تابع الفصل الأول
من كتاب المواضيع الاجتماعية
للكاتب عبد الله خمّار
بناء المواضيع الاجتماعيّة
نبدأ جرياً على العادة التي اتبعناها في الكتابين الأول والثاني من هذه السلسلة، ببناء المواضيع قبل التطرق إلى دراستها وذلك لنرافق الكاتب خطوة بخطوة في وضع لبنات موضوعه واحدة فوق الأخرى ليسهل علينا تحليلها ودراستها في المستقبل، فكيف يبني الكاتب موضوعه أو مواضيعه ؟
كاتب الرواية يضع عناصر موضوعه بدقة قبل الكتابة مثله في ذلك مثل كاتب المقالة. كلاهما يختار في البداية الفكرة الأساسية التي يبني عليها موضوعه وتحدد موقفه أو وجهة نظره ورسالته إلى القارئ وتشكل الدافع الأساسي لكتابة الموضوع .
كاتب المقالة والموضوع : ولنفرض أن كاتب المقالة أراد أن يتحدث عن الإدمان على الكحول وكان الموضوع الذي يريد معالجته " الإدمان على الكحول ، أسبابه ، وأثره على الفرد والأسرة والمجتمع، وعلاجه"
فكيف ينجز موضوعه ؟
يضع في البداية عناصر موضوعه . ولنفرض أنها كما يأتي :
المقدمة : تعريف الإدمان
العناصر :
1- أسباب الإدمان: متنوعة ومعظمها أسباب اجتماعية.
2 - تأثير الإدمان في الفرد مما يؤدي إلى انهياره :
أ- في مظهره الجسمي : إهمال مظهره ونظافته هندامه.
ب ـ في عقله : فقدانه السيطرة على عقله و قيامه بتصرفات هوجاء.
ج - في إرادته : فقدانه السيطرة على إرادته حتى في حالة الصحو وتحكم الكحول فيه.
د - في معنوياته : يفقد الإحساس بالكرامة ويتنازل عن المبادئ، ويفقد احترامه لنفسه .
هـ - في أحاسيسه : فهو موزع بين الشعور بالذنب، وبين تبلد أحاسيسه نتيجة الإدمان
و-احتقار الناس له وسخريتهم منه .
3 ـ تأثيره في الأسرة مما يؤدي إلى انهيارها مادياً ومعنوياً :
أ ـ انهيار العلاقة الزوجية نتيجة فقدان ثقة الزوجة به واحترامها وحبها له، وتخليه عن المسؤولية العائلية.
ب ـ ضياع الأولاد نتيجة الجوع والعري والفقر والجهل والخوف.
ج ـ تلوث سمعة الأسرة.
4-تأثيره في المجتمع : التفكك الأسري يؤدي إلى الانحلال الأخلاقي وتوسع دائرة الفقر والجهل والمرض ونشوء أطفال مهزوزين معرضين للاضطرابات والأمراض النفسية.
5ـ العلاج : متعلق بالأسباب ويكون بمعالجة الإدمان صحياً واجتماعياً وأخلاقياً.
الخاتمة : ملخص لما سبق.
تحرير المقالة : ينجز كاتب المقالة الاجتماعية موضوعه معتمداً على هذه العناصر وينظمه في فقرات، مخصصاً لكل فكرة فقرة، مدعماً كل فكرة بمثال أو أمثلة مستشهداً ببعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وأقوال الحكماء وأبيات الشعر المتصلة بالموضوع، ليحدث التأثير المطلوب في القارئ .
الروائي والموضوع : إذا كان كاتب المقالة يعتمد على "القول" ويتفنَّن فيه، فالروائي يعتمد على"الفعل"، فهو لا يتحدث عن أضرار الخمر، بل يجعلنا نعاينها ونلمسها بأنفسنا. ولا يتحدث عن السكير بل يرينا سكيراً بشحمه ولحمه، له وجود واسم ووظيفة وأسرة، فنرى بأم أعيننا مظهره وهندامه وتأثير السكر عليه. نسمع ثرثرته وهذيانه. نعاين سخرية الناس منه واحتقارهم له ومدى سيطرة الإدمان عليه. نعيش مع زوجته وأولاده فنحس بجوعهم ونتأثر بعريهم وبارتجافهم وإحساسهم بالخوف. نشهد شجاره الدائم مع زوجته ونتأسف لتوتر الجو في المنزل ونحس بأن هذه المأساة لابد أن تنتهي بكارثة بالنسبة لهذه الأسرة كلها. فكيف يبني الروائي موضوعه ؟
لنأخذ نموذجاً من بناء الموضوع ولنرافق الكاتب في وضع لبنات بنائه .
نموذج من بناء الموضوع : السكّير (دوستويفسكي) :
يتم بناء الموضوع في مرحلتين:التخطيط أولاً ثم التنفيذ ثانياً.
أولاً: مرحلة التخطيط: لنفرض أن الكاتب اعتمد على نفس العناصر السابقة في مخطط المقالة لبناء موضوعه، وهو أحد مواضيع روايته الشهيرة "الجريمة والعقاب" الصادرة عام 1866 فيكون مخطط بناء الموضوع كما يأتي:
1ـ الفكرة المستهدفة : بيان عواقب إدمان الخمر على الفرد والأسرة والمجتمع ، وتحميل الفرد والمجتمع كليهما مسؤولية الإدمان.
2 ـ عناصر الموضوع : يضع عناصر موضوع "المقالة" المذكور آنفاً كما هو مضيفاً إليها التعريف بالشخصيات والأمكنة المناسبة له.
3 ـ خلق الشخصيات المعبرة عن الموضوع:
أـ السكير: لإظهار تأثير الإدمان في جسمه وعقله وإرادته.
ب ـ الأسرة ( الزوجة والأولاد ) لإظهار تأثير الإدمان مادياً ومعنوياً عليهم .
ج ـ شخصيات ثانوية أخرى تخدم الموضوع، من أصدقاء السكير ومن رواد الحانة ومن الجيران.
4 ـ نسج العلاقات الملائمة للموضوع:
أ ـ علاقة سلبية بين الزوجين تتسم بالتوتر والشجار الدائم نظراً لفقدان الثقة والاحترام والمحبة والتعاون.
ب ـ علاقة خوف وإحساس بعدم الأمن بين الأولاد والأبوين.
ج ـ علاقات أخرى بين السكير ورواد الحانة، وبين الأسرة والجيران وأهمها احتقار الناس له.
5 ـ تحديد الأمكنة الملائمة للموضوع المطروح:
أ ـ الحانة : المكان الطبيعي للسكير.
ب ـ البيت :مكان الأسرة.
و ـ أمكنة ثانوية أخرى كالشارع مثلاً.
6 ـ توجيه الحوار وفق عناصر الموضوع المطروح لإظهار تأثير الإدمان في الفرد والأسرة بصورة موضوعية أما تأثيره في المجتمع فهو عنصر استنتاجي كما رأينا.
7ـ الإهتمام بالأسلوب من خلال :
أ- استخدام الحوار القصير المتميز بالصدق والواقعية، ( التمييز بين لغة السكيرين ورواد الحانة ولغة الصاحين، وبين لغة زوجته ذات الأصل "الأرستقراطي" ولغة الجيران ذوي الأصول الشعبية .إلخ .
ب- الاهتمام بوصف الأشخاص: (السكير وحالته المزرية، والأسرة وحالتها البائسة)، ووصف الأمكنة:(الحانة والبيت الكئيب الضيق ذي الغرفة الواحدة)، ووصف انفعالات الشخصيات من حزن وغضب ودهشة واحتقار وشفقة ليقنعنا عن طريق الحوار والوصف بعواقب السكر والإدمان بصورة غير مباشرة ودون وعظ وإرشاد.
ج- تحريكه عواطف القارئ تجاه الأسرة والسكير من حزن وشفقة وغيرة وغضب.
وبعد أن يضع الروائي مخطط موضوعه يبدأ بالتنفيذ.
ثانياً:مرحلة التنفيذ : يبدأ الكاتب بناء مشاهد موضوعه، أما الزمان والمكان فحوالي القرن التاسع عشر في "موسكو".
بناء الموضوع :
المكان الأول : يبدأ الكاتب بوصف موقع "الحانة" وهي المكان الطبيعي الذي يوجد فيه السكيرون، ويجعلنا الروائي ندخلها برفقة أحد الزبائن، وهو "راسكولينكوف" :
"وإذ رفع بصره ونظر، وجد أنه أمام حانة لها درج يلج إلى تحت الأرض ورأى سكيريْن يتسلقان ذلك الدرج معاً، وبدون أن يفكر هبط "راسكولينكوف" الدرج".
الجريمة والعقاب(1) ص15
ثم يصف لنا زبائن الحانة :
" لم يبق في الحانة إلا بعض الزبائن. فقد خرج منها بالإضافة إلى السكيرين اللذين التقى بهما على الدرج عند دخوله إلى الحانة، زمرة مؤلفة من خمسة سكيرين يحملون " الأكورديون " وتصحبهم فتاة.
وساد السكون الحانة، واتسع المكان أكثر فأكثر، وكان في الحانة ثري أشهب وإلى جانبه رفيقه الضخم الجثة المديد القامة، ذو اللحية المفلفلة المملحة والمرقش بمعطف سيبيري. كان يتمدد على المقعد ثملاً، وكان بين الحين والحين يستفيق من نومه نصف استفاقة ثم يصفق بيديه، ويباعد بينهما، ويلوي بجثته الضخمة، دون أن يفارق المقعد ثم يغني بصوت مبهم ناشز"
ص16
كما يعرفنا على النادليْن اللذيْن يقومان بخدمة الزبائن:
"ووراء الخوان، كان يقف فتى في الرابعة عشرة من عمره، بينما يقوم فتى آخر أصغر منه بخدمة رواد الحانة "
ص 17
ويصف لنا جو الحانة المقرف :
" أما الجو فكان خانقاً لا يحتمل ، ومشبعاً بأبخرة كحولية إلى حد يمكن أن يصبح المرء معه ثملاً ، إذا تنفس فيه لمدة خمسة دقائق فقط. " ص 17
ونتعرف في الحانة على سكير "دوستويفسكي" فمن أهم علامات الإدمان أن يشرب الإنسان باستمرار حتى وإن كان وحده :
"لقد كان هناك زبون آخر يبدو عليه أنه موظف متقاعد يجلس على انفراد ويكمل الشرب جرعة بعد جرعة، بين الحين والأخر، وهو ينظر إلى ما حوله و يلوح عليه أنه أيضاًُ ثمل إلى حد ما . " ص 16
التعريف بالسكير وأسرته: ويلجأ الروائي إلى أسلوب بسيط في تعريفنا بشخصية السكير وبأسرته وسبب إدمانه على الشراب، فغالباً ما يكون السكير ثرثاراً متعطشاً إلى الحديث كلما وجد من يستمع إليه وهاهو يتحدث عن نفسه إلى الزبون الجديد "راسكولينكوف" ويروي له قصته:
وهي من الطبقة الأرستقراطية :
"اعلم إذن أن زوجتي قد تعلمت في معهد خاص بالفتيات
الأرستقراطيات من مثيلاتها ".
ص 23
ثم يعرفه بأطفالها من زوجها الأول :
"وعندما تزوجت منها كانت أرملة وأماً لثلاثة أطفال صغار"
ص 24
وكان أرملاً عند زواجه منها وله ابنة في سن المراهقة :
"وكنت أرملاً مثلها ولي ابنة تبلغ الرابعة عشرة من عمرها من زواجي الأول ".
الصفحة نفسها
أما ابنته من زوجته الأولى فلم تتحصل على ثقافة كزوجته :
"إن "سونيا" لم تنل قسطاً من الثقافة".
ص 29
وينتقل الكاتب بعد تقديم شخصيات الأسرة إلى الحديث عن مرض زوجته وابنته "سونيا " التي دفعتها زوجته إلى الانحراف لإطعام أولادها الجائعين. وقد حاولت العمل في الخياطة، فطردها صاحب العمل لأنها غير مؤهلة ولم يعجبه عملها، فدفعتها زوجة أبيها إلى جلب النقود ببيع جسدها وهي مازالت طفلة في السادسة عشرة من عمرها مانّة عليها بالطعام والشراب :
" آه إنك تعيشين عندنا ، وتأكلين وتشربين ، وتنعمين بالدفء... "
ص26
وفي الواقع لم يكن هناك ما تأكله أو تشربه ، فقد كانت جائعة مثل إخوتها :
"وليتك تعلم ماذا كانت ابنتي تشرب وماذا كانت تأكل ، إذا ما ذكرت أن أطفالي الصغار أنفسهم لم يكونوا قد رأوا كسرة من الخبز منذ ثلاثة أيام"
الصفحة نفسها
عناصر الموضوع: و بعد أن يرسم الإطار الضروري للأحداث يدخل الكاتب رأساً في الموضوع ويبدأ بالعنصر الأول:
1- سبب الإدمان : ويعرفنا السكير بسبب إدمانه على الشرب محملا المسؤوليةً للفساد الإداري وبالتالي للمجتمع :
"فقدت وظيفتي لا بسببي أنا، بل بسبب تغيرات إدارية ذاتية، وعندها بدأت في الإدمان على الشراب".
ص 25
ولكن السكير يحمل نفسه جزءاً من المسؤولية لأنه بعد طول تشرد وعناء استقر مع أسرته، وحصل على وظيفة، ولكن إدمانه كان السبب في ضياعها :
" ثم بعد أن تشردنا طويلاً، ولقينا أنواعاً من الشقاء، استقر بنا المقام منذ حوالي سنه ونصف في هذه العاصمة الساحرة المزدانة بعدة أبنية، وإذ ذاك وجدت وظيفة هناك.. وجدتها ثم فقدتها. هل تفهم ذلك ؟ ولكن هذه المرة كانت خطيئتي هي السبب في ذلك، إذ غلبت عليّ عادة الشرب والإدمان. "
ص 25
ويبين لنا الكاتب أن المدمن لا يجد في الكأس اللذة والسرور بل على العكس فهو يعذب نفسه بنفسه:
"إذ لست متعطشاً إلى الشراب بسبب ما بي من السرور ، بل بسبب ما بي من الألم والدموع، هل تظن أيها التاجر أن زجاجتك قد طابت لي؟ إن دونها الألم الذي فتشت عنه في أعماق الزجاجة. إنه الألم والدموع".
ص 34
درجة الإدمان:
ويعرف الكاتب القارئ بمعنى الإدمان وخطورته واستعداد المدمن لعمل أي شيء من أجل الحصول على الشراب :
"هل تعلم يا سيدي ؟ هل تعلم أنني بعت جوارب زوجتي من أجل أن أشرب؟ ومنديل عنقها المصنوع من شعر الماعز أيضا ! "
ص23
ثم ينتقل الكاتب إلى العنصر الثاني:
2- تأثير الإدمان في الفرد: ويبين لنا الكاتب تأثير الإدمان فيه من خلال:
أ ـ مظهره الخارجي : نلمح من خلال وصف وجهه وعينيه أنه سكير:
"كان ذلك الموظف رجلاً يتجاوز عمره الخمسين عاماً، متوسط القامة، مربوعاً وكان ذا صلعة لم تحط بها غير شعيرات وخطها الشيب. أما وجهه فوجه سكير متورم أصفر مائل إلى الخضرة. وأما جفناه فمنتفخان، إلا أن فتحتهما كانت تري عينين دقيقتين لامعتين حمراوين وحيويتين".
ص 18
ويبين لنا إهماله لحلاقة ذقنه :
"وكان حليق الذقن على شاكلة الموظفين، إلا أن شعيرات ذقنه كانت إذ ذاك نابتة ومخضوضرة."
الصفحة نفسها
كما يظهر لنا بوضوح إهماله لثيابه وقذارتها:
"كان يلبس ثوب "فراك" أسود قديماً ممزقاً، لم يبق عالقاً فيه غير زر واحد كان يحافظ عليه، وذلك مراعاة منه للرسميات. ولكن قميصه القذر والمبقع كان يطل من خلال صدريته القطنية الصفراء. "
الصفحة نفسها
مظهره النفسي: ثم يبين الكاتب بعضاً من خصائصه النفسية من خلال تأثير الخمرة:
ب-في عقله :حيث تبدو عليه أعراض الجنون:
" فنظره كان يعكس ما فيه من حيوية، وهو لا يعوزه عقل أو ذكاء. إلا أنه كانت تبدو عليه عوارض الجنون "
الصفحة نفسها
كما يبين قلقه واضطرابه من خلال حركته وتصرفاته:
"وكان في جميع تصرفاته يظهر بمظهر الموظف المفكر المهيب. ولكنه كان قلقاً، فتارة يلمس شعره، وطوراً يسند ذقنه إلى يديه باضطراب مبين، ثم يضع مرفقيه المثقوبين على الطاولة الملوثة بالخمر "
الصفحة نفسها
ج- تأثيرها في إرادته : ثم يعود الكاتب من جديد إلى تأثير الإدمان في الفرد وفي إرادته، حيث يصبح فاقد الإرادة تماماً أمام إغواء الشرب وإغرائه من خلال تضييعه فرصة ثانية أتيحت له للعودة إلى الوظيفة. وهكذا فبعد أن ضيع وظيفته بسبب الإدمان أتيحت له فرصة جديدة منذ خمسة أسابيع للتوظيف، ورق رئيسه السابق في العمل لحاله وأعاده إلى وظيفته بعد أن سمع قصته:
"وقد تدحرجت من مآقيه دمعة عند ما أنصت إلى حديثي بكل جوارحه.قال لي: "حسناً يا "مارميلادوف"، لقد خيبت ظني بك ذات مرة، إلا أنني سأعيدك إلى العمل على
مسؤوليتي فاذكر ذلك جيداً. والآن يمكنك أن تذهب !! "
ص 29
وكان يفكر في إصلاح أخطائه وتحمل مسؤولياته تجاه عائلته :
"ففي طيلة ذلك اليوم السماوي من حياتي، وفي طيلة تلك الأمسية أيضاً، تركت نفسي أسبح مع خيالي المجنح !! لقد رحت أفكر في كيفية ترميم كيان عائلتي، وفي كسوة أطفالي، كما أنني كنت أِؤمل أن أحقق الطمأنينة في نفس زوجتي، وأن أخلص ابنتي الوحيدة من العار الذي انجرفت إليه، فأعيدها إلى داخل العائلة "
ص 32
فرحت زوجته به عندما أعطاها راتبه من الوظيفة الجديدة :
"أذكر أنني عندما حملت إليها منذ ستة أيام راتبي الشهري الأول وقد بلغ مجموعه ثلاثة وعشرين روبلاً وأربعين كوبيكاً أسمتني بـ"ذئبها" العزيز."
ص 31
وهنا أوضح الكاتب تحكم الإدمان فيه، وضعف إرادته مما تسبب في ضياع الوظيفة:
"حسناً في اليوم التالي بالذات، وبعد كل هذه الأحلام، عند المساء سرقت من زوجتي بحيلة شيطانية، وكما يفعل اللص في الليل، مفاتيح صندوقها، وأخذت منه ما تبقى من راتبي، ولا أذكركم كان المبلغ. وها أنذا .. أنظر إلي!! انظروا جميعا.ً منذ خمسة أيام لم أضع قدمي على عتبة باب منزلي. إن الجميع يفتشون عني. لقد أضعت وظيفتي وطقمي الذي بعته، واستبدلته بهذه الملابس التي أرتديها. "
ص 32
د- تأثيره في معنوياته: لم يتسبب الإدمان في إهماله لواجباته ومسؤوليته المادية نحو أسرته فحسب، بل تسبب أيضاً في إهمال مسؤولياته الأخلاقية والتربوية والتخلي عن مبادئه، وفقدان كرامته، حين يرى ابنته الطفلة تباع في سوق الرقيق الأبيض، وتدفعها زوجته إلى الدعارة دفعاً، دون أن يحرك ساكناً ليدافع عنها ويسكت زوجته، بل على العكس تظاهر بالنوم:
" أما أنا فقد كنت نائماً ساعتذاك. نعم كنت نائماً، ولم أسكتها، ولم أتعرض لها، وكنت أسمع سونيا تتكلم هادئة، وصوتها رقيق، وشعرها أشقر، ووجهها شاحب هزيل. "
ص 26
وذهبت المسكينة وغابت ساعات ثم عادت بحفنة من نقود لإطعام الأطفال الجائعين: "ثم في حوالي الساعة السادسة رأيت "سونيا" تنهض وترتدي مئزرها، وتتشح بشالها ثم تخرج ولم تعد إلا في الساعة التاسعة، ولما عادت توجهت مباشرة إلى "كاترينا إيفانوفنا" ووضعت بدون أن تنبس ببنت شفة ثلاثين روبلاً من الفضة أمامها على الطاولة. "
ص 27
كانت الطفلة ذليلة منهارة بعد أن مارست الرذيلة مدفوعة من أسرتها:
"غطت رأسها ونامت في السرير، وأدارت وجهها ناحية الحائط، ولقد اعترت كتفيها وكل جسمها رجفة قوية. "
الصفحة نفسها
أما أبوها فقد ظل متناوماً :
ويصور لنا الكاتب ما آلت إليه حالته وهو سكّير ومدى ما انحط إليه من نذالة.
فهو لم يكتف بترك ابنته تبيع جسدها لإطعام الأطفال بل أصبح يأخذ منها المال
أيضاً، فقـد أفقده الإدمان حنان الأبوة:
"وراح مارميلادوف يضرب جبهته بقبضته ويصك أسنانه، أو يغمض عينيه
ويستند على مرفقه بتثاقل إلى الطاولة، لكن بعد دقيقة واحدة تغيرت لهجته
فجأة ، ونظر إلى راسكولينكوف بنوع من الحيلة والخبث المصطنع وضحك ثم قال :
"واليوم .ها أنذا كنت عند "سونيا" أطلب منها مالاً لأشرب !! قه .. قه ..قه!!" فصاح أحد القادمين الجدد إلى الحانة مقهقهاً بصوت عال: "وهل أعطتك المال ؟"
فقال مارميلادوف وهو يتوجه بالكلام إلى راسكولينوف ودون غيره من الحاضرين:
"إنني بمالها قد اشتريت زجاجة الشراب هذه .. بالثلاثين كوبيكاً التي نقدتني إياها بيديها، ولم تكن تملك سواها، كما تأكدت من ذلك بنفسي .. ولم تفعل شيئا ساعتذاك بل نظرت إليَّ بصمت فقط ".
ص 33
لقد أخذ منها ما تريد به إطعام إخوتها الجائعين مدفوعاً بتحكم الإدمان فيه:
" فماذا تقول بعد ذلك، وأنا والدها، وأحصل منها على ثلاثين كوبيكاً لا تملك سواها، ولماذا ؟ .. لأشرب الخمر حتى الثمالة "
ص 34
هـ ـ إحساسه بالذنب : وهو يعترف بجرمه، ويعلم أنه يستحق العقوبة ولكنه غير قادر على مقاومة الإدمان :
"نعم ليس لأحد أن يشفق عليّ. يجب أن أصلب، أن أسمر على الصليب دون رحمة" ص 34
كان يعرف أن الله سيسأله عما فعل يوم القيامة بابنته وأنه سيسامحها على خطيئة أجبرتها أسرتها عليها:
"إنه الأحد القاضي الأكبر، وهو سيجيء ذلك اليوم ليسألني: أين هي تلك الابنة التي بيعت من أجل "خالتها" الخبيثة المسلولة؟ ومن أجل أطفال ليسوا أطفالها !!
أين هي تلك الابنة التي أشفقت في الأرض على والدها السكران المنكر، وما عاملته بخشونة ولا قساوة "؟ وأنه سيقول لها: تعالي لقد سامحتك."
الصفحة نفسها
و ـ احتقار الزبائن في الحانة له :
"كان كل من في الحانة يضحك ، ويشتم ، سواء أكان سمع الحديث أم لم يسمعه لا لشيء إلا ليتسلوا جميعاً على حساب الموظف القديم "
ص 34
المكان الثاني : المنزل : وهو الإطار الذي يرينا الكاتب من خلاله علاقة السكير بزوجته وحالة أولاده وقد أوصله راسكولينكوف إليه ويتألف من غرفة واحدة يسكنها مع عائلته في بناء مشترك مع الجيران ومن خلال هذا الوصف ندرك بؤس هذه العائلة والمستوى الاجتماعي المنحط الذي تعيش فيه،ووصف المكان ينبئك عن حالة السكان:
"كما أن قنديلاً صغيراً كان يضيء غرفة بائسة يبلغ طولها عشر خطوات "
ص 37
أما حالتها فتعكس حالة الأسرة مادياً ومعنوياً :
"كل ما في تلك الغرفة كان متناثراً فالفوضى تعمها، وترى في جنباتها الأردية، وملابس الأطفال وقد نشر في إحدى زوايا الغرفة دثار قديم مليء بالثقوب، يخفي وراءه سريرا ولاشك. وفي الغرفة نفسها كان هناك كرسيان، وديوان ذو غطاء من "المشمع" في حالة مزرية، وطاولة مطبخ عتيقة، صنعت من الخشب الأبيض ولا غطاء عليها. "
ص 37
ثم يقدم لنا الزوجة المريضة :
" كانت امرأة هزيلة جداً، متوسطة القامة، ذات شعر كستنائي قاتم، ولكن رائع حقاً، وذات خدود من نار".
ص37
لم تكن" خدودها من نار" ناجمة عن الصحة بل عن المرض:
"وكان وجهها الشاحب المسلول تحت تأثير الأشعة التي تنبعث متلاشية من القنديل وكأنها في نزعها الأخير. كان وجهها يثير في النفس مشاعر الأسى والألم "
ص 38
ثم يبين لنا حالة الأولاد التعيسة :
"كانت صغرى البنات وعمرها ست سنوات تقريباً تنام على الأرض مقوقعة منصوبة على ذاتها، ومسندة رأسها إلى الديوان. أما الولد فكان يكبرها بعام واحد، وكان يرتعش في إحدى الزوايا وهو يبكي. إنه كان يُضربُ منذ برهة ولاشك وأما البنت الكبرى، وعمرها تسع سنوات، ولكن مديدة القامة بالنسبة لعمرها، ورقيقة الجسم كعود ثقاب، فقد كانت شبه عارية إلا من قميص رث ممزق، ومن دثار يغطي كتفيها العاريتين ".
ص 38
وأما الأم فهي لا تعرف ماذا تفعل من الحزن والغضب والعجز:
"كانت تذرع أرض غرفتها الصغيرة طولاً وعرضاً ضاغطة بيدها على صدرها وهي لا تكاد تفتح فاها بكلمة "
ص37
ويتم الكاتب بناء العنصر الثاني من خلال استقبال الزوجة لزوجها وحديثها معه:
2 ـ تأثير الخمرة في الأسرة :
أ- انهيار العلاقة الزوجية: فالعلاقة فقدت أسسها الأربعة القائمة على الثقة والاحترام المتبادلين والتعاون والمحبة ، وأصبحت سلبية تتميز بالتوتر والشجار الدائم :
أولاً- فقدان الزوجة ثقتها بزوجها: ونرى الزوجة عند استقبالها لزوجها بعد اختفائه مدة خمسة أيام، وقد فقدت ثقتها به واتهمته بالسرقة:
" وقالت وهي خارجة عن طورها: آه لقد رجعت أيها اللص، أيها الوحش، فأين المال ؟ وماذا في جيوبك؟ أرني إن هذا ليس طقمك فأين هو ذلك الطقم؟ أين المال؟ قل."
ص 39
ثانياً-احتقارها لزوجها: لقد فقدت احترامها له من خلال تصرفاته ويبين الكاتب ذلك من خلال معاملتها القاسية له أمام راسكولينكوف، حين فتشته فلم تجد في جيوبه شيئاً:
" أين المال إذن؟ أه يا إلهي .. أيعقل أن تكون قد شربت بالمال كله؟ .. ولكن لقد كان في الصندوق اثنا عشر روبلاً وقد سرقتها منه."وفجأة اشتد غضبها وأمسكت بشعره وجرته إلى الغرفة. فكان يساعدها بنفسه قدر المستطاع على أن تجره، وهو يلحق بها جاثياً على رجليه "
الصفحة نفسها
كما يظهر لنا احتقارها له من خلال حديثها عنه في غيابه:
"أف .. لماذا لم يأت هذا الصعلوك بعد؟ .. آه .. السكران ! لقد أتلف قميصه وجعله كالممسحة، حتى بات ممزقاً تماماً "
ص 263
ثالثاً- فقدان التعاون بينهما: وبدلاً من أن يتحمل مسؤولية الأسرة وإطعامها، أخذ المال ليشرب به، وهكذا صرخت زوجته البائسة وهي تلعن الحياة :
" لقد شربت .. لقد شربت بالمال كله! وهذا الثوب ليس ثوبك " ثم راحت تعض على يديها وتشير إلى أطفالها قائلة:
"إنهم جياع. إنهم جياع. لعن الله هذه الحياة. "
الصفحة نفسها
وهو يعترف لراسكولينكوف بأنه لا يحمل أية مسؤولية في البيت نتيجة الإدمان:
" أما لماذا نعيش ؟ ومن أي مال ننفق ؟ فذلك ما لا أعرف عنه شيئا."ً
ص 25
رابعاً- فقدان محبتها له : وهل يمكن أن تبقى محبة بعد أن وصلت حالة الأسرة إلى هذا الحد بسببه وتحولت العلاقة بينهما إلى شجار دائم؟ ونراها تبوح بمكنونات صدرها للكاهن حين نقل زوجها إلى البيت جريحاً في حالة احتضار، وهي تحمد الله على خلاصها منه :
"إنه ما كان يجلب لنا غير المصيبة، وكان يشرب كل شيء!! وكان يسرقنا من أجل أن يشرب في الحانة .. لقد نغص علينا حياتنا .. حياة أولادي وحياتي. ولسوف يموت بعد قليل فالحمد لله .. إن في موته ربحاً لنا "
ص 272
ب- ضياع الأولاد : تعبر الزوجة لابنتها الصغيرة عن ضياع حياتها بسبب إدمان زوجها وخوفها على ضياع حياة أطفالها:
كانت كاترينا تقول لابنتها "بولنكا" وهي تمشي في الغرفة :
"لا تستطيعين أن تصدقي .. لا تستطيعين أن تتصوري يا "بولنكا" .. لا تستطيعين أن تتصوري أية حياة مترفة وسعيدة كنا نعيشها عند أبي، وإلى أي حد أضاعني هذا السكير، وسيضيعكم بدوركم جميعاً "
ص 262
أما مظاهر هذا الضياع فنلمحها فيما يأتي :
أولاً-جوعهم: وقد حدثنا راسكولينكوف عن جوع أطفاله :
"وليتك تعلم ماذا كانت ابنتي تشرب، وماذا كانت تأكل .. إذا ما ذكرت أن أطفالي الصغار أنفسهم لم يكونوا قد رأوا كسرة من الخبز منذ ثلاثة أيام "
ص 26
كما أن صرخة الأم ما زالت تدوي في آذاننا :
"لقد شربت بالمال كله .. ثم راحت تعض على يديها وتشير إلى أطفالها قائلة :
"إنهم جياع . إنهم جياع . لعن الله هذه الحياة ".
ص 39
ثانياً-عريهم : وقد بلغ منهم الفقر والعوز مبلغاً لم يعد يملك كل منهم من الملابس إلا ثوباً واحداً و كانت الزوجة تضطر إلى غسله كلما اتسخ:
"وكانت "كاترينا إيفانوفنا" هي التي تقوم بغسل الملابس بنفسها، مرتين في الأسبوع على الأقل، بل وفي غالب الأحيان أيضاً لأنهم كانوا قد وصلوا إلى حالة مزرية صاروا معها لا يملكون ملابس للغيار".
ص 265
وقد مر معنا وصف البنت الكبرى وثوبها الوحيد الممزق. أما أخوها فينام دون قميص حتى يغسل ويلبسه في الصباح:
" وفي تلك اللحظة كانت "بولنكا تنزع ملابس أخيها عن جسده لتضعه في السرير. لقد كان هذا الأخ يتألم منذ الصباح ، لذا فقد لبث بانتظار تبديل قميصه الذي سيغسل في الليلة نفسها "
ص 262
أما البنت الصغرى فتخبرها أمها أن تتدبر أمرها وتنام دون قميص ليلة الغسيل :
" يا ليدا يجب أن تنامي بدون قميص هذه الليلة، تدبري الأمر وضعي جواربك إلى جانب السرير، حتى أغسل كل شيء مرة واحدة".
ص 263
ثالثاً-خوفهم وتوترهم : إنهم يفتقدون إلى الإحساس بالأمن نتيجة الشجار الدائم ولانفعال أمهم التي اشتد عليها المرض، وركبتها الهموم:
"أفاقت الطفلة النائمة على الأرض، وراحت تبكي وتصرخ، ولم يتمكن الطفل الواقف بجانب أخته الكبرى من أن يتماسك نفسه من الخوف، فساهم أيضاً في البكاء، وأمعن التصاقاًَ بأخته التي كانت هي الأخرى ترتجف من الخوف، كأنما هي ورقة في مهب الريح "
ص 39
وقد صور الروائي لنا هذا الخوف في عين البنت الكبرى وفي وجهها:
"وكانت بعينيها الداكنتين الواسعتين .. بعينيها اللتين اتسعتا أكثر فأكثر، بسبب هزال وجهها الصغير الخائف، تتابع برهبة حركات أمها."
ص 38
رابعاً-حرمانهم من التعليم : إن "سونيا" ابنته ذات الستة عشر ربيعاً لم تستطع متابعة تعليمها والأدهى من ذلك أن أباها باع كتبه ليشرب بها:
"وأظنك تحسب أن "سونيا " ابنتي لم تنل قسطاً من الثقافة. ذلك صحيح ، إذ حاولت فعلاً منذ أربع سنوات، أن أعلمها الجغرافية والتاريخ العام. ولكن لما كانت معلوماتي الشخصية غير مكينة ولما كنت لا أملك ما أوجّهها به بسبب فقداننا للكتب التي كانت عندنا فقد توقفت عن تدريسها عند ذلك الحد. "
ص 26
أما بولنكا وأخوها فكان يعلمهما أحياناً في حالة صحوه، ولكنه قليلاً ما يصحو وتقول بولنكا لراسكولينكوف:
"أما نحن فقد كان يعلمنا القراءة، ثم أضافت بإباء "وكان يعلمني شخصياً قواعد اللغة والكتاب المقدس. "
ص 277
خامساً-حرمانهم من اللعب : ومن الطبيعي أن جوعهم وعريهم وضيق المكان لا يسمح لهم باللعب الذي هو من حقهم كأطفال.
سادساً- دفع ابنته الكبرى إلى الانحراف: لقد دفعت الطفلة ذات الستة عشرة ربيعاً إلى بيع جسدها لإطعام أولاد زوجة أبيها وهو عمل لا يقره الدين ولا الأخلاق ولا القانون لأن أباها السكير تخلى عن واجبه الأبوي والأخلاقي والإنساني. وحين اعترضت الطفلة خوفاً على شرفها قالت لها زوجة أبيها محرضة إياها على الانحراف لتزينه في عينيها:
"ماذا تقولين ؟..على ماذا تريدين أن تحافظي ؟ إن ههنا كنزا كبيراً أمامك ."
ص27
وبدلاً من أن يحمي السكير ابنته دافع عن تصرف زوجته قائلاً لراسكولينكوف :
"لا تلمها ياسيدي. لاتلمها. إنها لم تقل ذلك عن وعي وتفكير، وإنما قالته تحت تأثير الاضطراب، والمرض، وتحت وطأة تضور أطفالها الجائعين."
ص 27
ج ـ تلوث سمعة الأسرة : وقد أدى سكر الزوج وانحراف الابنة إلى تدهور سمعة الأسرة ونرى ملامح ذلك في:
أولاً- سخرية السكا ن: وأظهر لنا الكاتب سخرية الجيران من هذه الأسرة وهم يرون شجار الزوجين. ويبين لنا الكاتب نوع البيئة التي تعيش فيها:
"وكان الباب الداخلي في ذلك الحين قد فتح، ودخل منه بعض الفضوليين ـ من الجيران ـ الذين بدوا بوجوههم الصفيقة، وقبعاتهم التي على رؤوسهم، والسجائر والغلايين التي في أفواههم، وكان بعضهم يرتدي ألبسة نوم ممزقة بكاملها، وكان البعض الأخر قد تبذل حتى بلغ حد الوقاحة وقلة الأدب، أما الآخرون فكانوا يحملون في أيديهم أوراق اللعب، ومما زاد في ضحكهم أن "مارميلادوف" كان يقول "إن ضرب زوجته له أمر يفيده" حتى أنهم راحوا يدخلون إلى الغرفة. "
ص 40
ثانياً- ـ تهديد صاحبة البيت بطرد الأسرة من الغرفة : وكانت صاحبة البيت تهدد الزوجة المسكينة دائماً بالطرد لسوء سمعة الأسرة :
"سرعان ما يسمع الجيران همهمة مخنوقة غضوب، كانت تصعدها "آماليا ليبويتزل" التي كانت تشق لنفسها طريقا بينهم، حتى تعيد الأمور إلى نصابها، بطريقتها الخاصة، ولترهب للمرة المئة، المرأة المسكينة بوعيدها الثقيل بأن تخلي الغرفة في الغد. "
الصفحة نفسها
ثالثاً- منع الفتاة "سونيا" من السكن مع أهلها: لم يقبل الجيران أن تظل "سونيا" في الغرفة مع أهلها بعد "انحرافها" وتشتت شمل الأسرة:
"فمنذ ذلك الحين وابنتي "سونيا" اضطرت إلى اقتناء بطاقة صفراء، وبالتالى لم يعد بإمكانها الإقامة عندنا، إذ لا مؤجرتنا "أماليا فيدوروفنا" قبلت، ولا السيد "ليبيزيا تينكوف" قبل بذلك . "
نهاية السكير: أما نهاية "مارميلادوف" فيجعلها الكاتب منسجمة مع إدمانه، حيث تدوسه عربة وهو يسير مترنحأً من السكر على الطريق، دون أن ينتبه لصرخات الحوذي المحذرة له بالابتعاد كما أوضح ذلك الحوذي نفسه لرجل البوليس، مما يؤكد فقدان توازن السكير، وعدم تحكمه في عقله وإرادته :
"لقد رأيته يجتاز الطريق مترنحاً، يكاد أن يهوي إلى الأرض، وعند ئذ صرخت به مرة ومرتين وثلاث مرات .. وأوقفت البهيمتين، ولكن هو .. ها هو يتمدد بالضبط عند حوافرهما ولربما كان ذلك عن قصد منه وربما كان ذلك لأنه سكران !! ثم إن الحصانين مازالا صغيرين متخوفين فجمحا..وهو صرخ.. وها قد وقعت المصيبة"
ص260
ورآه "راسكولينكوف" الذي دفعه الفضول لمعرفة سبب التجمهر:
"كان الدم يسيل من رأسه على وجهه المهشم المشوه .. وكان بادياً بوضوح أن إصابته خطيرة "
ص 259
ونقل الجريح إلى المنزل في حالة احتضار، وأتي بالطبيب والكاهن، ولم تستطع الزوجة إلا أن تبوح للكاهن بمكنونات صدرها عن همومها الثقيلة بسبب إدمان زوجها:
"إنه ما كان يجلب لنا غير المصيبة ، وكان يشرب كل شيء !! وكان يسرقنا من أجل أن يشرب في الحانات .. لقد نغص علينا حياتنا .. حياة أولادي وحياتي . ولسوف يموت بعد قليل فالحمد لله .. إن في موته ربحاً لنا !! "
ص 272
وحاول المحتضر أن يطلب من زوجته الغفران :
"حاول جاهداً أن يكلمها، وكان لسانه يختلج بصعوبة، ولكنه لم يستطع التلفظ إلا ببعض الكلمات المبهمة، وقد فهمت "كاترينا إيفانوفنا" على الفور أنه يريد أن يطلب منها السماح، فقاطعته فجأة : أسكت لا ضرورة لهذا ! إنني أعرف ما تريد أن تقوله!"
ص 273
وكان آخر ما قاله قبل أن يموت هو طلب السماح من ابنته "سونيا":
"وقد كان الألم العميق يرتسم على ملامح "مارميلادوف" فصرخ وحاول أن يمد يده نحوها:
"سونيا ! يابنيتي ! سامحيني !! "
ولكن هذه الحركة أفقدته متكأه، فهوى وتدحرج عن الأريكة، فاصطدم وجهه بالأرض، وعندئذ سارع الناس إلى نجدته، ولكنه كان قد أسلم الروح "
ص 274
ما مصير الأسرة ؟: لقد انتهت حياة السكير، ولكنه ترك أسرة عانت وستظل تعاني بسبب إدمانه: زوجة مريضة بالسل، وفتاة في الثامنة عشرة دفعت إلى طريق الانحراف، وأطفالا جياعاً. فماذ حل بتلك الأسرة؟ ما مصير الزوجة المريضة؟ وما مستقبل هؤلاء الأطفال الجياع؟ وماذا حل بالفتاة "سونيا"؟ وهل استطاعت الخروج من هاوية الرذيلة التي وقعت فيها؟ تلك أسئلة لابد من قراءة الرواية لمعرفة الجواب عنها.
أثرالخمرة في المجتمع:
أظهر لنا الكاتب آثار الخمرة السيئة في الفرد والأسرة، أما أثرها السيء في المجتمع، فهو عنصر استنتاجي ليس بحاجة إلى برهان فمن نافلة القول إن كثرة السكيرين تعني كثرة الكسالى والبطالين، وغير القادرين على حمل مسؤولية أسرهم فتكاثر أسر السكيرين يعني تزايد الفقر والجهل والمرض في المجتمع. وتزايد الأطفال غير الأسوياء والمهزوزين الذين نشؤوا في بيئة شاذة على الخوف من الحاضر والمستقبل. وهم معرضون أكثر من غيرهم لمختلف أنواع الانحرافات الأخلاقية والاضطرابات العقلية والأمراض النفسية .
غرض الكاتب من النص : كان الكاتب ذا ميول دينية، وقد اهتم بمشكلات الخطيئة والعقاب والغفران، لذلك كان لا يرى حلاً للضعف الإنساني إلا في الغفران. لكل جريمة عقاب ولكن الغفران أسمى من العقاب وها هو الكاتب يقول لنا ذلك على لسان "مارميلادوف" الذي كان يؤمن بأن الله سيغفر خطاياه يوم الحساب :
"وإنه سوف يحاكم الجميع .. وسيسامح الجميع ، الصالحين والطالحين، العاقلين والأشقياء " وعندما ينتهي من الجميع ، سيرفع صوته ساعتئذ إلينا قائلاً :
تعالوا أنتم أيضاً ، تعالوا أيها السكارى الضعفاء ، تعالوا أيها الصغار المتعبون " وسنقترب كلنا بدون خوف، وعندها سيقول "العاقلون جداً" والعقلاء:
ـ "أيها السيد ، لماذا تقبل هؤلاء أيضاً" ؟ .
وسيجيب :
"إنني أقبلهم أيها "العاقلون جداً".. إنني أقبلهم أيها العقلاء .. لأن أحداً منهم لم يكن ليتوقع أبداً لنفسه مثل هذا المصير ! "
ص35
ترابط المواضيع في الرواية :
وموضوع "السكير" هو أحد مواضيع "الجريمة والعقاب" وهو من المجرمين الذين يستحقون العقاب، ولكنه ليس وحده ، فهناك "راسكولينكوف" الذي برر لنفسه إزهاق الروح، فأصبح قاتلاً، و"سونيا" التي أجبرت على السير في طريق الرذيلة وسوف نرى استمرار شخصيتي "راسكولينكوف" و "سونيا" في الرواية، والتطورات التي حصلت لكل منهما، والمواضيع التي طرقها الكاتب من خلالهما فالشخصيات لا يخلقها الكاتب لعرض موضوع واحد، بل تشترك في مواضيع متعددة ومتشابكة كتشابك خيوط العنكبوت. لدلك بعد أن يضع الكاتب مواضيعه المختلفة يختار لمعالجتها نوعين من الشخصيات: شخصيات خاصة بموضوع معين تنتهي بانتهائه وشخصيات تشترك في التعبير عن مواضيع مختلفة تبقى طيلة الرواية .
تقييم عمل الكاتب : ولننظر الآن بعين فاحصة إلى عمل الكاتب لتقييمه مضموناً وشكلاً ، ومعنى وأسلوبا ، ونرى مقدار نجاحه أو إخفاقه في بناء موضوعه من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتية:
1 ـ ما مدى نجاح الكاتب في اختيار موضوعه ؟ نجح الكاتب إلى حد كبير في اختيار موضوعه فقد طرح مشكلة حقيقية هي مشكلة الإدمان التي كانت سائدة في عصره وفي مجتمعه ومازالت سائدة في هذا العصر الذي تفشى فيه إلى جانب إدمان الخمر إدمان المخدرات في كل المجتمعات، وقد طرح موضوعاً يعرف عنه الكثير، وربما عانى منه الكثير فكان صادقاً في طرحه .
نجح الكاتب في عرض موضوعه باتبّاع الخطوات الآتية :
أ ـ حدَّدَ غرضه من طرح الموضوع، وهو دفع الناس إلى تجنب الإدمان ببيان تأثيره في الفرد والأسرة والمجتمع، وتحديد المسؤولية المشتركة للفرد والمجتمع في انتشار الإدمان، وإظهار الضعف الإنساني في الوقت نفسه والدعوة إلى السماح والعفو عن كل الخاطئين.
ب ـ وَضَعَ مخططاً مفصلاً لموضوعه يتضمن العناصر التي سيعالجها قبل الكتابة.
ج ـ رَبَطَ هذه العناصر ربطاً محكماً بما يسمى "الحبكة" ، وهي التسلسل المنطقي للأحداث بحيث يكون أحدها سبباً للأخر من بداية الموضوع إلى نهايته. وكل المواضيع التي تطرح مشكلة من هذا النوع تؤثر على الفرد أو على المجتمع لابد أن تكون لها حبكة لأن هناك أسباباً تؤدي إلى نتائج .
د ـ اختيار الشخصيات المناسبة المعبرة عن الموضوع، ولاسيما شخصية السكير وزوجته، ونحن إذا أغمضنا أعيننا لنتخيل شخصية "مارميلادوف"، لوجدناها شخصية من لحم ودم تتمادى في سكرها وتتمايل وتثرثر وتهذي، كما أننا نرى زوجته المريضة تنفعل وتغضب وتشده من شعره، ونرى أولاده خائفين مذعورين، وكلها شخصيات إنسانية نرى بيننا شبيها لها. وقد نجحت في دورها، إلى جانب زبائن الحانة والجيران الفضوليين.
هـ ـ اختيار الأمكنة المناسبة لموضوعه، فالحانة بجوها الخانق، وزبائنها الشاذين والغرفة الضيقة الحقيرة التي تسودها الفوضى يناسبان تماماً موضوع "الإدمان" كما أن الشارع يناسب تماماً النهاية المأسوية للسكير .
و ـ بدأ الكاتب موضوعه من نقطة معينة وليس من بداية قصة "السكير" بل من منتصفها، ووظف "الحوار"في الحانة لذكر الحوادث السابقة ، وقد وفق في ذلك .
3- كيف كان أسلوب الكاتب ؟ وما أهم مزاياه ؟
كان أسلوب الكاتب جذاباً وحيوياً وممتعاً للقارئ رغم مأساوية الموضوع ، وتميز بما يأتي :
أ ـ حسن استخدام اللغة، فقد كانت ألفاظه واضحة ملائمة، وعباراته سلسة رشيقة، استطاعت أن تصور أفكاره بدقة وأمانة ووضوح. ويعود جزء من الفضل للمترجم الذي طوع لغته لتستوعب لغة الكاتب دون عناء .
ب ـ تجنب آلية السرد المباشر الجافة، ومزجه كلما أمكن بالحوار.
ج ـ تميز الحوار بالصدق والواقعية (لكل مقام مقال) ، فلغة السكير "مارميلادوف" تختلف عن لغة الآخرين ولغة الزوجة البائسة المحبطة معه أو مع أطفالها تختلف عن لغتها المتكبرة المتعالية مع الجيران وهكذا ..
د- تجنب الاستطراد والحشو في الحوار، وحصره في مهمته الأساسية المتمثلة في تطوير الأحداث والكشف عن الأفكار الشخصيات وطبائعها وعواطفها، وهذا ما فعله الكاتب، فقد استخدم الحوار في المنزل للأغراض نفسها، فليس هناك حشو أو إطالة أو لهجة خطابية مصطنعة .
هـ-العناية بوصف الأشخاص داخليا وخارجياً بصدق وواقعية وبالتدريج لتجنب الإطالة، فقد عرفنا جزءاً من حالة الأسرة البائسة في الحانة، وجزءاً منها في البيت، وكذلك الاهتمام بوصف الأمكنة، ووصف انفعالات السكير وأسرته من حزن وغضب ودهشة واحتقار وشفقة وخوف، ورصد حالتهم النفسية من إحباط ويأس وجوع وعري.
4ـ ما العواطف والانفعالات التي أثارها الكاتب فينا ؟
منذ الوهلة الأولى التي بدأ الكاتب يضع فيها لبنات موضوعه في المشهد الأول في الحانة كان يمسك في الوقت نفسه بقلوبنا فيعتصرها إشفاقاً ويشحنها غضباً ويمس أوتار الأعصاب مساً رقيقاً ثم يشدها شداً عنيفا، ويدفعنا في تصويره لحالة الأطفال المزرية وجوعهم وعريهم وخوفهم إلى التعاطف معهم تعاطف إشفاق وخوف عليهم وعلى مصيرهم. أما بالنسبة إلى سونيا، فنحن إلى جانب مشاعر الخوف والإشفاق عليها، تثور فينا مشاعر الغيرة، على طفلة في السادسة عشرة تدفع إلى الرذيلة دفعاً، ونغضب من تصرفات زوجة أبيها، ومن سكوت أبيها وتخاذله عن حماية ابنته، فالحرة تجوع ولا تأكل بثدييها كما يقول المثل العربي، فكيف بها تدفع طفلة بريئة وإن لم تكن ابنتها فهي ربيبتها إلى الخطيئة دفعاً؟ ولكننا في الوقت نفسه، نتعاطف مع الزوجة المريضة البائسة ونشفق عليها، ونرثي لحظها العاثر .
أما بالنسبة إلى السكير فنحن ننفر منه، ومن عمله، ونحتقره، لأن الكأس أصبحت أعز لديه من زوجته وأولاده، ولكننا مع ذلك لا نكرهه فالكاتب لا يدفعنا إلى كرهه أو الحقد عليه، بل يعتبره مريضاً أيضاً بحاجة إلى العلاج للخلاص من إدمانه. أو خطـّاءً لابد أن نصفح عنه وندعو له بالمغفرة .
تقنيات عرض الموضوع :
لكل روائي أسلوبه في عرض الموضوع على القارئ، فقد يستخدم تقنية "السرد المباشر " فيروي الأحداث بنفسه أو بلسان أحد أبطاله أو بعضهم. وقد يستخدم إلى جانبه " الحوار" بين شخصين أو أكثر، أو"مناجاة النفس"، وهي حديث الإنسان مع نفسه، ليكشف للقارئ جوانب مهمة من دخيلته أو مشاعره أو حالته النفسية لا يستطيع الحوار أن يكشفها، أو يستخدم تقنية "استعادة الذكريات" ليكشف للقارئ عن جوانب مهمة من حياة الشخصية التي تتذكر ما حدث لها في الماضي، أو تقنية "اليوميات" التي تسجل فيها الشخصية الأحداث اليومية لفترة هامة من أحداث الرواية، أو تقنية "الرسائل" التي تمكن الشخصيات من الإفصاح عن مشاعرها دون حرج. وكل تقنية من هذه التقنيات لها وظيفة تؤديها، وقد يستخدم الكاتب معظم هذه التقنيات في الرواية الواحدة أو في الموضوع الواحد. والروائي المتمكن هو الذي يختار التقنية المناسبة للموضوع المناسب وفي الوقت المناسب. والجدير بالذكر أن كاتب المسرحية يستعمل إلى جانب "الحوار" تقنيتي "مناجاة النفس" و"الرسائل".
بناء الموضوع في المسرحية : لا يختلف بناء الموضوع في المسرحية عن الرواية إلا من حيث التركيز على الحوار وتكثيف المشاهد في أمكنة محددة. ولو أردنا بناء موضوع السكير نفسه في المسرحية ، فسوف نحتفظ بالشخصيات نفسها والأماكن نفسها ونقدمه في ثلاثة مشاهد :
1 ـ المشهد الأول في (الحانة): حيث يمثل الديكور جزءاً من الحانة فيها ثلاث طاولات يجلس فيها الزبائن وأمامهم زجاجات وكؤوس الشراب وأقربها إلى الجمهور تلك التي يجلس فيها السكير ويثرثر مع الزبون الجديد الداخل ويدور حوار بين الاثنين يتدخل فيه الزبائن والنادل أحياناً ونعرف من خلاله قصة هذا السكير وأسرته وإدمانه الشديد .
2 ـ المشهد الثاني في (المنزل) : حيث يمثل الديكور غرفة واحدة يظهر من خلال فرشها المتواضع بؤس الأسرة ، كما يبدو من خلال ملابس الزوجة الرثة وملابس أولادها الممزقة، وأشكالهم التي تبدو كالأشباح من الهزال والسقم، فقرهم وعوزهم الشديدين. ويدور الحوار بين السكران وزوجته حين يوصله زميله الجديد إلى البيت، ومن خلال الحوار نلمس احتقار الزوجة لزوجها وعدم ثقتها فيه، واتهامه بسرقة مالها ومال الأسرة ليشرب به، كما نرى ردود فعل الأطفال الخائفة والقلقة .
3 ـ المشهد الثالث (في المنزل) : حيث نجد الزوجة قلقة على تأخر زوجها، وهي تشكو لأولادها وتتذمر وتندب حظها الذي رماها بهذا السكير، وفجأة نسمع ضجة، ويدخل رجال يحملون زوجها ومعهم زميله ثم يسجّونه على الأرض فليس هناك سرير. ويطلب الزوج وهو في حالة احتضار السماح من زوجته وأولاده ثم يسلم الروح بين عويل الزوجة وبكاء الأولاد .
ملاحظة : الحوار مهم في المسرحية، فلا يجوز أن تنفرد إحدى الشخصيات بالحديث مدة طويلة، لذلك كان لابد في المشهد الأول، أن يقاطع الزبائن "السكير" أثناء حديثه عن أسرته وأن يسألوه بعض الأسئلة ذات الصلة بالموضوع، حتى لا ينفرد بالحديث فيصبح المشهد مملاً .
لقد رأينا العناصر التي نسج منها الروائي موضوعه وقد يأخذ روائي آخر أو مسرحي العناصر نفسها، فيقدم لنا مدمنا على المخدرات بدل الخمر أو يصور أسرة مختلفة: زوجاً وزوجة دون أولاد، أو يقدم لنا أسرة غنية تعيش في قصر، أو يجعل المرأة هي المدمنة لا الرجل ويجعل سبب الإدمان اللهو والتسلية وطيش الشباب، أو الفشل في الحب، أو دفن هموم العمل أو البيت في الكأس، وفي كل الحالات سوف نرى بأن آثار الخمر أو المخدرات على المدمن، وآثارها على الأسرة هي نفسها، مهما تعددت الأسباب ومهما اختلف الزمان والمكان، ومهما تباين المستوى الاجتماعي .
أما آثارها على المجتمع، فقد تتجاوز ما ورد في موضوع "دوستيوفسكي" إلى هلاك الأرواح إن كان السكير سائقاً، أوجراحاً أو صيدلياً يعمل في تركيب الأدوية وقد يكون قدوة سيئة لتلاميذه إن كان أستاذاً، وهكذا. والروائي حر في معالجة هذه العناصر، وخلق الشخصيات المناسبة لها من بيئته وواقعه حتى تكون مقنعة .
اتفاق الروائيين واختلافهم: وإذا اتفق الروائيون في تأثير الإدمان بأنواعه من كحول ومخدرات وقمار في الفرد والمجتمع فإنهم يختلفون في الأسباب وفي العلاج، فهناك من يركز على مسؤولية الفرد، وهناك من يركز على مسؤولية المجتمع وهناك من يعزو الإدمان إلى أسباب أخلاقية، ويرى أن الانحلال الخلقي وتفشي الخلاعة وانتشار دور اللهو هي السبب. والعلاج في رأيهم أخلاقي تربوي وديني بمنع الخمر والمخدرات وتصنيعها وبيعها والاهتمام بتربية النشء، وهناك من يرى بأن الأسباب اجتماعية تتمثل في البطالة والفقر والفساد الإداري الذي لا يوفر تكافؤ الفرص، ويشجع الرشوة والمحسوبية، فيدفع بالبطالين واليائسين إلى دفن همومهم في الكأس والمخدرات والقمار. ويتمثل العلاج برأيهم في الإصلاح الاجتماعي والإداري، ولكن آخرين يرون بأن النظام السياسي هو السبب سواء أكان نظاماً استعمارياً أم مستبداً ، والعلاج يكمن في إصلاح النظام السياسي أو تغييره جذرياً وتعاون الدول للقضاء على المخدرات والقمار التي أصبحت لها شبكات دولية للإنتاج والتوزيع، لا تستطيع دولة بمفردها التصدي لها. وهكذا نرى أن كل كاتب ينطلق في تحميل المسؤولية عن الإدمان لطرف معين، انطلاقاً من عقيدته الدينية أو إيديولوجيته السياسية، أو انطلاقاً من اتجاهه الإصلاحي المعتدل أو الجذري. فالكتاب لا يختلفون في أساليبهم عند معالجة الموضوع الواحد فحسب ولكن في الفكرة المستهدفة، والرسالة الموجهة إلى القارئ التي قد تكون أخلاقية وقد تكون سياسية وقد تجمع بين الاثنين.
بناء المواضيع الثانوية: بما أن الكاتب يستطيع أحياناً إيصال رسالته إلى القارئ دون أن يستوفي عناصر الموضوع كلها، فهو يكتفي بمعالجة قصيرة للموضوع أو بالإشارة إليه، فليس من الضروري في موضوع الإدمان مثلاً أن يتوسع فيه، ويكفي أن يبين لنا تأثير الإدمان في الفرد مثلاً، محملاً الأسرة أو المجتمع أو النظام السياسي المسؤولية، والروائي في بنائه للمواضيع يعالج بعضها بتفصيل وإسهاب، ويختصر بعضها، ويشير إلى أخرى مجرد إشارة، وهكذا ففي كل رواية هناك مواضيع أساسية ومواضيع ثانوية .
تجسيد المواضيع: وما يجب التأكيد عليه، عند بناء المواضيع الاجتماعية ، أن يجسد الكاتب عناصر موضوعه، في شخصيات من لحم ودم، تعيش وتتحرك في أماكن محددة ، ويرينا سلوكها من خلال علاقتها بمن حولها، فموضوع الخيانة يعالجه الكاتب من خلال خائن له اسم وعنوان وعلاقات مع من حوله نرى من خلالها خيانته، وموضوع الانتهازية نراه من خلال انتهازي له وجود واسم وسلوك نلمح فيه انتهازيته .
وموضوع الطفولة نراه من خلال طفل ، وموضوع انحراف الشباب نراه من خلال شاب أو شابة منحرفة، وموضوع الانحرافات المهنية نراه من خلال مهندس يغش الأبنية فتنهار على ساكنيها، أو طبيب جراح يتاجر بأعضاء الإنسان، أو تاجر محتكر. والفساد الإداري يعرضه الكاتب من خلال موظفين مرتشين مهملين لواجبهم، وهكذا في كل المواضيع التي يعبر عنها الروائي من خلال الشخصية، وخير مثال على ذلك "محجوب عبد الدائم " بطل رواية "القاهرة الجديدة" لنجيب محفوظ، والتي درسناها في كتاب "الشخصية، وأظهر من خلالها اختلال القيم الأخلاقية، وفساد الإدارة، فكان محجوب يمثل الانتهازية والانحطاط الأخلاقي في أبشع صورهما. ومن نافلة القول أن الفضائل يمكن تجسيدها في شخصيات روائية أو حقيقية، تاريخية أو عصرية، كالشجاعة والشهامة والكرم والأنفة وغيرها .
تمرين:
إقرأ نموذج بناء الموضوع بإمعان ثم أجب عن الأسئلة الآتية :
1 ـ هل تتفق مع نظرة الكاتب للمدمن باعتباره خطّاء، ويجب الصفح عنه، أم باعتباره مجرماً ويجب عقابه ؟ علل إجابتك .
2 ـ ماذا تقترح لمكافحة الإدمان على الخمر من الإجراءات الأخلاقية والاجتماعية والقانونية علماً بأن أمريكا جربت في الثلاثينات تحريم الخمر فلم تفلح لازدهار تجارة الخمور المهربة ؟
3 ـ ما العلاج الذي تقترحه للمدمن : أخلاقي، أم طبي، أم قانوني؟ وضّح وعلل .
4 ـ ما أنواع الإدمان المنتشرة في مجتمعنا؟ وما أخطرها في نظرك؟ ولماذا؟ وهل هناك مصالح مختصة بمكافحتها ؟ وكيف يمكن إنشاء هذه المصالح أو مساعدتها إن وجدت ؟
5 ـ ما أهمية الرياضة في مكافحة الإدمان بين الشباب؟ وهل هناك عناية بالرياضة في مدرستك وحيّك؟ وما هي المرافق الرياضية الموجودة في منطقتك ومدينتك؟ وما أهم الرياضات التي تمارس فيها ؟
لقراءة الجزء السابق انقر هنا: الفصل الأول: المواضيع الاجتماعية(تعريفها وبناؤها)
للاطلاع على فصول الكتاب، انقر هنا:المواضيع الاجتماعيّة
للاطلاع على الكتب التعليمية الأخرى للكاتب انقر هنا: كتب أدبية وتربوية