الفصل الأول
من كتاب مواضيع الحرية وحقوق الإنسان
للكاتب عبد الله خمّار
دراسة المواضيع
الهدف من دراسة المواضيع:
بعد أن رأينا في الجزء الثالث من هذه السلسلة كيفية بناء المواضيع، ننتقل في هذا الجزء إلى دراسة المواضيع. ونبدأ بتحديد الهدف من دراستها.
نحن ندرس المواضيع لسببين: أولهما تعريف التلميذ وتوعـيته بمشاكل مجتمعه أولا، ثم مشاكل المجتمعات الأخرى، فالروائيون الجزائريون والعرب، وغيرهم من روائيي الأمم الأخرى يطرحون علينا قضايا سياسية واجتماعية وأخلاقية، وأسئلة عن الحياة والكون لا يستطيعون حلها بمفردهم، لنتفهمها ونسهم معهم في حلها، فالوعي بالمشاكل هو الخطوة الأولى في مواجهتها وإيجاد الحلول لها. وهناك مشاكل تتشابه في الريف أو المدينة في كل المجتمعات، وهناك مشاكل خاصة بالمجتمعات المتقدمة وأخرى خاصة بالمجتمعات النامية، وكثير من المشاكل السياسية والاجتماعية مرتبطة بفقر المجتمع أو غناه وتخلفه أوتأخره، وتمسكه بالقيم أو انحلاله، وتزمته أو تسامحه، وتمييزه بين مواطنيه عرقيا أو طائفيا أو جنسيا كما أن هناك مشاكل سياسية واجتماعية ناجمة عن العلاقات بين المجتمعات المتقدمة والنامية، وعن الاستعمار القديم، وأشكال الهيمنة الحديثة، ولا بد أن نضع كل مشكلة سياسية أو اجتماعية أو تربوية في ظروفها الزمانية والمكانية، وفي إطار عادات وتقاليد المجتمع وتفكيره لنستطيع فهمها فهما صحيحا، قبل محاولة إيجاد الحلول لها.
والهدف الثاني هو إيصال رسالة الروائيين إلى التلميذ، وتمكينه من معرفة آرائهم ورؤاهم المختلفة في حلول هذه المشاكل، وقد نختلف مع الكاتب في رؤيته السياسية أو الأخلاقية، ولكن طرحه للمشكلة يتيح لنا الفرصة لمناقشته دون تحيز أو تعصب، وبالنقاش المثمر تتضح الرؤية وتظهر معالم الطريق وتتولد الحلول.
دراسة المواضيع:
الدراسة فحص وتحليل، كما رأينا في دراسة الشخصية والعلاقات الإنسانية. وكما يبنى الموضوع على فكرة يريد الكاتب إيصالها إلى القارئ هي حجر الأساس فيه، وعلى عناصره التي هي أعمدة بنائه، فدراسة الموضوع بالمقابل تهدف إلى الكشف عن عناصره، وعن الفكرة المستهدفة منه.
وقد رأينا في الكتاب السابق، أن الروائي يجسد مواضيعه في شخصيات من لحم ودم، وهذه الشخصيات في كثير من الأحيان لا تمثل نفسها فحسب، بل تمثل الشريحة الاجتماعية التي تنتمي إليها أيضا، فالمدمن يمثل الإدمان والمدمنين، والانتهازي يصور الانتهازية والانتهازيين، والشريف يمثل الشرفاء وهكذا...
لنستعرض بعض شخصيات ثلاثية "محمد ديب": "الدار الكبيرة- الحريق- النول"، والمواضيع التي طرحت من خلال هذه الشخصيات لتختار منها نموذجا للدراسة:
" عيني، عمر، حميد سراج، الجدة، ماما بنت قدري، خضرة، سعيد، قره علي، بن أيوب، عكاشة" وغيرهم. إن عيني وخضرة وماما بنت قدري لا يمثلن أنفسهن، بل يمثلن المرأة الجزائرية في المدينة والريف، بضعفها وجهلها وبؤسها، وبصلابتها وعزمها وكفاحها من أجل اللقمة، بانفعالاتها وغضبها وحزنها وأملها وبؤسها وبأسها، وتمسكها بالمبادئ. كما يمثل عمر مع سعيد الطفولة الجزائرية بمعاناتها وعذابها وحرمانها من حقوقها في الغذاء والتعليم والصحة والأمن والحياة الكريمة، و تمثل الجدة الشيخوخة الجزائرية ومعاناتها، ويجسد حميد سراج القيادة الوطنية السياسية والنقابية في مواجهتها للاستعمار وفي محاولة تنظيمها للعمال والفلاحين، ويجسد قره علي الخيانة والانتهازية، ويمثل بن أيوب وفلاحو "بني بوبلان" الفلاحين الجزائريين الذين تكالب عليهم المعمرون والسلطات الاستعمارية والخونة لنزع أراضيهم وتحويلهم إلى خماسين، وكذلك يمثل حمدوش وعكاشة وقوطي الأمين العمال الجزائريين المحقورين المضطهدين بكل تناقضاتهم وهكذا.
الشرائح الاجتماعية في الثلاثية: لقد أراد الكاتب أن يبين حالة الشعب الجزائري في زمن الاستعمار في نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من خلال ممثلين عن شرائحه الاجتماعية. والشعب الجزائري يتشكل من شرائح مصنفة حسب السن من الأطفال والشباب والرجال والشيوخ، وحسب الجنس من الرجال والنساء، وحسب المنطقة من المدنين والريفيين، وحسب المهنة من العمال والفلاحين والتجار والمعلمين والبطالين وغيرهم، وحسب الموقف من المستعمر من الوطنيين المناضلين والخونة واللامبالين، وحسب الأخلاق من المستقيمين والمنحرفين، وحسب سلامة الجسم من السليمين والمعاقين، وحسب الدخل من الفقراء والأغنياء، إلى جانب المعمرين الفرنسيين وممثلي السلطة الاستعمارية الذين يمارسون الاعتقال والتعذيب والمطاردة. وهكذا نجد كل شريحة تشكل موضوعا قائما بذاته، وهي في الوقت نفسه جزء من الموضوع الأساسي، إلى جانب مواضيع العلاقات بين الأفراد والشرائح كالزواج والجيرة والصداقة والحب والعلاقة بين الفلاحين والمعمرين والعمال ورب العمل والعلاقات الأسرية ولكن هذه المواضيع تشكل خيوطا متشابكة ومتقاطعة في الرواية. كما تتشابك هذه الشرائح في المجتمع.
وحين نود دراسة موضوع علينا أن نمسك أول خيط، ونعزله بمهارة عن الخيوط الأخرى لغرض دراسته، وعند إتمام الموضوع، علينا إعادة الخيط إلى موضعه، لأن الشخصية الواحدة تشترك في أكثر من موضوع.
ولنختر الآن موضوع "الطفولة" كنموذج للدراسة، وذلك من خلال مرافقتنا لعمر في تحركاته بين البيت والمدرسة والشارع، والمدينة والريف، لنرى كيف عالج الروائي"محمد ديب" موضوع هذه الشريحة الاجتماعية ومعاناتها في زمن الاستعمار. وقد عرفنا في الفصل الأول أن الروائي حين يستعرض الشريحة الاجتماعية، يبين لنا حالتها ووضعها من السعادة والبؤس، ويقارن بين واجباتها وحقوقها، وما تقوم به من أعمال، وما تحصل عليه من حقوق. وبناء على ذلك، نحن نعرف بالتقريب ما يتطرق إليه أي روائي في حديثه عن الطفولة، وهي وضعية الأطفال وقربها أو بعدها عن تلبية حقوقهم في المسكن والمأكل والمشرب والملبس والتعليم واللعب والأمن، وإحاطتهم بالحب والحنان، وحمايتهم من العنف ومن الاستغلال كعمال أجراء. وإذا كنا نعرف بعض العناصر التي لابد أن يعالجها الروائي في موضوعه، قبل أن نقرأ ما كتب، فإننا لن نعرف رأيه فيها إلا بعد دراستها وتحليلها.
مخطط دراسة الموضوع: أما الخطوات التي نتبعها في دراسة الموضوع مهما كان نوعه اجتماعيا أو سياسيا أو فلسفيا فهي كما يأتي:
أ- المرحلة الأولى: تقديم عمل الكاتب.
1ـ جمع كافة المعلومات الموجودة في الرواية عن الموضوع المطلوب: الإدمان أو الرشوة أو الطفولة، أو الكفاح ضد المستعمر أو ضد الاستبداد.
2ـ تحليلها واستخراج عناصرها.
3ـ تصنيف هذه العناصر وتنظيمها وترتيبها بصورة منطقية في مخطط واضح.
4ـ تحرير الدراسة وفق المخطط مع إيراد الاستشهادات المناسبة عن الموضوع من الرواية.
ونستنتج مما سبق أن الكاتب يضع عناصر الموضوع عند بنائه، ثم يحول هذه العناصر إلى شخصيات وعلاقات ومشاهد، أما نحن فنفعل العكس عند دراسة الموضوع، حيث نحلل هذه الشخصيات والعلاقات والمشاهد ونعيدها إلى أصلها، وهي عناصر الموضوع، لنستخدمها في تحرير الدراسة.
وقبل أن ننتقل إلى المرحلة الثانية من الدراسة نوضح الخطوات التي نقوم بها في المرحلة الأولى بالنسبة إلى موضوع "الطفولة".
1ـ جمع كافة المعلومات المتناثرة في الرواية عن الطفولة، ورصد كل ماقام به عمر وغيره من الأطفال، من الأقوال والأفعال، وكل ما ذكِرَ عنهم، سواء أنقلنا النصوص على أوراق، أم نقلنا رؤوس الموضوع وأرقام الصفحات، لنعود إليها في الخطوة التالية.
2ـ تحليل هذه المعلومات واستخراج عناصرها: (نستخرج من كل حوار أو من كل مشهد العنصر الذي يلخصه).
ونأخذ مثلا عن ذلك النص الذي يبدأ به الكاتب روايته:
" هات قليلا مما تأكل، قال "عمر" ذلك، وهو يقف أمام "رشيد بري"، ولم يكن "عمر" وحيدا فإن شبكة من الأيدي قد امتدت تلح كل منها في طلب نصيبها من الصدقة. فاقتطع "رشيد" لقمة صغيرة من الخبز فوضعها في أقرب راحة إليه.
" وأنا...وأنا..." ارتفعت الأصوات متوسلة، فاحتج رشيد، وحاولت الأيدي كلها أن تنتزع من يده خبزه"
الدار الكبيرة، الحريق، النول ص 15
وبعد أن نقرأ النص جيدا، نجد أنه يعبر عن جوع الأطفال، فهم يأتون إلى المدرسة جائعين لم يشبعوا في بيوتهم، ونستخرج العنصر المقصود من هذا النص، وهو:
جوع الأطفال في المدرسة، ونضع مع هذا العنصر كل ما يتعلق بالجوع أو الغذاء، ونفعل الشيء نفسه مع النصوص المتعلقة باللباس والسكن واللعب والتعليم.
ونأخذ نصا أخر، هو جزء من حوار بين حميد سراج والشرطي في معتقل "لونابارك":
" وأنت، ألم تأخذ أطفالا إلى السجن؟ أطفالا في الثانية عشرة من سنهم.. تذكّرْ كنت تلمهم من السوق، من ناحية البحر، أو تجمعهم من باب "بومدين" وكنت تقيد أيديهم الصغيرة بالسلاسل".
الدار الكبيرة، الحريق، النول ص 294
"حتى إذا خلوت بهؤلاء الأولاد في دار الشرطة، اندفعت تعمل ما تعمله، هل تجرؤ أن تقول لي ماذا كنت تعمل؟"
الصفحة نفسها
ونستخرج العنصر الذي قصده الروائي مما تقدم وهو: "سجن الأطفال وتعذيبهم"، ونضع هذا العنصر مع كل مايتعلق بالاعتداء على الأطفال أو ممارسة العنف ضدهم.
3- تصنيفها وتنظيمها في مخطط واضح:
وبعد تحليل النصوص التي بين أيدينا عن "الطفولة" واستخراج العناصر الرئيسية نجد أن الكاتب تحدث عن "جوع الأطفال وعذابهم وجهلهم، وحرمانهم من اللعب لضيق سكناهم، وحرمانهم من الحب والحنان، واستغلالهم في العمل، والاعتداء عليهم"، ثم ننظم هذه العناصر تنظيما منطقيا في مخطط، يكون العنصر الأول فيه التعريف بـ "عمر" وأسرته كنموذج للطفل الجزائري، والعنصر الثاني يتعلق بحقوق الأطفال الأساسية المنتهكة زمن الاستعمار، ونضع لموضوعنا مقدمة مناسبة، أما الخاتمة فهي تلخيص لعناصر الموضوع، ويصبح المخطط على الوجه الآتي:
أولاًـالمقدمة: تقديم موضوع "معاناة الطفولة في زمن الاستعمار" لمحمد ديب.
ثانياًـ عناصر الموضوع: عنصران أساسيان هما:
I – التعريف بعمر وبيئته كنموذج للطفل الجزائري.
II- حرمان عمر وغيره من الأطفال من التمتع بحقوقهم الأساسية الآتية:
1ـ السكن
2ـ الغذاء
3ـ اللباس
4ـ الحنان والحب
5ـ التعليم
6ـ الصحة
7ـ اللعب
8ـ منع استغلالهم في العمل
9ـ حمايتهم من العنف.
ثالثاًـ الخاتمة : تلخيص ما سبق .
4- تحرير الدراسة:
نستعمل هذا المخطط نفسه في تحرير المرحلة الأولى من الدراسة، مستشهدين على كل عنصر ورد في المخطط بنص من الرواية يقنع القارئ بصحة ماورد في العنصر، ونختار شواهدنا من النصوص التي استخرجنا منها العناصر نفسها، ونختصر في استشهاداتنا قدر الإمكان، مقتصرين على مايؤدي الغرض دون إطالة أو تكرار.
المرحلة الثانية: التقييم الإجمالي لعمل الكاتب ونترك الحديث عنه إلى ما بعد انتهائنا من المرحلة الأولى.
دراسة موضوع " الطفولة" للروائي محمد ديب
أبرز محمد ديب في ثلاثيته الرائعة "الدار الكبيرة، الحريق، النول" معاناة الشعب الجزائري خلال الحقبة الاستعمارية، وعالج فيها مواضيع سياسية واجتماعية وتربوية هامة. ومن بين الموضوعات الاجتماعية التي عرضها، موضوع "الطفولة" وكيف كان الأطفال يعيشون في المدينة والريف قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها.
وإذا كان من حق الأطفال الحصول على الغذاء الكافي من أجل نموهم الجسمي والعقلي والانفعالي، والسكن الصحي الذي يوفر لهم الأمن والراحة، وهم بحاجة أيضا إلى اللعب الفردي والجماعي البريء الهادف لإعدادهم لإقامة علاقات إنسانية صحية مع من حولهم في المستقبل، وإلى تعليم صحيح تنمو فيه معارفهم وتزدهر فيه مشاعرهم، ويعرفهم ببيئتهم وتاريخهم وأبطالهم ولغتهم، ولربط علاقات سليمة مع أوليائهم وجيرانهم يعبرون عنها بعواطف وانفعالات سامية وهادئة، فهل تمتع الأطفال الجزائريون في فترة الاستعمار بهذه الحقوق؟ وهل استطاعوا أن يلبوا هذه الحاجات؟
لنحاول تلمس الإجابة في رواية الكاتب، ولنأخذ الطفل "عمر" كنموذج، ولنرافقه في البيت والمدرسة والشارع، ونعاين الظروف التي يعيش فيها، ونرى إذا كانت ظروف أقرانه في الحي وفي المدرسة، مشابهة لظروفه أو مختلفة عنها، لنعرف بالضبط كيف كان يعيش الأطفال.
بيئة عمر:
نشأ عمر في بيئة فقيرة بائسة، في مدينة تلمسان، ومات أبوه "أحمد دزيري" الذي كان يعمل نجارا، ولكنه كان مدمنا على الشراب فمرض ومات:
" ولقد مات منذ مدة طويلة، فليس يحتفظ ابنه عمر بأي ذكرى عنه، حتى لكأن الصبي قد نشأ بلا أب".
الدار الكبيرة، الحريق، النول ص 64
وأمه "عيني" تعيله، وتعيل أختيه الطفلتين "عيوشة" و"مريم" وأمها المشلولة، من العمل على ماكنة الخياطة:
" لقد بدأت "عيني" تستغل ماكنتها لإعالة أسرتها منذ خمسة عشر عاما، أي قبل وفاة زوجها بمدة طويلة".
المصدر نفسه ص 108
وكانت تعمل لحساب رجل إسباني اسمه "جونزاليس" يستغل جهودها هي وأمثالها، ورغم أنها تعمل ليل نهار على ماكنتها لخياطة الأحذية، فإن ماتتقاضاه كأجر لايكفي إلا لثمن الخبز، وهي تشكو ذلك لأولادها:
"ها أنتم ترون كم يكلفنا الخبز وحده، فلا تفكروا إذن فيما عدا الخبز، وإلا كنتم تمنون أنفسكم عبثا".
ص 111
وهل تستطيع هذه البيئة الفقيرة المهمشة التي تمثل غالبية الشعب الجزائري أن توفر لأطفالها الحقوق الأساسية؟ لنحاول تفحص بعض هذه الحقوق، ونصيب" عمر" والأطفال الجزائريين في المدينة والريف منها:
1- السكن:
إن ضيق ذات اليد يؤدي حتما إلى ضيق السكن، ومعظم العائلات كان مسكنها حجرة واحدة:
كانت "عيني" وأولادها يسكنون بعضهم فوق بعض، كسائر الناس هنا، إن دار سبيطار ملأى كخلية نحل. وقد انتقلت الأسرة من بيت إلى بيت عدة مرات، وكانت في كل مرة تقع على مسكن كهذا المسكن، ذي حجرة واحدة"
ص64
ولا يختلف ضيق مسكن سعيد، في "بني بوبلان" في الريف، عن سكن "عمر" صديقه، في دار سبيطار، ولا بؤس أمه "خضرة" وعملها طيلة النهار من أجل القوت، عن بؤس"عيني" وعملها طيلة النهار أمام ماكنتها:
"وحجرة الطين التي يسكنها أهل سعيد تقع في أول الممر الذي يؤدي إلى قرية الفلاحين، فكانت خضرة أم سعيد تجلس أمام باب هذا الكوخ، وبين ساقيها المتباعدتين طاحونة ما تنفك تديرها. إن عمر لا يستطيع أن يتخيل هذه الأم إلا عاملة في تدوير هذه الرحى الثقيلة بهذه الطواعية في جسمها. كانت الأم تظل طوال النهار تطحن شعيرا أو ذرة أو فلفلا أحمر جافاً".
ص 181
ولايختلف استغلال أصحاب المصانع لعيني وأمثالها في المدينة عن استغلال المعمرين للفلاحين في الريف.
2- الغذاء: فبالنسبة إلى الغذاء نرى عوارض الجوع ظاهرة على الأطفال سواء في المدرسة أو في البيت المتمثل في "دار السبيطار" ونلاحظ سعيهم للحصول على مايسد رمقهم .
الجوع في المدرسة: وتبدأ الرواية في المدرسة حيث نرى الصغير "عمر" ذا السنوات العشر يرواغ ويتسابق مع غيره من الأطفال من أجل الحصول على قطعة خبز:
"هات قليلا مما تاكل، قال عمر ذلك، وهو يقف أمام "رشيد بري" ولم يكن عمر وحيدا، فإن شبكة من الأيدي قد امتدت تلح كل منها في طلب نصيبها من الصدقة. فاقتطع رشيد لقمة صغيرة من الخبز فوضعها في أقرب راحة إليه.
وأنا... وأنا... ارتفعت الأصوات متوسلة، فاحتج رشيد، وحاولت الأيدي كلها أن تنتزع من يده خبزه"
المصدر نفسه ص 15
وحين لم يحصل عمر من رشيد على الخبز، حصل عليه من صبي آخر بالاغتصاب والقوة:
"ومضى إلى مكان آخر. كان هناك صبية آخرون يقضمون خبزهم. فطاف بينهم مراوغا خلال مدة طويلة، ثم انقض على زحمتهم بوثبة واحدة، فانتزع رغيف صبي قصير منهم، وأسرع يختفي في وسط المدرسة حيث ابتلعته زوبعة اللعب والصراخ. ولم يسع الصبي القصير الذي كان ضحية هذا الاغتصاب إلا أن أخذ يزعق وهو في مكانه لا يبارحه".
ص 16
جوع الأطفال في دار السبيطار: والخبز في دار السبيطار عملة نادرة ناهيك عن اللحم والخضر والفواكه وفي كثير من الأحيان كانت عيني تطبخ لأولادها عمر ومريم وعيوشة حساء تقدمه لهم من دون خبز، وهذا أقصى ما تستطيع تقديمه:
"إن الفلفل الذي تضيفه عيني إلى الحساء بهار يلذع ألسنتهم. يشربون، ثم يشربون، فتنتفخ بطونهم. ومن أجل هذا إنما تصنع عيني حساء كهذا الحساء. سرعان ما نفذ الحساء القليل الذي وضعته عيني على المائدة فأصبحت الملاعق لا تقحف إلا قاع الصحن".
ص 49
وكانت في الماضي تلجأ إلى الحيلة عندما لايكون لديها ماتقدمه لهم:
" كانت عيني فيما مضى من الزمن، تستطيع أن تهدئهم بحيلة ماكرة: كانوا أيامئذ صغارا، كان يكفي أن يكون عندها قليل من فحم، عند المساء، حتى تملأ الحلة ماء، وتدع الماء يغلي على النار، وتطلب إلى أولادها الذين ينتظرون بفارغ الصبر، أن يهدأوا قليلا، إنها تقول لهم من حين إلى حين:
- اصبروا قليلا.
فكان الأولاد يزفرون زفرة إذعان. وكان الوقت ينقضي.
- سيكون الطعام جاهزا بعد لحظة. وفيما هي تقول لهم ذلك، يغلبهم النعاس الذي لا حيلة لهم في دفعه، فتطبق أجفانهم بثقل كأنه الرصاص. وكانو ينامون ثم يغرقون في سبات عميق.إن صبرهم لايمكن أن يدوم مدة طويلة. نعم كانت الحلة لا تحوي إلا على ماء يغلي".
ص 50
ولم تكن عيني وحدها تلجأ إلى الحيلة مع أطفالها، فهناك غيرها:
" وكانت زليخة التي تسكن تحت، تلجأ إلى هذه الحيلة نفسها مع أولادها وهم أربعة صبيان لايكادون يقوون على الوقوف على أقدامهم الرخوة. كان الخبز يعوزها في أحيان كثيرة، كما كان يعوز عيني. وكانت تصرخ قائلة لأبنائها:
- ماذا تريدون مني؟ ماذا تريدون من هذه المسكينة؟ إنكم تجلبون لي العار. أين عساي أبحث لكم عن الخبز؟
وكانت تتناول عندئذ قبضة من الفاصولياء الجافة، فتقذفها لهم في أرجاء الغرفة، فيرتمي الصغار على الأرض يبحثون عنها، حتى إذا عثر أحدهم على واحدة من تلك الحبات البيضاء المبعثرة راح يقضمها. وكان الصغار يهدأون وكانت الأم تنعم بالراحة إلى حين.
ص 51
لم يكن الفقر والجوع مقصورا على أطفال دار السبيطار أو سكانها، بل كان منتشرا في دور وأحياء المدينة كلها:
"إن عمر يعرف كثيرا من هؤلاء الناس: أهله وجيرانهم، وجميع الذين يملأون "دار السبيطار" ويملأون دورا أخرى كدار السبيطار، وأحياء أخرى كالحي الذي تقع فيه دار السبيطار، كل أولئك فقراء، ما أكثر عدد هؤلاء الفقراء".
ص 99
وكان بعض منهم يأكلون من قمامة المدينة:
"على أن كثيرا من الصبية ومن الرجال أيضا، كانوا يستخرجون قوتهم من زبالة المدينة".
350
أما في الريف فالفلاحون وأبناؤهم غالبا ما يعانون المجاعة:
" والفلاحون كثيرا ما تلم بهم المجاعة. "
ص 162
لذلك كان سكان القرى يضطرون إلى العيش على الفضلات:
" إن سكان هذه القرى يبحثون بين الزبالة عما يقيمون به أودهم".
ص 350
ونرى أن"عمر" رغم عزة نفسه يضطر أحيانا إلى نبش الفضلات بحثا عن القوت:
"أما عمر فكان يشعر بموت في نفسه من طول مانبش أكوام الفضلات في السوق المسقوفة. كان يذهب إلى السوق بحثا عن خضر يمكن الانتفاع بها، فإذا عثر على شيء فيها أخذ يلتقطه ويدسه في قفته".
ص 124
الأطفال المحظوظون: وإذا كان عمر يمثل الكثرة من الأطفال الجزائريين الذين يعضهم الجوع بنابه كل يوم، فإن هناك فئة أخرى هي القلة من أبناء التجار والملاكين والموظفين كانت تحس بالتخمة، وكان أحدهم يعرض المأكولات أمام أقرانه الصبية في المدرسة متباهيا:
"كان أحدهم، اسمه إدريس بلخوجا، وهو صبي غبي متكبر، لا يعرض أثناء كل فترة من فترات الاستراحة بين الحصص، خبزا فحسب، وذلك وحده شيء كثير، بل كان يعرض كذلك فطائر ومربيات. كان يستند بظهره إلى جدار، ومن حوله بطانته، ويأخذ يلتهم طعامه في رصانة ووقار. ومن حين إلى حين يميل أحد الصبية على الأرض ليلتقط مايسقط من يديه من فتات. مارأى أحد إدريس يعطي شيئا في يوم من الأيام".
ص 20
3- اللباس: كان معظم الأطفال حفاة الأقدام:
" إن المرء يصادف في كل مكان من الشوارع أطفالا من هؤلاء الأطفال النكرات المصاريد كعمر يطفرون حفاة الأقدام".
ص 29
أما ثيابهم فهي قذرة وممزقة:
"وكان عمر يخرج هو وخصومه من هذه المعارك الصبيانية، وقد دميت أنوفهم وأسنانهم، وازدادت ثيابهم القذرة تفتقا".
ص 17
ولم يكن الصبية الآخرون أكثر منه حظا في ملابسهم:
"وهناك صبية آخرون في الشوارع مثله، وقد تسربلوا بأردية عتيقة مشمورة الأكمام عند القبضتين، وانتعلوا أحذية ضخمة واسعة من أحذية الرجال، وشحبت وجوههم شحوبا شديدا"
ص 351
وأما الأطفال في الريف الذين رآهم عمر في "بني بوبلان" فقد جاوزوا أطفال المدينة، في مظهرهم وملابسهم:
"لقد التقى "عمر" هناك بأطفال أشقى منه، أطفال كأنهم الجراد من فرط هزالهم ونحولهم.
إن ملابسهم لاتعدو أن تكون خرقا مجمعة. أما أقدامهم فتحميهما نعال من جلود الشياه مربوطة بحبال من الحلفاء، وربما ركضوا حفاة بغير شيء في الأقدام أكثر الأحيان".
ص 162
الدفء:
كان عمر وأمثاله من الأطفال يعانون من برد الشتاء القارس في تلمسان، ورغم ضيق الغرفة فليس فيها أثاث أو زرابي تدفئها:
"كان عمر يضع قدميه المتجمدتين على البلاط".
ص 29
ولا يمكن إشعال الموقد باستمرار لأنه يحتاج إلى الفحم، والفحم ليس متوفرا دائما:
"كان الموقد يخمد في الغرفة المظلمة الرطبة. إن عمر لا يدفىء إلا يديه، أما القدمان فإن فيهما حكاكا لا سبيل إلى مغالبته. إن بردا ساكنا يخدش جلده خدشا".
ص30
وما يعانيه عمر تعانيه أختاه عيوشة ومريم، وأولاد دار السبيطار ومعظم أطفال المدينة. أما أطفال الريف فيعبر أحدهم أثناء إضراب فلاحي بني بوبلان عن أحوالهم:
" وهذا صبي أشقر يبدو في الثالثة عشرة من سنه، عيناه خضراوان وشعره أشعث يأخذ بالكلام فيقول:
" إن طعامنا الشعير، وفراشنا الأرض العادية، ليس عندنا ملابس، هذا البرنس العتيق هو ردائي الذي أستتر به، وغطائي الذي ألتحفه".
ص 304
4- الحنان والحب:
ويدفع ضيق السكن والفقر الأولياء إلى الانفعال والصراخ في وجه أبنائهم بدلا من إسماعهم عبارات الحب والحنان، لأنهم لا بد أن يفرغوا شحنة الغضب الموجودة في داخلهم وإلا ماتوا بالسكتة القلبية، وهكذا ما إن يفتح عمر عينيه حتى يسمع من أمه ما تيسر من الشكوى والاحتجاج والسباب فهو وأختاه المسؤولون عن كل ما يحدث:
" فلما رأته يفتح عينيه، انفجرت قائلة:
"هذا كل ما تركه لنا أبوك، ذلك الرجل الذي لا يصلح لشيء، ترك لنا البؤس. غيّب وجهه في التراب. وسقطت عليّ جميع أنواع الشقاء. الشقاء هو نصيبي طوال حياتي. هو الآن هادىء في قبره..لم يفكر أبدا في ادخار قرش واحد ...ها أنتم تتشبثون بي كالعلق الذي يمتص الدم. لقد كنت غبية. كان ينبغي أن أترككم في الشارع، وأن أهرب إلى جبل مقفر".
المصدر نفسه ص 30
الضرب والشتائم: وبدلا من القبل والعناق، يواجه "عمر" وغيره من الأطفال الضرب والشتائم. أما الضرب، فياويل من تقبض عليه" عيني" من أولادها حين تغضب:
" كانت عيني" إذا قبضت على واحد من أولادها تسلخ جلده سلخا من شدة الضرب، مقبلة على عملها هذا بهمة لا تلين".
ص 87
وفي إحدى المرات رمت ولدها في غمرة غضبها بسكين المطبخ:
" وحاولت "عيني" أن تمسك به من ذراعه. ولكن جهودها ذهبت سدى. فقد تملص منها. وفجأة رمته بسكين المطبخ التي كانت تستعملها في تقشير عكوبها. فأعول الصبي، وسل السكين من قدمه دون أن يتوقف، وهرع يخرج من الغرفة، والسكين في يده، ولعنات "عيني" تلاحقه".
ص 19
وأما الشتائم فحدث عنها ولا حرج، وفي قاموس أمه منها الكثير:
" وهرب. فأسرعت تركض وراءه، ولكنه اجتاز فناء البيت بوثبة واحدة، ووصل إلى الرواق ليهرب إلى الشارع، فلما بلغت أمه الباب، لم يكن في وسعها أن تطارده إلى أبعد من ذلك، لأن حجابها لا يغطي وجهها فلم تستطع أن تزيد على أن تشيعه بسيل طام من الشتائم واللعنات".
ص 33
وأما عمته لالا حسنة فتعيره بأبيه وتصفه بأبشع الصفات، وتسخر من طموحه في أن يتعلم ليربح مالا وفيرا في المستقبل، بدلا من تشجيعه وإحاطته بالحنان والرعاية:
"دعك من هذه الأفكار. إن عليك أن تعمل كالحمار إذا أردت أن تعيش فحسب، وهل الذين لم يذهبوا إلى المدرسة في يوم من الأيام يموتون جوعا؟ التعليم ليس لأمثالك يا دودة. يا ابن السكير. ما أنت إلا غبار، إلا قذارة تلتصق بنعال كرام الناس".
ص 75
هذا حال عمر ومريم وعيوشة الذين يعيشون مع أسرهم، أما الآخرون الذين يظلون في الشارع، فهم لا يجدون من يرنو إليهم بنظرة عطف:
"وأهل المدينة يحتقرونهم، ويسيئون معاملتهم، فلابد أن يفروا في كل لحظة من ضيق الناس بهم، وانزعاجهم منهم. وهم يتسولون، ويستجدون الأكف في صراحة قليلة أو كثيرة".
ص 351
5- التعليم:
كان الكبار والبالغون يعيشون في جهل مطبق، مشغولين بلقمة الخبز عن القراءة والكتابة والتعليم، ومع هذا فقد كان الناس يعرفون قيمة التعليم، لأنهم أبناء حضارة عريقة، وليسوا بدائيين:
" إن العلم يتمتع في بلادنا بتقديس يبلغ من العظم أن أناسا من أدعياء العلم يستغلونه بسهولة، كما يستغله أناس من أدعياء النبوة".
ص 59
ولكن ظروف الفقر جعلتهم ينشؤون أميين أبا عن جد، وهذه لالاّ حسنة، تسأل باستنكار "عمر" الذي يحلم بإتمام تعليمه:
"أبوك؟ هل ذهب إلى المدرسة يوما، وجدك؟ وأجدادك؟ وأسرتك كلها؟ وجميع من نعرفهم من الناس؟".
ص 75
كان "عمر" إذا من القلائل الذين أتيح لهم أن يذهبوا إلى المدرسة ليتعلموا "والعلم نور" كما يقال فماذا تعلم فيها؟
المدرسة تعلم الأكاذيب: والمدرسة تكمل دور البيت في التربية والتعليم وتهذيب المشاعر ولكن الأطفال لا يستطيعون في المدرسة الفرنسية في زمن الاستعمار أن يحققوا ذواتهم وأن ينموا شخصياتهم فهي لا تعرفهم بقومهم وبتاريخهم بل تعلمهم بأن فرنسا هي أمهم الوطن، ويعجب عمر من ذلك ويعرف أنه كذب:
"وفرنسا رسم ملون بعدة ألوان، ولكن كيف تكون تلك البلاد البعيدة أمه؟ إن أمه في البيت. إنها "عيني". وليس له أمّان اثنتان. "عيني" ليست فرنسا، ليست ثمة أشياء مشتركة بين أمه وفرنسا. لقد اكتشف عمر الكذبة، فرنسا ليست أمه، سواء أكانت هي الوطن أم لم تكن هي الوطن. إنه يتعلم أكاذيب تحاشياً لعصا الزيتون الشهيرة".
ص 24
المدرسة لا تعلم الطفل لغته: وفضلا عن ذلك فالمدرسة لا تعلمه لغته، وحين سأله أحد العمال الحائكين إن كان يحسن القراءة والكتابة بلغته أجاب بالنفي:
" ها.. أنت تعرف القراءة والكتابة؟
- نعم.
- وتعرف القراءة والكتابة بالعربية؟
- لا.
- كيف لا ؟ أتجهل لغتك يا بني؟
ونظر قوطي الأمين إلى الصبي متفرسا مدهوشا".
ص 423
ولم تسمح الظروف التي ذكرناها لعمر بمتابعة التعليم بانتظام لأن تكاليفه مرهقة للفقراء:
"وكان عمر مايزال يذهب إلى المدرسة، ولكنه كان يتخلف باطراد، فكانت عصا المعلم تهوي على راحتيه ومأبضيه، وظهره فتلذعه لذعا".
ص 65
ثم أجبرته هذه الظروف على ترك المدرسة بعد أن اقتنعت أمه برأي لالا حسنة:
"أنبأ عمر أمه بأن العودة إلى المدرسة قريبة. إنه في حاجة إلى ملابس نظيفة وإلى كتب. إن مطلبا من هذا النوع، هو دائما تمهيد لمشاجرة بينه وبين "عيني".
صاحت عيني تقول: دعنا أخيرا من هذه المدرسة لقد ضقت بها ذرعا! أتراك تأمل أن تصبح وزيرا؟"
ص 329
ولكن المسألة بالنسبة إلى عيوشة ومريم وزهور والفتيات الأخريات، لم تكن مطروحة على الإطلاق، فالفتاة مكانها الدار، ولا حظ لها ولا حق في التعليم.
وأما الأطفال في الريف فلم يتح لمعظمهم أن يتعلموا القراءة والكتابة، وقد استغرب أطفال "بني بوبلان" من معرفة عمر الكتابة والقراءة:
"وقد اكتشف "عمر" بين هؤلاء الصبية من أبناء الفلاحين رفاقا له، لم يمانعوا في قبوله بينهم البتة. غير أنهم استغربوا أن يعرف القراءة وأن يقول كلاما بالفرنسية، وفوجئوا بما يعرفه من معلومات خاصة. إنه يقول مثلا بأن الأرض كروية لا مسطحة وهذا مخالف للبداهة".
ص 163
6- الصحة: لاشك أن الفقر وتجمع الناس في مكان ضيق لا تتوفر فيه الشروط الصحية ولا يسمح لهم بالاغتسال والنظافة الدائمين يورث المرض.
أ- المرض: من أهم عوامل المرض انتقال العدوى بسرعة في التجمعات السكانية كدار السبيطار، وعلى سبيل المثال كان المرحاض مشتركا بين السكان:
"إن المراحيض تقع في المطبخ المشترك. هذا مكان لا تهدأ الحركة فيه أبدا. ثقب واحد لجميع الناس. أمر لا يصدق".
ص68
ومن أجل هذا تهيج الحشرات وتجد مرتعا خصبا في دار السبيطار، ومنها البق:
"إن البق يخرج من مخابئه ويتسلل إلى الفراش وما عليه، متى خيم الظلام. لقد رشت الجدران بالكلس، ولكن البق ما يزال يدهم النائمين. كانت عيني تشعل المصباح عدة مرات أثناء الليل، فتسحق من هذا البق ما تيسر لها سحقه".
ص 104
والقذارة والحشرات تسبب تحسس الجلد وتعرضه للأمراض: "إن الأكال يستبد بسكان الغرفة جميعا في الليل، فإذا الأظافر تنتقل بالحك على البطن والإليتين والفخذين مدة طويلة".
ص 104
ومن جراء هذه الظروف مات والد "عمر" بسبب مرض في الصدر:
"وقد قيل إن الرجل أصيب بمرض في صدره لم يمكن أن يشفى منه".
ص 114
وحتى ابنه "جيلالي" أخو "عمر" مات بالمرض نفسه:
"وما إن، انقضت سنتان على موت الأب حتى لحق به جيلالي وهو في الثامنة من عمره، بعد أن أصيب بذلك المرض نفسه: مرض الصدر".
الصفحة نفسها
وهكذا فالمرض والهزال بسبب البؤس والجوع والقذارة يتربصان بأبناء المدينة:
"إن لهم أعضاء كأعضاء العنكبوت وهْنا، وإن أعينهم لتتقد من الحمى".
ص29
7- اللعب: اللعب ينمي الجسم، وينشط العقل، ويهذب المشاعر، ويبهج الروح وهو ضروري للطفل كالماء والهواء والغذاء، ولكن الطفل الجزائري كان ممنوعا من اللعب .
اللعب ممنوع في البيت: كان أولاد "دار السبيطار" وأمثالهم كثيرون محرومين من اللعب في فناء دارهم:
"كانت الأم تفكر في سي صلاح مالك البيت الذي يكره أولاد المستأجرين أشد الكره. كان سي صلاح قد حظر على كل الأولاد أن يلعبوا في فناء البيت، فإذا فاجأهم فيها فرق شملهم، وراح يقرّع أهلهم".
ص 18
الشارع هو الملعب والمأوى: ولم يجد عمر وأقرانه غير الشارع ملعبا لهم، فليس هناك ملاعب رياضية أو نوادٍ ثقافية تربيهم وتهذبهم:
"لم يكن عمر يعرف أمكنة لألعابه غير الشارع، وما كان يمنعه أحد، وخاصة أمه، من أن يهرع إلى الشارع حين يستيقظ من النوم. لقد انتقل أهله من بيت إلى بيت عشرات المرات، ولكن كان يوجد في كل حي مكان بين الأزقة والمقاسم التي تبنى، يتخذه أولاد الحي ساحة للهوهم وعبثهم".
ص 27
لم يجد في البيت راحته ولافي المدرسة ما يسره، فكان يقضي نهاره في الشارع:
" كان عمر يقضي هنالك أوقات فراغه، أي النهار كله. ذلك أنه كان في كثير من الأحيان يرى أن ليس في المدرسة ما يشوقه، فيمضي يلحق بالصبية الآخرين".
ص27
"وهناك صبية آخرون في الشوارع مثله فرادى أو عصابات"
ص 351
وبينما غيره من الأطفال في البلدان الأخرى، يلعبون بما يفيد عقولهم وأجسامهم كان "عمر" وأقرانه يلعبون بالنفايات:
"كانت الأشياء التافهة التي يرمونها إليهم كالعلب الفارغة، وحطام اللعب، والإعلانات المطبوعة، تسكرهم بنشوة من الإعجاب فيتنافسون عليها في حنق، يضفي على هذه الأشياء التي لا شأن لها قيمة عظيمة".
ص 352.
ألعاب العنف والتخريب: وماذا ينتظر من أطفال تلفظهم بيوتهم لضيقها. ولايجدون في المدرسة ما يلبي حاجتهم، وما يهذب مشاعرهم، ولا يجدون أماكن للعب والتسلية البريئة فيتولى الشارع تربيتهم. إن الضرب والشتائم في البيت وعصا الزيتون في المدرسة تؤتي أكلها في خلق أطفال مكبوتين يبحثون عمن يسقطون عليه غضبهم وانفعالهم، ومن أجل ذلك تميزت ألعابهم بالعنف والتخريب:
"في الساعة الحادية عشرة على أبواب المدرسة نفسها، قامت معركة بالحجارة وتتابعت على الطريق الذي يحاذي أسوار المدرسة.
إن هذه المعارك العنيفة الدامية أحيانا، تدوم أياما بكاملها. إن المعسكرين المتقاتلين، وهما صبية من أحياء مختلفة، يضمان عددا من الرماة الممتازين. إن الصبية الذين تتألف منهم جماعة عمر يفوقون الآخرين مهارة وخفة وجرأة. إنهم هم الموهوبون أكثر من غيرهم، رغم قلة عددهم، فإذا قيل أولاد "الرحبية" تصور الناس شياطين لا يطمح أحدهم في ردهم إلى الصواب. كم مرة ظلوا يلاحقون خصومهم حتى وصلوا إلى قلب المدينة، وحتى وصلوا إلى "البحيرة الكبيرة" يثيرون الرعب في صفوف سكان المدينة الوادعين المسالمين"
ص 27
لقد تحولوا إلى قطعان من الحيوانات تهاجم وتنهب:
"كانوا في هذه الأيام من الشتاء، أشبه بقطعان من بنات آوى، يهاجمون بعض مستودعات الخشب، فينهبون منها عددا من الألواح يوقدونها، إنهم يغذون بها نيرانا كبيرة أضرموها في أرض بور، وتجمعوا حولها كبارا وصغارا يطلقون صرخات غريبة تقطع الصمت".
ص 27
8- استغلالهم في العمل: لقد دفع الفقر والأفواه الجائعة عمر إلى التخلي عن المدرسة والعمل وهو في سن الثالثة عشرة:
"ومن كثرة ماسخنت أذناه من اللوم والتقريع، بدأ يعمل صبيا في دكان أحد البقالين. ولكن السلطات ما لبثت أن أغلقت الدكان".
ص 383
ثم عمل في مصنع للنسيج هو في الحقيقة كهف تحت الأرض وفي ظروف صحية سيئة:
"هبط عمر الدرجات الأخيرة من السلم الذي وقف عليه، فصار في الكهف. إن رطوبة كرطوبة مناخر الحيوانات تلتصق بوجهه. أحس الصبي باختناق، إنه لايرى شيئا".
ص 394
وهناك كان يتعلم مهنة ولكنه يتلقى الإهانات والضرب:
"ما إن جلس الأمين إلى نوله حتى أشار إلى عمر أن يأتي إليه، فلما اقترب منه الصبي قال:
"اصعد إلى السقيفة فائتني بمكوك جيد. إنك نشيط كقرد. فوثب الصبي على السلم راضيا، ولكن ما إن وصل إلى آخر درجة حتى أمسك أحد بساقيه من تحت، فتشبث الصبي بحافة السقيفة وأخذ يصرخ قائلا إنه يوشك أن يسقط على الأرض. كان الشاب الأحمر يشده في إصرار وعناد وهو يضحك.
- قل" مياو..أنا قطة"، وإلا لم أتركك".
ص 421
ويتحمل فظاظة معلمه السكران:
"وفجأة قال بوعنان لعمر مقرعا: "ماذا يصل أسبابك بأسبابي حتى تشفق علي وترثي لحالي؟"
وأنشب يده في عنق الصبي.
" اذهب ...واعلم أنه ليس على هذه الأرض إلا أوغاد ..ليس في وسع طرح من نوعك أن يبرهن لي خلاف ذلك؟ أأنت تشفق، أنت؟ ما أنت إلا وغد".
ص 498
ولم يكن عمر وحده يعمل، بل كانت أختاه عيوشة ومريم تعملان أيضا في مصنع للسجاد:
" إن البنتين تعملان منذ شهرين في مصنع للسجاد. أصبحت عيوشة تحمل إلى البيت أجر الأسبوع، وكذلك مريم، غير أن أجر مريم أقل من أجر عيوشة، لأنها أصغر منها سنا. كانت البنتان تضعان المال الذي تجيئان به في يد الأم".
ص 122
وهكذا يبدأ الأطفال حياتهم العملية في سن مبكرة تنذر بمستقبل بائس:
"وهكذا ينهك العمل المبكر الأطفال الذين تحركهم حياة مبكرة، قد ينطفؤون شيئا فشيئا مع تقدم السنين من طول البؤس والجهل والتعب المتراكم والسكر والسجون".
ص 352
وليس حظ أقرانهم في الريف بأحسن من حظهم:
" كان أطفال هذا العالم الحزين مبكرين في نموهم مثل "عمر" إلا إن إدراكهم للشقاء يلمع في أعينهم مثلما يلمع في عيني "عمر" وإن يكن قد حصل لهم ذلك على نحو آخر".
ص 163
9- حمايتهم من العنف: وبالنسبة إلى حق الأطفال في إبعادهم عن العنف وحمايتهم منه، فعلى العكس من ذلك كان كثير منهم يعيشون في خوف وذعر من مطاردة الشرطة وكأنه لا يكفيهم م يواجهونه من عنف في بيوتهم:
"وهناك صبية آخرون في الشوارع مثل عمر فرادى أوعصابات متهيئون في كل لحظة لأن يفروا من رجال الشرطة الذين يطاردونهم".
ص351
الأطفال الأوربيون:
أما الأطفال الأوربيون فكانوا ينعمون بطفولتهم، وذلك واضح في هيئتهم وملابسهم:
"إن هؤلاء الأطفال (الجزائريين) يحدقون إلى هذه الملابس الجديدة التي يرتديها الأوربيون ويحدقون إلى أجسامهم النظيفة الصحيحة، ويتفرسون في هيئاتهم التي تدل على أنهم أناس لم يعرفوا الجوع، وأنهم يشعرون جميعا بسعادة الحياة، ويحسون بأنهم في مأمن من الأخطار، ويتحلون بالأدب واللطف والتهذيب والرفاهية تحليهم بثياب العيد".
ص 352
ومع ذلك فقد كان بعض أطفال الأوروبيين ساكني الفيلات يشتكون ويتذمرون. وهاهو أحد الأوروبيين يذكر ابنه "جان بيير" الذي رفض إعطاء "عمر" كتابا مصورا من كتبه، بالنعم التي يتمتع بها مشيرا بإعجاب إلى عمر:
"هل رأيت؟ إن هذا الصبي أطيب قلبا منك. هو فقير، ومع ذلك لا يريد أخذ كتابك. ولكن عليك كلما ثارت نزواتك، وكلما تشكيت، أن تتذكر أن هناك أطفالا يعملون، وما حصلوا يوما على كتاب، ولا على أية لعبة أخرى".
ص 357
توق الأطفال إلى الحرية والكرامة:
ومع أن هؤلاء الأطفال حرموا من كل حقوقهم فإن بعضهم كان بذكائه وحدسه وحس العدالة فيه، يرفض الظلم ويتوق إلى لحرية وإلى نوع آخر من الحياة الكريمة:
"كان "عمر" لايقبل الحياة على حالتها التي تعرض له. وكان يحس، لسبب من الأسباب لا يمكن التعبير عنه، أن هناك شيئا أخطر شأنا وأعمق قيمة. وكان مقتنعا بأنه لايستطيع أن يصل إلى هذا الشيء وهو بين ذويه".
ص 352
ولكنه لا يقبل أن يتخلى في الوقت نفسه عنهم، ويتركهم بحثا عن الحياة الكريمة لنفسه فقط لذلك ربط مصيره بمصيرهم:
"ولكنه كان يرفض مع ذلك أن يصل إلى هذا الشيء من دون ذويه، ولم يكن يدخل في نيته أن ينبذهم بل كان يدرك أنه يكون غريبا حيث لا يكونون. لذلك كان "عمر" إذا طاش صوابه غضبا أو يأسا، ولجأ إلى أحضان "دار السبيطار" يحس أنه يدخل روحا كبيرة خافقة هي روح بلد بأسره. كانت طفولته تفارقه وما هو الآن إلا ثورة وصيحة بين سائر الثورات والصيحات".
الصفحة نفسها
الخاتمة: هذه حالة الأطفال الجزائريين في المدن والريف زمن الاستعمار الفرنسي، وهي تعكس حرمانهم من حقوقهم الطبيعية التي نصت عليها الشرائع السماوية، والقوانين الوضعية، وميثاق الأمم المتحدة، ومنظمة العمل الدولية في الغذاء والسكن والأمن والصحة والتعليم والحنان والحب ومنع استغلالهم في الأعمال المأجورة.
ولكن دراسة موضوع الطفولة لا تنتهي بعرض عمل الكاتب وحده بل لا بدّ من تقييمه والحكم عليه وهذا ما سوف نراه في الفصل الثاني.
لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الفصل الثاني: تقييم المواضيع - تتمة موضوع الطفولة لمحمد ديب
لقراءة الفصل السابق انقر هنا: تمهيد: بناء مواضيع الحرية
للاطلاع على فصول الكتاب، انقر هنا: مواضيع الحريـّة
للاطلاع على الكتب التعليمية الأخرى للكاتب انقر هنا: كتب أدبية وتربوية