البــاب الرابع: الأحداث والزمان
من كتاب "فن الكتابة: تقنيات الوصف"
للكاتب: عبد الله خمّار
الفصــــــل الأول
وصف الأحداث وسردها
الحياة سلسلة من الأحداث:
حياة الإنسان سلسلة من الأفراح والأتراح والأحداث السعيدة والمآسي والنجاحات والإخفاقات تبدأ بولادته وتنتهي بموته.
والرواية حلقة أو حلقات مقتطعة من هذه السلسلة، فهي تروي أحداثا حدثت لشخصيات في مرحلة معينة، وتجعلنا نرافقها في آمالها وآلامها وطموحاتها ونجاحاتها وإخفاقاتها، وصراعاتها الداخلية والخارجية.
الرواية صورة عن الحياة:
والأحداث في الرواية غالبا ما تكون صورة عن الأحداث في الواقع. ولكن الكاتب ينتقيها بعناية ويكثفها. ففي الرواية كل ما يحدث للشخصية هام بينما في الواقع قد تمر سنوات دون أن يحدث شيء هام في حياة الإنسان.
وليست العبرة بالأحداث مهما بلغت أهميتها، ففي كل يوم تزخر الصحف بأخبار مختلفة منها العادي ومنها الشاذ، منها المألوف وغير المألوف، ومنها الهام وغير الهام. ولكن الحدث، في حد ذاته، مادة خام، فإذا عرفنا كيف نصقله استطعنا أن نحوله إلى أدب. فكيف نصقله؟
لقد قرأ نجيب محفوظ خبرا صغيرا في الصحيفة عن مجرم خرج من السجن لينتقم من زوجته وأحد أعوانه لخيانتهما له ورميه في السجن وزواجهما وتمتعهما بماله فحوله إلى رواية عظيمة هادفة تعالج مشكلة الجريمة في مصر، وهي رواية اللص والكلاب. واستطاع أن يصور لنا الظروف الاجتماعية والنفسية التي ساهمت في تحويل سعيد مهران بطل الرواية إلى مجرم سفاح.
ورأى تولستوي امرأة منتحرة تحت عجلات القطار فكتب روايته العاطفية الرائعة "أنّا كارنينا". كلا الروائييْن أخذ البذرة من الواقع فنماها في خياله، وغذاها بأفكاره، وسقاها بعواطفه ومشاعره، فجاءت ثمرة يانعة تجمع بين الواقع والخيال. كلاهما انتقل من حدث واقعي هو الحدث الختامي، فصنع له بداية وأحداثا مترابطة ارتباطا منطقيا تتأزم حتى تؤدي إلى هذه الخاتمة المأساوية.
رباط الزمن ورباط الحبكة:
فالأحداث إذن هي سلسلة مترابطة برباطين: رباط الزمن الذي ينظم هذه الأحداث، ويجعلنا نعرف أيها حدث قبل الآخر، والحبكة التي هي الرباط المنطقي الذي يبين علاقة الأحداث بعضها ببعض من حيث أن أحدها سبب للآخر أو نتيجة له. فليس هناك في الرواية حادث عرضي أو اعتباطي أو مستقل عن الآخر فكلها مرسومة بدقة، ومترابطة بعناية بما يسمى الحبكة. ولكن الأهم من هذا وذاك هو القيم التي تحملها الرواية، فالأحداث لا ترتبط بالزمن والحبكة فقط بل بأهميتها وكثافتها وتضمنها للقيم الإنسانية.
الحبكة:
ولنأخذ هذا المثال البسيط عن الحبكة:
"عاشر قاسم رفاق السوء ـ أدمن على المخدارت ـ وكان ثمنها باهظاـ دخل إلى إحدى الدور ليسرق ـ فاجأه صاحب الدار وهو يسرق وتعاركا ـ قتل قاسم صاحب الدار ـ حكم عليه بالإعدام".
وقد وضعنا خطوطا بين هذه الأحداث. ولكن لو سألنا: لماذا أدمن قاسم على المخدرات؟ لكان الجواب: لأنه عاشر رفاق السوء، ولماذا سرق؟ لأنه أدمن على المخدرات ويريد أن يحصل على المال لشرائها. ولماذا قتل صاحب الدار؟ لأنه فاجأه. وإذا استبدلنا الخط بحرف العطف كالفاء أو ثم، لرأينا ارتباط هذه الحوادث بعضها ببعض وأن كلا منها سبب للآخر أو نتيجة له، وهذا ما يسمى بالحبكة: عاشر قاسم رفاق السوء فأدمن على المخدرات، وكان ثمنها باهظا، فدخل إلى إحدى الدور ليسرق المال اللازم لشرائها، ففاجأه صاحب الدار وهو يسرق فتعاركا فاضطر إلى قتل صاحب الدار، وحوكم على جريمته فحكم عليه بالإعدام.
ولا شك أن هناك رباطا يربط هذه الأحداث وينظم تسلسلها فإدمانه على المخدرات جاء بعد أن عاشر رفاق السوء، ومحاولته السرقة جاءت بعد إدمانه الخ ...
الزمن: ولنأخذ مثالا آخر عن التسلسل أو الرباط الزمني وحده للمقارنة.
ولد قاسم سنة 1952 ـ حصل على الشهادة الاتبدائية في سنة 1959 ـ اشتغل عاملا في مصنع للاسمنت عام 1972 ـ قتل رجلا وحكم عليه بالإعدام سنة 1975.
هناك تسلسل زمني لهذه الأحداث، ولكن ليس هناك تسلسل منطقي، فحصوله على الشهادة الابتدائية ليس نتيجة لولادته، واشتغاله بمصنع الإسمنت ليس نتيجة لحصوله على الشهادة، وقتله رجلا والحكم عليه بالإعدام ليس نتيجة لاشتغاله بمصنع الإسمنت، فكل حدث من هذه الأحداث مستقل بذاته، ولا يربطه بغيره رباط منطقي، ولا تشكل هذه الأحداث حبكة روائية.
ضرورة ترابط الأحداث:
وسواء أكانت الأحداث منتظمة بشكل هرمي: تأزم فعقدة فحل، أو أن الروائي اختار أن يأخذ شريحة من أحداث أسرة أو شخصية تسير بخط شبه أفقي دون عقدة ظاهرة أو حل، وبنهاية مفتوحة، فيجب أن تكون مترابطة يربط بينها الخيط المنطقي الدقيق الذي يجعل منها حكاية واحدة، وسلسلة ذات فقرات مترابطة.
طبيعة الأحداث:
تختلف الأحداث في الرواية باختلاف مواضيعها. فالأحداث في الرواية العاطفية تتميزـ على سبيل المثال ـ بتعارف البطل والبطلة ونشوء الحب بينهما ثم بالعقبات التي يواجهانها في سبيل تحقيق حلمهما المتمثل في الزواج والحياة السعيدة. وإما أن تكون هذه العقبات اجتماعية كاختلاف البيئة والمستوى الاجتماعي والدين، وإما أن يكون هناك تنافس على الفوز بالبطلة يستعمل فيها خصوم البطل طرقا غير شريفة في التآمر والدسيسة للتفريق بين الحبيبين. وقد يكون التنافس على البطل بين امرأتين. وقد مر بنا في وصف المشاعر لقاء الملكة "نيتوقريس" والغانية "رادوبيس" التي كانت تنافسها في حب فرعون.
أحداث الرواية الاجتماعية:
أما الأحداث في الرواية الاجتماعية فتعكس المشاكل التي يواجهها أبطال الرواية في محيط الأسرة أو المجتمع، كما تصف الأحداث السعيدة كالولادة والزواج والأعياد، والأحداث الحزينة كالموت والمرض، وتعرض كذلك آثار بعض الآفات الاجتماعية كالمخدرات والخمر والسرقة والقمار، وتنقد بعض الظواهر الاجتماعية والأخلاقية كانتشار الرشوة والمحسوبية والانتهازية كما تعرض صعوبات وتعقيدات العلاقات الإنسانية نتيجة لاختلاف المبادئ أو المصالح أو الطباع.
أحداث الرواية الوطنية:
وأما الرواية الوطنية فهي تظهر معاناة الشعب وكفاحه ضد الاستعمار أو ضد الغزو الأجنبي. وأحداثها تفصيل لهذه المعاناة والكفاح ضد الغاصبين. وهناك الرواية الإنسانية، والنفسية، وروايات المغامرات والخيال العلمي والروايات البوليسية وغيرها.
تداخل الأحداث:
ولكن هذا لا يعني أن كل الأحداث في الرواية العاطفية عاطفية بحتة، وفي الوطنية سياسية بحتة، لأن أعمال الإنسان وأنشطته تشمل كل نواحي الحياة. ولا يمكن فصل السياسة عن القضايا الاجتماعية أو العاطفية، فثلاثية محمد ديب وطنية سياسية ولكنها اجتماعية لأنها تعرض مشاكل المجتمع الجزائري أثناء فترة الاستعمار. ورواية "الدروب الوعرة" لمولود فرعون عاطفية، ولكنها تعرض المشاكل الاجتماعية الهامة للشباب الجزائري ولاسيما سكان منطقة القبائل زمن الاستعمار. وثلاثية نجيب محفوظ اجتماعية، ولكنها مليئة بقصص الحب، وبتاريخ النضال السياسي. وإنما تسمى الرواية تبعا للصبغة الغالبة عليها.
ولنبدأ بمثال من الثلاثية الجزائرية تصف اعتداء ثلاثة فرنسيين على طفل جزائري وتدخل حميد سراج لإنقاذه".
1 ـ حميد البطل حامي الضعفاء (محمد ديب):
"كان الرجال يسيرون في وسط الطريق المعبد ـ و كان الشارع (شارع الحرية في مدينة الجزائر) مقفرا في هذه الساعة من الليل ( الساعة العاشرة). كان لا يبدو عليهم أنهم عابئون بالمطر، فاعتقد حميد خلال لحظة أنهم عسكريون. كانت أحذيتهم تقرع أرض الشارع. واقتربوا من أحد المصابيح فانتصبت أشباحهم وتطاولت كثيرا. قال واحد منهم: "خذ هذا ياقملة".
رأى حميد رؤية واضحة في هذه المرة أن هؤلاء الأشخاص الثلاثة يتقاذفون الشيء الذي بدا له طفلا، كما يتقاذف اللاعبون كرة من الكرات، فهذا يركله بقدمه، وذاك يضربه بقبضة يده أو بركبته، وكان الطفل ينجر على الأرض وهو يكاد يعجز حتى عن الأنين.
أصبح لا يستطيع أن ينهض. حاول الرجال أن يتقاذفوه وهم يتصايحون، فقال أحد الثلاثة شاتما: "ياللقذارة". وراحوا يجرونه على أرض الشارع. وانصب عليهم نور المصباح شديدا بعد بضعة أمتار فاستطاع حميد أن يرى الصبي. إنه ماسح أحذية أو حمال، واحد من أولئك الذين يراهم المرء راكضين في شوارع مدينة الجزائر أعدادا غفيرة. كان الطفل متمددا على الأرض. إن ثيابه الممزقة كانت مغموسة في الوحل ملطخة بالبقع السوداء. جمد الرجال الثلاثة وأخذوا ينظرون إلى الصبي.
ووجموا لحظة صامتين كأنهم يترددون، ثم قال أحدهم ساخرا:
"إذا فطس هذا، فهناك من أمثاله كثيرون. ملايين. ليس الفئران هي التي يعز وجودها في هذه البلاد".
قال ذلك وضرب الصبي المستلقي على الأرض بقدمه. فلم يصرخ الصبي ولم يئن. وعاد الرجال الثلاثة يضطهدون معا هذا المخلوق الذي يبدو ميتا.
صاح حميد قائلا: "قفوا". وأسرع إليهم: "ماذا فعل هذا الصبي؟"
وقال ثان مقاطعا: ـ هذا جدي، هذا عربي.
فأجابه الأول: ـ لعله يريد أن نعلمه كيف يعيش.
ـ دعونا من الآخـــر..
ـ أتريد أن تبدأ بهذا؟
ـ الدور دورك.
وتقدم الشخص الذي قال هذه الجملة الأخيرة، تقدم من حميد، وهو يصطنع توددا زائفا، فأمسك بياقة سترته بين إبهامه والسبابة، وتفرس في وجهه.
وتقدم الآخران. قال الأول:
ـ صيدة جميلة.
ـ رجل جاوز طوره.
ـ يعد نفسه متحضرا.
انتزع حميد نفسه بعنف من الرجل الأول، ثم عاد إليه مندفعا بكل ما أوتي من قوة فجبهه بضربة في صدره فأسقطه. أطلق الرجل كلمة آه عميقة، وتمدد على الأرض في ضجة صماء، ولم ينهض. وابتعد أحد رفيقيه وهو يصيح صياحا شديدا. وفجأة رأى حميد سكينا تلتمع في يد الثالث الذي بقي واقفا أمامه.
ـ انتظر يا وسخ.
قال الرجل ذلك ووثب على حميد، وكان حميد ينتظره، فانتقل من مكانه بحركة صغيرة، فاتقى الضربة، وإذا الرجل يختل توازنه ويهوي إلى الأرض معولا، إما لأن وثبته التي لم تلتق بشيء دفعته إلى الأمام في عنف، وإما لأنه اصطدم ببلاط الرصيف. أخذ حميد يراقبه.
نهض الرجل غير أنه كان يرتعش ارتعاشا قويا".
الدار الكبيرة: الحريق: النول ص 286
عناصر الحدث:
إذا قرأنا هذه الحادثة وحدها، دون أن نقرأ الرواية، نجد أن لها زمانا (هو الساعة العاشرة في ليلة مظلمة ماطرة)، ومكانا (هو شارع الحرية أحد شوراع مدينة الجزائر)، وشخصيات هي التي صنعت الحدث (المعتدون والطفل المعتدى عليه والمنقذ)، وموضوعا (هو الاعتداء). كما نجد لها بداية (هي رؤية حميد لهذا الاعتداء وتدخله)، وعقدة (تتمثل في هجوم المعتدين الثلاثة على حميد)، وحلا (هو انتصار حميد عليهم).
وكنا سنستنتج من هذه الحادثة أن سبب الاعتداء على الطفل هو العنصرية وهي مثل كل أشكال التعصب الأعمى تحيل الإنسان إلى وحش و تبرر له أفعاله الدنيئة.
ومن هنا فالطفل لم يفعل شيئا لهؤلاء الفرنسيين الثلاثة باعترافهم. ودافعهم عنصري بحت. ونكتشف أيضا بعضا من صفاتهم الدنيئة مثل القسوة الوحشية في ضرب هذا الطفل المسكين وركله بالأيدي دون شفقة أو رحمة، والجبن في تنمرهم على الطفل المسكن الضعيف، وعجزهم عن مواجهة حميد سراج، إذ هرب الثاني عند وقوع الأول، وأخرج الثالث سكينا يواجه بها مبارزه الأعزل.
صفات البطل:
أما حميد سراج فكنا سنعجب بصفاته التي تكشفت لنا وهي شجاعته في مواجهة المعتدين الثلاثة، وقوته في التغلب عليهم ومهارته في قتالهم، وندرك فورا دافعه الإنساني الطبيعي في التدخل وهو نصرة المظلوم ونجدة الضعيف وإغاثة الملهوف.
ولكننا لم نكن لنعرف من هو حميد سراج؟ صحيح أننا سنتعاطف معه دون أن نعرف من هو بسبب موقفه الإنساني. وسنشفق على الطفل المسكين، ونستنكر ما فعله المعتدون، ونفرح بانتصار حميد عليهم. ولكننا نتمنى أن نعرف من يكون هذا البطل الشهم. ولا نعرف ذلك إلا من خلال قراءتنا للأحداث السابقة في الرواية. وهنا نفاجأ بما لم يكن يخطر لنا على بال، ولم يكن ليدور بخلدنا ولو للحظة أن هذا الشجاع القوي الماهر في القتال، هو مناضل سياسي ومثقف حزبي، يخطب في العمال والفلاحين وينشر الوعي والمعرفة، فهو إذن رجل أقوال وأفعال. وتؤكد لنا هذه الحادثة موضوع الرواية كلها: الظلم الواقع على الشعب الجزائري من جراء الاستعمار. وكفاح الشعب وعلى رأسه مناضلوه السياسيون ضد هذا الظلم. فالطفل الأعزل الذي حرم من المدرسة واضطر إلى العمل في أسوإ المهن في هذه الساعة من الليل ليكسب قوته، وربما قوت أمه وإخوته، يتعرض للضرب المبرح من مجموعة غاضبة وعنصرية. إنه ابن الجزائر وهو في أسفل السلم الاجتماعي، وهم الغاصبون في أعلى السلم الاجتماعي. وينكرون عليه قذارته ومهنته اللتين كانوا هم وأجدادهم السبب فيها. فهذه الحادثة جزء من حبكة الرواية التي ربط أحداثها محمد ديب بحركة شخصيتين هامتين نرى من خلالهما ما يحدث في الجزائر، في مدينتها وريفها وأقبية عمالها: حميد سراج وعمر اللذين يمثلان جيل الحاضر والمستقبل.
شخصيات الحدث:
أما شخصيات هذا الحدث فهي نوعية باستثناء حميد، فالطفل يمثل معظم الأطفال الجزائريين في المدن، والفرنسيون الثلاثة يمثلون عقلية معظم المعمرين والعنصرين الفرنسيين في الجزائر. إنها شخصيات تمثل الظالم والمظلوم، المعتدي والمعتدى عليه، فلا حاجة لذكر الأسماء.
ونستنتج مما ذكرنا، أن عناصر الحدث هي: الزمان والمكان والشخصيات ودوافعها، وموضوع الحدث وأسبابه. وأن للحدث بداية وعقدة وحلا. وأن هذا الحدث مرتبط بما سبقه من الأحداث برباطين: الحبكة والزمان فهو حلقة في السلسلة، وهو يكشف لنا عن صفات أشخاص الرواية، يساهم في بلورة الصراع بينهم وتأزيمه وفي إبراز موضوع الرواية.
العاطفة:
بقيت نقطتان هامتان؛ العاطفة والجو السائد في الحدث. ونقصد بالعاطفة تعاطف القارئ مع شخصيات الحدث، فالإنسان بطبعه يتعاطف مع المظلومين والطيبين الأخيار وينفر من الظالمين والخبيثين والأشرار، لذلك كان من الطبيعي أن ينفر القارئ من سلوك المعتدين الثلاثة ويبغض أعمالهم ويتعاطف مع هذا الطفل المسكن إشفاقا عليه ويتمنى لو يستطيع إنقاذه. وحين يأتي حميد سراج يتعاطف معه القارئ إشفاقا عليه من هؤلاء الثلاثة ثم ينقلب هذا الإشفاق إلى حب وإعجاب وتقدير لشجاعته وقوته ومهارته. وهكذا فلا بد أن تخاطب كل حادثة عواطفنا فتنتزع حبنا وإعجابنا أو إشفاقنا أو كرهنا واستنكارنا، تبعا للأعمال التي تقوم بها هاته الشخصيات.
الجو السائد في الحدث:
أما الجو السائد في الحدث فتخلقه براعة الكاتب في الوصف وفي إضفاء الحياة عليه. ونجد محمد ديب يستعمل السرد المباشر والحوار، ويبرز الجانب الانفعالي من خلال عناصر ثلاثة: لهجة الحوار، والمزاوجة بين الصوت والصمت، وحركة الأجسام. أما عناصر الانفعال الأخرى التي ترى في الوجه والعينين وتدفق الدم فلا نراها، لأن الحدث يجري في شارع معتم والحركة سريعة فلا يمكن ملاحظة الوجه وشحوبه أو تورده وتدفق الدم منه، ولا قراءة تعابير العينين وما في بريقهما من غضب أو حقد، أو ذعر وخوف، وسنرى استعماله لهذه العناصر الثلاثة:
1 ـ لهجة الحوار:
أ ـ السخرية: ثم قال أحدهم ساخرا: "إذا فطس هذا، فهناك من أمثاله كثيرون، ملايين. ليست الفئران هي التي يعز وجودها في هذه البلاد".
ب ـ اصطناع التودد: "تقدم من حميد وهو يصطنع توددا زائفا، فأمسك بياقة سترته بين إبهامه والسبابة، وتفرس في وجهه، وتقدم الآخران، قال الأول: "صيدة جميلة".
ج ـ الشتــم: "فقال أحد الثلاثة شاتما: "يا للقذارة".
د ـ الأمر والاستفهام: "صاح حميد قائلا: "قفوا"، وأسرع إليهم: "ماذا فعل هذا الصبي؟"
2 ـ انفعالات المتحاورين: صور لنا الكاتب انفعالات المعتدين الثلاثة وانفعالات حميد، وأوحى لنا بانفعالات الطفل من خلال الصوت والحركة. وبما أن هذا النص يتميز بالانفعالية، فحركة الأجسام فيه ليست حركة عادية ولكنها تعبر عن الانفـعالات المختلفة التي نستعرضها فيما يأتي:
أ ـ الانفعال السادي: و هو الانفعال المرضي الناتج عن التلذذ بتعذيب الآخرين وضربهم وتمثل مظهره عند المعتدين الثلاثة في:
1 ـ الحركة: كان الرجال الثلاثة " يتقاذفون الشيء الذي بدا له طفلا، كما يتقاذف اللاعبون كرة من الكرات، فهذا يركله بقدمه، وذلك يضربه بقبضة يده أو بركبته".
ولم يتوقفوا حتى عندما كف الصبي عن الحركة وحسبوه ميتا: "وضرب (أحدهم) الصبي المستلقي على الأرض بقدمه. فلم يصرخ الصبي ولم يئن وعاد الرجال الثلاثة يضطهدون معا هذا المخلوق الذي يبدو ميتا".
2 ـ الصوت: يسمعنا الكاتب تصايحهم وهم يتلذذون بتعذيب الطفل: "حاول الرجال أن يتقاذفوه وهم يتصايحون".
ب ـ انفعال الغضب: ونراه عند حميد في البداية ثم عند المعتدين الثلاثة:
1 ـ الحركة: نرى انفعال الغضب في إسراع حميد إليهم وسؤالهم مستنكرا عن سبب ضربهم للطفل: "صاح حميد قائلا قفوا، وأسرع إليهم:
ـ "ماذا فعل هذا الصبي؟"
ثم نراهم يغضبون لتدخله حيث أن أحدهم أمسك بياقة سترته بين إبهامه والسبابة، وتفرس في وجهه "ولكنه انتزع نفسه بعنف من الرجل الأول. ثم عاد إليه مندفعا بكل ما أوتي من قوة، فجبهه بضربة في صدره فأسقطه". وتفادى حميد بالحركة الأخيرة حامل السكين وجعل توازنه يختل: " ويهوي إلى الأرض معولا".
2 ـ الصوت: نلمح الغضب في صرخة حميد: " قفوا ـ ماذا فعل هذا الصبي؟ كما نراه في لهجة حامل السكين: "انتظر يا وسخ".
ولكن دافع انفعال الغضب عند حميد هو نصرة الضعيف، ودافعه عند المعتدين الثلاثة انزعاجهم من تطاول هذا الجزائري وجرأته على التدخل فيما لا يعينه، فغضبه للحق وغضبهم للباطل.
انفعال الخوف: ونلمحه عند المعتدين الثلاثة:
1 ـ الحركة: هرب أحدهم وهو يصيح عندما رأى حميد يسقط صديقه على الأرض: "وابتعد أحد رفيقيه وهو يصيح صياحا شديدا". ونراه أيضا عند صاحب السكين حين نهض من سقطته وكان يرتجف من الخوف: "نهض الرجل غير أنه كان يرتعش ارتعاشا قويا".
2 ـ الصوت: نورد مثال الحركة نفسه ولكننا نركز على الصوت: وابتعد أحد رفيقيه، وهو يصيح صياحا شديدا" من شدة الخوف طبعا.
د ـ انفعال الألم: ونجمع الحركة والصوت معا في هذا الانفعال الذي نراه عند اثنين من المعتدين يصرخون ألما من أثر السقوط:
1 ـ "فجبهه (حميد) بضربة في صدره فأسقطه. أطلق الرجل كلمة آه عميقة، وتمدد على الأرض في ضجة صماء ولم ينهض".
2 ـ "وإذا الرجل يختل توازنه ويهوي إلى الأرض معولا إما لأن وثبته التي لم تلتق بشيء دفعته إلى الأمام بعنف، وإما لأنه اصطدم ببلاط الرصيف".
أما انفعالات الطفل نفسه فلا نكاد نسمعها: "كان الطفل ينجر على الأرض وهو يكاد يعجز عن الأنين". ولا نعرف ماذا حل به. هل هو ميت أم حي؟ ونمسك قلوبنا مخافة أن يكون قد مات: "فلم يصرخ الصبي ولم يئن وعاد الرجال الثلاثة يضطهدون معا هذا المخلوق الذي يبدو ميتا".
ولكننا مع ذلك نتصور الانفعالات التي مر بها قبل أن يفقد القدرة على الكلام والحركة، قبل أن يفقد الوعي أو يموت. لا شك بأنه عانى من الدهشة والذعر والألم وأكيد أنه حاول الاستعطاف والاسترحام ولكن أحدا لم يسمعه.
أسلوب السرد: وأما أسلوبه في السرد فقد تميز باستعمال عناصر الوصف الحسي فقد استعمل من الأصوات: "كانت أحذيتهم تقرع أرض الشارع"، "اصطدم ببلاط الرصيف"، واستعمل الألوان: "كانت مغموسة في الوحل ملطخة بالبقع السوداء". كما استعمل الأضواء والظلال: "واقتربوا من أحد المصابيح فانتصبت أشباحهم وتطاولت كثيرا"، "وانصب عليهم نور المصباح شديدا بعد بضعة أمتار"، "وفجأة رأى سكينا تلتمع في يد الثالث". كما نرى أن النص مليء بالحركة، وهي تعبر عن الانفعال كما أسلفنا: "يتقاذون الشيء الذي بداله طفلا كما يتقاذف اللاعبون كرة من الكرات"، "وكان الطفل ينجر على الأرض"، "وراحوا يجرونه على أرض الشارع"، "انتزع حميد نفسه بعنف من الرجل الأول ثم عاد إليه مندفعا"، "فانتقل من مكانه بحركة صغيرة"، "وإذا الرجل يختل توازنه ويهوي إلى الأرض".
يضاف إلى كل هذه الصور التي قدمها لنا الكاتب، صورة الطفل وهؤلاء الثلاثة يلعبون به كأنه " شيء " وليس إنسانا: " هؤلاء الأشخاص الثلاثة يتقاذفون الشيء الذي بدا له طفلا كما يتقاذف اللاعبون كرة من الكرات". وحين قدم لنا الطفل "كواحد من أولئك الذين يراهم المرء راكضين في مدينة الجزائر أعدادا غفيرة" أوحى لنا بأنه يمثل معظم الأطفال.
جو الترقب والإثارة:
وهكذا فكل هذه التقنيات التي استعملها الكاتب ساهمت في جو الإثارة وفي حيوية النص، بحيث من لم يقرأ الرواية يظن أنها رواية مغامرات، لأن الجو السائد في الحدث جو ترقب وترصد ومفاجأة وإثارة، مليء بالحركة والانفعال.
وجو الحدث كما نعلم مرتبط بالموضوع، فالأحداث المفرحة يشيع فيها جو مرح خفيف، والأحداث الحزينة يسودها جو كئيب ثقيل، وأحداث المغامرات يغلب عليها جو الإثارة والترقب والتوتر الخ ...
ملاحظـــة:
ليس واضحا في الرواية إن كان هذا الحدث من قبيل استعادة الذكريات التي حدثت مع حميد في الماضي حين كان في مدينة الجزائر، أو من قبيل الهلوسة وأحلام الهذيان التي مر بها بعد أن تعرض لأقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي. ومهما كانت صفة هذا الحدث حقيقية أم رمزية فهو يعكس واقعا كان موجودا، وقد اخترناه لاحتوائه على مقومات الحدث كلها.
حدث من رواية اجتماعية:
قبل أن نستخلص قواعد وصف الحدث أو الحادثة ننتقل إلى مثال آخر لفيكتور هيغو يصف فيه سقوط عربة مثقلة بالأحمال على صاحبها الأب فوشلوفان، ذات صباح في أحد أزقة مونتروي سورمير، بعد أن خر فرسه على الأرض وكسرت فخذه. كما يصف قيام "جان فالجان" الذي يعرفه الناس باسم "العمدة مادلين" بمحاولة إنقاذه من تحت العربة. والنص طويل نجتزئ منه ما يجعلنا نفهم الحدث مشيرين إلى أن جافير مفتش البوليس كان موجودا بالصدفة في ذلك المكان ومنذ بداية الحدث ونحن نعلم أن "حبكة" الرواية تقوم على مطاردة جافير المفتش لجان فالجان".
حادث العربة (فيكتور هيغو):
"وفي غضون ذلك كانت العربة تسيخ شيئا فشيئا، وهدر الأب فوشلوفان وصاح: "إنني أختنق! إن أضلاعي تتحطم! إيتوني برافعة أثقال! إيتوني بأي شيء! أوه!"
وأجال مادلين بصره في ما حوله قائلا: "أليس هناك شخص يرغب في أن يكسب عشرين ليرة ذهبية وينقذ حياة هذا الرجل العجوز البائس؟"
ولم يتحرك أحد من النظارة، وقال جافير: "أنا لم أعرف قط غير رجل واحد كان يقدر على أن يحل محل رافعة أثقال، كان هو ذلك المحكوم عليه بالأشغال الشاقة".
وصاح الرجل العجوز: "أوه، إنها تسحقني!"
ورفع مادلين رأسه، فألفى عين جافير الصقرية ما تزال مسددة إليه، ونظر إلى الفلاحين المسمرين في أماكنهم، وابتسم ابتسامه حزينة، ثم إنه ركع من غير أن ينبس بكلمة. وحتى قبل أن يجد الحشد متسعا من الوقت لإطلاق صيحة أمسى تحت العربة. كانت لحظة رهيبة من التوقع والصمت. لقد شوهد مادلين، منبطحا على بطنه تقريبا تحت الثقل المخيف يحاول مرتين أن يجمع ما بين مرفقيه وركبتيه، ولكن على غير طائل، وصاح القوم: "أيها الأب مادلين! اخرج من هناك".
وقال فوشلوفان العجوز نفسه: "مسيو مادلين! إذهب من هنا! لا مفر من الموت؟ أنت ترى ذلك. دعني وشأني أخشى أن تسحقك العربة أنت أيضا". ولكن مادلين لم يجب.
وحبس النظارة أنفاسهم. كانت العجلات لا تزال تسيخ في الأرض، وكان قد غدا شبه متعذر على مادلين أن يخرج من تحت العربة.
وفجأة، أجفل الحشد الضخم، لقد ارتفعت العربة في بطء، وشرعت العجلات تخرج من مغارزها، وسمع صوت مختنق يصيح:
ـ "عجلوا! ساعدوا!"
كان صوت مادلين الذي بذل في تلك اللحظة جهدا نهائيا.
واندفعوا كلهم إلى العمل. كان التفاني الذي أظهره رجل فرد ما أوقع القوة والشجاعة في نفوس الجميع. وتعاونت عشرون ذراعا على رفع العربة. ونجا فوشلوفان العجوز.
ونهض مادلين. كان شديد الشحوب، برغم أنه كان يتصبب عرقا، وكانت ملابسه ممزقة يعلوها الطين. وبكى القوم جميعا، وقبل الرجل العجوز ركبتيه، ودعاه "الملاك الطيب". أما هو فكانت تعلو وجهه انطباعة من الألم المبتهج السماوي لا أقدر على وصفها، وسمر عينه الهادئة على جافير الذي كان لا يفتأ يراقبه".
البؤساء ص 293
الخبر والحدث:
لو أن صحفيا حضر الحادثة لكتب عنها في اليوم التالي في إحدى زوايا الصحيفة ما يلي:
"وقعت عربة مثقلة بالأحمال على صاحبها الفلاح المسكين صباح أمس في أحد أزقة "منتروي سورمير" بعد أن خرَّ فرسه على الأرض وكسرت فخذه، وكاد هذا الحادث يودي بحياته، لولا تصادف مرور العمدة مادلين في ذلك المكان فاستطاع بقوته العجيبة أن يرفع العربة وينقذ حياة الرجل".
ولنقرأ الخبر ثم الحادثة كما وصفها الكاتب قراءة متأنية. ولنبدأ بالخبر فهو يتحدث عن الحادثة: ماذا حدث؟ سقوط العربة. ولمن حدث ذلك؟ لفوشلوفان والصحفي لا يسميه بل يقول عنه الفلاح المسكين لأنه ليس من الشخصيات العامة ولكنه يسمي العمدة مادلين وينوه بما فعل لأنه شخصية معروفة. ولماذا؟ لثقل الأحمال التي جعلت الفرس يخرّ وتكسر فخذه. ومتى؟ صباح أمس. وأين؟ في أحد أزقة "مونتروي سورمير".
الفرق بين الخبر والحدث:
فالخبر إذن يجيب عن خمسة أسئلة هي: ماذا حدث؟ ولمن؟ ولماذا؟ ومتى؟ وأين؟
أما الحدث فيجيب عن هذه الأسئلة الخمسة ولكنه يضيف إليها سؤالا سادسا هو المحور الرئيسي في هذه الأسئلة: كيف حدث ذلك؟
لقد أخذت الإجابة عن الأسئلة الخمسة حيزا لا يتجاوز الثلاثة أسطر، بينما الإجابة عن السؤال السادس، استغرق بقية النص، ولنتأمل الآن كيف أجاب هيغو عن السؤال السادس وهو: كيف حدث ذلك؟
عناصر الحدث: لنحدد أولا عناصر الحدث:
1 ـ الزمان: وقد حدده الكاتب في قوله: ذات صباح.
2 ـ المكان: أحد أزقة مونتري سورمير
3 ـ الشخصيات: وهي نوعان:
ا: صانعة الحدث وهما فوشلوفان ومادلين.
ب: جافير وجمهور من الناس.
4 ـ الموضوع وهو هنا سقوط العربة على فوشلوفان ثم رفع مادلين لها.
5 ـ سبب سقوط العربة ثقل الاحمال، ودافع مادلين لرفعها شهامته ومروءته.
وهذه العناصر الخمسة تجيب عن الأسئلة الأربعة: ماذا حدث؟ ولمن؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟
أما الجواب عن السؤال السادس وهو: كيف حدث ذلك؟ فهو يعني أن نصف بدقة ما قامت به الشخصيات المحورية من عمل ومن قول. وذلك يعني تسجيل كل حركة تقوم بها، وكيف قامت بها، وتسجيل الحوار الذي دار بأمانة، ولهجة الانفعال الذي طبع هذا الحوار. وفي غضون ذلك تسجيل ردود الافعال التي أظهرتها الشخصيات المنفعلة بالحدث، من قول وعمل، بتسجيل دقيق للحركة، ووصف حي للانفعال. ولا ننسى أخيرا أسلوب الكاتب في عرض هذه الأمور وسردها، بحيث يجعل القارئ متشوقا لمعرفة ما يحدث، ومتلهفا على ابتلاع الكلمات والتهام الجمل، ليعرف ماذا سيجري، وليصل إلى نهاية الحدث المرتبط بحدث آخر وكذا إلى نهاية الرواية.
دور العربة في الحدث:
وفي النص الذي اجتزأناه لهيغو من حادث العربة، يركز فيه على انغراز العربة التدريجي في الأرض حيث يتعرض فوشلوفان بين لحظة وأخرى لخطر الموت. لقد استعمل الكاتب تقنية الحركة بمهارة فائقة فبين حركة العربة، وعجز فوشلوفان، وحركة مادلين وتسمر النظارة في أماكنهم. إيقاع يشد أعصاب القارئ بعنف، فالعربة هي السيف المسلط على عنق فوشلوفان وهي الوسيلة التي يحبس بها الكاتب أنفاس القراء ويجعل دقات قلوبهم تتسارع، وبين الفينة والفينة يذكرنا الكاتب بأن العربة مازالت تنغرز:
"وفي غضون ذلك كانت العربة تسيخ شيئا فشيئا"، ويعود ليقول بعد عدة أسطر عندما دخل مادلين تحتها: "وحبس النظارة أنفاسهم، كانت العجلات لا تزال تسيخ في الأرض، وغدا شبه متعذرعلى مادلين أن يخرج من تحت العربة". ويأتي الحل في النهاية: "وفجأة أجفل الحشد الضخم. لقد ارتفعت العربة في بطء وشرعت العجلات تخرج من مغارزها". إن الكاتب يجعلنا نعيش الحدث دقيقة بدقيقة وثانية بثانية، ومن أجل ذلك يستعمل الأفعال التي تدل على استمرار الحدث: "كانت العربة تسيخ"، و"كانت العجلات لا تزال تسيخ". ولا يستعمل أفعال الماضي التي تدل على انتهاء الحدث إلا عند إرتفاع العربة:
"لقد ارتفعت العجلات ببطء، وشرعت العجلات تخرج من مغارزها".
دور فوشلوفان في الحدث:
أمّا ما قامت به الشخصيتان الفاعلتان من قول وعمل، فنرى فوشلوفان في البداية يكتفي بالقول، لأنه لا يستطيع أن يعمل شيئا، ولا أن يتحرك تحت وطأة العربة التي تسحقه. وقوله ليس حوارا مع أحد بالمعنى المفهوم للحوار إنما هو أصوات وصرخات استنجاد: "وهدر الأب فوشلوفان وصاح: "إنني أختنق! إن أضلاعي تتحطم! إيتوني برافعة أثقال! إيتوني بأي شيء! أوه!". ونلاحظ هنا علامات التعجب والتأثر التي وردت بعد كل جملة دالة على الاستغاثة، كما نلاحظ قول الكاتب واصفا كلام فوشلوفان:
"وهدر الأب فوشلوفان وصاح"، ليحدد اللهجة التي تكلم بها والانفعال الذي صاحبها، ثم يستغيث مرة أخرى: "وصاح الرجل العجوز: "أوه إنها تسحقني!". ونراه بعد ذلك يرجو السيد مادلين الذي دخل تحت العربة لإنقاذه، أن يخرج ناجيا بنفسه: "مسيو مادلين! اذهب من هنا! لا مفر من الموت! أنت ترى ذلك! دعني وشأني! أخشى أن تسحقك العربة أنت أيضا". وحين ارتفعت العربة ونجا، استطاع أن يقوم بعمل يعبر عن مدى عرفانه بجميل مادلين: "وقبل الرجل العجوز ركبتيه، ودعاه "الملاك الطيب".
دور مادلين:
أما أقوال مادلين فاقتصرت على جملتين عرض في الأولى مبلغا كبيرا على من ينقذ فوشلوفان: "وأجال مادلين بصره في ما حوله قائلا: "أليس هناك شخص يرغب في أن يكسب عشرين ليرة ذهبية وينقذ حياة هذا الرجل العجوز البائس؟"
وحين لم يجبه أحد انتقل إلى الفعل: "ورفع مادلين رأسه، فألفى عين جافير الصقرية ما تزال مسددة إليه ونظر إلى الفلاحين المسمرين في أماكنهم، وابتسم ابتسامة حزينة، ثم إنه ركع من غير أن ينبس بكلمة. وحتى قبل أن يجد الحشد متسعا من الوقت لإطلاق صحية أمسى تحت العربة".
وقال جملته الثانية حين نجح أخيرا في محاولته، وارتفعت العربة: "عجلوا! ساعدوا! كان ذلك صوت مادلين الذي بذل في تلك اللحظة جهدا نهائيا". ويصف الكاتب حالته حين نهض: "كان شديد الشحوب برغم أنه كان يتصبب عرقا، وكانت ملابسه ممزقة يعلوها الطين". وحين نجا فوشلوفان وبكي الجميع كانت تعلو وجه فالجان أو مادلين "انطباعة من الألم المبتهج السماوي لا أقدر على وصفها". ولكنه "سمر عينه الهادئة على جافير الذي كان لا يفتأ يراقبه" .
دور الجمهور:
أما الناس فكانوا جامدين في أماكنهم فكأن على رؤوسهم الطير عند وقوع الحادثة: "لم يتحرك أحد من النظارة "لأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا"، "ونظر مادلين إلى الفلاحين المسمرين في أماكنهم". ولكنهم تحركوا حين عجز مادلين في البداية عن رفع العربة، وطلبوا منه الخروج حفاظا على حياته: "وصاح القوم: "أيها الأب مادلين! اخرج من هناك!" وحين ناداهم مادلين ليساعدوه "اندفعوا كلهم إلى العمل، .. الخ". وعند نجاة العجوز "بكى القوم جميعا".
دور جافير:
وأما جافير فلم يقل إلا عبارة واحدة. ولم يفعل شيئا سوى مراقبة مادلين. وكان ما قاله ردا على سؤال مادلين: "أنا لم أعرف قط غير رجل واحد كان يقدر على أن يحل محل رافعة أثقال، كان هو ذلك المحكوم عليه بالأشغال الشاقة".
الخبر تاريخ والحدث أدب:
لكل إذن دوره في الحدث: الشخصيات والجمهور وحتى العربة التي لا تفتأ تهدد بالسقوط التام. هذا هو الفرق بين الخبر والحدث. ما يهم في الخبر: ماذا حصل؟ وما يهم في الحدث: كيف حصل ذلك؟ الخبر تاريخ والحدث أدب. الخبر أمر حصل وانتهى، والحدث أمر يحدث الآن أمامنا كلما قرأناه، ويعاود الحدوث كلما استعدناه، وهذا هو الفرق بين التاريخ الماضي والأدب الذي يبقى خالدا عبر العصور.
الحدث كاشف لشخصيات الرواية:
ولنعد إلى نصنا ففيه كل عناصر الحدث: الزمان والمكان والموضوع والشخصيات والبداية والعرض والعقدة والحل، ومن قرأ هذا النص منفصلا سوف يعجب بشجاعة العمدة مادلين، لكن من يقرأ الرواية سوف يتضاعف إعجابه بهذا الرجل الذي يغامر بمستقبله وبكل ما بناه بإنقاذ هذا الرجل الذي كان قبل هذا الحادث يناصبه العداء. ولا شك أن جافير سيكتشف من خلال حمل العربة بأنه جان فالجان السجين الهارب الذي يبحث عنه، والأحداث كما رأينا تكشف عن صفات أبطال الرواية.
تـــــمرين:
ويطلب من القارئ الآن، وقبل أن نستخلص قواعد وصف الحدث أن يقوم بما يأتي:
1 ـ وضع جدول لشخصيات الحدث الهامة وهي:
العمدة مادلين أو "جان فالجان"، و "فوشلوفان"، و "جافير"، و "الجمهور"، وأن يسجل انفعالات كل شخصية كما تعلمها في وصف الانفعالات، حيث يبين تغييرات الوجه، والعينين، ولهجة الصوت، وحركة الجسم الانفعالية، ثم يستنتج نوع انفعالات كل شخصية: "خوف، يأس، فرح، حزن.... الخ .." لمعرفة الانفعالات الموجودة في هذا النص.
2 ـ بيان العاطفة التي يحس بها القارئ نحو كل من الشخصيات الثلاث، وتغيرها ـ فيما إذا تغيرت ـ خلال الحدث.
ونستخلص الآن بعض قواعد وصف الحدث:
1 ـ حدد موضوع الحدث وشخصياته وزمانه ومكانه وأسبابه بالإجابة عن الأسئلة التالية: ماذا حدث؟ ولمن؟ أو من فعل هذا؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟ واهتم بتفصيل دور كل شخصية ( قبل صياغة الحدث).
2 ـ امزج في وصفك بين السرد والحوار لتضفي الحياة على الحدث وتجعله شبيها بالواقع .
2 ـ أجب عن السؤال الهام في الحدث: كيف حدث ذلك؟ بتحديد انفعال كل شخصية (قبل صياغة الحدث) والتعبير عن ذلك عند صياغته من خلال التغيرات الحادثة في:
أ ـ الصوت: لهجة كل شخصية أثناء الحوار، والصيحات أو الهمسات أو الوجوم الدالة على الخوف أو الحزن أو الغضب أو الفرح أو الدهشة الخ ...
ب ـ الوجه: تورده أو شحوبه، وابتسامته أو عبوسه وتقطيبه.
ج ـ العينين: بريقهما أو انطفاؤهما، ابتهاجهما أو ذبولهما.
هـ ـ حركة الجسم الانفعالية وتوازنه أو اختلال هذا التوازن وسرعة الحركة أو بطؤها حسب نوع الانفعال.
4 ـ استعمال ما يناسب الموضوع من عناصر الوصف الخارجي الأخرى: "الأشكال، الألوان، الأضواء، الظلال، الروائح، الطعوم. والأحداث السعيدة ولا سيما الأعراس تستلزم كل هذه العناصر.
5 ـ للحدث دور هام في الرواية وهو الكشف عن صفات شخصياتها. وتعاطف الجمهور معها أو نفوره منها ينبع من قدرتك على رسم مواقفها ودوافعها أثناء الحدث، فحاول أن تكون دقيقا في تحديد مواقفها.
6 ـ لا تنس أن معظم الأحداث فيها عرض وعقدة وحل سواء أكانت متصلة بالراوية أم منفصلة عنها.
7 ـ إذا كان الحدث متصلا بالرواية فعليك أن تربطه بما قبله وما بعده ربطا محكما بواسطة الحبكة.
تمرين 1:
بعد أن استعرضت حدثين من الرواية الوطنية والاجتماعية إليك حدثا من رواية عاطفية، يمثل صدفة، أو خطة رسمها القدر لتعارف اثنين. وكان لهذا الحدث أكبر الأثر في مسار الرواية كلها. والمكان هو بركة قصر "بيجة" حيث كانت رادوبيس تسبح في أمان واطمئنان في إحدى الأمسيات وفي زمن الفراعنة:
الصندل المخطوف ( نجيب محفوظ):
"واستسلمت لمداعبة الماء في رخاوة، ولعبت فيه ما شاء لها الهوى والمرح، وسبحت طويلا تارة على بطنها، وتارة على ظهرها، وثالثة على أحد جانبيها.
وما كانت لتعير شيئا اهتماما لولا أن صك أذنيها صراخ فزع يرسله، جواريها، فتوقفت عن السباحة والتفتت إليهن. فراعها أن رأت نسرا هائلا يحلق من علو قريب من شاطئ البركة، ويرف بجناحيه. ففرت من شفتيها صرخة فزع، وغاصت في الماء تنتفض فزعا ورعبا وتصبرت بجهد جهيد، وحبست أنفاسها طويلا حتى أحست بالاختناق، ونفذت قدرتها فرفعت رأسها في خوف وحذر، ونظرت فيما حولها وهي تخشى، فلم تر شيئا. فنظرت في السماء فوجدت النسر يولي بعيدا يوشك أن يلج باب الأفق. فسبحت إلى الشاطئ على عجل، وصعدت الأدراج مسرعة مضطربة، ووضعت قدمها في إحدى زوجي صندلها، ولكنها لم تجد الأخرى، وبحثت عنها طويلا ثم سألت:
ـ أين الأخرى؟ فأجابها الجواري في قلق: "خطفها النسر!"
الأعمال الكاملة (3) رادوبيس ص 391
وكان فرعون "مرنرع الثاني" مع مستشاريه المقربين، سوفخاتب كبير الحجاب، وطاهو رئيس الحرس، يسمرون على شاطئ بركة حديقة القصر الملكي في آبو، في المساء نفسه.
"واستسلموا إلى يقظة ناعسة زمنا يسيرا حتى انتبهوا على حادثة غريبة انتزعتهم من أحلامهم بعنف، إذ سقط شيء في حجر الملك من عل، فانتفض واقفا، وتبعه الرجلان، فسقط الشيء عند قدميه، وإذا به صندل ذهبي. ونظروا إلى أعلى دهشين، فرأوا نسرا يحلق في سماء الحديقة فوق رؤوسهم ويبعث في الفضاء صرصرة مخيفة، ويصليهم نظرات ملتهبة من عينين متقدتين، ثم ضرب بجناحيه الهواء ضربة عنيفة حلق بها في آفاق بعيدة.
وعادوا بالنظر إلى الصندل، والتقطه الملك بيده، وجلس يتأمله بعينين مبتسمتين تلوح فيهما آي الدهشة. ونظر الرجلان إلى الصندل بغرابة، وتبادلا نظرات الإنكار والدهشة والارتياب.
ومضى الملك في تأمله. ثم غمغم قائلا: "هذا صندل امرأة بلا ريب، ما أجمله وما أثمنه!"
وتساءل طاهو وعيناه تلتهمان الصندل: "ترى هل خطفه النسر؟" فابتسم الملك قائلا: "لا يوجد في حديقتي شجر يتساقط منه نبت طيب كهذا".
وتساءل فرعون عن صاحبة الصندل وعن جمالها، وترى هل الأقدار هي التي ساقت الصندل إليه، وقلـّبه بين يديه:
"وعثر بصره بصورة منقوشة على باطنه، فقال وهو يشير إليها:
"ما أجمل هذه الصورة.. إنه فارس وسيم، يقدم قلبه هدية على يده المبسوطة. ووقعت هذه العبارة من قلب الرجلين موقع الانتباه الشديد، فالتمعت أعينهما بنور خاطف، وتطلعا إلى الصندل باهتمام عظيم، وقال سوفخاتب: "هل يتنازل مولاي عن الصندل لحظة؟ فأعطاهه ونظر إليه كبير الحجاب، كما نظر إليه هو، ثم رده الرجل إلى الملك وهو يقول: "صدق حدسي يا مولاي .. هذا صندل رادوبيس غانية بيجة الشهيرة". فتساءل الملك قائلا:
"رادوبيس! ياله من اسم جميل من عسى أن تكون صاحبته؟!"
الأعمال الكاملة (3) رادوبيس ص 384 ـ 385
الاسئلة:
1 ـ هل تعتبر هذا النص حدثين بزمانين ومكانين مختلفين، أم حدثا واحدا بزمانين ومكانين؟ وهل يمكن في رأيك أن يكون للحدث الواحد زمانان ومكانان مختلفان؟ علل إجابتك.
2 ـ ما الشخصيات الفاعلة في الحدث والمنفعلة به في رأيك؟ علل إجابتك.
3 ـ ما الجو السائد في الحدث؟ ( حزن، مرح، إثارة، خوف، ترقب. الخ."
علل إجابتك بأمثلة من النص.
4 ـ استخرج ما يحمله هذا النص من عنصري الصوت والحركة؟
5 ـ يقال: "إن حكاية سندريلا أخذت من هذه الأسطورة الفرعونية التي استلهمها نجيب محفوظ في روايته". فما وجه التشابه بين الحكايتين؟ حاول أن تتوقع ما سيجري بعد هذه الحادثة إن كنت لم تقرأ الرواية.
ملاحظات إضافية عن الأحداث:
تختلف الأحداث باختلاف أهميتها في الرواية، فهناك أحداث لا تستحق أن يفصّل فيها الكاتب، كالأحداث اليومية الصغيرة المتعلقة بالعمل أو زيارات الجيران والأقارب، وهي ضرورية لفهم شخصيات الرواية أو العلاقات الإنسانية فيها، ولكنها ليست هامة بالقدر الكافي ليقدم الروائي تسجيلا حيا لها، بالصوت والصورة، أي بالحوار الذي دار بين الأشخاص وبالانفعالات التي رافقت كلا منهم خلال الحدث، بل يكتفي الكاتب بسردها، وإليك هذا المثال:
1 ـ عيني وأولادها (محمد ديب):
ليتك ترى "عيني" حين تمسك بواحد من أولادها، ولو كان هو هذه العصا الطويلة "عيوشة"، كانت عيني إذا قبضت على واحد من أولادها تسلخ جلده سلخا من شدة الضرب، مقبلة على عملها هذا بهمة جبارة لا تلين.
كان من الأفضل أن لا يخطر ببال إحدى النساء في مثل هذه الأحوال أن تتدخل وأن تصيح في وجهها قائلة: "إن هذا ليس من العدل في شيء، وأن تربية الأولاد لا تكون بهذه الطريقة". فإن عيني تزيد عندئد عنفها، إذا أمكن المزيد.
ـ كيف؟ ألا أستطيع أن أضربهم؟ أليسوا أولادي؟ ما هذا الذي تقولين؟ لا أستطيع؟ من ذا الذي يمكن أن يمنعني من ضربهم؟ أليسوا لي؟
وكانت عيني أثناء انهماكها في ضرب أولادها تلتفت إلى الجيران الذين وقفوا على مسافة منها ينظرون إليها:
"سأمص دمكم، يجب أن يكون هذا ماثلا في أذهانكم، إنني أعرف كيف أربي أولادي، أعرف كيف أنشئهم على الاحترام. هل تظنون أنني واحدة من تلك النساء اللواتي يدعن أولادهن بغير تهذيب".
الدار الكبيرة: الحريق: النول ص 88
الحدث الذي يستحقق التسجيل:
تضرب عيني أولادها غالبا، فهذا ليس بالجديد، إنه من الأحداث اليومية، ولو لم تكن تضربهم في العادة، وضربتهم لأول مرة لكان هذا حدثا يستحق التسجيل، تسجيل انفعالاتها وانفعالاتهم، وحوارها مع الجيران. أما وأن الأمر ليس كذلك، فالكاتب يكتفي بالسرد، ويذكر لنا ما يقوله الجيران وما تقوله عيني ليس على سبيل الحوار، بل على سبيل نقل ما يحدث باستمرار. وليس معنى هذا أن هذا الحدث أو غيره لا يؤثر في سير الرواية، ولكن هناك من الأحداث ما تأثيره، كالقطرة، ولا بد من الانتظار حتى يفيض الإناء، وهناك ماهو كالسيل يجرف معه كل شيء، ويغير خريطة الرواية تغييرا كليا.
الفرق بين الأحداث:
هناك إذن أحداث ثانوية يكتفي الكاتب بسردها، وأحداث سابقة لتاريخ بداية الرواية يعلمنا بها إعلاما، وأحداث يومية متكررة يفقدها هذا التكرر صفة التميز.
تميز الحدث:
وما يجعل الحدث متميزا هو الشخصيات الفاعلة فيه، فلو لم يكن الأشخاص الفرنسيون الثلاثة عنصريين لما كان هناك حدث. ولو لم يكن حميد سراج شجاعا وشهما في الوقت نفسه لما تدخل ولما كان هناك حدث. ولو لم يكن جافير حاضرا مشهد انغراز العربة، لما كان هناك حدث، لأن ما جعل هذا الحدث متميزا يستحق التسجيل، هو ذلك الصراع الداخلي في نفس العمدة مادلين أو "جان فالجان" بين إنقاذ حياة إنسان مهدد بالموت، وبين إنقاذ مستقبله هو. ولو خطف النسر صندل "رادوبيس" ورماه في مكان آخر لما كان هناك حدث. ولو لم يكن فرعون فضوليا وذا ولع بالجمال، لما كان هناك حدث. ولو لم يكن وزيراه "طاهو وسوفخاتب" يعرفان صاحبة الصندل لما كان هناك حدث.
الخلاصــة:
فالحدث يعتمد إذن على جملة عوامل أهمها ما تتمتع به الشخصيات من طباع متنافرة تؤدي إلى الصراع الخارجي في حادث الاعتداء على الطفل أو الداخلي في حادث العربة أو صراع المصالح المتناقضة في حادث خطف الصندل حيث كان طاهو يحب رادوبيس ويحاول إبعاد فرعون عنها.
الفرق بين وصف الحدث وسرده:
الفرق بين وصف الحدث وسرده، هو كالفرق بين أن تحضر عرسا مثلا وبين أن يروي لك أحد ما حدث، وهذا مثال:
2 ـ العرس (قمر كيلاني):
"نوف" في غرفة الجدة أم سالم تتهيأ للعرس، مثل حمامة معلقة في رأس نخلة. كانت تتحسس جراح وجهها.. وتتمنى أن تخفف منها الزينة أو تخفيها. حولها فتيات من قريبات "حسن" يزغردن ويقمن بواجبات العروس. أخذنها إلى حمام السوق، ونقشن لها أصابعها بالحناء، وملأن الحمام بالزغردات والأغنيات. في البيت جاءت الماشطة وهي تقوم بتزيين شعر العروس وتكحيلها ونثر الأبيض على وجهها وصبغ شفاهها. وبين كل مرحلة وأخرى تزهر أغنية أو تنطلق زغرودة. وتمتد العملية وقتا أطول عندما تبدأ العروس ترتدي ثيابها. من (البابوج إلى الطربوش) كما يقولون والزفة لا تنتهي. أما المرحلة الأخيرة فهي وضع الطرحة البيضاء على الرأس وإسدال النقاب على الوجه. عندها يجب أن يتحرك الموكب وتنطلق كل الزغاريد دفعة واحدة من كل الحناجر. لا يرفع النقاب إلا العريس بيده. أما (النقوط) فيتم في بيت العريس وتحت أنظار المدعوين جميعا".
الهودج ص 203
الحوار والانفعال مهمان في الحدث:
إننا لا نحس أمام هذا النص بأننا في عرس. بل نحس بأن الكاتبة تروي لنا مراحل العرس في الريف الفلسطيني. فلا حوار ولا انفعالات. تخبرنا بأن هناك زغاريد ولكننا لا نسمع صوتها، وتحدثنا بأن العروس تلبس ثيابها من البابوج إلى الطربوش، ولكننا لا نرى شيئا، لا نوع الثياب ولا الألوان، للعروس أو للمدعوات ولا نشم روائح العطور. لا نرى انفعالات وتعبيرات الفرح على الوجوه وفي بريق العيون، لا أصوات ولاهمسات ولا أغان كما يحدث في الأفراح. لقد فضلت الكاتبة أن تسرد لنا الحدث، لا أن تدعونا إليه، وتضع لنا كراسي في الصف الأول لنراه، فقرر عزيزي القارئ منذ البداية ماذا تريد: أن تسرد الحدث أم تجعل القارئ يعيش فيه وكأنه جزء منه؟ فإذا اخترت الثانية فاهتم بالحوار وتسجيل الانفعالات وعناصر الوصف الخارجي، وحاول أن تطبق القواعد التي ذكرناها آنفا.
تمريـــن 2 :
إقرأ النصين الآتيين ثم أجب عن أسئلة كل منهما:
1 ـ الحريق ( تشارلز ديكنز):
الزمان عند الفجـــر. المكان: أحد الحقول. الشخصية "سايكس بيل":
" لقد بدت السماء وكأن النار قد أضرمت فيها. كانت ثمة ألسنة لهيب ترتفع في الهواء ملقية وابلا من الشرر، متدحرجة إحداها فوق الأخرى، فتضيء الجو على مسافة أميال وأميال، وتسوق سحائب من الدخان إلى حيث كان يقف. وغدت الصيحات أعلى فأعلى بعد أن ضخمت الأصوات ذلك الهدير، فإذا به يسمع صيحة "النار!" ممتزجة برنين ناقوس خطر، وسقوط أجسام ثقيلة، وقرقعة ألسنة النيران فيما كانت تنفتل حول عقبة جديدة ما، وتتواثب عاليا عاليا كأن غذاء قد أنعشها. وتعاظمت الضجة فيما كان ينظر مستطلعا. كان هناك ناس، رجال ونساء، وضوء وجلبة. وكان ذلك أشبه بحياة جديدة بالنسبة إليه. فاندفع قُدُما ناكس الرأس، مخوضا في العلـّيق والغياض، واثبا فوق البوابات والأسيجة، مسعورا مثل كلبه الذي كان يعدو أمامه مطلقا نباحا عاليا مدويا.
وأخيرا انتهى إلى مكان الحادث. كان ثمة أناس كالأشباح نصف عراة، مهتاجين اهتياجا تجلى في رواحهم ومجيئهم على نحو مضطرب. وكان بعضهم يحاول أن يخرج الخيل المروعة من الاسطبلات، وبعضهم يسوقون الماشية من الفناء والبيوت الملحقة، وبعضهم ينبثقون من الركام المشتعل مثقلين بالأحمال، وسط وابل من الشرر المتساقط، وانهيار العوارض الخشبية التي أحالتها الحرارة حمراء متقدة. كانت الفجوات، حيث نهضت قبل ساعة واحدة أبواب ونوافذ، تتكشف عن كتلة من النار المسعورة. وكانت الجدران تتمايل وتنهار في لجة النار، وكان الرصاص والحديد الذائبان يسيلان على الأرض، وقد استحال لونهما لشدة الحرارة إلى بياض. وصرخت النسوة والأطفال، وشجع الرجال بعضهم بعضا بصيحات وهتافات صاخبة. وكان في قعقعة مضخات الإطفاء الآلية، وانبجاس المياه وهسيسها فيما هي تسقط على الخشب الملتهب، ما ضاعف من عنف الهدير الهائل. وصاح هو أيضا حتى بح صوته واندفع هاربا من ذاكرته ومن نفسه، وسط الحشد الأشد كثافة.
وغاص ههنا وهناك تلك الليلة، معملا المضخات حينا، مندفعا خلال الدخان واللهب حينا، ولكنه لم يكف لحظة عن الانهماك في العمل حيثما بلغت الضجة وبلغ الازدحام أوجهما. كنت تراه يصعد المرامي ويهبطها آنا، وتلمحه فوق سطوح المباني وفوق أرضيات الغرف التي اهتزت تحت ثقله وارتعدت، وتحت وابل الآجر والحجارة المتساقطة، في كل جزء من أجزاء ذلك الحريق آنا، ولكنه كان يحمل رقية تصون حياته من الأذى، فلم يصب بأي خدش أو كدمة، ولم يعرف أي سأم أو انشغال بال، حتى انبلج الصبح من جديد، ولم يبق غير الدخان والخرائب المكسوة بالسخام".
أوليفر تويست (2) ص 291
الأسئلة:
س1 ـ هل تحس بأن هذا النص وصف حي أم سرد لما حدث؟ علل إجابتك.
س2 ـ ما القواعد التي اتبعها الكاتب في وصف هذا الحدث؟ عددها؟ واذكر ما الذي ينقص منها.
س3 ـ هل تحس بأن غياب الحوار في النص أنقص من قيمته؟ وهل يمكن إضافة الحوار في هذا النص ؟ وكيف ؟
س4 ـ ما صفات الشخصية التي كشف عنها الحدث؟ وهل تعاطفت معها؟ وما نوع العاطفة؟
2 ـ الشرطة في دار سبيطار (محمد ديب):
"في صباح الأحد الثاني من شهر مارس جاء رجال الشرطة إلى "دار سبيطار" وأخذوا يطرقون الباب الخارجي طرقا عنيفا متواصلا.
خرج عمر وأختاه من الغرفة. وهرعت عيني نحو الدربزين الحديدي الذي يحاذي الدهليز، وهي ماتزال وسنى لا تعرف أين تضع قدميها. إن غدائر من شعرها تتموج فوق رأسها كالعوسج لا يستطيع المنديل أن يحبسها: ـ ماذا جرى؟ وأصلحت شعرها.
إنه هرج لا يفهم: السكان يندفعون من غرفهم مسرعين، متلاحقين، ويتجمعون في فناء البيت. وشوشات، وصيحات مفاجئة، وبكاء أطفال صغار، ووقع أقدام حافية.
كل ذلك كان ينتشر في الدهليز والفناء والحجرات، في هذه الساعة الساكنة الرطبة الكثيفة من الصباح. إن أولى أشعة الفجر تظهر، كان الظلام يتبدد خفية.
ضربات مطرقة، ثم ضربات أرجل، تهز الباب الكبير ذا المسامير.. بغير انقطاع .. والباب يظل مقفلا، لم يحاول أحد في داخل البيت أن يقترب من الباب. كانوا يتساءلون:
ـ "ماذا حصل؟ ماذا وقع ياناس؟"
وبعد اضطراب السكان وقلقهم، فتحت لهم سنية الباب، ودخل عشرة منهم إلى الدهليز، وكان يخب بينهم رجل قصير سمين يرتدي بدلة بلون بني فاتح، وبدؤوا باستنطاق السكان:
"إن رجال الأمن يحتلون فناء المنزل. وهاهم أولاء يتوجهون بالكلام إلى السكان قائلين: "لا تخافوا.. لا تخافوا على أنفسكم، فنحن ماجئنا لنؤذيكم. وإنما نحن نؤدي واجبنا. في أي غرفة يسكن حميد سراج؟"
إن الشرطي الذي خاطب سنية في أول الأمر، تكلم هذه المرة باللغة العربية. لم يجب أحد، لكأن دار سبيطار قد خلت من سكانها في لحظة واحدة. لكن المرء يحس مع ذلك أنها يقظى منتبهة.
ـ "إذن فأنتم لا تعرفون.."
كان الهواء يزداد كثافة كلما طال الصمت. إن رجال الشرطة يحسون أن دار سبيطار أصبحت عدوة على حين غرة. إن دار سبيطار تعتصم بخوفها وتحديها. إن دار سبيطار التي عكروا نومها وهدوءها تكشر عن أنيابها.
وأخذ رجال الشرطة يقرعون البلاط المصوت بنعالهم.. إن الصدى يوسع الفراغ الذي يمتد بين سكان البيت ورجال السلطة.
وفجأة فتح باب في الطابق الأرضي، فأحدث فتحه قرقعة قوية، وظهرت من الباب قامة قصيرة، هي قامة فاطمة. فهرع إليها رجال الشرطة، فقالت لهم:
ـ "لا تتعبوا أنفسكم. أخي ليس هنا.."
أحاط بها اثنان منهم، فلم يؤثر ذلك فيها. ودخل آخرون إلى غرفتها في مثل لمح البصر. عندئذ، أخذت النساء تعود إلى فناء البيت واحدة بعد أخرى. قالت عائشة، بدون أي وجل: "ماذا فعل الفتى؟ .. إننا نعرفه منذ كان يجري في الشارع، ما أخذنا عليه شيئا في يوم من الأيام. إنه لا يسيء إلى نملة، وبأي شيء يمكن أن يسيء؟"
أكانوا يفهمون، أم كانوا لا يفهمون؟ المهم أن رجال الشرطة لم يتحركوا. كانت عيونهم الفارغة لا تثبت على شيء".
الدار الكبيرة: الحريق: النول ص 39 - 41
الاسئلة:
1 ـ هل هناك شخصيات محورية فاعلة في حدث هذا النص أم أنها شخصيات منفعلة بالحدث؟ علل إجابتك.
2 ـ هل يغلب الوصف أم الحوار على النص؟ و ما السبب في رأيك؟
3 ـ ما الجو السائد في الحدث؟
4 ـ استخرج عناصر الوصف الموجودة في النص (الصوت، اللون، الحركة... الخ ).
تمرين 3 :
استخرج من الرواية التي تطبق عليها حدثا مهما يؤثر في مسار الرواية، وبين القواعد التي استعملها الروائي في الوصف.
تمرين 4 : اختر موضوعا من الموضوعات الآتية:
1 ـ صف حادثا شاهدته وبقي أثره في نفسك، وحاول استعمال قواعد وصف الحدث.
2 ـ صف عرسا حضرته وصفا حيا مستعملا قواعد وصف الحدث.
3 ـ تخيل حادثا تبين فيه شجاعة بطلك أو كرمه، حدد مكان وزمان الحادث والشخصيات، واستعمل قواعد الوصف التي تراها ضرورية.
لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الفصل الثاني: الزمان
لقراءة الفصل السابق انقر هنا: وصف المشاعر: الانفعالات والعواطف(الغضب،الخوف،الحزن،الحب والكره..الخ)
للاطلاع على فصول الكتاب كاملة، انقر هنا: فن الكتابة: تقنيات الوصف