من كتاب "العلاقات الإنسانية"
للكاتب: عبد الله خمّار
ملحق بدراسة علاقة الصداقة:
عوامل الاختلاف بين عزيز (الهندي) وفيلدنج (الإنجليزي):
نورد فيما يأتي بشيء من التفصيل عوامل الاختلاف التي أوردناها بإيجاز في دراسة علاقة الصداقة بين عزيز وفيلدنج:
أ- منهجية فيلدنج وعدم منهجية عزيز:
لقد درس كلاهما العلوم ولكن فيلدنج وسع ثقافته:
"ورغم أن اتجاهه في الحياة كان علميا إلا أنه كان متنوعاً."
ص 84
وكان منهجيا في حياته وعمله:
"لقد تعلم بعد خبرة أربعين عاما كيف يدير شؤون حياته ويفيد منها أكبر فائدة، على أساس من الحياة الأوروبية المتقدمة، وينمي شخصيته، ويكشف حدود إمكانياته، ويتحكم في عواطفه. وقد حقق ذلك كله دون أن يصبح متحذلقاً دعيا أو دنيويا."
ص 286
أما عزيز فرغم دراسته الطب وامتهانه الجراحة ومهارته فيها فلم يكن عقله علميا:
"ولم يكن عقله علميا بل يده، لقد أحب المبضع واستخدمه بكل مهارة، كما أحب العمل في أحدث الأمصال. ولكن متاعب السير على نظام معين في الطعام، ثم شؤون الصحة تنفره، وهو ربما ذهب -بعد أن يفرغ من حقن أحد الأشخاص ضد حمى الأمعاء- ليشرب هو نفسه من الماء غير النقي."
ص 72
وهو لم يستفد من دراسته العلمية في تكوين عقله، إذ اصطدمت هذه المعرفة بالأحكام المسبقة التي جعلته يرفضها، ويعتمد على المجتمع كمصدر أساسي للمعرفة:
"وعندما راح يدرس الطب، صدمته الحذلقة والجلبة اللتان صنفت بهما أوربا الحقائق الجنسية. لقد ظهر العلم كما لو كان يناقش كل شيء من الطرف الخاطئ. فهو لم يفسر تجاربه عندما وجدها في كتاب ألماني مختصر لأنها بوجودها فيه لم تعد تجاربه. وقد وجد النوع المفيد من المعرفة متمثلا فيما أخبره به أبوه وأمه، أو ما التقطه من خدمه، ونقله إلى الآخرين كلما سنحت الفرصة."
ص 149
فالعلم إذن بالنسبة إليه مجرد مهنة وليس أسلوبا في التفكير والحياة، وكأنه ثوب يرتديه أثناء العمل ثم يخلعه بعد ذلك:
"لقد كان يحب الشعر، أما العلوم فكانت مجرد شيء مكتسب يطرحه جانبا حين لا يلاحظه أحد كما يفعل بملابسه الأوربية."
ص 417
ب- الاختلاف في الاهتمام بالوقت واحترام المواعيد:
كان عزيز لايهتم كثيرا بالمواعيد ولا يدرك قيمة الوقت، وقد نسي موعد أول حفلة دعاه إليها فيلدنج وأسعدته الدعوة الثانية:
"ولكن هذه الدعوة أسعدته بنوع خاص، لأن فيلدنج قد دعاه للشاي منذ شهر، ونسي أمره. لم يرد عليه ولم يذهب. كل ما في الأمر أنه نسي."
ص 82
ولم تكن هذه الخصلة تعيب عزيزاً وحده، فها هو حامد الله يناقش السيد "رام شاند" في مسألة روحية الهنود:
"-إنني لا أعدنا روحيين. إننا لا نستطيع ان نحافظ على مواعيدنا ويفوتنا القطار."
ص 164
ولكن القطار لايمكن أن يفوت فيلدنج أو أحدا من الإنجليز:
"ولكن فيلدنج كان رجلا إنجليزيا، والإنجليز لايفوتهم القطار قط."
ص 191
جـ- صراحة فيلدنج ومراوغة عزيز:
كان فيلدنج صريحا في أحاديثه، يقول ما يعتقده دون مواربة أو محافظة على التقاليد، حتى أمام تلاميذه ولم يكن ذلك من الحكمة في نظر عزيز:
"لقد تبين لعزيز من معرفته بفيلدنج عن قرب، أنه كان بحق طيب القلب، غير محافظ على التقاليد، ولكنه ليس بحيث يسمى حكيماً فتلك الصراحة في الحديث في حضور رام شاند ورافع "تلميذ فيلدنج" وشركائهما، كانت خطرة وغير موفقة، ولم تؤد إلى غاية نافعة."
ص 178
في حين كان عزيز متمسكاً بالتقاليد حتى لو أدى ذلك إلى النفاق الاجتماعي:
"كان عزيز يسلك سبيل الاستقامة، رغم أنه لم يمحصها في أي ضوء أخلاقي، وهو في ذلك يختلف اختلافا رئيسيا عن الرجل الإنجليزي، كانت تقاليده اجتماعية، وليس من ضير في خداع المجتمع ما دام المجتمع لا يكشف أمرك، لأنك لا تسيء إليه إلا عندما يكشف هو أمرك، إنه ليس كالصديق أو الإله اللذين يسيء إليهما مجرد وقوع الخيانة."
ص 149
وهو مراوغ مع السلطة المتمثلة في رئيسه الإنجليزي الماجور كالندر:
"فهو أحيانا قد يترك الحقيقة الوحيدة المتصلة بالموضوع ليتحدث عن مائة حقيقة أخرى لا علاقة لها بالموضوع مما يثير غضب الماجور كالندر، وقد اتهمه الماجور بالمراوغة، وقد كان على صواب تقريبا، وتقريبا فحسب، لقد كان ذلك أقرب إلى أن يكون كما لو كأن قوة لايستطيع أن يتحكم فيها قد بلدت ذهنه فجأة."
ص 107
لقد كانا نتاج تربيتين مختلفتين مجتمع فيلدنج الذي يحث الفرد على إبداء رأيه وإعلاء صوته، ومجتمع الهند الذي يجد الفرد نفسه تحت وطأة قوتين تعملان على إسكات صوته، وإعلاء صوتهما: التقاليد الاجتماعية التي يتظاهر بالتمسك بها، والسلطة الاستعمارية التي يتبع معها أسلوب المراوغة.
د- حرية فيلدنج وارتباط عزيز:
كان فيلدنج يعتقد أن الزواج يشكل عبئا ثقيلا على صاحبه ويقيد حريته:
"إن أي شخص يستطيع أن يسافر خفيفا إلى أن تكون له زوجة واطفال، وهذا جانب من معارضتي في الزواج."
ص 177
وقد قارن عزيز بين وضعيته ووضعية فيلدنج عند سماعه رأيه في الزواج:
"ووقع هذا من نفس عزيز وأثار اهتمامه، وبدأ يدير الفكرة الجديدة في عقله، إذن فقد كان هذا هو السبب الذي جعل مستر فيلدنج وآخرين قليلين لا يخافون، فليس لديهم ما يفقدون، أما هو نفسه فقد ارتبط بالمجتمع وبالإسلام، إنه ينتمي إلى تقاليد تشله. وقد أخرج أطفالا إلى الحياة، إلى مجتمع المستقبل. ورغم أنه كان يحيا حياة غامضة في بيته الرث، إلا أنه كان مستقرا في مكان به."
الصفحة نفسها
وهو يضحي من أجل أولاده الثلاثة الذين يعيشون مع أم زوجته بعد وفاتها:
"إنه يرسل إليهم كل مرتبه، ويعيش كما يعيش كاتب في درجة منحطة ولا يفضي لأحد بالسبب."
ص 11
هـ- رومانسية عزيز وواقعية فيلدنج:
سأل فيلدنج عزيز وهما مستلقيان في انتظار النوم:
"عزيز هل أنت يقظان؟
فأجابه عزيز: -لا ولذا فلنتحدث. لنحلم بخطط للمستقبل.
ولكن فيلدنج قال له: -لاجدوى مني في الأحلام."
ص 375
وهذه المحاورة تلخص الاختلاف بينهما، فقد كان عزيز حالما:
"وكانت حياته حلما إلى حد بعيد رغم وضوحها."
ص 93
وكانت رومانسية عزيز تنبع من فتوته وشاعريته وعواطفه وانفعالاته المتدفقة، فقد كان فتى طائشا يقود الدراجة، دون نور أو جرس أو فرامل:
"ثم انطلق عزيز من منزل حامد الله في نشاط غير متوقع.
- عزيز، عزيز، أيها الفتى المتهور...
ولكنه كان قد ابتعد في السوق، وهو يقود قيادة طائشة، لم يكن لديه نور أو جرس، كما لم تكن لديه فرملة."
ص 14
وكان شعره يعكس رومانسيته وبعده عن الواقع:
"كانت أشعاره غير منطقية مثل صاحبها، ومع ذلك فقد كانت تضرب على نغمة صادقة."
ص 441
أما فيلدنج:
"فهو ذكي هادئ الطباع مجرب، أشفى على الكهولة."
ص 84
و- الفرق بينهما في العناية بالمسكن:
كان فيلدنج يسكن في بيت صغير ملحق بالمدرسة التي يديرها، وحين زاره عزيز، والتقى هناك بالسيدتين الإنجليزيتين، أبدى إعجابه بحجرة الجلوس للسيدة "مور":
"إنني أتمنى لو كنت أعيشس هنا. أنظري إلى هذه الحجرة الجميلة! لنتأمل فيها معا قليلا. أنظري إلى هذه الأقواس أسفل العقود. ما أرقها. إنها عمارة العاشق والمعشوق. إنك في الهند يامسز "مور"."
ص 98
ورغم أن فيلدنج كان يعيش وحيدا فقد اعتنى بها:
"إنها لجميلة حقا ولم يفسدها الرجل الإنجليزي."
الصفحة نفسها
وانزعج عندما فكر في بيته:
"فقد كان كوخا كريها بالقرب من سوق حقيرة، ولم يكن في الحقيقة سوى حجرة واحدة."
الصفحة نفسها
وكان فيلدنج قد زار عزيزاً في بيته حين كان مريضا، وكان عنده أصدقاؤه الهنود:
"ودخل فيلدنج دون أن يلحظه أحد، فنهض الجميع، وضرب حسان عمود الذباب بعود القصب تكريما للرجل الإنجليزي. وقال عزيز في برود: "اجلسوا". يا لها من حجرة! وياله من اجتماع! فالحديث كله بذاءة وقبح، والأرض مغطاة بأجزاء من القصب والبندق، وملوثة بالحبر، والصور معوجة على الحيطان القذرة، وليس هناك مروحة! إنه لم يشأ أن يعيش هكذا، أو بين أناس كهؤلاء من الدرجة الثالثة."
ص 160
ولم يكن عزيز قذرا، ولكن كيف يمكن أن تكون نظافة إذا كان الجميع يوسخون ولا احد ينظف، كانوا يمصون القصب ويأكلون البندق ويلقون بالفضلات في أرض الحجرة فهناك حسان الخادم ولكنه كسول، وقد اجتمعت القذارة والكسل وشعر عزيز بالخزي أمام فيلدنج:
"كان عزيز يبدو أشعث حزيناً: "هذا منزلك. هذا كرم الشرق المشهود. أنظر إلى الذباب. انظر إلى البق يخرج من الحيطان. أليس هذا جميلا؟ أعتقد أنك الآن تريد ان ترحل بعد ان رأيت بيتا شرقيا"."
ص 168
ز- تبذير عزيز وحرص فيلدنج:
وقد كان عزيز كريما إلى حد التبذير، وها هو يوضح لفيلدنج تكاليف الرحلة التي نظمها له وللصديقيتين الإنجليزيتين "مزمور" و"مس كويستد":
"-عزيز هل قدرت تكاليف هذه الرحلة؟
-صه يا صديقي العزيز، لاتتكلم عن هذه المسألة، فسوف تتكلف مئات ومئات من الروبيات، وسوف يكون حسابها النهائي هائلا، فلقد سرقني خدم أصدقائي من كل جانب."
ص 237
وقد كان همه إسعاد ضيوفه مهما كانت التكاليف:
"لقد تحقق كرم الضيافة، وأصبحوا ضيوفه "هو" وأصبح شرفه مرتبطا بسعادتهم. وأي ضيق يحل بهم يحطم قلبه من أعماقه. كان عزيز مثله في ذلك مثل معظم الشرقيين يبالغ في كرم الضيافة ويخلط بينها وبين الود العميق فلا يدرك أنها مصطبغة بمعنى الامتلاك."
ص 210
ولعزيز فلسفة في النقود تتلخص في قوله:
"إذا كانت النقود تذهب فغيرها يجيء، وإذا كانت النقود تبقى فالموت يجيء."
ص 238
أما فلسفة فيلدنج بالنسبة إلى المال فيلخصها قوله لائما عزيز على التبذير والإرتجال:
"إن الأمثال التي أقتدي بها هي: كل قرش توفره تكسبه، احرص على القليل تنل الكثير. قدر لرجلك قبل الخطو موضعها. هذه هي الأمثال التي ترتكز عليها الامبراطورية البريطانية."
ص 238
ولاشك أن الكرم حين يكون لإعانة الضعيف أو لإغاثة الملهوف أو للترحيب بضيف عزيز، من الخصال الحميدة العظيمة، أما حين ينفق الإنسان للتباهي والتفاخر أموالا طائلة، في غير محلها، فهذا تبذير غير محمود. وكثيرا ما يخلط الناس في مجتمعاتنا النامية بين الكرم والتباهي الفارغ.
حـ- الاختلاف في النظرة إلى الأدب:
عاب فيلدنج على عزيز وعلى الهنود المسلمين وهما يتناقشان في الشعر تكرار موضوعاته:
"إنكم سيئو الظروف. فأي شيء تستطيعون الكتابة عنه؟ لا تستطيع أن تقول (لقد ذبلت الوردة) إلى الأبد. إننا نعرف أنها ذبلت.."
الصفحة نفسها
وفي الحقيقة كان المستمعون للشعر الإسلامي "الأردي والفارسي والعربي" يهتمون بفصاحة الكلمات وبسمعة الشاعر أكثر من اهتمامهم بتحليل المعنى، كما كان اهتمامهم بتمجيد الماضي أكثر من اهتمامهم بالتفكير في المستقبل:
"ثم بدأ عزيز يلقي شعرا أرديا وفارسيا وبعضا من العربي. لقد كانت ذاكرته جيدة وهو واسع الاطلاع رغم صغر سنه، وكان الموضوعان المفضلان عنده هما تدهور الاسلام، وقصر عمر الحب. وقد أنصتوا في اهتمام لأنهم كانوا يأخذون بوجهة النظر العامة في الشعر، لا وجهة النظر الخاصة التي تعرف في إنجلترا. لوم يضايقهم قط أن يستمعوا إلى كلمات وكلمات، فهم يستنشقونها مع نسيم الليل البارد، ولا يقفون قط ليحللوا، فقد كان اسم الشاعر سواء أكان "حافظ" أم "حالي" أم "إقبال" ضمانا كافيا."
ص 13
كما كان اهتمامهم بتمجيد الماضي واستعادة ذكراه أكثر من اهتمامهم بالتفكير في المستقبل:
"وفي الخارج كانت الهند، أو مائة هند تهمس في ضوء القمر الذي لا يبالي. ولكن الهند بدت لهم في ذلك الوقت شيئا واحدا، وهم يملكونه، واستعادوا مجدهم الراحل في سماعهم هذا المجد يندب. وأحسوا بالفتوة تعود إليهم، لأنهم تذكروا قصر عهد الشباب."
الصفحة نفسها
ط- عشائرية عزيز ومدنية فيلدنج:
كان عزيز يستخدم محمد لطيف، ليس لأنه بحاجة إليه فهو لايعمل شيئا ولكن لأنه قريب بعيد له ولحامد الله:
"إن محمد لطيف رجل مسن لطيف وسعيد، وتعوزه الأمانة، ولم يقم في حياته كلها بعمل واحد. وما دام هناك قريب له يملك منزلا فهو مطمئن إلى المأوى، ولم يكن من المحتمل أن عائلة كبيرة هكذا تفلس جميعها، وتعيش زوجته عيشة مشابهة على بعد بضعة مئات من الأميال."
ص 12
وقد شكا لفيلدنج من سرقة الخدم له في الرحلة وعلى رأسهم محمد لطيف الذي رمز له بالحرفين الأولين من اسمه "م.ل":
"وأما "م.ل" وأرجوك أن تستخدم الحروف الأولى من اسه فهو مصغ. إنه لهو أسوأهم على الإطلاق.
-لقد أخبرتك أنه لانفع فيه.
-إن فيه نفعا كبيرا لنفسه، وسوف تقضي عليه عدم امانته.
-عزيز كم هو فظيع!
-الحق أنني راض عنه، فقد عمل على راحة ضيوفي، وفضلا عن ذلك فمن واجبي أن أستخدمه فهو من أبناء عمومتي."
ص 238
وقد انتقد فيلدنج عشائرية الهنود بما فيهم عزيز بقوله:
"لن يكون بوسعكم أن تطردونا إلا إذا امتنعتم عن استخدام الحروف "م. ل"، وما شابه ذلك."
الصفحة نفسها
وبالطبع فإن فيلدنج يقصد أن الهنود لن يستطيعوا طرد الإنجليز إلا بالتخلص من بعض الأمراض كالعشائرية وما شابهها.
لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الفصل السابع: العلاقات العاطفية - 2- الحب
لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الفصل الخامس : العلاقات العاطفية- 1- الصداقة
للاطلاع على الكتب الأخرى، انقر هنا: كتب أدبية وتربوية