الفصل الرابع

من مسرحية عطلة السيد الوالي

للكاتب عبد الله خمّار

 

المشهد الأول

[تفتح الستارة على مكتب الوالي، والسكرتيرة ترتب المكتب، وقد اهتمت بزينتها وارتدت ثوبا صيفيا بنفسجيا أنيقا نوعا ما لكنه طويل مع حذاء أزرق. يدخل رئيس الديوان متبخترا ثم يجلس على كرسي الوالي ويرى إن كان يليق به.]

رئيس الديوان: هل سأل عني أحد.

السكرتيرة: لا يا سيدي.

رئيس الديوان [باستعلاء]: اذهبي إلى عملك ولا تأتي إلى مكتبي قبل أن أطلبك.

السكرتيرة [تهز رأسها وتحرك يدها اليمنى متوعدة إياه دون أن يراها]: كما تريد يا سيدي.

 [يتصل رئيس الديوان بالهاتف فيجد الهاتف معطلا فيضرب الجرس للسكرتيرة فتدخل.]

السكرتيرة: نعم ياسيدي.

رئيس الديوان[متوترا]: هل الهاتف معطل؟

السكرتيرة: نعم ياسيدي. هواتف المبنى كلها معطلة وهم يصلحونها الآن.

رئيس الديوان: ماذا أفعل الآن. لدي مكالمة عاجلة.

السكرتيرة: تكلم بالهاتف المحمول ياسيدي.

رئيس الديوان: لا أدري أين نسيته بالأمس. بحثت عنه فلم أجده.

[يسمع صوت طرق في مكتب السكرتيرة.]

رئيس الديوان: انظري، من هناك؟

[تخرج السكرتيرة ثم تعود.]

السكرتيرة: السيد حنفي ياسيدي.

رئيس الديوان[يتهلل وجهه ويخرج إلى غرفة السكرتيرة لاستقباله ثم يعود معه]: أهلا بالسيد حنفي، كنت أريد أن أكلمك لكن هاتف الولاية معطل ويبدو أنني أضعت هاتفي المحمول. تفضل. [يجلس حنفي على يمين الكنبة الطويلة ويجلس رئيس الديوان بجانبه.]

حنفي: وأنا حاولت الاتصال بك لكن هواتفك لا ترد.

رئيس الديوان: أردت أن ادعوك إلى عرس ابني الأوسط رفيق يوم الخميس القادم في حديقة الفيلا.

حنفي: مبروك.

رئيس الديوان: شكرا. جهزت له مسكنا في الحي الجديد، شقة من أربع غرف في الطابق الثاني. أرجو أن يعتني المقاول بتجميلها والعناية بالبلاط والمطبخ والحمام.

حنفي: ما دمت أنا المتعهد فلا تخش شيئا أعطني رقم الشقة التي اخترتها لابنك وسأزينها كأنها لي.

رئيس الديوان: شكرا، شكرا.

حنفي: وأثاثها هدية مني.

رئيس الديوان[وكأنه فوجئ بكرم حنفي]: أثاثها أيضا هدية منك! هذا كثير.

حنفي: أخبر ابنك أن يمر إلى الوكالة ليختار السيارة التي يريد.

رئيس الديوان: وسيارة جديدة أيضا! [يحني رأسه بتذلل]: بارك الله فيك ياسيدي وجعلك ذخرا لنا دائما.

حنفي: حين لم أستطع الاتصال بك بالهاتف حضرت بنفسي لأخبرك أن مفتشا من مجلس المحاسبة حضر بالأمس إلى المدينة، ونزل في فندق الفراشة البيضاء. ربما يأتي اليوم إلى مقر الولاية للتحقيق.

رئيس الديوان[متوترا]: ماذا؟ مفتش من مجلس المحاسبة يحضر اليوم للتحقيق! أنا خائف.

حنفي: مم تخاف؟ لا تخش شيئا يا رجل. هذا إجراء روتيني يقوم به المفتشون.

رئيس الديوان: هل تعرفه؟ أقصد هل يمكن أن نتفاهم معه؟

حنفي: إياك أن تحاول فلا يمكن شراؤه ولا استجلابه.

رئيس الديوان[يتماسك قليلا]: على كل حال أنا لست متورطا في شيء. لم أكن أوقع أية وثيقة. الوالي هو الذي يوقع. أعتقد أنه حضر ليحقق مع الوالي الذي ذهب في عطلة وترك المدينة تغرق في المشاكل.

حنفي: ربما. المهم ألا يرد اسمي في أي تحقيق، مفهوم.

رئيس الديوان: مفهوم. وإذا ورد اسمك فلا مسؤولية عليك. الوالي هو الذي يعطيك المشاريع.

حنفي[محذرا]: لا تنس أنك تأخذ نسبة من هذه المشاريع. وإذا ورد اسمي فسوف يرد اسمك حتما، مفهوم؟

رئيس الديوان: مفهوم يا سيدي. سأحرص ألا يرد اسمك في التحقيق.

حنفي[ينهض فينهض معه رئيس الديوان]: بإذنك فربما يبكر المفتش في المجيء. لا تنس ما أوصيتك به.

رئيس الديوان: كن مطمئنا ياسيدي. لن يرد اسمك أبدا على لساني في التحقيق، وعد شرف. 

[ يخرج حنفي ويبقى رئيس الديوان واقفا يفكر.]

رئيس الديوان[يكلم نفسه]: الوالي في عطلة، وهذه فرصتي لأسود صفحته أمام المفتش.

[تدخل السكرتيرة.]

السكرتيرة: مفتش من مجلس المحاسبة يطلب مقابلتك.

[يسرع لاستقباله ثم يعودان معا ونرى رجلا في حوالي الخمسين من عمره طويل مهيب الطلعة، يرتدي بدلة أنيقة زرقاء، ويحمل محفظة سوداء ويمشي بتؤدة. ]

رئيس الديوان: تفضل يا سيدي.

المفتش[يجلس على مقعد الوالي]: شكرا [يوجه خطابه إلى رئيس الديوان]: اجلس.

رئيس الديوان[يجلس حانيا ظهره ورأسه على المقعد الملاصق لطاولة الوالي بحيث يراهما الجمهور معا]: شكرا  يا سيدي، شكرا.

المفتش[ينهض من مقعد الوالي، ويقول وهو يسير نحو المقعد المواجه لرئيس الديوان]: هناك مخالفات كثيرة حدثت في الولاية وجئت لأحقق فيها. [يفتح محفظته ويخرج كراسة يفتحها.]

رئيس الديوان: أية مخالفات يا سيدي؟

المفتش[يقرأ من الكراسة]: منح مشاريع دون مناقصة. تقاضي الرشوة لإعطاء مساكن لمن لا حق لهم فيها. تحويل عقارات عامة إلى أشخاص متنفذين وبيعها بأثمان بخسة. أنت رئيس الديوان، أليس كذلك؟

رئيس الديوان: بلى يا سيدي. لكن لا علاقة لي بكل هذه الأمور. الوالي هو الذي يتصرف وهو الذي يوقع. 

المفتش: علمت بأن الأمين العام مريض منذ مدة تقارب السنة وأنت تقوم بمهامه.

رئيس الديوان: نعم يا سيدي.

المفتش: هل تعرف هذه الوثيقة المرسلة إلى بلدية حي المنصورين؟

رئيس الديوان[يأخذها من المفتش ثم يعيدها]: إنها بتوقيع الوالي يا سيدي.

المفتش: لكنك أشرت عليها.

رئيس الديوان: اطلعت عليها فقط ووضعت إشارة بذلك.

المفتش: ما دمت اطلعت عليها فأنت مشارك في المسؤولية. لماذا لم تعترض؟

رئيس الديوان[متوترا]: اسمح لي يا سيدي أن أشرح لك: الوالي رجل مستبد ودكتاتور، لا يسمع رأي أحد. كنت دائما انصحه بعدم ارتكاب هذه المخالفات، لكنه يصر وأنا لا أستطيع أن أعارضه.

المفتش: كنت تنصحه إذا، وهو لا يقبل النصيحة.

رئيس الديوان: كنت أنبهه لمشاكل المدينة وأحاول أن أوجهه إلى الحلول السليمة، لكنني تعبت دون جدوى.

المفتش: أين هو الآن؟

رئيس الديوان: تصور أنه يقضي العطلة في تونس بينما المدينة غارقة في المشاكل.

المفتش: هو في تونس. هل لديك عنوانه؟

رئيس الديوان: رفض إعطائي العنوان حتى لا أزعجه بمشاكل المدينة.

المفتش: لا تخف، سنستدعيه فورا للتحقيق معه. سؤال أخير: ما علاقتك بالسيد حنفي.

رئيس الديوان[يفاجأ]: السيد حنفي! إنه صديق الوالي يا سيدي وهو الذي يمنحه المشاريع. حذرته من الصفقات والمقاولات غير القانونية فلم يستمع لي.

المفتش: هكذا إذا. [يقرع الجرس للسكرتيرة فتدخل فيخاطبها قائلا]: أدخلي السيد المستشار.

رئيس الديوان: انتظري. المستشار في عطلة مع الوالي ياسيدي وتنتهي عطلتهما غدا.

السكرتيرة: قطعا العطلة ووصلا بالأمس ياسيدي. المستشار هنا والوالي يصل بعد قليل. [تخرج السكرتيرة.]

رئيس الديوان: وصلا بالأمس. لم أكن أعلم.

المفتش: تستطيع الذهاب إلى عملك. [يخرج رئيس الديوان.]

 

المشهد الثاني

 

 [يدخل المستشار يرتدي بدلة صيفية رمادية.]

المستشار: صباح الخير يا سيدي.

المفتش: صباح الخير. اجلس.

[يجلس المستشار في المقعد المقابل للمفتش ووجههما إلى الجمهور.]

المفتش[يفتح كراسته ويسجل]: ما وظيفتك؟

المستشار: مستشار.

المفتش: عينك الوالي مستشارا لتكون عينه التي يرى بها ما يجري في المدينة، وأذنه التي يسمع بها شكاوى الناس وأنات المظلومين، فهل كنت فعلا العين التي يرى بها والأذن التي يسمع بها؟

المستشار[يتردد ثم يجيب]: لا يا سيدي مع الأسف.

المفتش: كنت تزين له الأمور دائما رغم قبحها، وتحول شكاوى الناس وأنات المظلومين إلى مديح وإطراء.

المستشار: كنت يا سيدي أظن أن الأمور تسير على ما يرام.

المفتش: غريب أمرك، الوالي يمتدحك في تقريره ويقول إنكما كنتما في مقعد واحد في مدرسة الإدارة العليا، وكانت آراؤكما واحدة، وكنت متحمسا لخدمة البلاد.

المستشار: هذا صحيح يا سيدي.

المفتش: ماذا حدث إذا؟ هل أصابتك الغيرة والحسد لأن صديقك أصبح واليا وأنت ظللت مستشارا، واقتنعت بأنك مظلوم فاستهترت بالوظيفة.

المستشار: ليس هذا هو السبب. لست غيورا ولا حسودا والحمد لله. سأقول لك الحقيقة.

المفتش[يشير بيده]: تفضل. 

المستشار: منذ سنوات عملت مع أحد الولاة.

المفتش[مقاطعا]: في هذه المدينة.

المستشار: لا، في مدينة أخرى. كنت أصارحه بما يجري في المدينة، وما يجري حوله ولا أخفي عنه شيئا. اتهمني بأنني أسَوِّدُ في وجهه كل شيء، وأذكر له المساوئ فقط. همشني ثم أبعدني وكتب فيّ تقريرا سيئا وقرب المنافقين والمتملقين ومن يزينون له أعماله مهما كانت سيئة. ظللت سنوات في الظل مغضوبا عليّ.

المفتش: وحين سنحت لك الفرصة لتكون مستشارا للوالي بدلت الخطة.

المستشار: نعم، قلت في نفسي: "الولاة يحبون من يمتدحهم، ويزين لهم أعمالهم"، وهذا ما فعلته.

المفتش: ألم تعرف هذا الوالي على مقعد الدراسة وتعرف قيمه وأخلاقه؟

المستشار: الناس يتغيرون يا سيدي. عرفت أناسا كثيرين كانوا مثال الأمانة والشرف وحين تسلموا المسؤولية خانوا الأمانة. الكرسي يغري يا سيدي.

المفتش: وظننت أن صديقك تغير فأصبح مثلهم.

المستشار: نعم، لكنني كنت مخطئا. كنت أراه يعتمد على رئيس الديوان فظننت بأنه يعرف ما يفعله. كان علي أن أصارحه وأنبهه ولو كلفني ذلك منصبي.

المفتش: لهذا أتى بك لتنبهه، إلى الصواب والخطأ فأنت المستشار والمستشار مؤتمن، عليه أن يقول الحق مهما كان مرا ومهما كلفه ذلك.

المستشار[يرخي رأسه]: هذا صحيح.

المفتش: لو كان المستشارون يقومون بواجبهم في النصيحة والمشورة لكانت البلاد بألف خير. لكن بعضهم يظن أن وظيفة المستشار وظيفة فخرية يستفيد من مكاسبها دون أن يتحمل المسؤولية، فإذا أدت استشارته إلى قرار خاطئ لم يمسه احد لأنه ليس صاحب القرار.

المستشار: هذا صحيح يا سيدي مع الأسف.

المفتش: لو كان الأمر بيدي لحملت المستشار جريرة القرار الخاطئ كما يتحملها صاحب القرار.

المستشار: أنا مستعد للمحاسبة يا سيدي. أعترف بأنني قصرت، بل خنت الأمانة. كتبت استقالتي وقدمتها للوالي، لكنه طلب مني انتظار نتيجة التحقيق. قال لي: "إما أن نذهب معا أو نبقى معا."

المفتش: معنى هذا أنه يثق بك فكن أهلا لثقته.

المستشار: سأفعل يا سيدي.

المفتش: ما يشفع لك أنك نظيف لم تتورط في الفساد والرشوة لكن الإهمال يعتبر أيضا جريمة.

المستشار: سأتحمل مسؤولية إهمالي يا سيدي.

[تدخل السكرتيرة.]

السكرتيرة: وصل الوالي ياسيدي.

المفتش: دعيه يدخل. [يخاطب المستشار]: تستطيع الانصراف الآن. [يخرج المستشار.]

 

المشهد الثالث

 

 [يدخل الوالي بلباس مدني. ينهض المفتش من مكانه ويصافحه ويجلسان معا على المقعدين المتقابلين بجانب طاولة المكتب، يأخذ المفتش سجله الموضوع فوق الطاولة ويفتحه ويسجل.]

المفتش: كيف ظللت سنتين واليا دون أن تكتشف مشاكل المدينة  الحقيقية؟

الوالي: كنت محاطا بمجموعة تزين لي كل شيء، وتقول لي: "إن كل شيء على ما يرام".

المفتش: كيف كنت توقع على القرارات دون أن تقرأها؟

الوالي: السبب هو ثقتي العمياء. كنت أثق برئيس الديوان. كان يرسل لي القرارات العادية مع  السكرتيرة فأطلع عليها وأوقعها، أما القرارات التي يريد تمريرها فيحضرها لي بعد اجتماع طويل مع اللجان وحين أكون متعبا. كنت أوقع وأنا اسمع شرحه عن الوثيقة، لكن ما يقوله لم يكن له علاقة بالوثائق.

المفتش: الثقة العمياء مهلكة. يجب أن تكون الثقة مبصرة ومتجددة تخضع للاختبار كل حين.

الوالي:  هذا صحيح.

 المفتش: أنا متأكد أن نواياك كانت حسنة لكن النوايا الحسنة لا تكفي في إدارة المدينة. اليقظة مهمة فالفساد لا يأتي بوجه واضح، لكنه يلبس أقنعة متعددة، منها قناع النفاق والرياء والمدح والإطراء والتصفيق. وهذا ما فعله رئيس الديوان الذي كان يمثل الفساد ولم تكتشفه.

الوالي: لا يستطيع الإنسان أن يعمل بمفرده. لا بد من مجموعة حوله تعينه وتساعده في مهمته.

المفتش: لكن المجموعة التي حولك لم تكن في المستوى. منهم من كان يرتشي ويفسد، ومنهم من استهتر ولم يصارحك بالحقيقة ومنهم من كان يتقرب منك بالنفاق والتملق.

الوالي: أعترف بأني لا أستحق أن أكون واليا، وسأعلن استقالتي عند اجتماع المجلس الولائي. كنت أعمل ليل نهار، أعقد الاجتماعات وأرأس اللجان وأزور الأحياء وأدشن المساكن، لكنني كنت أعمى، لا أرى ما حولي. كنت أتخذ القرارات ولكني لا أشرف على التنفيذ وأتولى المتابعة، واكتشفت أني كنت دمية بيد  رئيس الديوان يلعب بي كيف يشاء؛ أزور الأحياء التي يريدها، وأدشن المساكن التي يتلاعب في توزيعها، وأتحمل أنا المسؤولية. كل ذلك كتبته في التقريرالذي أرسلته إليكم.

المفتش: أعرف ذلك، وبناء على هذا التقرير كُلِّْفْتُ بالتحقيق.

الوالي: هل تعرف أين قضيت عطلتي؟

المفتش: نعم أعرف، في حي المنصورين لتعرف مشاكل المدينة.

الوالي: لم آخذ عطلة منذ سنتين لأقوم بواجبي تجاه المدينة.

المفتش: لا يشفع لك أنك لم تأخذ عطلتك خلال سنتين وأنهكت نفسك في العمل فليس المهم الكم لكن المهم الكيف.

الوالي: أعرف وهذا ما يجعلني أصر على استقالتي.

المفتش: الاستقالة الآن تهرب من المسؤولية. عليك أن تباشر عملك بالكامل وتحاول أن تصلح ما أفسده المرتشون والمختلسون.

الوالي: سأتابع عملي حتى ينتهي التحقيق.

المفتش: سؤال أخير: لماذا لم تطلب تعيين أمين عام بدلا من الأمين العام الذي طالت مدة مرضه.

الوالي: لم أرد إنهاء مهام الأمين العام المريض بعد أن خدم الدولة سنوات طويلة، وكنت آمل أن يستعيد عافيته.

المفتش: سأعود فيما بعد لاستكمال التحقيق مع رئيس الديوان، أما الآن فأنا ذاهب لأحقق مع السادة حنفي وعباس ورئيس بلدية المنصورين في كل ما ورد في التقرير.

الوالي: لحظة، ما دمت ذاهبا للتحقيق مع السيد حنفي [يتوجه إلى مكتبه ويفتح الدرج ويخرج شريط كاسيت]: أرجو إضافة هذا الشريط المسجل لآخر حديث بينه وبين رئيس الديوان في مكتبي إلى الأشرطة المرافقة للتقرير.

المفتش: لا بأس، سأستمع إلى الشريط وأضمه إلى الأدلة الأخرى. بإذنك. [يخرج ويرافقه الوالي ويسمع صوته يقول: مع السلامة.] 

[تطفأ الأضواء ثم تنار من جديد.]

 

المشهد الرابع

 

[يدخل المستشار وتدخل معه السكرتيرة.]

المستشار: طلب مني السيد الوالي أن أنتظره في مكتبه.

السكرتيرة: ذهب مع ولده سليم في زيارة قصيرة لحي المنصورين. [تنظر إلى الساعة وتضيف]: وسيعود بعد قليل.

المستشار: ذهب لمقابلة نسيمة إذا.

السكرتيرة: ماذا؟

المستشار: أقصد أنه رافق سليم ليقابل صديقه طارق ابن نسيمة.

السكرتيرة: أريد منك خدمة.

المستشار: تفضلي.

السكرتيرة: أرجو أن تساعدني في عرض قضية امرأة مظلومة على الوالي.

المستشار: ما مشكلتها؟

السكرتيرة: هي مطلقة ولديها ثلاث بنات. كانت تسكن في الحي القصديري، وحين نقلوا سكانه إلى حي جديد، رفضوا تسجيلها وهدموا منزلها القصديري ورموها إلى الشارع.

المستشار: تقصدين المرأة التي دعت على الوالي.

السكرتيرة: هي دعت له بالخير.

المستشار: بل دعت عليه لأنه ظلمها، وسمعها الوالي.

السكرتيرة: يا للمصيبة! متى سمعها؟ وكيف؟

المستشار: حين نزل الوالي مع ولده من الدار رآها تصعد السلالم مع أطفالها الثلاثة، وتدعو: "رب خذ لي حقي من الوالي الذي ظلمني". ثم رآها تدخل الشقة. ولما كان باب الشقة مفتوحا، دخل ووقف عند المدخل وسمع كل شيء.

السكرتيرة: ما دام قد سمع كل شيء فلن يساعدها. كنت أرجو أن تتوسط لي عنده من اجلها.

المستشار: أنت لست بحاجة لمن يتوسط لك عند الوالي. أنت التي فتحت عينه على الظلم وأسمعته شكوى المظلومين. قمت بالمهمة التي جبنت أنا عن القيام بها بجرأة ودون خوف، لن يرد الوالي طلبك في إنصاف مظلوم.

السكرتيرة: لكنه سمعها حين دعت عليه.

المستشار: هل تعلمين أن الوالي حين سمعها تدعو عليه انهمرت دموعه وبكى؟ قال لي: "لا شيء يخيفني في هذه الدنيا أكثر من دعوة المظلوم فهي مستجابة." 

السكرتيرة: هل تقصد أننا يمكن أن نعرض عليه مشكلتها؟

المستشار: لا ضرورة لذلك فقد كلفني بالتحقيق في المخالفات التي ارتكبت في توزيع السكن لإنصاف أصحاب الحق. ووقع قرار منحها سكنا في الحي الجديد.

السكرتيرة: كيف عرف اسمها؟

المستشار: طلب مني مراجعة ملف زوجها.

السكرتيرة[بفرح]: شكرا لأنك طمأنتني.  

المستشار: بل شكرا لك لمروءتك وشهامتك وشجاعتك.

السكرتيرة: لم أقم إلا بواجبي. بإذنك، سأذهب إلى عملي [تخرج.]

[تطفأ الأضواء ثم تنار من جديد] ن يراها] : كما تريد يا سيدي [تخرج]. 

 

المشهد الخامس

 

[يفتح الستار على مكتب الوالي يدخل. الوالي إلى المكتب بلباسه الرسمي والسكرتيرة وراءه. يضع محفظته و"كاسكيتته" على طاولة المكتب"]

السكرتيرة: د.دلال الخير في انتظارك يا سيدي

الوالي: دعيه يدخل فورا. [يظل واقفا في استقباله]: أهلا دكتور تفضل. [يدعوه إلى الجلوس على المقعد الملاصق للمكتب ويجلس في مواجهته.]

د.دلال الخير: صباح الخير.

الوالي: صباح الخير. هل توصلت إلى حل لغز لقاح فيروس الاكتئاب في حي النشاط؟

د.دلال الخير: أجريت خلال هذه المدة بحوثا هامة، واستطعت أخيرا أن أتوصل إلى سبب عدم إصابة سكان حي النشاط بفيروس الكآبة.

الوالي: أعرف.

د.دلال الخير[مندهشا]: تعرف. ماذا تعرف؟

الوالي: أعرف أن لقاح فيروس الكآبة هو الفن.

د.دلال الخير[مستغربا]: الفن ! هذا صحيح يا سيدي. الفن يسعد الناس ويجعلهم يتساوون في الحلم والاستمتاع بالفن بالرغم من اختلافهم في الأعراق والأديان والثروة. أنا اكتشفت ذلك بعد بحث عميق في الحي، فكيف استطعت أنت أن تصل إلى الحقيقة؟

الوالي: الفضل يعود لكاتب اسمه محجوب بو الأنوار. هو الذي فتح عيني على الحقيقة، وبين لي أن ازدهار الفن في حي النشاط حصّن سكانه من فيروس الكآبة. هناك يتواصل الفنانون مع الناس ويعرضون مشاكلهم في المسرح ويكتبون الأغاني المعبرة عن مشاعرهم.

د.دلال الخير: تماما يا سيدي الوالي. استعاد الناس الثقة فيما بينهم واستعادوا توازنهم وتيقظت فيهم الروح الجماعية والوطنية بعد أن كادت تخمد.

الوالي: لكن ما لم أفهمه هو علاقة الفن بحسن سير البلدية. هل يمكن في هذه السنوات الأربع أن يؤثر الكتاب والمسرحيون في سلوك أهل الحي وفي منتخبي البلدية فتتوقف الرشوة وتقل نسبة الجرائم ويصبح أعضاء المجلس البلدي مثالا للاستقامة؟

د.دلال الخير: هذا غير ممكن. ما حدث هو أن مجال الجريمة والفساد والرشوة يتسع باستهتار المسؤولين وقلة مردودية الموظفين ولا مبالاة المواطنين. وحين يجد المسؤولون أنفسهم تحت مجهر الرقابة ـ رقابة الكتاب والفنانين ـ يقل الانحراف وتزداد مردودية الموظف ويتعاون المواطن.

الوالي: لهذا سقط أعضاء المجلس القديم في الانتخابات في السنة الماضية.

د.دلال الخير: نعم والأعضاء الجدد فهموا الدرس.

الوالي: سؤال أخير. كيف أصبح التجار يبيعون بالتسعيرة؟

د.دلال الخير: أسس موظفو المجمع الثقافي جمعية تعاونية استهلاكية خفضت الأسعار وأخافت التجار.

الوالي: يجب أن نشجع مثل هذه الجمعيات التعاونية ونسهل انتشارها في الأحياء.

د.دلال الخير: ولكن كيف اكتشف الكاتب الذي ذكرت اسمه أن الفن هو العلاج؟

[ينهض الوالي من مكانه ويخرج ثم يقول]: تفضل يا أستاذ.

 [يدخل الكاتب محجوب بو الأنوار.]

الوالي[يقدم الكاتب إلى الدكتور]: الكاتب محجوب بوالأنوار. [يقدم الدكتور إلى الكاتب]: د. دلال الخير. [يبقى الثلاثة واقفين ويتابع الوالي]: أنت يا سيدي الطبيب تعالج المشاكل النفسية للأفراد والكاتب يعالج المشاكل النفسية للمجتمع. هو طبيب مثلك لذلك استطاع أن يشخص العلة ويجد الدواء.

د.دلال الخير[يخاطب الكاتب]: أهنّئك على ذكائك واكتشافك أن الفن هو لقاح الاكتئاب رغم دهشتي واستغرابي.

بو الأنوار: لا تندهش، فالإغريقيون اكتشفوا منذ القدم أن الفن يطهر النفس من أدرانها. وكانت المسرحية التي تجمع الشعر والموسيقى والتمثيل والديكور والإضاءة، أي تجمع كل الفنون آنذاك وسيلة لتطهير النفس.

د.دلال الخير: هذا صحيح. نحن الآن نعالج بعض المرضى بالموسيقى ونشجع بعضهم على التعبير بالكتابة والرسم وكثيرا ما ننجح في علاجهم بهذه الطرق فيما نفشل في علاجه بالأدوية.

بو الأنوار: العالم ليس عقلا فقط، لكنه روح يسمو بها الدين ووجدان ومشاعر يهذبها الفن.

الوالي: ماذا تقترحان لمقاومة هذا الفيروس في المدينة؟

د.دلال الخير: أترك ذلك للكاتب فهو أعلم بالعلاج.

بو الأنوار: هل تطيب الحياة دون غناء؟ والغناء شعر وموسيقى. إذا لم نشجع الشعراء على كتابة الأغاني ولم نشجع الموسيقيين على نظم الألحان سيستمر فيروس الكآبة. هل تطيب حياة الأطفال دون حكايات؟ إذا لم نشجع الكتّاب على الكتابة للأطفال سيستمر الفيروس. ومن يكتب حكايات الكبار المعبرة عن همومهم ومشاكلهم؟ إذا لم نشجع الروائيين على الكتابة وعلى تقديم أعمالهم الدرامية في الإذاعة والتلفزة وعلى المسرح سيستمر فيروس الكآبة.

د.دلال الخير: هذا صحيح. وأنا موافق على ذلك.

الوالي: إذا كان هذا هو العلاج، فالحل سهل جدا. كل ذلك موجود في الفضائيات. هناك قنوات للأغاني، وقنوات للأطفال وقنوات للدراما وقنوات للسينما والمسرحيات. يكفي أن نعمم الفضائيات على سكان الأحياء لنحل المشكلة ونقضي على الفيروس.

بو الأنوار: لا يا سيدي. لا يكفي أن نعرض إنتاج الغير، إذا كنا نستطيع استيراد الأغذية والأدوية والآلات، فالفن لا يستورد، الفن روح الشعب وهو المعبر عن آلامه  وآماله، عن أفراحه وأتراحه، عن انتصاراته وانتكاساته ولا يعبر عنه إلا أهله.

الوالي: يبدو لي أننا نتذوق فنون الآخرين.

بو الأنوار: هذا صحيح ونستمتع بها. من الضروري الانفتاح على فنون الشعوب الأخرى،  لكن هذا لا يغني عن فنوننا الوطنية. علينا أن نطور فنّنا ليعرفنا الناس، ولن يعرفنا الناس إلا بثقافتنا وفنّنا.

د.دلال الخير: هذا صحيح. سيبقى الفن فطريا إن لم نهتم به ونطوره ليصبح راقيا نفاخر به بين الشعوب.

الوالي: مفهوم. مفهوم. أرجو أن تجتمعا في قاعة الاجتماعات وتتفقا على اقتراحات عملية لنبدأ بتنفيذها فورا.

[يخرج بو الأنوار ثم يعود بينما يجلس الوالي على كرسي مكتبه ثم ينهض .]

بو الأنوار[خجلا]: أريد أن أعتذر منك ياسيدي عن كل ما قلته بحقك. اتهمتك ظلما ولم أكن أعرف......

الوالي[مقاطعا]: كنت صادقا وجريئا فيما قلته وكذلك كان صديقك محاسب بلدية المنصورين وفتحتما عيني على أشياء كثيرة. أنا الذي أشكركما.

بو الأنوار: لكن المحاسب موقوف عن العمل بتهمة الرشوة.

الوالي[مستغربا]: كيف حدث ذلك؟

بو الأنوار: ادعت عليه امرأة أنه طلب منها عشرين مليون سنتيم ليعطيها مسكنا. أخبرت رجال الأمن وأعطتهم الأرقام المتسلسلة للنقود وضبطوا المحفظة في مكتبه وعليها بصماته.

الوالي: ربما كانت مكيدة.

 بو الأنوار: أنا متأكد من ذلك لكن الأدلة ضده وبصماته على المحفظة.

 الوالي: لا تخف. سأكلم مدير أمن الولاية ليحقق مع المرأة ويكشف الحقيقة.

بو الأنوار: شكرا ياسيدي. [يخرج.]

[تطفأ الأضواء وتنار من جديد.]

 

المشهد السادس

 

[يفتح الستار على مكتب الوالي. نرى الوالي وراء مكتبه يعمل ثم يقرع الجرس للسكرتيرة. تدخل السكرتيرة.]

الوالي: هل استدعيت رئيس مصلحة الميزانية؟

السكرتيرة: نعم ياسيدي. إنه ينتظر في مكتبي.

 الوالي: دعيه يدخل.

 [يدخل رئيس مصلحة الميزانية، وهو رجل أصلع في الخامسة والخمسين، يرتدي نظارات سميكة ويرتدي بدلة سوداء مع ربطة عنق.]

رئيس مصلحة الميزانية: نعم ياسيدي.

الوالي: سيأتي بعد قليل الكاتب محجوب بو الأنوار. أريد أن تناقش معه القرارات الثقافية القابلة للتنفيذ لأوقعها فورا. أعطيتك في الهاتف فكرة عنها.

رئيس مصلحة الميزانية: كما تريد ياسيدي.

الوالي: انتظرني هنا، سأعود بعد قليل. أريد أن أوقع القرارات اليوم.

رئيس مصلحة الميزانية: ستكون مشاريع القرارات جاهزة قبل انتهاء الدوام.

[يخرج الوالي، ويدخل بعد لحظة رئيس الديوان وبيده ملف.]

رئيس الديوان: سألت عنك فقيل لي إنك هنا. ماذا تفعل في مكتب الوالي؟

رئيس مصلحة الميزانية: كلفني الوالي بالاجتماع مع الكاتب محجوب بو الأنوار لوضع بعض مشاريع القرارات الثقافية.

رئيس الديوان: غريب! لم يخبرني بذلك. أين هو الآن؟

رئيس مصلحة الميزانية: في قاعة الاجتماعات وسيأتي بعد قليل.

رئيس الديوان[يتوجه إلى الباب ليرى إن كان هناك أحد قادم ثم يسأل]: ما هي مشاريع القرارات المطلوبة؟

رئيس مصلحة الميزانية: قرارات بإنشاء مجمع ثقافي في كل بلدية فيه مكتبة ومسرح وقاعة سينما وقاعة موسيقى ومرسم.

رئيس الديوان: ماذا؟ ماذا؟ إياك أن توقع على أي قرار من هذه القرارات.

رئيس مصلحة الميزانية: لا أستطيع. قال لي الوالي إنها علاج لفيروس الاكتئاب الذي يجتاح المدينة.

رئيس الديوان[بسخرية]: هل تصدق هذا؟ الناس مكتئبون لأن الاشتراكية لحست عقولهم. صدقوا بأن الناس متساوون. وكلهم يطمح لأن يعيش في فيلا ويركب أفخم سيارة ويصيف في الخارج دون أن يعمل ويكافح. كما يقول المثل: "راقدة وتمنجي". لكن لا، هناك رئيس ومرؤوس وحاكم ومحكوم وغني وفقير. سيظل الناس مكتئبين لأنهم لن يحققوا المستحيل. إياك أن توقع.

رئيس مصلحة الميزانية[بحماس]: إنها ملايير ستنفق وسوف نستفيد منها جميعا.

رئيس الديوان: أنت واهم. سننفق الملايير ولكن لن نكسب شيئا منها. ستكون أيدينا مغموسة في العسل[يرفع إصبعه الخنصر إلى فمه]: ولا نستطيع لحس إصبعنا.

رئيس مصلحة الميزانية: لماذا؟

رئيس الديوان: أنت لا تقدر خطورة الوضع. هل تعرف ما معنى مسرح في كل بلدية؟ معناه بؤرة شغب في كل بلدية. معناه أن الكتاب والفنانين يراقبون أعمالنا ويحاسبوننا. لن نستطيع تضخيم الفواتير ولا تقديم مشاريع وهمية.

رئيس مصلحة الميزانية: لكن الوالي مصر على توقيع القرارات اليوم.

رئيس الديوان: حاول أن تماطل وتكسب الوقت. المفتش يحقق مع الوالي وقد لمح لي بأنه في طريقه إلى العزل.

رئيس مصلحة الميزانية: هل أنت متأكد؟

رئيس الديوان: طبعا. لا أحد يقف في طريقنا وينجح. أراد محاسب بلدية المنصورين أن يتحدانا وها هو اليوم وراء القضبان بتهمة الرشوة.

رئيس مصلحة الميزانية: هو إنسان حالم يعيش في زمن الراشدين حين كانت متطلبات الحياة بسيطة، ولا يعيش في الواقع. لا أدري كيف يعيش براتبه الصغير وكيف يلبي متطلبات زوجته وأولاده؟

رئيس الديوان: إنه محدود يظن بأنه سيصلح العالم.

رئيس مصلحة الميزانية: نصحته أن يتعاون مع الكبار ليكبر معهم وألا يقف في طريقهم فيدوسوه. قلت له إن الكبار هم الذين يبنون البلد فلم يفهم.

رئيس الديوان: سيلقى الآن جزاء عناده. المهم، إياك أن توافق على القرارات.

رئيس مصلحة الميزانية: كن مطمئنا. لن تصدر القرارات اليوم ولا بعد سنة. [يقرع جرس هاتفه المحمول فيفتحه ويجيب ثم يخرج.]

[يدخل الوالي فيرى رئيس الديوان.]

الوالي[عابسا متجهما]: ماذا تفعل هنا؟

رئيس الديوان[مبتسما متذللا]: هناك قرار عاجل يحتاج إلى توقيعك ياسيدي.

الوالي: قرار عاجل! ما هو؟

رئيس الديوان: محاسب بلدية المنصورين متهم بالرشوة وقد ثبتت عليه التهمة. وقد شكلت مجلس التأديب الذي سيحقق معه ويطرده من الوظيفة.

الوالي: أرني. يقرأ بصوت عال: "يشكل مجلس التأديب من السيد عامر مخزوم رئيس ديوان الولاية رئيسا وعضوية كل من السيد رئيس مصلحة الميزانية في الولاية والسيد رئيس بلدية المنصورين". ما شاء الله. أنت شكلت المجلس باسمي ولا ينقص إلا توقيعي. لكنك أحسنت اختيار أعضاء المجلس.

رئيس الديوان[مبتسما]: شكرا ياسيدي. هذا من حسن ظنكم وثقتكم فيّ ياسيدي.

الوالي: لكن رئيس بلدية المنصورين متهم بالاختلاس. ذهب مفتش المحاسبة ليحقق معه اليوم.

رئيس الديوان: ماذا؟

الوالي: بالتأكيد سيعترف للمفتش بأسماء شركائه. أما المحاسب فأعلمني مدير الأمن أن المرأة التي ادعت عليه اعترفت بأنها طلبت مساعدته في فتح المحفظة ليضع بصماته عليها. وفاجأه رجال الأمن وفي يده المحفظة. وهذا السيناريو كان من وضع رئيس البلدية. [بخشونة]: والآن عد إلى مكتبك ولا تأت إلى هنا إلا إذا استدعيتك.

رئيس الديوان[مندهشا ومذعورا]: كما تريد ياسيدي؟ [يخرج. ويدخل رئيس مصلحة الميزانية.]

[يقرع الوالي الجرس للسكرتيرة فتدخل.]

الوالي: أدخلي السيد محجوب بو الأنوار.

 

المشهد السابع

 

 [تخرج السكرتيرة ويدخل السيد محجوب بو الأنوار ويستقبله الوالي واقفا.]

الوالي: هذا هو رئيس مصلحة الميزانية. ستناقش معه الإجراءات التي اتفقت مع الدكتور دلال الخير على تنفيذها. [يخاطبه الوالي]: ناقش مع السيد بو الأنوار مقترحاته لصياغتها في مشاريع قرارات. لدي بعض الأوراق لأدرسها وأوقعها وسألتحق بكما بعد قليل. [يجلس وراء مكتبه بينما يجلس الاثنان على الكرسيين الملاصقين للمكتب، ويتناقشان في همس. فجأة يقف رئيس مصلحة الميزانية على قدميه].

رئيس مصلحة الميزانية[هاتفا بأعلى صوته]: لا يجوز، لا يجوز، لا يجوز.

بو الأنوار: هل تعني أن الفن حرام لا يجوز؟

رئيس مصلحة الميزانية: لا يهمني إن كان الفن حراما أم حلالا في الشرع، لكنه لا يجوز حسب القانون فليست هناك ميزانية.

بو الأنوار[بحزم]: بل يجوز ويجوز ويجوز فالوالي يعرف القانون أكثر منك.

الوالي[يتوقف عن الكتابة ويقوم من وراء مكتبه ويقف بينهما]: ما هذا الذي يجوز أو لا يجوز؟

رئيس مصلحة الميزانية[مخاطبا الوالي]: يريد أن نبني مكتبة كبيرة في كل حي! أحاول أن أقنعه بأن الكتاب الورقي مضى زمنه. لماذا نصرف ميزانية كبرى على بناء مكتبات في كل الأحياء وتجهيزها بالكتب الورقية بينما الكتاب الإلكتروني موجود في الأنترنت مجانا. وقاعات الأنترنت منتشرة في كل الأحياء.

بو الأنوار[مخاطبا الوالي]: الأنترنت ليست متاحة لكل الناس وليست كل الكتب فيها مجانية.

الوالي[يفصل في الأمر]: المكتبة ضرورية في كل بلدية. الكتاب كالماء والهواء لا يمكن الاستغناء عنه. ناقشا الأمور الأخرى.

رئيس مصلحة الميزانية[مخاطبا الوالي]: لا يجوز ياسيدي لأن الميزانية لا تسمح ببناء المكتبات.

الوالي[بحزم]: بل يجوز. جوزها هذه المرة وناقشا الأمور الأخرى.

[يعود الوالي إلى الجلوس وراء طاولة مكتبه بينما يجلس الاثنان من جديد يتهامسان ويتناقشان. وفجأة رئيس مصلحة الميزانية غاضبا.]

رئيس مصلحة الميزانية[هاتفا بأعلى صوته]: لا يجوز، لا يجوز، لا يجوز.  

بو الأنوار: بل يجوز ويجوز ويجوز. نحن بحاجة إلى المسرح؟

رئيس مصلحة الميزانية:  هناك مسرح المدينة.

بو الأنوار: لا يكفي. لا بد من وجود مسرح في كل بلدية. سكان الحي بحاجة لأن يجتمعوا ويروا مشاكلهم على المسرح ويناقشوها.

رئيس مصلحة الميزانية: أنا مع تسلية الناس والترفيه عنهم في البلديات والأحياء. سنقيم مهرجانات فنية في كل الأحياء للرقص والأغنية الفولكلورية، مهرجانات وطنية ودولية.

بو الأنوار: المهرجانات الوطنية والدولية تتوج النهضة الثقافية وليست بديلا لها. وتبقى المهرجانات فقاقيع في الهواء دون نهضة ثقافية. يجب أن يكون لدينا ما نقدمه في المهرجانات لا أن نكتفي بتقديم إنتاج الآخرين.

الوالي[يتوقف عن الكتابة ويقوم من وراء مكتبه ويقف بينهما]: ما المشكلة الآن؟

رئيس مصلحة الميزانية: يريد السيد بو الأنوار بناء مسرح في كل بلدية.

الوالي: وما المشكلة؟ هل هي في الميزانية؟

رئيس مصلحة الميزانية: لا يجوز ياسيدي. [يقترب منه ويهمس في أذنه بحيث يسمع الجمهور]: المسرح خطير يهدد أمن المدينة ياسيدي.

الوالي: يهدد أمن المدينة! أعرف أن المسرح خلق لتوعية الجمهور؟

رئيس مصلحة الميزانية [يهمس في أذنه بحيث يسمع الجمهور]: مسرح في كل حي يعني بؤرة شغب في كل حي. لا يجوز ياسيدي. يقول المثل: الباب الذي تأتيك منه الريح، أغلقه لتستريح. لماذا نفتح في كل حي بابا تهب منه الريح علينا؟ سوف يهاجمونك ياسيدي ويتهمونك ويحملونك مسؤولية كل ما يحدث. ألا تكفينا صحف المعارضة؟

الوالي: ما دمنا نعمل في النور والشفافية فلا خوف من النقد. ثم إن صحف المعارضة كشفت كثيرا من شبكات الفساد والمرتشين وهي لا تهدد الأمن.

رئيس مصلحة الميزانية: الصحفيون يعرفون حدودهم فلا يتجاوزونها لكن المسارح يمكن أن تهيج الجماهير. لا يجوز ياسيدي.

الوالي: وأنا أقول: "يجوز". لا شأن لك بالسياسة تحدث في مجال اختصاصك.

رئيس مصلحة الميزانية: مكتبة ومسرح وقاعة سينما ومعهد بلدي لتعليم الموسيقى ومرسم لتكوين الرسامين. كل ذلك للشباب؟

بو الأنوار: نعم. علينا الاهتمام بالشباب.

رئيس مصلحة الميزانية: نحن نهتم بالشباب وهناك برنامج ولائي لتشغيل الشباب.

بو الأنوار: ليس الشباب بحاجة إلى عمل فقط، بل إلى أشياء ممتعة ومفيدة يمضون فيها أوقات فراغهم حتى لا ينحرفوا.

الوالي: هذا صحيح.

بو الأنوار: يجب أن نشجعهم أيضا على التنافس بتنظيم مسابقات بلدية وولائية وتخصيص جوائز قيمة ليزداد إبداعهم.

رئيس مصلحة الميزانية: لا يجوز ياسيدي. أليس الأفضل أن تصرف هذه الأموال في تطوير العلوم لنصل إلى مصاف الدول المتقدمة؟

بو الأنوار: بل يجوز. ليس بالعلم وحده تتطور الأمم. أنت لا تقدر قيمة الأدب والفن. هما اللذان يحافظان على القيم ويعيدان التوازن إلى المجتمع.

 الوالي: ألا تدري أننا لو قمنا بهذه الإجراءات سوف نخفض من فاتورة الأدوية ومن الأمراض النفسية ومن الجرائم والانحرافات وحوادث الطلاق والتمزق العائلي ونزيد من مردودية العمل؟

رئيس مصلحة الميزانية: لا يجوز ياسيدي. ميزانية الولاية لا تكفي.

الوالي: أليس لدينا ميزانية؟

رئيس مصلحة الميزانية: طبعا. بنود الميزانية محددة وليس هناك بند مخصص للمسرح وللأمور الأخرى.

الوالي: أليس هناك بند للثقافة؟

رئيس مصلحة الميزانية: بلى. لكن ميزانيته محدودة، محدودة جدا لا تحتمل كل هذه النفقات.

الوالي: تصرف. حول من بند المشاريع الاقتصادية والاجتماعية إلى بند الثقافة وسأوقع على مسؤوليتي.

رئيس مصلحة الميزانية[بحماس]: لا يجوز ياسيدي.  يا سيدي. القانون لا يسمح ولا يمكنني أن أوقع على قرار كهذا حتى لو أمرتني. مع احترامي لك ياسيدي، أنا حريص على المال العام ومسؤول أمام الله والشعب. لا يجوز، لا يجوز، لا يجوز.

الوالي: لا يجوز أن توقع على قرار كهذا لأنك حريص على المال العام! وهل يجوز أن تحول ميزانية الثقافة إلى مشاريع وهمية تتقاسمها مع رئيس الديوان والمقاول حنفي. أين كان حرصك على المال العام؟

رئيس مصلحة الميزانية: أنا ياسيدي!

الوالي: طبعا أنت. أردت اختبارك فقط قبل أن أوقفك عن العمل وأحولك للتحقيق بتهمة الفساد والاختلاس أنت وشركاؤك.

رئيس مصلحة الميزانية: سامحني ياسيدي. سوف أفعل ما تريد وأوقع على ما تقرره.

الوالي: توقيعك لا يجوز الآن. لا حاجة بنا إلى توقيعك.

رئيس مصلحة الميزانية: سامحني هذه المرة فرئيس الديوان هو الذي ورطني وأقنعني أنك محال للتحقيق وسيعزلونك من الولاية. لا تحولني إلى التحقيق ياسيدي.

الوالي[بحزم]: لا يجوز أن أسامحك. لا بد أن تحاسب مع شركائك. اذهب من أمامي الآن.[يخرج  رئيس مصلحة الميزانية. يلتفت إلى الكاتب محجوب]: سأعين اليوم رئيس مصلحة الميزانية الجديد وهو صديقك السيد بلقاسم فاضل محاسب بلدية حي المنصورين.

بو الأنوار: هو محاسب نزيه ويستحق المنصب.

الوالي: سوف نفتح اكتتابا للتبرعات لبناء هذه المرافق، جزء تقدمه الولاية وجزء تدفعه البلديات والباقي تتكفل به التبرعات. كل مواطن يتبرع بما يقدر عليه.

بو الأنوار: أرجو أن تصبح إذاعة المدينة صلة وصل بين الأدباء والفنانين وبين الجمهور وأن تقدم إبداعهم وإنتاجهم.

الوالي: أتعهد لك بذلك. أما التلفزة فسوف أعمل مع زملائي الولاة أن تكون صلة وصل بين أدباء وفناني القطر وبين الجمهور.

[تطفأ الأضواء ثم تنار من جديد]

 

المشهد الثامن

 

[يدخل المفتش إلى مكتب الوالي يحمل محفظته وتدخل معه السكرتيرة. يضع المفتش المحفظة على طاولة المكتب.]

السكرتيرة: هل أستدعي رئيس الديوان يا سيدي؟

المفتش[وهو مازال واقفا]: بعد قليل. [يخاطبها]: قيل لي إنك جديدة في منصب السكرتيرة.

السكرتيرة: نعم يا سيدي.

المفتش: أين كنت تعملين؟

السكرتيرة: في مصلحة التنظيم العام مكلفة بالبطاقات الرمادية.

المفتش: من عيّنك سكرتيرة هنا؟

السكرتيرة: رئيس الديوان.

المفتش: هل كان يعرفك من قبل؟

السكرتيرة: لا يا سيدي. طلب منه الوالي تعيين سكرتيرة تحمل شهادة "سكرتاريا". فطلب من رئيس مصلحة التنظيم العام أن يرشح له واحدة فاختارني لأني كنت الوحيدة المؤهلة.

المفتش: ألم تكن سكرتيرة الوالي القديمة مؤهلة؟

السكرتيرة: لا يا سيدي. مؤهلها الوحيد أنها قريبة رئيس الديوان.

المفتش: قولي لي يا آنسة: هل صحيح أن رئيس الديوان كان ينصح الوالي ويحذره من خطورة مشاكل المدينة والوالي لا يستمع لنصائحه؟

السكرتيرة: هذا غير صحيح يا سيدي. منذ استلمت عملي هنا حذرني رئيس الديوان من الحديث عن مشاكل المدينة أمام الوالي، وهددني بأن يعيدني إلى كتابة البطاقات الرمادية إن لم أنفّذ تعليماته.

المفتش: هددك إذًا؟

السكرتيرة: نعم. وطلب مني أن أسجل كل مقابلات الوالي وهواتفه دون علمه.

المفتش: وهل نفّذت ما طلب؟

السكرتيرة: نعم يا سيدي. وأعلمت الوالي ليأخذ حذره واحتياطاته. وأعلمته أيضا عن مشاكل المدينة ومشاكل الحي الذي أقطنه.

المفتش[يهزّ رأسه ويفكر]: اذهبي أنت الآن وأرسلي رئيس الديوان. يجلس على كرسي  الوالي ويسجل. [ يدخل رئيس الديوان.]

رئيس الديوان: صباح الخير يا سيدي.

المفتش: صباح الخير.[ينهض من مكانه ويدعوه إلى الجلوس على المقعد الملاحق للمكتب ويجلس في مواجهته ويسأله]: تدعي السكرتيرة أنك هددتها بإعادتها إلى كتابة البطاقات الرمادية إذا أطلعت الوالي على مشاكل المدينة. هل هذا صحيح؟

رئيس الديوان[يفاجأ وينتفض كأن لدغته أفعى]: ماذا؟ أنا هددتها! كاذبة، كاذبة يا سيدي. أنا الذي عيّنت هذه السكرتيرة، وكنت مخطئا في تعيينها فهي ليست في  المستوى.

المفتش: هل طلبت منها أن تسجل كل مقابلات الوالي ومكالماته الهاتفية بالمسجلة؟

رئيس الديوان[دون تردد]: للحفاظ على أمنه يا سيدي. ألم أقل لك إن هذه السكرتيرة ليست في المستوى؟

المفتش: هل صحيح أن الوالي طلب منك أن تكون السكرتيرة الجديدة مؤهلة ومعها شهادة "سكرتاريا"؟

رئيس الديوان[ يتردد ثم يجيب]: نعم يا سيدي.

المفتش: هل كانت السكرتيرة القديمة تحمل هذه الشهادة؟

رئيس الديوان: لا يا سيدي. لكنها كانت موهوبة ولديها مؤهلات أهم من الشهادة. كانت منضبطة ومطيعة وكاتمة للسّر.

المفتش: أي سرّ، سر الوالي أم سرك أنت؟ ومطيعة لك أم للوالي؟

رئيس الديوان: أنت تظلمني يا سيدي.

المفتش: ما علاقتك بحنفي؟

رئيس الديوان[منكرا معرفته به]: حنفي! من حنفي يا سيدي؟

المفتش: المقاول حنفي، ألا تعرفه؟

رئيس الديوان[بخبث]: لا أعرفه معرفة شخصية.

المفتش: لكن أكثر مشاريع الولاية تمنح له وبصورة غير قانونية دون مناقصة ودون إشراك المقاولين الآخرين.

رئيس الديوان: لأنه صديق الوالي يا سيدي. وقد ألمحت للوالي بأن إعطاءه المشاريع غير قانوني.

المفتش: ألمحت له فقط. لماذا لم تصارحه وتقوم بواجبك بتحذيره من عاقبة تجاهل القوانين؟

رئيس الديوان: الحقيقة أنه مرتبط بالوالي ارتباطا وثيقا، والوالي يعرف أن هذا مخالف للقانون. وخفت أن أصارحه فيعتبرني عدوه ويلصق بي تهمة تشوّه ملفي الوظيفي فسكتّ.

المفتش: المهم أنك لم تعارض.

رئيس الديوان[بتذلل]: نعم يا سيدي. هذه هي الحقيقة.

المفتش[يسلمه بعض الأوراق]: هذه صورة عن المكالمات الهاتفية التي أجريتها مع المقاول حنفي والتسجيلات عندنا. هل تنكر أنك أجريت هذه المكالمات مع السيد حنفي؟

 [يفاجأ رئيس الديوان ويصمت.]

المفتش: هذه المكالمات تثبت تواطؤك مع السيد حنفي وتآمرك على الوالي.

رئيس الديوان[ينهار]: أرجوك يا سيدي، أنا أعطيت زهرة عمري لخدمة الولاية. أنا أعمل منذ خمسة وعشرين عاما في خدمة الدولة فلا تشوه ملفي.

المفتش[بحزم]: كنت تعمل خلال هذه المدة في خدمة نفسك ومصلحتك لا في خدمة الدولة.

رئيس الديوان: أرجوك يا سيدي لا تحطم مستقبلي ومستقبل عائلتي.

المفتش: كنت تريد أن تحطم مستقبل الوالي وعائلته ظلما.

رئيس الديوان: أنا نادم يا سيدي. والله العظيم أنا نادم.

المفتش: ما علاقتك برئيس بلدية المنصورين والمقاول عباس؟

رئيس الديوان: رئيس بلدية المنصورين هو الذي عرفني بالمقاول عباس لكن نشاطه محصور في تلك البلدية ولا أعرف شيئا عنه.

المفتش: لكنك قبلت رشوة من المقاول عباس وشاركت مع رئيس البلدية في منح عقارات من أملاك الدولة له ولأقاربه.

المفتش: أنا نادم ياسيدي، أرجوك لا تحطم مستقبلي.

رئيس الديوان: كان يجب أن تفكر في مستقبلك قبل أن تخون أمانة الوظيفة. على كل حال ستحول إلى مجلس التأديب بالنسبة إلى الوظيفة. وستحول إلى المحكمة لتحاسب على الرشوة والاختلاسات والمخالفات.

[تطفأ الأضواء ثم تنار من جديد.]

 

المشهد التاسع

[يفتح الستار على مكتب الوالي ونرى المستشار قلقا ومتوترا يسير في الغرفة ذهابا وإيابا، ثم ينظر إلى الساعة. تدخل السكرتيرة .]

المستشار: [بقلق]: تأخر الوالي في اجتماع المجلس الولائي.

السكرتيرة: لماذا أنت قلق إلى هذا الحد؟

المستشار[يتجاهل السؤال]: هل تعتقدين أنهم سيطلبون عزله؟

السكرتيرة[تهز كتفيها دلالة على اللامبالاة]: كل شيء ممكن.

المستشار: لا بد أن أعضاء المجلس الولائي يهاجمونه الآن ويحملونه كل مشاكل المدينة.

السكرتيرة: ربما!

المستشار: ربما أعلن استقالته قبل أن يعزلوه.

السكرتيرة[ببرودة]: احتمال ممكن.

المستشار[متعجبا]: يبدو أنك لا تهتمين بما يحدث للوالي!

السكرتيرة: ولماذا أهتم؟ أنا أقوم بعملي هنا أو في كتابة البطاقات الرمادية، أما أنت فخائف على منصبك.

المستشار: أنا لست خائفا على نفسي. أنا أشعر بالذنب لأنني لم أكن في المستوى وربما تسببت في عزله.

[يدخل الوالي وتقف السكرتيرة قرب الباب تنتظر وتستمع إلى حديث الاثنين.]

المستشار: خيرا.

الوالي: هل تريد أن تعرف ما حدث في اجتماع المجلس الولائي؟

المستشار: إذا كنت تود إخباري ولم يكن في الأمر سرّ.

الوالي: قابلني الأعضاء بالتصفيق والترحيب.

المستشار: غريب! ألم يكونوا يطلبون عزلك؟

الوالي: فوجئت بترحيبهم وظننته يسخرون مني، لكنهم أطلعوني على ما كتبته جريدة أصداء المدينة صباح اليوم.[يخرج من محفطته الجريدة ويعطيها له مضيفا]: انظر بنفسك.

المستشار[يتناول الجريدة ويقرأ]: الوالي يقضي عطلته في حي "المحقورين" ويكتشف ألاعيب رئيس البلدية ورئيس ديوان الولاية. [يتابع القراءة]: كشف مصدر مطلع رفض الكشف عن اسمه أن الوالي قضى جزءا من عطلته في حي المحقورين منتحلا مع مستشاره صفة صحفيين، واطلعا على مشاكل الحي، وعلى تجاوزات رئيس البلدية بالتواطؤ...الخ. وقضى بقية العطلة متجولا في الأحياء الأخرى.

الوالي: كان عدد الجريدة مع كل أعضاء المجلس الولائي، لذلك تغير موقفهم من المطالبة بعزلي إلى رفضهم أن أقدم استقالتي وطالبوا الحكومة بعدم قبولها.

المستشار[بابتهاج]: هذا خبر عظيم. ترى من زود الجريدة بهذه الأخبار؟

السكرتيرة: مبروك ياسيدي. سأذهب إلى مكتبي.

الوالي: انتظري. أجيبي عن سؤال المستشار قبل أن تذهبي.

السكرتيرة[محرجة]: لا أدري. ربما الدكتور دلال الخير. ربما السيدة نسيمة.

الوالي: هما لا يعرفان التفاصيل التي ذكرتها الجريدة.

السكرتيرة: ربما السيد المفتش فهو يعرف كافة التفاصيل.

الوالي: هناك تفاصيل لا يعرفها المفتش.[ينظر إليها بامتنان]: في كل الأحوال أنا أشكر من فعل ذلك كائنا من كان.

السكرتيرة[بخجل شديد]: بإذنك ياسيدي. [تخرج.]

المستشار: وماذا بشأن استقالتي؟

الوالي: استقالتك مرفوضة. وستبقى معي ما بقيت في هذه الولاية لنشرع في الإصلاحات. وعليك أن تستفيد مما حصل كما استفدت أنا.

المستشار: شكرا على ثقتك بي.

الوالي: لكنها ليست ثقة مطلقة ولا عمياء. اذهب الآن إلى قاعة الاجتماعات لتطلع على القرارات الثقافية وتلقي نظرة عليها قبل أن أوقعها.

 [تدخل السكرتيرة.]

السكرتيرة: السيدة نسيمة هنا تريد مقابلتك.

الوالي[ينهض الوالي لاستقبالها]: أدخليها فورا. [تدخل نسيمة وهي ترتدي ثوبا أنيقا ورديا صيفيا]: أهلا وسهلا. أشرقت الأنوار. تفضلي بالجلوس. [تجلس على الأريكة].

نسيمة: شكرا. شكرا.

المستشار: أهلا بالسيدة نسيمة. اسمح لي يا سيدي الوالي بالذهاب إلى قاعة الاجتماعات. [يشير الوالي برأسه ويخرج المستشار.]

الوالي:  جئت في الوقت المناسب لتحضري توقيع قرار إنشاء مجمع ثقافي في كل بلدية.  

نسيمة: في الحقيقة كنت مارة من هنا وأردت أن أطمئن على سليم فقد اشتقت إليه.

الوالي:  اشتقت إلى سليم فقط ؟

نسيمة[يبدو عليها الخجل وتتجاهل سؤاله]: ما الأخبار؟

الوالي: لم يقبل أعضاء المجلس الولائي أن أقدم استقالتي. كنت أرجو أن أستقيل لأقضي عطلة طويلة معك ومع الأولاد قبل أن أجد عملا آخر.

نسيمة: من حسن حظ المدينة أنهم أصروا على بقائك. أنت الآن عرفت مشاكلها على الطبيعة وأنت القادر على حلها.

الوالي: لكن هذا يعني أنني لن أحصل على عطلة قبل سنة، وسنقضي شهر العسل وسط مشاكل المدينة.

نسيمة: موافقة. ويسعدني أن أوفـّر لك الجو الملائم في المنزل لتستطيع حل هذه المشاكل.

الوالي: لا. لن تبقي في المنزل. ستكونين عضوا في لجنة مسارح أحياء المدينة مع السيد محجوب بو الأنوار.

[تدخل السكرتيرة.]

السكرتيرة: رئيس مصلحة الميزانية يقول إن القرارات جاهزة للتوقيع ياسيدي.

الوالي:  دعي الجميع يدخلون.

[تخرج السكرتيرة ويدخل الدكتور دلال الخير والكاتب محجوب بو الأنوار والمستشار ورئيس مصلحة الميزانية الجديد وتدخل معهم السكرتيرة أنيسة ثم تتجه إلى مكتبها فيناديها الوالي]: أنت معنية أيضا بحضور التوقيع.

السكرتيرة: شكرا ياسيدي.

الوالي:  ليس بصفتك سكرتيرة بل بصفتك رئيسة الديوان الجديدة.

السكرتيرة[مندهشة]: أنا ياسيدي!

الوالي: طبعا. اطلعت على ملفك ورأيت أنك حصلت على ليسانس في الحقوق.

السكرتيرة: نعم ياسيدي. كنت أدرس أثناء عملي.

الوالي:  لن أجد أحرص منك على خدمة المواطنين.

السكرتيرة: شكرا ياسيدي. [بحماس وصدق]: أرجو أن أكون عند حسن ظنك.

الحاضرون[يهنئونها تباعا]: مبروك. [يضع رئيس مصلحة الميزانية ملف القرارات على الطاولة بينما يقف الجميع على يمينه ويساره أثناء التوقيع ثم يوقع القرارات وسط تصفيقات الحاضرين.]

بوالأنوار[يخاطب الوالي]: أود أن أهنئ الفنانين بهذه المناسبة وأوجه بعض الأبيات إلى كل فنان يحترم فنه.

الوالي: تفضل.

بوالأنوار[يخرج ورقة من جيبه ويقرأ بإلقاء شعري]:

سخّرَ الله لنا الفنَّ ضياءْ

يبهج القلبَ وللروح غِذاءْ

وحبا الفنّان دون الناس إكسير الحياةْ

يقلبُ القبح جَمالاً، يُنبتُ الأرضَ المَواتْ

***

ينشرُ الشعرَ عبيراً يملأ الكونَ شذاهْ

يُرسلُ الألحانَ شدْواً يسعدُ الأذنَ صداهْ

يوقِدُ الكِلـْمَةَ نوراً يوقظُ العقلَ ضِياهْ

يَرسُمُ اللوحة سِحراً يبهرُ العينَ سناهْ

***

أيها الفنّانُ ياسِرَّ الوجودْ

اجتهِدْ في الفنّ واعملْ للخلودْ

أبدع ِ الشعرَ أو الرسمَ أو اللحنَ بنبْضِكْ

وترفـَّعْ، واحمِهِ ـ من كل ما يُخزي ـ كعِرضِكْ

وانزَع البُغْضَ ولا تزرعْ سوى الحبِّ بروضِكْ

وليكنْ فنُّكَ كابوساً مخيفاً للطغاةْ

ونذيراً يوقظ الغافل من ذلِّ السُّباتْ

وحُبوراً يُسعدُ البائسَ يُنسيهِ شقاهْ

إنّما الفنُّ جمالٌ ينعشُ الروح بهاهْ

وحياةٌ دونَ فنٍّ كالمماتْ

فالحياةُ الفنُّ والفنُّ الحياةْ

الوالي[بتمهل وتمعّن]: صحيح، الحياة الفنُّ والفنُّ الحياةْ

الجميع[يرددون بحماس]: الحياة الفنُّ والفنُّ الحياةْ

يصفق الجميع بينما يسدل الستار.

ستار

 لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الفصل الثالث

للاطلاع على فصول المسرحية، انقر هنا: عطلة السيد الوالي

للاطلاع على المسرحيات الأخرى للكاتب انقر هنا: المسرحيّات