصودة. ظلت معانقة أمها طيلة الوقت وهي في غاية السعادة، لكن الشكوك نغصت عليها فرحتها.

أما الأب، ورغم اقتناعه بأن سوسن لا بد أن تكون ابنته، خاف ألا يتحقق ما يتمناه وتتمناه زوجته وولده، فقال: "ربما تكونين ابنتنا سوسن وسوف نتأكد من ذلك قريبا".

وقبل أن يخرج رياض معها بعد انتهاء الزيارة قال له أبوه: "علينا أولا أن نتحدث مع الرجل الذي رباها ورعاها. ما الاسم الذي ذكرته لي؟"

-                         مصباح قلب الحديد.

-                         لا بد أنه سيسعد ويفرح كثيرا بظهور أسرة لهذه الطفلة .

-114-

استقبل خلدون سعادة السفير محمد الأمين سائلا: "ما سبب الزيارة يا سيدي لأبلغ السيد مصباح؟"

تردد محمد الأمين ثم أجاب : "قل له بخصوص الآنسة سوسن".

استقبل مصباح محمد أمين متعجبا من سبب المقابلة ورجاه أن يجلس قائلا: "خيراً، ماذا حدث لسوسن؟"

-                         خيرا إن شاء الله. اطمئن فلم يحدث مكروه بل على العكس أرجو أن أزف إليك خبرا سعيدا.

-                         ما هو؟

-                         أنا أبو سوسن الحقيقي وأرجوك أن تسمع القصة .

 وقص عليه بالتفصيل قصة ولادتها وفقدانها.

أسقط في يد مصباح ولم يستطع أن يقول له: "إن ابنتك سوسن التي تبحث عنها ماتت بعد الولادة، وهذه ابنتي أنا حلت محلها وأخذت اسمها. أما شبهها بأم زوجتك فكل الصبيات الجميلات يتشابهن في النضارة والحسن".

هز رأسه وقال للزائر: "سنرى، ولكن أرجو ألا تخبرها حتى أعلمك بذلك؟"

-                         متى؟

-                         سنبقى على اتصال. اترك عنوانك ورقم هاتفك عند السيد خلدون.

أحس محمد أمين بأن مصباح لم يفرح بظهور أسرة سوسن، وعلى العكس من ذلك بدا منشغل البال مهموما، لكنه قال في نفسه: "لا بد أنه مشغول البال لأنه رجل أعمال لديه ما يثقله".

-115-

عاد مصباح بذكرياته ستة وعشرين عاما إلى يوم الثاني والعشرين من أوت 1981 يوم ولادة سوسن. استعاد الأحداث التي كان يحاول خلال السنين نسيانها وطردها من ذاكرته، وكأنها حدثت بالأمس:

"أعدت القابلة لوازم الولادة ودخلت لتولد المرأة التي بدأ الطلق يشتد عليها. بعد انتظار طويل ظنه مصباح دهرا كاملا سمع صوت وليد يصرخ إيذانا بدخوله الدنيا وانتظر أن ينقطع ذلك الصياح لكنه لم ينقطع.

سأل عزوز بقلق: "هل أنت متأكد من هذه المرأة؟"

-                       كل التأكد يا سيدي ثم إنها لا يمكن أن تضحي بنصف مليون دينار فلا تقلق يا سيدي.

لكن الطفل ظل يصرخ مستهترا بمصباح ومشاريعه. خرجت القابلة فاستقبلها مصباح مستفسرا غاضبا: "ما الذي حدث ؟ لماذا لم تسكتي الطفل؟"  

- حدث ما لم يكن في الحسبان يا سيدي، إنهما توأم. نزل الذكر في البداية فكتمت أنفاسه ولكني وجدت أن هناك طفلا آخر، أنثى هذه المرة، لم أدر ماذا أفعل.

- تصرفي. أنت هنا في مهمة محددة وعليك إتمامها.

- لا يمكنني قتل اثنين دفعة واحدة يا سيدي. ارتكبت جرما واحدا ولم أقو على ارتكاب جريمة ثانية، ثم إننا اتفقنا على طفل واحد. ولكن لا تخف يا سيدي أنا أعمل مع دار الأيتام. أعطيت المرأة مهدئا وسآخذ الطفلة إلى هناك. وحين تستيقظ سأريها الطفل ميتا وهكذا تسير الأمور على ما يرام.

- ولكن ماذا تقولين حين تحملين الطفلة إلى دار الأيتام.

لا تخف يا سيدي سأعد لها ملفا محكما، وسأحضر لك نسخة عنه في هذا الأسبوع. كن مطمئنا يا سيدي. سأواظب على الحضور طيلة هذا الأسبوع، لأطمئن على المرأة الوالدة بعد الولادة وأعطيها العلاج اللازم.

وبعد يومين أحضرت شهادة ميلاد الطفلة باسم سوسن محمد أمين، وأعلمته أنها استبدلتها بطفلة ماتت بعد الولادة بساعات.

قال مصباح في نفسه: "هذه ابنتي ولن يأخذها أحد مني. في المرة القادمة سأطلب من السيد محمد أمين إجراء تحاليل الحمض النووي ليتأكد من أن سوسن ليست ابنته".

-116-

وجد مصباح وهو يوقع البريد نسخة من رواية "زمن المليارديرات"، فسأل خلدون: "من أحضر هذه الرواية"؟

رد خلدون: "أنا ياسيدي، أحضرتها لتطلع عليها وتعرف ما كتبه عنك ذلك الصحفي الخبيث".

علق مصباح: "إنها مجرد رواية".

نظر مصباح إلى صورة فاتح على صفحة الغلاف الأخيرة وقال في نفسه: "لو عاش ابني لكان في عمر هذا الشاب، ولكنه لم يعش لأن القابلة خنقته بعد ولادته".  والحقيقة المرة أنه هو الذي أمر القابلة بذلك وأعطاها نصف مليون دينار لتخلصه منه.

أحس بحرقة في معدته، ولم يستطع طرد شريط الذكريات الذي ألح على  مخيلته وبدأ يمر أمام عينيه سريعا تارة وبطيئا تارة أخرى. تذكر زواجه بنور سكرتيرته الوهرانية الحسناء والتي كانت نقطة ضعفه. أحبها حبا ملك عليه نفسه ونسي معه كل أفكار أبيه التي تبناها عن المرأة. لم تكن بالفتاة السهلة فلم ترض أن تخرج معه إلا بعد الزواج رغم حبها له. وحين ضغط عليها تركت العمل فتوسل إليها لترجع، وتزوجها في حفل عائلي بسيط في وهران اقتصر على حضور أمها وخالتها لأن أباها استشهد أثناء الثورة. اكتشف بعد ذلك أنها ليست المرأة التي يمكن أن توافقه في كل تصرفاته. هناك اختلاف بينهما في القيم. إنها غبية لا تفهم الحياة كما يفهمها، ضيقة الأفق ومثالية لا تستوعب الواقع ولا تناسب رجلا طموحا مثله. 

وقبل أن يسجل الزواج في المحكمة تعرف إلى مدير بنك التنمية والتعمير في العاصمة كما تعرف إلى ابنته ليلى، فسولت له نفسه أن يخطط للزواج من ابنة مدير البنك لتسهل عليه القروض. أخفى خبر زواجه عن كل من يعرفه، لكن نور فاجأته بأنها حامل فطلب منها إسقاط الجنين لأنه ليس مستعدا الآن لتحمل مسؤولية الأولاد. رفضت نور واختفت طيلة مدة الحمل عند عائلتها وعادت إلى الظهور في شهر الوضع. كان مصباح  خلال ذلك الوقت قد وطد علاقته مع مدير البنك وخطب ابنته رغم أنها كانت تحب رجلا آخر، ولكنه استطاع أن يزيحه من الطريق. كان حمل نور وابنها المنتظر يهددان مستقبل مصباح ويعرضان طموحه، في أن يصبح رجل أعمال مرموقا، إلى الخطر. خطط لقتل الطفل الوليد وكان يظن أنها طفلة كما أخبرته نور إلا أن القابلة وجدت في بطنها توأما ولم تستطع بعد أن خنقت الذكر أن تخنق الأنثى.

قال مصباح في نفسه "لحسن الحظ أنها لم تفعل". أدخلت القابلة الطفلة إلى دار رعاية الأيتام ووضعت لها ملفا باسم "سوسن".

كانت حياته مع زوجته ليلى مليئة بالنكد وقد ولدت له "ليندا" بعد سبعة أشهر من الزواج، وهو يعتقد أنها كانت حاملا عندما تزوجها وأن "ليندا" ليست ابنته وإنما ابنة ذلك الوغد الذي كانت تحبه. كرهها وكره ابنتها، لكنه ظل متمسكا بها من أجل الحفاظ على مصالحه مع أبيها. لم تستطع أن تمنحه ولدا من صلبه. حملت وأجهضت ثلاث مرات ثم ولدت له مسخا مشوها لم يعش إلا عدة أيام.

أما سوسن فقد أحضرت له القابلة صورة عن ملفها في دار رعاية الأيتام في البليدة. نسي الموضوع كلية، ولكنه تذكرها فجأة بعد عشر سنوات عقب حوار عاصف مع زوجته ليلى سمعت ابنته جزءا منه فأصيبت بمرض نفسي. ولما يئس من الإنجاب ندم على قتل ولده وأراد أن يعوض عن ذلك برعاية ابنته. بحث عنها حتى وجدها عند محجوب وعلجية، فعهد بها إلى زهرا وعزوز بعد أن شجعهما على الزواج.

-117-

بطريق الصدفة المحضة اكتشف مدير إحدى المؤسسات الوطنية شهادة ليسانس مزورة قي ملف أحد إطارات المؤسسة العليا عمرها عشرون سنة . وما لفت نظر المدير وهو يراجع ملفات الترقية أن هذا الموظف تخرج من مؤسسة فرنسية للتسيير، كان المدير نفسه قد تخرج منها في نفس العام. لم يكن يجهل هوية الجزائريين الذين درسوا معه وتخرجوا معه وحين فحص الشهادة وجد أنها مزورة بعناية فائقة. أخبر رجال الأمن الذين حققوا مع المعني بالأمر، واعترف بأن هذه الشهادة مزورة كما اعترف بهوية مزورها حمّاد الخطاط.

وحين ذهب رجال الأمن لتفتيش بيته وجدوه قد مات منذ سنة، ووجدوا عند تفتيش أوراقه أرشيفا كاملا يضم كشفا بالأوراق التي زورها مع وضع بطاقة على كل منها باسم من كلفه بها، وذكر التاريخ والمبلغ الذي تقاضاه عن كل وثيقة .

كان اكتشافا مدهشا بالنسبة إلى المحققين في دقة التزوير وفي وضع قائمة مفصلة بالمستفيدين منه، وكأنه كان يعلم أن الأمور لا بد أن تنكشف يوما ما، فلا يجوز الاعتماد على الذاكرة. ومن حسن حظه أنه مات قبل أن تكتشف إحدى وثائقه المزورة وتصل العدالة إليه .

كانت من ضمن الوثائق المزورة التي لفتت نظر المحققين رسالتان يعود عمرهما إلى ست وعشرين سنة إحداهما من الأخضر صلاح الدين إلى ليلى عمران يعلمها فيها بأنه في حل من وعده لها بالزواج بعد رفض أبيها له، وبأنه سيختفي من حياتها ويرجوها ألا تتعب نفسها بالبحث عنه. والثانية من ليلى عمران إلى الأخضر صلاح الدين تعلمه فيها أنها عدلت عن الزواج منه، وتطلب منه أن ينساها وألا يحاول الاتصال بها، وأن حبها له كان غلطة لا تريد الاستمرار فيها. ومن العجيب أن الرسالتين حملتا نفس التاريخ وكانت المفاجأة الكبرى أن من كلفه بها هو مصباح قلب الحديد. استنتج المحققون أن ليلى عمران هي زوجة مصباح حاليا واكتشفوا بعد بحث أن الأخضر صلاح الدين قد أودع السجن في ذلك التاريخ بعد مشاجرة وبلاغ ادعى عليه فيه أحدهم بأنه ضربه أمام أربعة شهود وحكم عليه بالسجن مدة ثلاثة أشهر سرح بعدها من وظيفته وغادر العاصمة بعد خروجه من السجن إلى جهة مجهولة. حولوا هذا الملف كباقي الملفات إلى القضاء.

-118-

حمل خلدون نسخة من جريدة العدالة وأرى مصباح الخبر الذي كتبته:

"علمت جريدة العدالة أن كراس المزور حمّاد الخطاط يتضمن رسالتين مزورتين كتبتا بتكليف من مصباح قلب الحديد الأولى باسم "الأخضر ص" موجهة إلى "ليلى ع" والثانية موجهة منها إلى الأخضر، وذلك للإيقاع بينهما ومنع زواجهما، وتعد جريدة العدالة قراءها بنشر الوثيقتين حالما تسمح الجهات القضائية بذلك".

علق مصباح وقد ظهر على وجهه القلق للمرة الأولى أمام خلدون:

" أصبح الأمر خطيرا. هل وجدتم شيئا عن القاضية التي تتولى التحقيق أو عائلتها؟"

-                       نعم يا سيدي. لقد بحثنا ووجدنا شيئا يمس عائلة القاضية بل يمسها شخصيا، ولكن ليس هناك دليل مادي بين أيدينا".

-                       ما هو ؟ أخبرني فقد يفيدنا ولو لم نجد الدليل.

-                       القاضية ابنة غير شرعية. كتبها زوج أمها باسمه بعد أن تزوجها. وحين مات زوج أمها بسرطان الكبد، اتصلت أخت الزوج بأحد المحامين لرفع دعوى تثبت أن الطفلة ليست ابنة الزوج فقد كان عقيما ويتعالج عند أحد الأطباء في وهران، وليس من حقها أن ترث. لم تصل الأمور إلى المحكمة لأنها سحبت الدعوى فجأة، ويبدو أن أخا الزوج الكبير القاضي عبد الحليم كامل قد تدخل وأرضى أخته بمبلغ كبير من المال لأنه يحب الطفلة ويعطف عليها.

-                        - هذا القاضي الغبي العنيد الذي لم تعلمه الحياة أن يكون مرنا. من حسن الحظ أنه متقاعد الآن. هل عرفتم اسم المحامي والطبيب؟

- نعم، كل شيء في هذا الملف، لكن المحامي لا يريد أن يذكر اسمه في هذا الموضوع لأن ذلك يؤثر على سمعته وهو قريب من التقاعد الآن. أما الطبيب فقد قتله الإرهابيون منذ سنوات، وممرضته خرفت ولم تعد تتذكر شيئا، ولا نعرف أين ذهب أرشيف العيادة.

- حاولوا الاتصال بأخت الزوج إذا.

- توفيت منذ سنتين بسرطان الكبد كأخيها.

- لا يهم ، مادام في الأمر شبهة فسنحاول استغلالها في الضغط على القاضية.

- هناك شيء هام نسيت أن أقوله. القاضية هي جارة سوسن في السكن.

- من سوسن؟

- سوسن ابنة عزوز.

- علينا أن نكون حريصين إذا.

- نعم ياسيدي، ويبدو أن القاضية لا تعرف شيئا عن الموضوع فأمها تحاول التستر على ماضيها.

- هذا أفضل. ارصد تحركات الأم لنتصل بها في البداية فإن لم نفلح فلا بد أن تعرف القاضية أنها ابنة حرام فلا ترفع أنفها على أحد، فلا يحق لابنة الخطيئة أن تحاكم الناس وتحصي عليهم أخطاءهم.

-119-

كان مصباح دائم التردد على المستشفى للاطمئنان على ليلى، ولم ينقطع عن زيارتها صباحا ومساء رغم المشاكل والأزمات التي بدأت تحيط به حتى أفاقت من الغيبوبة واستعادت وعيها. وحين انفجرت قضية الرسالتين المزورتين رفضت استقباله وأرسلت إليه تطلب الطلاق، فأرسل إليها مع محاميه موافقته واستعداده لتنفيذ الشروط التي تطلبها. ثم طلب زيارتها في المستشفى للمرة الأخيرة فوافقت على استقباله. أعطاها الرسالة التي تركتها لابنتها قبل أن تحاول الانتحار وقال لها:

"احتفظت بالرسالة حتى تتماثلي للشفاء وتعطيها الرسالة بنفسك إذا قررت ذلك. ولكن فكري جيدا فيما تقولينه لها وفي رد فعلها بعد كل هذه السنوات وفي تغيير سجل ميلادها. وإذا قررت ألا تخبريها فلن يتغير في الأمر شيء فقد كنت دائما أباها وأنا الذي ربيتها".

فكرت ليلى مليا في الموضوع. لقد ازدادت كرها لمصباح بعد أن اكتشفت تزويره للإيقاع بينها وبين حبيبها الأخضر، إلا أنها فكرت في مصلحة ابنتها. عرفت أن مصارحتها لها الآن بأن مصباح ليس أباها قد تفسد العلاقة بينهما لأنها كذبت عليها طيلة الوقت. ثم إن الأخضر لا يعرف شيئا عن ليندا، وهي لا تعرف شيئا عنه. من الأفضل إذا أن تبقى ليندا ابنة مصباح، وحتى من الناحية المادية فهي الوارثة الوحيدة لأبيها وحرمانها من هذه الثروة لن يكون في صالحها.

قررت ليلى إذا ألا تقول شيئا لابنتها عن هذا الموضوع، كما قررت ألا ترفع دعوى على مصباح في قضية التزوير. ولكنها لا بد أن تبحث عن الأخضر وتلتقي به.

-120-

تذكرت هدى وهي في طريقها إلى المستشفى آخر لقاء بينها وبين ليلى منذ سنين طويلة في معرض أحد الرسامين برواق عمر راسم. اقتربت منها ليلى وسلمت عليها فأشاحت هدى بوجهها عنها. قالت ليلى ببراءة: " أريد أن أفهم لماذا؟"

أجابتها بجفاء ممزوج بالدهشة: "عجيب أمرك. ضربني وبكى، وسبقني واشتكى. أنت التي تريدين أن تفهمي لماذا؟ ما أشد وقاحتك".

إنها تلوم نفسها الآن. لو استمعت إليها وسمعت منها في ذلك الوقت، لربما ما حدث كل ما حدث. ولكن كيف يمكن أن يخطر ببالها أن الرسالة التي تلقاها الأخضر منها مزورة، وأنها تلقت رسالة مزورة مثلها.

وبعد أن شمتت فيها عندما حاولت الانتحار رغم أنها لم تظهر الشماتة، واقتنعت بأن هذا جزاء عادل لها على ما اقترفته في حق أخيها وفي حقها، أدركت أنها كانت مثلهما مظلومة وتعيسة وسارعت إلى المستشفى تبكي أمامها وتقبل يدها وتعتذر إليها على سوء ظنها بها.

تعانقت الصديقتان طويلا وبكتا بحرارة وصدق حتى أبكتا الطبيب والممرضات. ردت الروح إلى ليلى باستعادة صديقتها وعودة الثقة إليها في حبيبها بعد سماع ما تعرض له من سجن وإهانة وطرد من الوظيفة. لكنها لم تصارح هدى بان ابنتها ليندا هي ابنة الأخضر. قررت من اجل مصلحة ابنتها واستقرارها النفسي ومن أجل مستقبلها أن تظل ابنة مصباح.

-121-

اتصلت هدى بأخيها صلاح الدين هاتفيا. شرحت له حالة ليلى، وأعلمته باكتشاف الرسالتين المزورتين فاستقل أول طائرة قادمة من تونس.

قالت له ليلى معاتبة: "هل تعلم أن لوحتك التي سميتها "الخائنة" كانت سببا رئيسيا في كرهي للحياة، فبعد أن شاهدتها عند الحلاقة قررت أن أغادر دنياكم إلى الأبد. كنت قاسيا علي وظلمتني".

ركع عند قدميها باكيا ومعتذرا بقوله: "من أين لي أن أعلم أنك بريئة. ظننت الرسالة بخط يدك. أنا مظلوم مثلك".

-                       نحن الاثنان مظلومان. من يتصور أن مصباح يصدر عنه كل هذا الشر؟

استعاد الحبيبان ذكرى الأيام الخوالي وقررا أن يفتحا صفحة جديدة في حياتهما.

-122-

انتهزت القاضية قضية فضيحة الرسالتين المزورتين واستدعت "حسن سلام" من السجن وبدأت استجوابه:

-                       منحك الله صورة جميلة، وأبوك سماك اسما حسنا واسم عائلتك بديع:" حسن سلام"، ولكنك تترك كل هذا وتسمي نفسك باسم حشرة قبيحة سامة. لماذا؟

-                       لأن العقرب مخيفة في الصحراء، وأردت أن يكون لي اسم مرعب.

-                       هل تقرأ الصحف في السجن؟

-                       نعم.

-                       علمت إذا بالرسالتين اللتين زورهما مصباح؟

-                       نعم.

-                       هذا وقت الكلام إن أردت ألا تتحمل التهم وحدك. مصباح لم يعد مخيفا وقد انتهى، فإما أن تتكلم الآن وإلا ضاعت الفرصة. سيحاسب مصباح على الرسالتين المزورتين وحدهما إن آثرت الصمت، أما أنت فسوف تحاسب على التجارة بالمخدرات والأسلحة ودعم الإرهاب والتفجير بقصد القتل. ماذا قلت؟

صمت العقرب برهة يفكر. أدرك أن مصباح لم يعد قادرا على حمايته، ولا على إيذائه. كان سكوته أملا في أن يساعده مصباح بما له من نفوذ، وخوفا من انتقامه إذا فتح فمه. لم يعد هناك مبرر للأمل أو الخوف ما دام مصباح نفسه قد سقط في أيدي العدالة. قالت القاضية: "نفد صبري، فإن لم تتكلم سأعيدك إلى السجن وأحيل القضية إلى محكمة الجنايات دون اتهام مصباح".

قال العقرب: "سأتكلم. فكرت كثيرا هذه الأيام في السجن فيما صنعته في حياتي، ووجدت أن الإنسان لا يصنع الشر وهو يدرك أنه وبال عليه وعلى الآخرين. يزيِّنُ الشيطان له فعل الشر فيرى فيه الخير كله لنفسه، ولا يفكر كثيرا في الآخرين فهو أولا وأخيرا مركز الكون. ومادام في هذا الفعل خير له فهو عمل مبرر حتى لو كان وبالا على الآخرين.

كان مصباح هو الشيطان الذي وسوس لي وأغراني حين بدأنا معا موظفين صغيرين في الجمارك بأن أشترك معه في مساعدة مهربي المخدرات. أقنعني أن التهريب سيتم بنا أو بغيرنا. وخير لنا أن نستفيد من هذه الفرصة الذهبية فنصعد في السلم الاجتماعي بدلا من أن نبقى موظفين صغيرين طيلة عمرنا. قال لي:

" نحن لا علاقة لنا بتهريب المخدرات. كل ما علينا أن نفعله أن نغض الطرف ونسهل العبور. فإن كشفت العملية تبرأنا منها، وساهمنا في فضحها، وإن تمت على ما يرام ارتقينا درجة في السلم المادي والاجتماعي فهما مترابطان".

سألت القاضية: "هل تعني أن مصباح مازال شريكك في تهريب المخدرات؟"

تنهد العقرب وقال: "لا. مصباح أقلع عن تهريب المخدرات منذ استقال من الجمارك، أي منذ أكثر من ثلاثين عاما."

-                       هل لديك دليل أو شهود على اشتغاله بالمخدرات في تلك الفترة؟

-                       مصباح لا يترك في أي عمل يقوم به دليلا يدينه.

-                       وهل لمصباح علاقة بتهريب الأسلحة؟

-                       ولا هذه أيضا.

قالت القاضية بحزم: " قلت إنك تريد أن تتكلم، وها أنت تحاول تبرئة مصباح من الاتجار بالمخدرات والأسلحة. ربما تدعي أنه بريء من حادثة تفجير سيارتي".

رد المتهم بأسى: "مع الأسف ياسيدتي. مصباح لا علاقة له بالتفجير".

علقت القاضية بسخرية: "عماذا تريد أن تتكلم إذا؟"

-                       سأتكلم عن تعاوني مع مصباح خلال هذه السنوات في أمور كثيرة. هو يلجأ إلي حين يريد أن يرهب أحدا أو يزيحه عن طريقه...

قاطعته القاضية: "بالقتل!"

-                       بل بالإرهاب والإقناع بالقوة.

بدأ العقرب يروي أمثلة كثيرة آخرها إثارته المصلين في مسجد بيعة الرضوان ضد رئيسة جمعية إغاثة الأمهات العزباوات.

سألته القاضية إن كان هناك شهود على تورطه في كل القضايا التي ذكرها. أجاب بأنه كان يتلقى رسالة بالهاتف المحمول ويقابله وحيدا في اليوم التالي. وحين سألته القاضية عن رقم الهاتف المحمول الذي يرسل منه مصباح رد بأن الهاتف يتغير كل مرة ولا يُستعملُ رقمٌ واحدٌ مرتين. أما الرسالة المرسلة فهي نفسها دائما: "الأسد يريد مقابلة الشبل".

اعترف العقرب بتورطه في تجارة المخدرات والأسلحة، وبأنه دس الأسلحة للمحامي بدر الدين لأنه كان يحقق في قضية سائق الشاحنة، وهو الذي حاول تفجير سيارتها لأنها بدأت كشف بعض رجاله ومنهم محمود الرواس. قال العقرب في ختام اعترافاته:

"أردت أن أقلد مصباح، وأن أنشئ امبراطورية كامبراطوريته. هو جمع حوله ثلة من علية القوم من كبار رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال وبعض الموظفين السامين. أما أنا فجمعت حولي حفنة من سفلة القوم من المهربين واللصوص والنصابين، أحميهم وأستخدمهم. لكن علية القوم لا تختلف كثيرا عن سفلة القوم إلا في أنها تتبع وسائل لا يطالها بها القانون. لم أكن أعتقد أني سأقع فقد كنت حاميا ومحميا. هو يحميني مع مجموعته وأنا أحميهم بخدماتي. وها أنا وقعت وهو لا يمكن أن يقع".

قالت له القاضية: "مصباح هو الشيطان الذي أغواك، ولو لم يكن بداخلك شيطان الطمع لما استمعت لغوايته. أنت الذي تتحمل مسؤولية عملك وحدك".

-123-

أدركت القاضية أنها لا تستطيع أن تأمر باعتقال مصباح في القضايا التي تحقق فيها. أما قضية تزوير الرسالتين فما زالت قيد إعداد الإجراءات لأنها مرتبطة بأشخاص كثيرين ورد ذكرهم في سجل حماد الخطاط. لكنها أرادت أن تنزع الهالة عن هذا الذي يرتكب الجرائم دون أن يترك دليلا ويوفر حماية لغيره من المجرمين. انتهزت فرصة إلحاح الصحفيين على معرفة قضية سجل حماد الخطاط واتفقت مع السيد وكيل الجمهورية على لقاء الصحفيين. سألها أحدهم عن تورط مصباح قلب الحديد في تزوير الرسالتين، فاعتذرت بأنها لا تستطيع الحديث عن هذا الموضوع الآن حتى ينتهي إعداد القوائم الواردة في سجل حماد الخطاط، ولكنها تستطيع أن تشير إلى تورط مصباح وتعاونه مع أحد الأشخاص ممّن تحقق معهم الآن في قضية تهريب المخدرات والأسلحة وأنها ستستدعيه مجددا للتحقيق وستقرر بناء على نتيجة التحقيق إن كان سيتحول إلى متهم في القضية.

-124-

خرجت الصحف في اليوم التالي تحمل تفاصيل الندوة التي عقدتها القاضية وأسماء المتهمين ومن بينهم العقرب والرواس واحتمال تورط مصباح، واعترف الرواس بأنه كان رجل العقرب الأمين ينفذ كل ما يطلبه منه دون نقاش، وهو على قناعة بأنه محمي من الكبار وأهمهم مصباح.

لأول مرة يرى خلدون مصباح وقد ثارت ثائرته وفقد هدوءه صارخا: "كيف تسمح هذه المرأة لنفسها أن تتهمني وتلوث سمعتي دون دليل؟"

قال خلدون: "لو نلقنها درسا ياسيدي، ندبر لها حادثا لا تنجو منه أبدا. عندي رجل ثقة يمكن أن يتكفل بالأمر".

كان مصباح يعرف أنه ليس هناك رجل ثقة، وبمجرد أن تفشل العملية سيعترف بمن كلفه بها. حتى العقرب كان يتعامل معه بحذر ويحسب حسابا لكل خطوة، فإذا فشل فيما كلفه به لا تستطيع العدالة الوصول إليه. زد على ذلك أنه لا يحب سفك الدماء.

أجاب: " أنت تعرف أنني لا أفعل شيئا يخالف القانون".

-125-

استدعت القاضية مصباح من جديد وتسرب خبر موعد وصوله إلى الصحافة فترصده الصحفيون وفاجؤوه حين نزل مع محاميه من السيارة، بالتقاط الصور وبالأسئلة التي رفض الرد عليها. جعلته القاضية ينتظر ساعة كاملة إمعانا في إهانته وحين استقبلته سألته عن الاشتراك بتهريب المخدرات حين كان جمركيا، وبالعمليات التي كان يكلف العقرب بها وسردتها له واحدة واحدة.

نظر إليها متأملا. إنها ليست من النوع الواقعي الذي يعرف حدوده فيقف عندها. هناك قضاة لا يمكن شراؤهم، ولكنهم يعرفون موازين القوى، ولا يلعبون مع الأقوياء، فلا يغامرون ولا يتورطون. خطورة هذه القاضية أنها من النوع الصلب الذي لا يأبه بموازين القوى، ولا يعرف قوانين اللعب مع الكبار. إنها تعتبر الناس كلهم سواسية وتتصرف معهم على هذا الأساس. لو كان أي قاض في مكانها لما استدعاني ولما وجه لي الاتهام، فليس هناك دليل ضدي. لكنها تريد إذلالي لأنها مقتنعة بإدانتي ولا تجد دليلا لإثباتها.

لا طريق إلى قلبها ولا إلى عقلها. لا يمكن استمالتها ولا إرهابها. إنها من النوع الذي إما أن يكسرك أو تكسره. إما أن يهزمك أو تهزمه. هي تفرض عليك قانونها في اللعب في مبارزة لا يمكن الاستسلام فيها، مبارزة حتى النهاية، وأحد الطرفين وحده الغالب والآخر ينتهي إلى الأبد.

كانت ابتسامته تخفي حقده الدفين عليها. قال في نفسه: "من أين خرجت لي هذه القاضية اللعينة. ماذا أفعل معها؟ إنها تلعب بالنار، ولا بد أن تحرق النار أحدنا. إنها تدفعني إلى ارتكاب ما لم أرتكبه من قبل". تمنى لو أن العقرب استطاع تفجير سيارتها ليتخلص منها ويرتاح من سمومها. أجابها بهدوء تحته غضب: "العقرب يكذب. لم أشترك معه في التهريب وسجلي في الجمارك نظيف يمكنك الاطلاع عليه".

قالت له القاضية في الختام: "سأحول الملف كله إلى محكمة الجنايات، وهي التي تفصل في الموضوع".

-126-

كتب الصحفيون في اليوم التالي أن مصباح متهم في قضايا المخدرات والاتجار بالأسلحة وأن ملفه حول مع باقي المتهمين إلى محكمة الجنايات. ولم تمض ساعات على الخبر حتى بدأت أسهم شركة مصباح بالنزول في سوق البورصة. قرر أن يشتري الأسهم المعروضة بكل ما لديه من سيولة في البنوك ليمنع انهيارها لكنه فوجئ بأن البنوك حجزت أمواله بحجة استرداد قروضها.

قال مصباح لخلدون: "اتصل بأعضاء مجلس الإدارة. أريدهم جميعا هنا في الساعة الخامسة".

دخل خلدون بعد ساعة إلى مكتب مصباح وبان في وجهه وفي تردده في الحديث أنه يحمل أنباء مزعجة. قال له مصباح: " لا تراوغ وقل ما عندك".

أعلم خلدون مصباح أنهم جميعا اعتذروا عن الحضور بأعذار مختلفة. وأن أخبارا وصلته أنهم طرحوا كل أسهمهم للبيع دفعة واحدة. صاح مصباح دون أن يضبط نفسه: "ياللكارثة! إنهم يعرضون المؤسسة للإفلاس". ثم تمالك نفسه وقال: "ماذا أصنع الآن؟ لو كان لدي سيولة لاشتريت أسهمهم كلها. ولكن أموالي محجوزة في البنوك".

أمسك السماعة وطلب السيد حسان العايد مدير البنك المختلط ووالد خطيب ابنته، ورجاه أن يقرضه مبلغا بصورة شخصية ليشتري الأسهم حتى لا تنزل قيمتها، ويتنازل له بالمقابل عن بعض الأسهم بثلاثة أرباع ثمنها، لكن المدير اعتذر بأن البنك يعاني صعوبات مالية. أعلمه خلدون أن قيمة الأسهم وصلت إلى النصف وفي آخر النهار وصلت إلى الربع ولا أحد يشتري. وفي اليوم التالي سرت إشاعة قوية أوردتها بعض الصحف بأن مصباح هرب أمواله إلى الخارج وأن إعلان إفلاس المؤسسة سيتم بعد أيام قليلة، فنزلت قيمة الأسهم إلى العشر. ساعتها قرر في نفسه أمرا وطلب من خلدون الاتصال بوهيبة.

-127-

كان مصباح يدرك أن القاضية لا يمكن أن تورطه في قضية المخدرات والأسلحة التي اتهم فيها العقرب والرواس. أما اشتراكه في تهريب المخدرات قبل ثلاثين عاما فليس لديها دليل ضده. ولو فرضنا أنها وجدت دليلا فالجرم يسقط بالتقادم، وكذلك الحال بالنسبة للرسالتين المزورتين، فالدعوى العمومية تتقادم في المواد الجنائية بانقضاء عشر سنوات على ارتكاب الجرم، ولا يمكن لأحد محاسبته على جرائم اقترفها قبل زواجه بليلى أي قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما.

أدرك بالمقابل أن القاضية تريد أن تسيء إلى سمعته وتهز صورته أمام الناس. إنها تريد أن تطاله الفضيحة ما دام القانون لا يطاله، والأخلاق عند الناس أهم من القانون. ونشر نص الرسالتين المزورتين وثبوت تورط مصباح في تزويرهما ضربة قاصمة له تعجل بالانهيار الكامل لحياته العائلية ومؤسسته ومستقبله. لذلك كان مصباح حريصا على منع نشر الرسالتين ومحو اسمه من دفتر حماد الخطاط بأي ثمن، وكان مستعدا من أجل ذلك لفعل أي شيء ما دامت هذه القضية أصبحت بالنسبة له قضية وجود؛ أن يكون أو لا يكون.  هو الآن يريد أن يرسل رسالة مع وهيبة وعلى ضوء جواب هذه الرسالة سيتصرف لينقذ سمعته ومؤسسته.

والسيدة وهيبة مثل العقرب ذات سوابق عدلية ولكنها متمرسة وخبيرة في شؤون الإجرام الذي لا يترك أدلة ولا بصمات. لا تلجأ أبدا للعنف، وأفراد طاقمها من ذوات العيون النجل والزرق اللواتي يقتلن ويحيين بنظرة أو همسة أو لمسة. وهي رسميا صاحبة محل ملابس وعطور ومتعهدة أفراح وعروض أزياء، تنفق بسخاء وتقبض بسخاء. ولا يريد مصباح هذه المرة تسليطها على أحد الرجال بل يريدها أن تبلغ السيدة فريدة أم القاضية أنيسة رسالة مختصرة، فإما أن تكبح جماح ابنتها وإما أن تعرض نفسها وابنتها إلى الفضيحة وعليها أن تختار.

كانت الجملة التي يكتبها خلدون في رسالة المحمول لوهيبة هي: "الأسد يريد لقاء اللبوة". وبالطبع لم يكن خلدون يعرف موعد اللقاء ومكانه.

كان مكان اللقاء شقة في الطابق الثاني في إحدى العمارات المبنية في حي ديار السعادة، حيث تصل وهيبة في الساعة التاسعة في اليوم التالي للاتصال وهي ترتدي الحايك وتحضر معها خادمتين لتنظيف المنزل. وتتلقى تعليمات مصباح ثم تنتظر أن تنهي الخادمتان عملهما في تنظيف المنزل. أعطى مصباح تعليماته لوهيبة وزودها بصورة عن تحركات السيدة فريدة الأسبوعية، فهي لا تخرج كثيرا من المنزل ولكنها تذهب أسبوعيا إلى الحمام في حي الشراقة الجديدة. ترك لها صورتها وحرية اختيار الطريقة التي تتصل فيها بها.

عرفت وهيبة أن السيدة فريدة تذهب إلى الحمام يوم الاثنين من كل أسبوع في الساعة الواحدة وتأتي ابنتها لتأخذها في الساعة الرابعة مساء فقررت أن تجتمع بها في الحمام .

وصلت وهيبة ومعها أربع صبايا إلى الحمام قبل وصول السيدة فريدة واحتلت مقصورة معهن في الداخل وطلبت من الكياستين أن تهتما بهن. مثلت إحداهن دور العروس. وحين وصلت السيدة فريدة ودخلت سمعت صوت الزغاريد. كانت الكياسة التي تعودت أن تتعامل معها مشغولة. جاءت إليها وهيبة وناولتها صرة مليئة بالحلوى، وقالت لها معتذرة: "اسمحي لي لقد أخذت الكياستين فلدينا عرس الليلة". كان هذا الكلام فاتحة للحديث ثم غيرت وهيبة لهجتها فجأة، وقالت:

"أريد أن أبلغك رسالة هامة من إنسان تهمه مصلحة ابنتك. إذا أردت أن لا تعرف ابنتك أباها الحقيقي، وأن تتجنبي الفضيحة لها ولك فحاولي إقناعها ألا تتصدى لمصباح قلب الحديد أو أن توجه إليه اتهاما من أي نوع وإلا ساءت العاقبة".

عادت وهيبة مسرعة إلى المقصورة التي حجزتها. لحقت بها السيدة فريدة بعد قليل وسألتها: "من أنت؟"

-                       أنا متعهدة أفراح وموردة عارضات أزياء وأنا مستعدة لخدمتك ياسيدتي.

ثم همست في أذنها: "أنا لا أعرف شيئا عن الموضوع، حملت رسالة وبلغتها لك".

قالت السيدة فريدة : "أريد أنا أراه".

- ترين من؟

- مصباح قلب الحديد صاحب الرسالة.

- ماذا قلت ياسيدتي ؟ مصباح قلب الحديد ! أنا لا أعرفه. حملت هذه الرسالة خدمة لإحدى زبوناتي. 

- وأنا أحملك جواب الرسالة. أبلغي زبونتك أني أريد أن أراه وليحدد المكان والزمان.

- سأبلغها بذلك، ولكن كيف أتصل بك لأبلغك الرد.

- سأكتب لك رقم هاتفي المحمول عند خروجي.

- "لا حاجة لذلك. أعطني الرقم الآن وأنا سأحفظه هنا"، وأشارت إلى رأسها.

-128-

أحس بدر الدين بأن القدر أحسن إليه بتعرضه للسجن لأن السجن جعله يلتقي بالمرأة التي طالما تمنى أن يلتقي بها مرة ثانية بعد لقائهما في القطار. ترى هل تتوق إليه كما يتوق إليها؟ وهل تحبه كما يحبها؟  

إن واجب التحفظ الذي تفرضه عليها مهنة القضاء يجعل من الصعب عليها أن تعبر عن مشاعرها كإنسانة. ماذا يفعل؟ لا بد أن يعرف شعورها نحوه. ليس هناك من يستطيع أن يوسطه ليكلمها. ماذا لو أرسل لها رسالة بالهاتف المحمول؟ فكرة صائبة عليه تنفيذها فورا. أمسك الهاتف وبدأت أصابعه تداعب حروفه:

"سيدتي القاضية

هل تقبلين الارتباط بسجين سابق، وتكونين أجمل وأرق سجانة يحلم بها سجين؟

إن كان الجواب بالنفي تقبلي اعتذاري الصادق على جرأتي، واعتبري الرسالة كأن لم تكن. وإن كان الجواب بالإيجاب سأكون أسعد سجين في العالم".

                                   التوقيع: بدر الدين

جاءه الرد فورا: "إذا كانت هذه رسالة غزل فالغزل غير مسموح قبل الخطبة، أما إذا كانت هذه خطبة رسمية، فالخطبة لها أصول يا ابن الأصول. كلمني مساء في العاشرة بالهاتف الثابت".                                التوقيع: أنيسة

طار فرحا بهذه الرسالة وعرف أنها وافقت على الزواج به، لكنه بدأ يقلق ويتوتر. ماذا يقول لها حين يكلمها؟ هذه هي القضية التي يرى نفسه عاجزا عن المرافعة فيها أمام القاضية. اعترف لأمه بحبه وروى لها قصته مع القاضية منذ التقيا في القطار. رحبت أمه بزواج ابنها بالقاضية التي أنصفته وبرأته. هي تعرف أنها نزيهة وأن سمعتها عطرة.

اعترفت أنيسة لأمها بأنها تحب هذا الرجل. سعدت أمها بهذا الخبر فالمحامي ابن نادية التي لن تنسى معروفها طيلة العمر. وتساءلت: "هل تعرفها بنفسها وتذكرها بما فعلت؟"

-129-

دقت الساعة العاشرة ليلا. كانت أصابع بدر الدين ترتجف وهو يلامس بسبابته رقم أنيسة. أمسك السماعة ومضت عدة ثوان أطول من الدقائق والهاتف يرن قبل أن يسمع صوتا رقيقا يقول: "أهلا. من على الهاتف؟"

- أنا بدر الدين ياسيدتي القاضية. لو تكرمت بإعطائي عنوان الدار...

قاطعه الصوت الأنثوي الرقيق بلهجة حازمة: "يمكنك أن تكلم القاضية في مكتبها غدا بمحكمة "سيدي محمد".

قال متلعثما وهو يظن أنه أخطأ في الرقم الذي طلبه: "آسف على الإزعاج. أليست هذه دار القاضية أنيسة كامل؟"

أجاب الصوت الأنثوي: "نعم وأنيسة هي التي تتكلم".

رُدَّتِ الروحُ إليه فقال متشجعا: "أنا بدر الدين. ألم تعرفيني؟"

أجابته بلهجة يختلط فيها المزاح بالجد: "عرفتك طبعا. إذا كنت تريد أنيسة فأنا هي، وإن كنت تريد القاضية قابلها غدا في مكتبها".

-  بل أريدك أنت.

أجابته بدلال: "لماذا تريدني؟"

- لأني...لأني...لأني أحبك.

- إذا كنت تحبني حقا نادني أنيسة. هل سمعت أحدا يقول لحبيبته: "سيدتي"، "ولو تكرمت"؟

- سامحيني. خفت أن تتهميني بقلة الأدب إذا ناديتك حبيبتي.

-  لا تنزعج فقد كنت أمازحك. أنت في غاية الأدب ولا أحد يمكنه قول غير ذلك ياحبيبي بدر.

- الله. الله. قوليها مرة ثانية أرجوك.

- لا تستعجل. سأقولها لك طيلة العمر ياحبيبي بدر.

- أريد منك العنوان لأحضر مع أمي لزيارتكم.

- اسأل أمك عن العنوان.

قال بدر الدين مندهشا: "أمي! كيف تعرف أمي العنوان؟"

- لأنها زارتنا قبل مدة لتتوسط لك، فهي كما علمت صديقة أمي.

- لم تقل لي ذلك، ولو سألتني لما سمحت لها.

- لا تنزعج فأنا رفضت وساطة أمي حين أخبرتني أن صديقتها نادية طيبة وابنها لا بد أن يكون بريئا.

- بماذا أجبتها؟

- أجبتها أن الورد قد يخلف شوكا، وأن الكرم ينتج خمرا، وأن الأدلة كلها ضدك.

- ومع ذلك استطعت إثبات براءتي. روى لي الكاتب وحارس السيارات تفاصيل استجوابك لهما.

- قلبي أقسم لي أنك بريء، لكن القاضية لا تحكم بقلبها بل بالأدلة. دعنا من هذا الآن وقل لي: "متى تأتيان لزيارتنا؟"

- أيناسبك يوم الخميس ياحبيبتي؟

- إلى الخميس إذا ياحبيبي.

-130-

اتصلت وهيبة بالسيدة فريدة بعد يومين وقالت لها:

"وصلتنا تشكيلة من أحداث الأزياء من باريس وروما وأرجو أن تشرفينا يا سيدتي لتطلعي عليها. اكتبي العنوان من فضلك وسأنتظرك في العاشرة".

حين وصلت السيدة فريدة إلى محل الأزياء استقبلتها وهيبة فسألتها: "أين هو؟"

-                       سنذهب إليه الآن.

خرجتا من المحل ودعتها إلى ركوب سيارة مرسيدس زرقاء كانت تنتظرهما. ركبت السيدة فريدة في المقعد الخلفي ولكن وهيبة لم تركب وقالت لها: "سيوصلك السائق إليه".

 لم يبد على وجه فريدة أي تعبير فسألتها: "هل أنت خائفة وتريدين أن أبقى معك؟"

-                       لا أبدا. 

انطلقت السيارة في اتجاه ديار السعادة ودخلت في حي شعبي وتوقفت أمام إحدى العمارات مما جعل السيدة فريدة ترتعد لمرآها. قال السائق: "وصلنا يا سيدتي". نزل السائق من السيارة وفتح لها الباب قائلا: "تفضلي ياسيدتي. ستصعدين إلى الطابق الثاني، الشقة التي على اليمين".

ترددت قليلا قبل أن تنزل فسألها: "هل تريدين أن أصعد معك ياسيدتي".

تشجعت ونزلت مجيبة: "لا أبدا". ولكنها قالت في نفسها: "ليته لم يختر هذا المكان". وتساءلت: "ترى أيعرف حقا من هو والد أنيسة؟"

لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الخيط العاشر: الحساب والعقاب

لقراءة الفصل السابق انقر هنا:الخيط الثامن: اعترافات محجوب

للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: القاضية والملياردير