غرفة التدخين
مرّ اليوم الأول من رمضان في الثانوية على ما يرام. ولكن الجو تكهرب في اليوم الثاني، وسادته سحب كثيفة سوداء تنذر بعاصفة لا يدري أحد مداها. كان السبب إجراء إداريا بريئا، ورد فعل غير بريء على هذا الإجراء، قوبل برد عنيف مثله، واشتد الاحتكاك، وكاد أن يقع الانفجار.
لعل ظروف تكوين كل من عبد الرحمن السردي وحكيم بوعلام، هي التي جعلت منهما طرفي نقيض رغم نقاط التشابه الكثيرة بينهما. سنهما متقاربة، وكلاهما عنيف ومستبد برأيه، لكن أحدهما رزين هادئ يعمل من وراء ستار، والثاني عصبي المزاج. السردي تكون في المدرسة الجزائرية، بينما تخرج بوعلام من المدرسة الفرنسية، فهو خريج "ليسيه ديكارت". كلاهما تلقفته مجموعة متطرفة، الأول دينية متعصبة، والثاني عنصرية متعصبة. الأول يرى أن تخلي الناس عن الدين هو سبب الانحطاط، والثاني يرى أن التمسك بالدين هو سبب التخلف.
يعتقد السردي بضرورة التضحية بنصف أفراد المجتمع من أجل إصلاحه إذا لزم الأمر، وهو مستعد للمساهمة في تخليص المجتمع من هذا النصف الفاسد. ونقل عنه قوله: "إن معظم الأساتذة في الثانوية الجديدة لابد أن يردوا في قوائم التصفية، حين يجد الجد، وتبدأ عملية تطهير المجتمع. فهم إما شيوعيون أو بعثيون أو مستغربون أو فنانون منحلون". ويرى بوعلام أن الشعب لا زال متخلفا، ولابد له من نخبة مستنيرة تقوده. وهو وأمثاله يشكلون هذه النخبة. أما معظم الأساتذة في الثانوية من المعربين والإسلاميين، فهم ظلاميون يعيشون في القرون الوسطى، ولابد من منعهم من إلقاء البلاد في الهاوية.
كان كل منهما متحفزا مستعدا للانقضاض حين تأتي الفرصة المواتية، وقد سنحت لهما في رمضان، حين خصص المدير كعادته في كل عام غرفة منعزلة في الجناح الإداري للأساتذة الأجانب يدخنون فيها ويروون عطشهم حفظا لكرامتهم. لمحت الناظر في اليوم الاول يتحدث مع السردي ومقادري حديثا شممت منه رائحة التحريض.
وصلت متأخرا في اليوم الثاني. كان التلاميذ يصطفون في الساحة، ورأيت مجموعة من الأساتذة الجزائريين بينهم مقادري والسردي يتجهون نحو المدير الواقف كعادته يشرف على الدخول إلى الأقسام. كنت أراهم من بعيد وأنا أصعد إلى القسم يشوحون بأيديهم وتدل تعبيرات وجوههم وحركات أجسامهم على أنهم غاضبون، ويحتجون على أمر ما. ورأيت المدير يومئ بيده أيضا ثم يسحب متزعميْ الاحتجاج ويتحدث معهما. لكنهما تركاه ولوحا بأيديهما مهددين. وعرفت فيما بعد أنهما طالبا بإغلاق القاعة، فلم يعد هناك أجانب في الثانوية غير جاك ومارتا، وهما يحملان الجنسية الجزائرية. حاول إقناعهما بأن الصيام عبادة للمسلمين، ولا يجوز قسر غير المسلمين عليه، ولكنهما لم يقتنعا، وانصرفا عنه مهددين بإضراب عام في الثانوية. كما عرفت أنه بحث عن العروسي ليهدئ الأوضاع فلم يجده.
وفي وقت الاستراحة تجدد الاجتماع في غرفة الأساتذة. كان الجميع يتكلمون ويهمهمون بعبارات الاحتجاج. كنت أراقب من بعيد ما يحدث، حين رأيت عبد الرحمن السردي يسر شيئا في أذن مقادري فأومضت عيناه ببرق مخيف مفاجئ، وتوقعت أن ينفجر الرعد، فالبرق عادة ينذر بالرعد. وصح ما توقعته إذ أن مقادري انفجر فجأة بصوت مبهم ومتقطع في البداية، ثم انخفضت حدته وأصبح واضحا: "لا. لا. ثم لا. لن نقبل انتهاك حرمة رمضان في معهد من المفروض أن تكون كلمة الله فيه هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وإذا كان المدير لا يستمع لنا فسنتوقف عن الدراسة. سنغلق هذه الغرفة بأنفسنا لأنها مأوى للشياطين، كانت يداه وهو يخطب ملتصقتين بالكرسي وعمامته وكرشه يتحركان إلى الأمام والخلف ويمينا وشمالا تبعا لتحرك رأسه وجسمه مع أن قدميه ثابتتان في الأرض. أما السردي فكان واقفا ببرودة. كان وجهه بلحيته الكثة وعينيه الثعلبيتين خاليا من أي تعبير.
وقبل أن يتحرك الموكب حدث الانفجار في مكان آخر من الغرفة، حيث يجلس الفرانكوفون. فاجأ حكيم الذي كان هادئا لا يحرك ساكنا المحتجين بانتفاضه العنيف، صائحا بالفرنسية: " هل تريدون ﺇقامة محاكم تفتيش عندنا؟ وهل نحن في القرون الوسطى؟ ومن نصبكم لتتعدوا على حرية البشر؟"
ساد في القاعة صمت رهيب، وتوقف الرجال والنساء عن الأحاديث الجانبية، وصوبوا أنظارهم تجاه حكيم. أما مقادري والسردي ومجموعتهما، فقد بهتهم بتدخله المفاجئ. تحول وجهه الأبيض إلى بني داكن، وأصبحت عيناه القلقتان دائما شعلتي غضب. الزبد الأبيض يتطاير من فمه ويرتجف شاربه وذقنه المثلثة المدببة. كان يقفز إلى الأمام وإلى الخلف وإلى الأعلى بجسمه الضئيل وكأن في قدميه نابض. أضاف بلهجة تحد واضحة ليس فيها لبس: "أنا مفطر. وسوف أذهب أدخن مع زملائي، ومن كان منكم رجلا فليعترض طريقي". ونظر وهو يقول العبارة الأخيرة إلى مقادري والسردي وكأنه يدعوهما إلى مبارزة. نهض عمار من كرسيه ووقف بجانب حكيم. واقترب السردي ووجهه ينذر بالشر في حركة تحد واضحة ليسد عليهما الطريق. كان كل من الفريقين كبرميل بارود ينتظر شرارة الانفجار. في تلك اللحظة دخل ﺁكلي مع العروسي الذي سحب مقادري والسردي و تحدث معهما، بينما أخذ ﺁكلي حكيم من يده وخرج معه. واستطاع العروسي بحنكته تهدئة مقادري والسردي وإقناعهما بأن ما يقومان به لا يخدم الإسلام.
قرع الجرس، وتوجه الأساتذة إلى أقسامهم. اقتنع مقادري بما قاله خالي العروسي، أما السردي فحمل محفظته وهز رأسه متوعدا وخرج. انتهت الأمور عند هذا الحد ولم يعد أحد للحديث عن غرفة التدخين.
عبد الله خمّار
من رواية "جرس الدّخول إلى الحصّة"