الفصل الثامن

من رواية "القاضية والملياردير"

للكاتب عبد الله خمّار

الخيط الثامن: اعترافات محجوب

-97-

اليوم يوم خميس وقد جلست سوسن مع بابا عزوز وماما زهرا وخطيبها زهير في الصالون لتناول القهوة بعد صلاة العصر. قرع جرس الباب. فتحت سوسن الباب وإذا بشيخ هرم ابيضَّ شعر حاجبيه ولحيته التي تكسو معظم وجهه، وكذلك الشعر الظاهر تحت طاقيته البضاء، وقد انحنى على عكازة خشبية بلا لون. دل مظهره في سرواله وسترته العاصميين على البؤس أكثر مما دل على الفقر.

 نظر إليها بعينين رماديتين منطفئتين قائلا بصوت ضعيف متقطع أقرب إلى الهمس: "أريد رؤية الآنسة سوسن من فضلك؟"

قالت له بتلقائية وفضول لمعرفة ما يريد منها: "أنا سوسن".

نظر إليها مبديا إعجابه مرددا: "تبارك الله فيما خلق. كبرت ياسوسن. ألم تعرفيني يا ابنتي؟ أنا محجوب".

كان عزوز قد حضر بعد أن استبطأ سوسن وسمع اسم محجوب. قال له بجفاء: "ماذا تريد؟"

أجاب محجوب وهو يهز رأسه فترتجف كل عضلة في جسمه: "كل خير إن شاء الله".

لم تعرف سوسن "محجوب" لكنها حين سمعت اسمه ارتجفت لأنها تذكرت علجية وأنقذها حضور عزوز. قال له عزوز: "تفضل".

مشى ببطء وهو يتوكأ على عكازه ويرتجف وكأنه مصاب بـ"الباركنسون". أجلسه عزوز على الكنبة الكبيرة في الصالون وجلس بجانبه. بدا على زهير التوتر وكأنه فوجئ بمجيء محجوب فاستأذن بسرعة مديرا ظهره لمحجوب وخرج بسرعة. همت سوسن بالخروج معه فاستوقفها محجوب قائلا: "أريدك أن تجلسي وتسمعيني يا ابنتي". جلست سوسن في مواجهتهما على إحدى الكنبتين المفردتين وهي قلقة لتسمع ما يقول، بينما خرجت ماما زهرا لتوديع زهير ثم عادت إلى الصالون.

كان محجوب يتحدث ببطء وبصعوبة ظاهرة ويحاول أن يكون كلامه واضحا. قال محجوب:

" استدعتني أختي الحاجة حبيبة بعد أن اشتد عليها المرض، وأعلمتني أن الحاج شريف كان يضع لسوسن في الصندوق كل شهر منذ تبناها مبلغا من المال، وفي آخر السنة يضع لها مبلغا آخر من أرباحه في تجارة المواشي حتى بلغ ما وضعه في سنتين ما يقارب المليون دينار. وقد ظلت أختي بعد موته تضع لها مبلغا كل شهر وحين أحسست بـدنو الأجل أكملت المبلغ إلى مليوني دينار لتعينها على مواجهة الحياة في المستقبل. واشترى لها الحاج أيضا فيلا صغيرة في درارية وسجلها باسمها. رجتني أن أؤجرها وأنفق من أجرها على سوسن. قالت لي: "ما دمنا أنا والحاج قد تعهدنا بتربيتها ورعايتها ولم يسعفنا الأجل. أطلب منك يا أخي أن تهتم برعايتها وأن تسلم لها الدفتر والمجوهرات وعقد شراء الفيلا حين بلوغها وكأنها ابنتنا، ولا تجعل زوجتك تـقسو عليها. هل تعدني بذلك يا أخي؟"

أجبتها صادقا: "أعدك بذلك يا أختي".

ولكني، مع الأسف، لم أستطع أن أفِيَ بوعدي. سلمتني عقد شراء الفيلا، ودفتر توفير باسم سوسن فيه مبلغ مليوني دينار وطقما فيه عقد وسوار وخاتم من الذهب والماس وأوصتني أن أسلمها لها هدية منها يوم عرسها.

أعلمت زوجتي علجية بالأمر فلم تعلق، وبعد وفاة الحاجة أجرنا فيلا درارية دون عناء، وبالعملة الصعبة. وفي أحد الأيام قالت لي: "هات المجوهرات؟"

- أية مجوهرات ؟

- التي سلمتها لك أختك ؟

- أعطيتك كل المجوهرات بعد وفاتها.

- أقصد ما قالت لك أن تسلمه لسوسن.

- و لكنها أمانة.

- سأحتفظ لها بها فلا تخف. أنا مدعوة إلى عرس وأريد أن أتزين بها.

ولكنها تزينت بها واحتفظت بها ولم تعدها، ثم سألتني بعد أيام عن الدفتر وعن المبلغ الذي فيه. أجبتها: "فيه مليونا دينار وهبتها لها المرحومة".

- تعطيها مليوني دينار هبة وهي لقيطة! هذا لا يمكن أبدا .

- ولكن أختي حملتني أمانة وأقسمت أمامها أن أنفذ رغبتها.

غضبت وانفعلت وصرخت في وجهي: "سمعت ما قالته أختك ولكن ليس لها الحق في ذلك لأن هذا المال إرث لك ولا يحق لها التصرف فيه".

- هي وضعته في صندوق التوفير منذ ولادة الطفلة حتى الآن أي وهبتها هذا المبلغ والمجوهرات، وهي حرة في أموالها أثناء حياتها ولا علاقة لهذا بالإرث، ومن حقها أيضا أن توصي بمقدار الثلث من مالها وقد ورثنا منها مالا وعقارا يكفينا.

غيرت لهجتها وحاولت أن تقنعني بالحجة. قالت: "أنا أم أولادك، ولو لم تكن هذه الطفلة موجودة لكان هذا المبلغ والفيلا لأولادنا. إنها لقيطة لفظها أهلها فهل نكون أرحم من أمها وأبيها عليها؟ على كل حال ستعيش معنا ونطعمها ونسقيها ولن نعيدها إلى الملجأ تنفيذا لوصية أختك.

- والقسم الذي أقسمته أمام أختي؟

-ابتسمت في وجهي وأجابت: "صم ثلاثة أيام وينتهي الأمر".

نزلت عند رغبتها في البداية وأخذت الدفتر وتوجهت إلى صندوق التوفير ولكنهم أجابوني بأنه لا يحق إلا لمن ورد اسمها في الدفتر أن تسحبه.

- ولكنها انتقلت إلى رحمة الله ونحن ورثتها.

- هذا مال الطفلة ولا علاقة له بالإرث. وحين تبلغ سن الرشد يحق لها أن تسحب هذا المال مع الفوائد.

- و نحن نريد أن ننفق منه على الطفلة.

- في هذه الحالة، يجب أن تكون لديكم وصاية رسمية من المحكمة ليحق لكم التصرف في المال .

سألت محاميا أعرفه فقال لي:

"ربما لن تعطيكم المحكمة الوصاية حتى وإن كنتم تربون الطفلة، وتعين لها وصيا لا يسمح لكم بسحب المبلغ كله بل بالمبالغ التي تنفقونها عليها تدريجيا، ويخضع كل ذلك للتحقيق والتدقيق في معاملتكم لها، وفي التأكد من أن هذا المال ينفق على إطعامها وتعليمها".

 قررت بيني وبين نفسي أن أحافظ على هذا المال كما وعدت أختي، وأخبرت زوجتي بأن سحب المال غير ممكن حتى تبلغ الطفلة وتحصل على المال بنفسها. وأخبرتها بأن الحل أن نردها إلى مركز رعاية الأيتام مع الدفتر.

غضبت وصرخت وبكت وندبت حظها وقالت: "ستبقى هذه الطفلة معنا وتساعدني على الأقل كخادمة".

-                       لا يجوز لنا أن نستعملها كخادمة وهي في السنة الثانية في المدرسة.

ردت غاضبة: "لا تعلمني ما يجوز وما لا يجوز، أنا مسلمة ومؤمنة أكثر منك. والله قد خلق الناس درجات. هناك فتيات لهنَّ آباء وأمهات ويعمَلـْنَ خادمات. سنطعمها ونسقيها ونؤويها. ماذا تريد أكثر من ذلك؟ أما المدرسة فليست لأمثالها".

لم أستطع مناقشتها لأنها عنيدة ولا تنفذ إلا ما في رأسها ومخالفتها تزيد من غضبها ونكدها. ظلت سوسن عندنا ثلاث سنوات حتى بلغت سن العاشرة وهي تعمل خادمة من الصباح إلى المساء حتى أصبحت تعتمد عليها في أشغال البيت والمطبخ، وتعاملها وتقدمها للناس على أنها خادمة، حتى تدخل السيد مصباح وأخرجها من عندنا. غضبت زوجتي لأنها حرمت منها، وفي إحدى نوبات غضبها مزقت دفتر التوفير خوفا من أن تستلم سوسن المبلغ بعد بلوغها. ولكني جمعت مزق الدفتر من القمامة واحتفظت بها، ونسيت الموضوع بمرور السنوات وحين تذكرت، سألت عنها في مركز الرعاية فلم يعرف أحد عنوانها.

صمت قليلا ثم قال: "علجية الآن مريضة بالسرطان منذ مدة والأطباء يقولون إن أيامها في الحياة أصبحت معدودة. أعترف أن الطمع راودني مرارا في أن أستطيع إقناع المحكمة بالوصاية عليها لأحصل على المبلغ دون علم زوجتي، ولكن في تلك السنة ولدت لنا طفلة معاقة فعرفت أن تلك إشارة من السماء كعقاب لنا عما فعلناه بالطفلة. دعوت الله أن يشفي طفلتنا، وأقسمت أن أرد لسوسن حقوقها. غضبت زوجتي حين قلت لها ذلك وصرخت: "ماذا فعلنا حتى ينتقم الله منا ؟ والله لن أرد لها شيئا".

كان لدينا أربعة أطفال ولم نرزق بطفلة، واحتفظت زوجتي بالمجوهرات أملا في أن تنجب طفلة وقالت : "طفلتنا أولى بها".

وحين ولدت الطفلة لم تعش إلا شهورا ثم ماتت وحزنت عليها. وقد اختارها الله إلى جواره ليجنبها مشقة الإعاقة فقد ولدت بلا كفين وبلا قدمين. زوجتي الآن تعاني من مرض خطير. والولد الكبير في رعاية الأحداث، فقد أصبح مدمنا على المخدرات. زوجتي أحبت أن يقتسم الأولاد إيراد الفيلا من العملة الصعبة فأفسدتهم وعودتهم على الجشع والطمع بدل العمل والجد. أرجو أن تستردي أمانتك وتدعي لزوجتي المريضة وولدي السجين وتسامحينا". ثم أخرج من الكيس الذي يحمله علبة مجوهرات أخذتها سوسن منه ووضعتها في حجرها دون أن تفتحها. ثم ناولها دفتر التوفير قائلا: " كنت أنوي المجيء في رمضان. ذهبت قبل عشرة أيام إلى مكتب صندوق التوفير والاحتياط، وطلبت منهم تبديل الدفتر لكنهم أعطوني موعدا لاستلامه بعد العيد. ساعدني الشاب الذي كان عندكم هنا. يبدو أنه لم يعرفني فخرج دون أن يسلم علي".

سألت سوسن مندهشة: زهير!

رد محجوب: "نعم أعتقد ذلك. قال إنه دكتور في القانون. كان بجانبي حين طلبت تغيير الدفتر من الموظف وشرحت له أننا نريد أن نسلمك أمانتك. فهمت الآن أنه اهتم بالأمر لأنه يعرفكم. أريته عقد شراء الفيلا فقال إنه سليم ومسجل. وأخبرني أن الفيلا الآن تساوي مليارين، وأن صاحبتها أصبحت من الأثرياء. الفيلا فارغة الآن وهي في حالة جيدة".

قالت سوسن في سرها: "وأنا الآن فهمت لماذا لم يعد يهمه أن أكون مجهولة النسب. نسب المال في هذا العصر هو أعلى نسب. صدق حدسي ما هو إلا انتهازي رخيص. خرج بسرعة وهو يظن أن محجوب لم يعرفه وأن لعبته لم تنكشف".

-98-

ران الصمت برهة على الجلسة قطعه محجوب بقوله:

"أرجو أن تسامحيها وتدعي لها بالشفاء، وأن تسامحيني أنا أيضا لأني خنت الأمانة".

-                       هل هي التي طلبت أن أسامحها؟

تردد محجوب قليلا وتلعثم ثم أجاب: " لا. هناك أناس لا يندمون على ما فعلوه ولا يعترفون بأخطائهم مهما حصل، وعلجية من هؤلاء. هي تظن أنها المظلومة الوحيدة في الحياة وأن حظها عاثر، وتعتقد أن رأيها صائب دائما وكل الناس مخطئون".

تذكرت سوسن معاملة علجية لها وكيف كانت تضربها أحيانا وتهينها وتدعوها باللقيطة وبنت الحرام. سألته ثانية: "هل عرفت أنك ستحضر لي الدفتر والمجوهرات؟"

تردد مرة أخرى ثم هز رأسه بالنفي.

-                       وإذا سألتك عنهما فيما بعد؟

-                       إذا شفيت من مرضها وسألت سأخبرها بالحقيقة واخبرها بأن الله شفاها لأنك دعوت لها بعد أن عادت أمانتك إليك، وإن لم تشف فلن تسأل عن شيء.

-                       يشهد الله أنني سامحتك وسامحتها، وأرجو أن يمحو الله من قلبي الكره الفظيع الذي أحمله لها.

عقب محجوب: "ولي أيضا".

-                       لا، لم أحمل لك الكره أبدا. كنت أشعر دائما بحنانك وعطفك علي وأنك غير راض عن تصرفاتها. أذكر أنك كنت تعطيني الحلوى والفاكهة خفية عنها. لن أنسى ذلك أبدا.

ثم سألت: "كيف حال أبنائك؟"

-                       لم ينجح منهم أحد مع الأسف، الكبير في السجن، والصغير رحمه الله مات مع أربعة من زملائه في القارب الذي كان يحملهم إلى إيطاليا.

-99-

كانت ليلى عمران في صالون"زهرة العاصمة" جالسة على كرسي الحلاقة ومصففة الشعر الشابة تجفف شعرها وتصففه حين قالت إحدى الزبونات: "انظرن إلى هذا الخبر. لأول مرة تباع لوحة جزائرية بمزاد في نيويورك بخمسين ألف دولار. إنها لوحة بعنوان الخائنة واللوحة مرسومة في هذه المجلة".

سألت مصففة الشعر: "من صاحب اللوحة"؟

-                       إنه رسام غير معروف يعيش في تونس ويعمل مدرسا للفنون الجميلة، ولكن هذه اللوحة شهرته. اسمه الأخضر صلاح الدين.

 أحست ليلى برعشة لسماع هذا الاسم. قالت إحدى الزبونات: "أرني. إن اسمها "الخائنة". انظري. هي تمثل امرأة  في مقهى تجالس شابا يمسك بيدها ولكنها تغمز بعينها شابا آخر على الطاولة المجاورة.

-                       غريب. ما الذي يجعل هذه اللوحة تباع بخمسين ألف دولار؟

أجابتها إحدى الزبونات: "الصدق، لا بد أن الفنان رسمها بقلبه ودمه وليس بريشته".

علقت الأخرى: "صدقت. قال الرسام عن اللوحة بأنها تمثل جرحا كبيرا في حياته لأن صاحبة الصورة خانته وحطمت أحلامه".

-                       على كل حال، أصبح اليوم بفضلها غنيا.

-                       لا، أبدا . اللوحة بيعت منذ خمس وعشرين سنة بألف دينار لأن الرسام كان بحاجة إلى المال بعد أن طرد من عمله.

أمسكت مصففة الشعر المجلة ونظرت إلى اللوحة ثم أرتها لزبونتها السيدة ليلى قائلة: "لوحة جميلة، لكن خمسين ألف دولار مبلغ كبير".

ألقت ليلى نظرة على اللوحة فصعقت، وكادت تفقد توازنها وتقع من كرسي الحلاقة. حاولت أن تستجمع قوتها وثبتت نفسها على الكرسي إلا أن التوتر كان ظاهرا عليها. كانت الفتاة المرسومة في اللوحة تمثلها قبل ست وعشرين سنة. سألتها الحلاقة: "ما بك؟ هل أنت مريضة؟"

لم تجب ليلى لأنها لم تعد تسمع شيئا وسرحت بذهنها إلى ما قبل ست وعشرين  سنة، وقالت في نفسها:

" كيف تبلغ به السفالة أن يصفها بالخائنة وهو الخائن؟ وأن يدعي بأنها حطمت أحلامه وهو الذي حطم أحلامها وتخلى عنها وعن ابنته؟ استعادت حوار الزبونتين عن اللوحة حين سألت الأولى: "ما الذي يجعل هذه اللوحة تباع بخمسين ألف دولار؟"

أجابتها الأخرى: "الصدق، لا بد أن الفنان رسمها بقلبه ودمه وليس بريشته".

وتساءلت في غيظ ومرارة وحسرة: "إلى هذا الحد يبلغ الزيف حتى في الفن؟"

كانت ليلى في غاية التوتر حين وصلت إلى المنزل وقابلها سامر خطيب ابنتها شاكيا بأنها تتهرب منه، وهو متمسك بها لأنه يحبها وحين عادت ابنتها اصطدمت معها.

-100-

قالت ليلى لابنتها وهي تحضر مائدة العشاء قبل أن يصل مصباح: "أين كنت؟"

أجابت ليندا بلهجة جافة: "كنت مع صديقاتي نتنزه".

قالت الأم وقد تركت ترتيب المائدة معاتبة: "إلى متى تعيشين حالة الاستهتار واللامسؤولية يا ابنتي؟ خطيبك سامر يشتكي بأنك لا تعطينه فرصة للخروج معك".

صرخت ليندا بغضب: "لا أريد أن أخرج معه".

تحول الحوار بين الاثنتين، وهما واقفتان، إلى جدال صاخب بدأت حدة الصوت تعلو فيه شيئا فشيئا:

-                       هذا ثالث خطيب تقبلين به ثم تتهربين منه، إنه يحبك.

-                       وأنا لا أحبه.

-                       لماذا وافقت على خطبته إذن؟

-                       الخطبة شيء والحب شيء آخر.

-                       لكن الخطبة تعني الارتباط والزواج فيما بعد.

-                       أعرف ذلك ولا تقلقي فسأتزوجه وإن كنت لا أطيقه.

-                       كيف تتزوجينه إذا كنت لا تحبينه؟

بدأت ليندا تكلم أمها بسخرية: "هل تريدين أن أحب رجلا ربما يتخلى عني كما تخلى عنك الرجل الذي كنت تحبينه؟"

عجبت الأم من لهجة ابنتها فقالت معاتبة: "ما هذا الكلام؟ هل يليق أن تكلمي أمك بهذه الطريقة؟"

كان رد الفتاة جارحا: "وهل يليق أن تتزوجي أنت رجلا لا تحبينه وتنجبي منه؟ أنت سبب تعاستي وعقدي".

تساءلت الأم في دهشة: "أنا؟"

تحولت الفتاة فجأة إلى نمرة تكشر عن أنيابها وتهاجم فريستها. تقدمت إلى الأمام وقد نضج لون وجهها كما تنضج الطماطم، وتطاير الشرر من عينيها المتقدتين، وصرخت بأعلى صوتها: "نعم أنت. أنسيت أنني سمعتك بأذني هاتين تقولين لأبي إنك تكرهينني؟"

تراجعت الأم خطوتين وأجابت في لهجة أسى منكسرة وصادقة: "أقسمت لك مرارا بأنني قلت هذا لأغيظ أباك فقط، لماذا لا تصدقينني؟ كنت أعتقد أنك مبرر وجودي الوحيد، واكتشف الآن أنه لم يعد هناك معنى لوجودي مادمت أسبب لك التعاسة".

علقت ليندا بسخرية: "وماذا ستفعلين؟ هل ستختفين من حياتنا وتذهبين إلى حبك القديم؟"

لم تعد الأم تستطيع الوقوف فتهالكت على كرسي من كراسي المائدة مرددة بلهجة يائسة: "لا فائدة من النقاش معك، لماذا تكرهينني هكذا؟ ليتني أموت فأستريح".

أجابتها ليندا بلا مبالاة: "كل مرة تكررين مثل هذا الكلام حتى مللناه. إذا كان الموت يريحك فلا أحد يمنعك من ذلك".

لم تعلق الأم لكنها نهضت متثاقلة وانسحبت إلى غرفتها.

-101-

قال مصباح لابنته حين لم يجد ليلى على مائدة العشاء: "أين أمك؟ لماذا لم تأت حتى الآن؟ ليس من عادتها أن تتأخر عن موعد العشاء".

أجابته باستخفاف: "لا أدري".

-                       اذهبي لتريها. ربما تكون مريضة.

-                       ليست مريضة ولكني تخاصمت معها، لتذهب زليخة إليها.

نهض مصباح وصعد إلى غرفتها فوجدها مستغرقة في نوم عميق وبجانبها علبة الحبوب المنومة فارغة، وورقة كتبت عليها:

"حبيبتي ليندا:

كنت أتحمل تعاستي من أجلك، وحين عرفت بأنني سبب تعاستك قررت أن أرحل. سامحيني يا ابنتي فقد فعلت ما في وسعي من أجلك ولكنني فشلت. اعتني بنفسك، أسعدك الله.

لأول مرة أكشف هذا السر أمام أحد ولا يعرفه إلا طبيبي الذي ساعدني على كتمانه وها أنا أكشفه لك قبل أن أموت لتتأكدي من حبي لك.

كنت حاملا بك حين اضطررت إلى الزواج من مصباح بعد أن تخلى عني الرجل الذي أحببته وتعاهدنا على أن نواجه الحياة معا. اتفقت معه على الزواج رغم أن أبي رفضه ولكنه أرسل لي رسالة يقطع فيها كل ما كان بيننا. لم يكن يعرف أنني حامل وحاولت الاتصال به، لكنه اختفى ولم أجد له أثرا. لم أصارح مصباح بأنك لست ابنته كي لا أحرمك من عطف الأب ورعايته وأقنعته مع الطبيب بأنك "سبيعية" ولكنه كان يشك دوما في ذلك. وحين سمعتني أقول له بأني أكرهها لأنها ابنتك، لم أقصد أن أغيظه بقدر ما أردت أن أقنعه بأنك ابنته فعلا. كان من الممكن أن يبقى هذا الأمر سرا لو أنك لم تسمعي ما دار بيننا من حديث. من الأفضل أن تعرفي أن أمك تحبك وأن أباك لم يتخل عنك لأنه لا يعرف بوجودك أصلا".

                                       أمك التي أحبتك دائما

وجد مصباح الرسالة فدسها في جيبه كي يقرأها فيما بعد، واهتم بإسعاف ليلى. قال لابنته بعد أن كلم الإسعاف: "أمك حاولت الانتحار"، هزت كتفيها بلا مبالاة وأجابت: " إنها تمثيلية فلا تأخذها مأخذ الجد".

لأول مرة يغضب مصباح ويصفع ابنته على وجهها صارخا: "أقول لك إن أمك حاولت الانتحار وهي في خطر. ألا تفهمين؟ "

دهشت الفتاة من تصرف أبيها، لكن هذه الصفعة هزتها هزا عنيفا، وأيقظتها من طيشها واستهتارها.

-102-

لم تكن تدرك أنها تحب أمها كل هذا الحب وتخاف عليها. أخذ قلبها يضرب بعنف. ركضت إلى غرفة نومها فوجدت أمها مستلقية. أخذت تصرخ وتنادي: "أمي أمي سامحيني.. لم أكن اقصد. لم أكن أعرف، أنا السبب أنا السبب".

نقلت ليلى إلى المستشفى الخاص القريب من الفيلا وبدأ الدكتور رياض محمد أمين إسعافها ومحاولة إيقاظها. لكنها دخلت في غيبوبة، ولم يكن بمقدور أحد أن يعرف إن كانت ستستيقظ منها أم لا.

منذ ذلك اليوم تغير سلوك ليندا واختفت ابتسامة السخرية من وجهها وحلت محلها علائم الجد. لم تعد تهزأ بأحد وافتقدت صديقاتها تعليقاتها اللاذعة بل افتقدن وجودها معهن لأنها لم تعد تخرج إلا لماما وتحت إلحاح صديقتها الوفية فاتن لتسري عنها. صارحت خطيبها سامر بأنها لا يمكنها الارتباط به، ولا تريد أن تغشه، ومن الأفضل أن يفسخا الخطوبة بصورة ودية. لم يهضم أبوه حسان العايد ما حدث، ولام ابنه على إضاعة هذه الفرصة في مصاهرة مصباح.

-103-

لم تكن المرة الأولى التي تمر فيها ليلى بنوبات اكتئاب تسبب لها هبوطا في المزاج، وتثبيطا للمعنويات، وقلقا مستمرا، وخوفا من المستقبل، مصحوبة بصداع عنيف ودوار وتعرق. كانت معتادة على هذه النوبات التي أصبحت ملازمة لحياتها نظرا للفراغ الذي تعيشه والهوة التي تفصل بينها وبين زوجها وتمرد ابنتها الدائم عليها وانتقادها لها. ولم تفلح القصور والملابس الفاخرة والسفر والإقامة في الفنادق الكبيرة وهدايا الذهب التي يقدمها لها زوجها في المناسبات وتأتيها من أصدقاء زوجها وعملائه في الحد من هذه النوبات.

لكن النوبة هذه المرة كانت أشد وقعا عليها فقد أصبحت تحس إلى جانب الكآبة بدوار وغثيان وتسارع في ضربات القلب وزغللة في العينين وتنميل في القدمين وسرعة الانفعال والعصبية وسخونة في الجسم. ربط الطبيب ذلك بسن انقطاع الدورات الشهرية وما يسميه بعضهم بسن النضج أو الحكمة بدلا من الاصطلاح الذي يدعو إلى الكآبة وهو سن اليأس . كانت تمر بمرحلة عصيبة ولم يكن أحد يقدر ما تعانيه. وقد كثرت المشاحنات بينها وبين ابنتها في هذه الفترة، وكان انتقاد ابنتها الحاد لها وتمردها عليها يزيد من كآبتها. وحين دخلت إلى غرفتها بعد آخر شجار مع ابنتها أرخت العنان لدموعها، لكن هذه الدموع لم تستطع أن تغسل همومها. تذكرت فجأة حبيبها وأبو ابنتها الأخضر صلاح الدين الذي أحبته بإخلاص فغدر بها بعد أن تعاهدا على الزواج رغم رفض أبيها. لكنه تخلى عنها وتركها ولم يعرف أنها حامل بابنته. اضطرت إلى الزواج من مصباح وأخفت عنه حملها. وحين ولدت ليندا بعد سبعة أشهر أقنعته بالاتفاق مع طبيبها بأن البنت "سبيعية" ولكنه ظل يشك في الأمر. هي لم تصارح زوجها حفاظا على ابنتها وليكون مصباح لها أبا بدلا من والدها الذي تخلى عنها.

كانت كل يوم تزداد إحساسا بالعزلة والوحدة. انقطعت الخيوط التي كانت تربطها بهذا العالم وتجعل الحياة ممكنة. انقطعت خيوط القرابة والحب والصداقة . كان الخيط الذي يربطها بأبيها بعد وفاة أمها واهيا بعد أن رفض تزويجها ممن تحب وسلمها لهذا الرجل. وظل هذا الخيط يضعف ويضعف حتى أصبح أوهى من خيط العنكبوت ثم انقطع فجأة بعد أن تزوج أبوها بفتاة في مثل سنها، فأنسته حتى أن يسأل عنها أو يزورها في المناسبات. وانقطع الخيط الذي يربطها بحبيبها بعد أن تمسكت به وظنته أقوى الخيوط فإذا به يخونها ويتخلى عنها حين كانت حاملا بابنتها، واكتشفت أن خيط الحب أوهى الخيوط. وكان الخيط الذي يربطها بزوجها ممزقا منذ البداية لأنه تزوجها زواج مصلحة، وأهملها بعد الزواج لشكه في أن ليندا ليست ابنته، بل ابنة حبيب زوجته الأخضر صلاح الدين، لأنها ولدت بعد سبعة أشهر من زواجه منها.

كانت ليلى تكرهه منذ البداية وحين قبلت الزواج به لم يحاول من جانبه أن يتقرب منها ويكسب قلبها. تعمق كرهها له، لذلك كانت كلما حملت منه يحدث لها نزيف في الشهرين الأولين فيسقط الحمل. حدث ذلك ثلاث مرات، ولم يجد الطبيب سببا عضويا للنزيف فأدرك أنه نفسي لأنها في داخلها لا تريد الحمل من هذا الرجل. ولكنها حملت مرة رابعة وولدت طفلا معاقا ومشوها عاش شهرا واحدا ونصحها الطبيب فيما بعد بتناول حبوب منع الحمل بانتظام كي لا تحمل وتنزف من جديد وتعرض حياتها للخطر، إذ يبدو أنها لا تستطيع إنجاب طفل سليم من هذا الرجل دون وجود سبب علمي واضح يمنع ذلك.

وانقطع الخيط الذي يربطها بصديقتها الحميمة هدى أخت صلاح الدين التي بحثت عنها بعد اختفاء أخيها فلم تجدها. وحين التقت بها بعد سنوات في أحد معارض الفنون التشكيلية، وبختها وعنفتها ورفضت الاستماع إليها، ربما لأن أخاها كذب عليها فوقفت في صفه وهو ظالم. وانقطعت شيئا فشيئا الخيوط التي تربطها بزميلاتها في الجامعة بعد زواج كل منهن ورفض زوجها مصباح أن يقيم علاقة مع أزواجهن. بقي الخيط الوحيد الذي يربطها بابنتها والذي انقطع اليوم .

مسحت دموعها وبدا لها من نتيجة حساباتها أنها خاسرة على كل الأصعدة. وحتى ابنتها التي كانت تظن أنها تعيش من أجلها لا تريدها. اسودت الدنيا في عينيها فأمسكت دفتر الرسائل وقطعت منه ورقة بعصبية كتبت عليها رسالة وداع لابنتها ثم نظرت إلى صورة أمها المعلقة في الغرفة وتذكرت كيف أنها نصحتها ألا تتزوج مصباح إن كانت لا تحبه. وحين علمت أنها حامل لم تعنفها ولم تزجرها بل تعهدت بأن تساعدها وتجد لها حلا للمشكلة، لكنها أصرت على الزواج بعد أن تخلى عنها خطيبها. ساعتها قالت لها أمها:

" عليك أن تعرفي أن هذا الرجل هو نصيبك من الدنيا وعليك أن تقبلي به إلى الأبد. لقد اخترته بحرية وعليك أن تتحملي نتيجة الاختيار".

لكنها لم تستطع أن تحب مصباح ولم يساعدها هو على ذلك. كانت السيدة منيرة أم ليلى تمتص صدمات ابنتها وتصغي بسعة صدر لشكواها المستمرة وتواسيها وتحضها على الصبر وعدم التفكير في الطلاق، وتمنيها بأن الأمور لا بد أن تتحسن فيما بعد. كانت امرأة ذات شخصية جذابة، قوية الشكيمة ومع ذلك فهي هادئة ومتسامحة وعطوفة على كل من حولها. تأثرت بأبيها وأمها وورثت عنهما حس الاستماع إلى الناس والقدرة على التقريب بينهم وحل مشاكلهم وفهم طبيعة العلاقات الإنسانية. كان أبوها وجيها في حي القصبة يصلح بين الرجال والرجال وكانت أمها تشاركه في الإصلاح بين النساء والتوفيق بين العائلات. وساعدعا تكوينها كأستاذة في مادة التاريخ في تعميق إحساسها بحب الناس وميلها إلى التسامح وغفران أخطائهم وهفواتهم. ولطالما غفرت لزوجها علاقاته النسائية المتعددة وتغاضت عن أخطائه ولم تحدث القطيعة معه. 

وحين ماتت بسرطان الكبد لم تجد ليلى من تشكو إليه همومها. وإن وجدت لم تلق من يحضها على الصبر من أجل ابنتها بل يقال لها: "فكري في نفسك واطلبي الطلاق"، ولكن ماذا تفعل بالطلاق الآن بعد أن أصبحت حياتها فراغا قاتلا؟ لم تجد حلا سوى أن تذهب إلى أمها فهي الوحيدة التي تفهمها وتساعدها.

قالت ليلى وهي تحمل صورة أمها وتخاطبها بأسى:

"سامحيني يا أمي فلم أستطع أن أكون في صبرك وقوة احتمالك. أنا ضعيفة وفاشلة، حياتي كلها سلسلة من الإخفاقات. نصحتني ألا أتزوج من مصباح إن كنت لا أحبه، ولكنني تزوجته نكاية بمن تخلى عني ونكاية في نفسي. كنت أظن أنني سأوفر على الأقل حياة سعيدة وهانئة لطفلتي ولكنني كنت مخطئة فلم أستطع أن أحقق لها ذلك فابنتي تكرهني وتسخر مني. وحتى من تخلى عني وخانني وسبب تعاستي يلوث الآن سمعتي ويتهمني بالخيانة على صفحات الجرائد والمجلات. اشتقت إليك يا أمي، أنا بحاجة ماسة إليك وإلى حبك وحنانك، لم أعد أحتمل المكوث هنا فلا أحد يحبني ولا أحد يحتاج إلي. سآتي إليك لتمسحي دموعي كما كنت تفعلين دائما". أمسكت علبة المنوم وابتلعت ما فيها مع بضع جرعات من الماء وأضافت:

" ها أنذا آتية إليك يا أمي فضميني إلى صدرك".     

 ثم تناولت الحبوب المنومة فابتلعتها مع الماء.

-104-

بكت ليندا على أمها بكاء حارا. طمأنها الطبيب بأنها ربما تستيقظ من غيبوبتها في أي لحظة وأن ذلك متوقف على رغبتها في الحياة. سألها متعجبا: "كيف يكون لها ابنة مثلك ملهوفة وقلقة عليها إلى هذا الحد وتحاول الانتحار؟"

أجابته بصوت منخفض وقد نكست رأسها: "أنا السبب. لن أسامح نفسي على ما فعلت". ثم رفعت رأسها وأضافت سائلة: "هل تعتقد أنها تحتاج إلى طبيب نفسي حين تفيق من الغيبوبة؟"

-                       لا أعرف ما حدث بالضبط حتى أحكم. المهم الآن أن تستيقظ وتسترجع صحتها، وبعدئذ سوف نرى.

قالت له بلهجة توسل واستعطاف، وعيناها مليئتان بالدموع: "لو منحتني نصف ساعة من وقتك لأخبرتك بما حدث بالضبط".

أجابها مرحّبا: "طبعا. تعالي إلى مكتبي".

-105-

جلست ليندا على أحد الكرسيين الحديديين المغلفين بالجلد المجاورين لطاولة المكتب الحديدية الأنيقة التي جلس وراءها الدكتور رياض على كرسيه الدوار. فتح برادا صغيرا على يساره وأخرج منه زجاجة عصير برتقال، ثم فتح الخزانة الحديدية على يمينه وتناول منها كأسين. لاحظت ليندا أن الخزانة تحتوي على أدوات طبية وكتب وثياب.

 مسحت ليندا دموعها بمنديلها وشربت قليلا من كأس العصير، لكنها لم تستطع الكلام فدعاها رياض للتمدد على الأريكة الجلدية الطويلة المعدة لفحص المرضى، وطلب منها أن تسترخي وتغمض عينيها وتتحدث. نظرت ليندا قبل أن تغمض عينيها إلى جدران الغرفة الصغيرة المدهونة باللون الأزرق الفاتح لون كل غرف المستشفى وأروقته وأثاثه، وأحست بالراحة لأنها تحب هذا اللون. أغمضت عينيها وبدأت بالحديث:

"لم أكتشف أني أحبها كل هذا الحب، ولا أستطيع الحياة بدونها. يبدو أن كل مناكفاتي معها كانت دلالاً، لكنها ظنت أني أكرهها لأني قلت لها كلاما نابيا".

روت ليندا له مشاحناتها مع أمها، وحدثته عن الجفاء الذي بين أبيها وأمها وعن لجوئها دوما إلى مرسمها، وما حدث بالضبط قبل أن تدخل إلى غرفتها وتحاول الانتحار. صمتت قليلا ثم نهضت فجأة وانفجرت بالبكاء وهي تردد كأنها محمومة تهذي: "أنا السبب، أنا السبب، أنا السبب".

ربت الطبيب على كتفها قائلا: "اهدئي ياآنسة ولا تشعري بالذنب فستكون أمك بخير. أخذ بيدها وقادها إلى الكرسي وساعدها على الجلوس، وجلس على الكرسي المقابل ثم أضاف: "ليست أمك بحاجة إلى طبيب نفسي. يكفي أن تظهري لها الحب الذي عبرت عنه الآن، وتعيدي عليها، حتى وهي في الغيبوبة، ما قلته لي بأن مناكفاتك كانت دلالا عليها وليس كرها لها. أنت الوحيدة التي تستطيعين أن تخرجيها من أزمتها وتعيدين لها الرغبة في الحياة.

نظرت إليه بعينيها الزرقاوين نظرة عرفان قائلة: "شكرا لأنك استمعت إلي".

أجابها بصورة آلية: "هذا واجبي". وأضاف بلهجة ود صادقة فاجأته قبل أن تفاجئها: "ليندا، أنا في الخدمة دائما متى احتجت إلي".

-106-

قال الممرض للدكتور رياض:

" كثرت حالات الانتحار هذه الأيام بصورة غير معقولة، لكن ما يحيرني أن تحاول الانتحار زوجة أحد كبار الأثرياء في البلد، مع أنه لا ينقصها شيء من المتطلبات المادية".

أجابه رياض: "الانتحار لا علاقة له بالغنى والفقر، له علاقة بالتعاسة. حين يحس الإنسان أنه فشل في تحقيق آماله وأحلامه يصاب باليأس الذي يؤدي إلى الانتحار. صحيح أن الفقر يشكل نسبة كبيرة من أسباب التعاسة لكنه ليس السبب الأساسي في الانتحار.

-107-

 انتهزت السيدة هدى فرصة زيارة المحامي بدر الدين عبد السلام لها في مكتبها لشكرها على موقفها منه أثناء اعتقاله، وطلبت منه أن يشاركها إبداء الرأي في التحقيق الصحفي الذي أعده ابنها فاتح عن ازدياد نسبة الجرائم في السنوات الأخيرة التي أصبحت تشكل خطرا يفوق خطر الإرهاب. استنتج فاتح بعد استجواب شريحة واسعة من المجتمع في المحاكم والسجون وفي أحياء باب الواد والقصبة والحراش أن نسبة الجريمة تتناسب طردا مع ازدياد نسبة الفقر.

علقت السيدة هدى بقولها: "أنا معك في أن الفقر سبب رئيسي في ازدياد نسبة الجريمة لكن معظم جرائم النصب والاحتيال والاختلاس وتهريب المخدرات الآن يقوم بها الأغنياء أو متوسطو الدخل وليس الفقراء".

-                       لكن متوسطي الدخل أصبحوا فقراء في هذه الأيام يا أمي.

-                       يجب أن نتفق على تحديد مفهوم الفقر أولا. في الماضي كان الفقير هو الذي يجد بالكاد قوت يومه. أما الآن فترى مطاعم الرحمة في رمضان يزاحم فيها الميسورون وأصحاب الدخل المتوسط الفقراء والمحتاجين ويحتلون أماكنهم مدعين الفقر والحاجة.

-                       وما السبب في ذلك؟

تدخل بدر الدين في النقاش قائلا: "المجتمعات لا تحكم بالقوانين وحدها بل بالقيم أيضا. والقوانين نفسها تستمد هيبتها وسلطتها من هذه القيم. وحين تهتز هذه القيم تبدأ الأواصر بين أفراده بالتفكك والثقة بينهم بالتزعزع. ولا يستطيع القانون وحده الحفاظ على تماسكها بل على العكس من ذلك يتم التحايل عليه ويفسر كل فرد القانون وفق مصالحه.

-      وما السبب في انهيار القيم في المجتمع؟

أجابت السيدة هدى: "السبب أن المجتمع أصبح يقيم الإنسان وفق كسبه لا وفق إنجازه. يتنافس الناس في الأخذ ويزهدون في العطاء وبهذا يختل التوازن في المجتمع. لم يعد أحد قانع بما يكسب. الكل يريدون المزيد، وما دام الحصول على المزيد بالطرق الشرعية غير ممكن، يلجأ بعضهم إلى الطرق غير الشرعية.".

علق فاتح قائلا: "الحكام مسؤولون عن ذلك فهُمُ القدوة".

قال بدر الدين: "كلنا مسؤولون. علينا أن نقتدي بالنزهاء منهم لا بالمرتشين والمختلسين. المعيار الحقيقي لكل منا في حب الوطن هو مقدار ما يعطيه لا مقدار ما يأخذه منه".

سأل فاتح: "هل تريدان أن أعيد النظر في هذا "الريبورتاج"؟

أجابت السيدة هدى: "نعم، إذا كنت مقتنعا بذلك. ويجب أن تشرك فيه شرائح من أحياء حيدرة والأبيار والأحياء الحديثة المنثورة حول العاصمة لتكتمل الصورة". 

وحين غادر المحامي بدر الدين مكتب الجريدة، سأل فاتح السيدة هدى: "هل سمعت يا أمي بخبر محاولة انتحار ليلى زوجة مصباح؟"

-                       نعم، كلمني رئيس التحرير وأعلمني بالخبر.

قال متحمسا: "ما رأيك أن نكتب الخبر في الصفحة الأولى تحت عنوان: "عاصفة في منزل مصباح قلب الحديد. محاولة انتحار زوجته ونقلها إلى المستشفى في حالة خطرة".

-                       لا لن نكتب هذا الخبر بالذات.

أجاب مستغربا: "لماذا يا أمي؟ كل الصحف ستنقل الخبر، ثم إنها خائنة وتستحق ما حدث لها.

ردت بحزم: "ربما، لكنها في غيبوبة، والله وحده يعلم إن كانت ستعيش. لا شماتة في المرض والموت يابني. يكفيها ما حدث لها".

-108-

لم ينس رجال الدرك في وهران والعاصمة بعد اعتقال سائق الشاحنة مولود شاكر أن يشددوا المراقبة على مرآب الأمانة والسيارات التي تبيت فيه حتى استطاعوا أن يصلوا إلى واحدة من أخطر شبكات تهريب المخدرات يقودها المدعو حسن سلام الشهير بالعقرب. اكتشفوا أن هذه الشبكة تهرب الأسلحة أيضا وتبيعها للإرهابيين واعترف رجاله بعد تضييق الخناق عليهم بأنهم المسؤولون عن وضع الأسلحة في سيارة المحامي بدر الدين عبد السلام ومحاولة تفجير سيارة القاضية أنيسة كامل. حول الملف بعد اعتقالهم إلى قاضية التحقيق، لكن العقرب التزم الصمت عندما حقق معه رجال الدرك كما التزم الصمت عندما استدعته قاضية التحقيق. كان يأمل في أن مصباح قلب الحديد بما له من سلطة ونفوذ سوف يخرجه مع رجاله سالما من هذه القضايا كما تخرج الشعرة من العجين. وقد شجع صمته محمود الرواس على تهديد رجال القضاء بالتسريح والتشريد لأنهم تجاوزوا الحدود في القبض عليه وعلى العقرب.

-109-

قال خلدون لمصباح: "اعتقل العقرب ياسيدي؟"

- بأي تهمة ؟

- قائمة ثقيلة من التهم. بعض رجاله اعترفوا بأنهم حاولوا تفجير سيارة القاضية ووضعوا الأسلحة في سيارة المحامي بدر الدين عبد السلام.

- هذا جنون، هل العقرب هو من أمر بتفجير سيارة القاضية؟

- نعم. قضية الشاحنة هي التي كشفت كل شيء فقد كانت الشرطة الجنائية في وهران تتابع موضوع تهريب المخدرات وتراقب ذلك المرآب، وحين اعتقل سائق الشاحنة واتهم بتهريب المخدرات كانوا يعرفون أنه ليس الفاعل.

- سائق الشاحنة بريء إذا؟

- نعم ياسيدي. رجال العقرب هم من فعلوا ذلك بأمره، وفي الحقيقة كانوا يستعملون الشاحنة لنقل المخدرات دون علم السائق.

- ودون علمي أيضا.

- أعرف ياسيدي فقد رجا محاميه أن يخبرك أنهم ضغطوا عليه ولم يستطع مخالفة أمرهم.

- من الذي ضغط عليه؟

- بارونات المخدرات. الظاهر أنه كان يتعامل معهم في الماضي وأعادوا الاتصال به.

زفر مصباح زفرة طويلة ثم قال: "نصحته أكثر من مرة بأن لا يسير في طريق المخدرات".

لكن مصباح لم يخبر خلدون بأنه هو من أقنع العقرب بتهريب المخدرات وشجعه على ذلك قبل ثلاثين سنة، حين كانا يعملان معا كجمركيين على الحدود الغربية. لكنه استقال من وظيفته بعد أن جمع قدرا من المال وبدأت الشبهات تحوم حوله، وأصبح رجل أعمال وتخلى عن تجارة المخدرات لأنها تجارة خطرة وليس لها مستقبل. أما العقرب فقبض عليه في إحدى القضايا وسرح من الخدمة وأصبح صاحب سوابق ورجلا من رجال العصابات يتعامل معه مصباح في أمور كثيرة ولكنه نصحه بترك تجارة المخدرات.

قال خلدون: "اطمئن يا سيدي فكل ما يرجوه العقرب أن تقف بجانبه في هذه المحنة وهو لن يذكرك بسوء".

-                       كيف يتاجر بالمخدرات ويهرب الأسلحة ويحاول قتل القاضية ويلصق تهمة بمحام ثم يريد أن أقف بجانبه. إنه يريد توريطي .

-                       لا يا سيدي لا يمكنه توريطك في أي قضية من هذه القضايا فأنت بعيد كل البعد عنها، رغم أن القاضية تحاول توريطك فيها .

-                       القاضية ؟ أي قاضية؟

-                       قاضية التحقيق أنيسة كامل يا سيدي.

-                       - تريد أن تورطني أنا؟

-                       نعم لأن سائق الشاحنة المتهم كان يعمل لصالح مؤسستك، والمحامي الذي وضعت الأسلحة في سيارته كان يحاول إثبات براءة سائق الشاحنة، وكان يجمع معلومات عنك ويتهمك بأنك وراء ترويج المخدرات.

-                       لا علم لي بهذا .

-                       أخفى عنك العقرب ذلك وقرر توريطه وحاول قتل القاضية.

-                       ياللغباء! ليثبت التهمة علي.

-                       هذه القاضية ياسيدي مازالت تسبب لنا المشاكل، وقد طلبت توسيع التحقيق في قضية المحامي بدر الدين عبد السلام وقضية الشاحنة لقناعتها بأن لهما ارتباطا شخصيا بك.

-                       إنها خطيئة العقرب، لقد نصحته مرارا أن يقلع عن تهريب المخدرات ولكن يبدو أن البارونات أجبروه فاستعمل شاحناتي دون علمي. أنت تعرف أنني لا أتعامل أبدا بالمخدرات ولا بالأسلحة و قد أصبح العقرب خطرا علينا. وعلى كل حال سنحاول أن ننتشله من هذه القضية حتى نحافظ على سمعتنا ثم نصفي حسابنا معه. حاولوا مع هذه القاضية بكل الطرق.

- حاولنا يا سيدي فلم نفلح . اتصلنا بها لنجس نبضها فوجدنا الطريق مغلقا إلى عقلها.

-                       من اتصل بها ؟

-                       السيدة فوزية وأنت تعرف أنها سيدة فاضلة وخدومة وتقنع بالقليل.

-                       وهل هناك امرأة تقنع بالقليل؟

-                       الأمور نسبية ياسيدي وكل ما يهم فوزية أن تكون سيدة مجتمع وصاحبة نفوذ، وقد وفرنا لها ذلك. وأصبحت لمؤسسة المرأة العصرية التي تديرها مكانة مرموقة في عالم الأعمال. المهم أنها أرسلت إليها رسالة تخبرها أن المؤسسة اختارتها لتكرمها هذا العام كنموذج مشرف للمرأة الجزائرية العاملة وأرسلت لها هدية طاقما من الذهب بمبلغ مائة مليون سنتيم وشهادة تكريم من المؤسسة وتركت لها الحرية في أن يكون التكريم في حفلة علنية أو الاكتفاء بالهدية والشهادة.

-                       جيد، وماذا كان رد القاضية؟

-                       ردت الهدية مرفقة برسالة وقحة توعدت فيها السيدة فوزية ومؤسستها بالاتهام بمحاولة الرشوة إن أعادت الكرة.

-                       وهل بحثتم عن الطريق إلى قلبها؟

-                       نعم خطيبها قاض ولكنه إنسان مرن ويعرف مصلحته ونحن نتعامل معه من زمن.

-                       عظيم، ما المشكلة إذا؟ تفاهموا معه فهو الطريق إليها.

-                       مع الأسف يا سيدي، فقد فسخت الخطبة لأن خطيبها حُوِّلَ إلى التحقيق بتهمة الرشوة.

-                       ألم تكونوا حريصين في التعامل معه؟

-                       بلى يا سيدي، وهو حريص جدا حتى أنه لم يقبل أن نضع له المال في حساب بفرنسا بل في جنيف لأنه يخاف أن تكون الحسابات في فرنسا مراقبة.

-                       كيف اكتشف أمره إذا؟

-                       لم يثبت التحقيق عليه شيئا ولكنه رغم حرصه شره وشديد الطمع ويقبض من كل الناس ولكن بنفس الطريقة، الدفع في جنيف في حساب مؤقت يحوله فيما بعد إلى حسابه الشخصي.

-                       الطريق إلى قلبها وعقلها مغلق إذا. لا بد من البحث في ملفها وملف عائلتها عن الفضائح.

لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الخيط التاسع: الانهيار

لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الخيط السابع: شاهدة لم تكن في الحسبان

للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: القاضية والملياردير