وفاة أم في دار العجزة - ألبير كامو

Le Décès D'Une Maman à L'Hospice  -Albert Camus

        "كانت دار العجزة على بعد كليومترين من القرية (على بعد ثمانين كيلومترا من الجزائر العاصمة)، فقطعت المسافة مشيا. كنت أرغب في رؤية أمي ساعة وصولي، ولكن البواب قال لي: إن علي أولا أن أقابل المدير. فانتظرت ريثما ينتهي من بعض مشاغله، ولما استقبلني في مكتبه نظر إلي مليا بعينيه البراقتين، وشد على يدي، وتركها في يده طويلا حتى حرت كيف أسحبها من يده، رجع إلى ملف بين يديه ثم قال:

        - لقد دخلت السيدة "مرسو" الدار منذ ثلاث سنين، ولم يكن لها غيرك سندا، أعتقد أنه أراد أن يلومني في أمر ما، فأردت أن أشرح له الوضع، ولكنه قاطعني قائلا:

        - ليس لك أن تبرر نفسك، يا بني، فلقد قرأت ملف السيدة والدتك، وعرفت أنك لا تستطيع أن تقوم بإعالتها، فقد كانت بحاجة إلى راع يرعاها، وأجرتك لا يمكن أن تسد هذه الحاجة، وعلى أي حال فقد كانت سعيدة بيننا! كان لها أصدقاء في مثل سنها، تستطيع معهم أن تحيا بعقلية الماضي، أما معك، فقد كان لابد لها من الملل.

        ذلك صحيح. فيوم كانت في البيت، كانت تقضي الوقت تراقبني صامتة، وهي إن بكت في الأيام الأولى في دار العجزة، فما كان الدافع لذلك إلا العادة. وهي لو أخرجت من الدار بعد مضي زمن قصير عليها فيه، لبكت أيضا!... ألم تكن العادة بعض السبب في أني لم أعد أزور الدار في الفترة الأخيرة. أضف إلى ذلك ضياع عطلة الأحد، وما يمكن أن أتحمل من جهد السفر؟...

ظل المدير يتحدث، ولكني لم أع شيئا مما قال. وهتف بي أخيرا:

        - أظنك تريد رؤية والدتك!

        نهضت دون ان أنبس، فسبقني إلى الباب. وبينما كنا على السلم قال لي:

        - لقد نقلناها إلى جناح مجهولي الهوية من الأموات، حتى لا نثير أحزان الآخرين، فكلما مات أحد اللاجئين، ظل الباقون مضطربي الأعصاب أياما، مما يجعل انتظام الخدمة صعبا.

        اجتزنا ساحة فيها شيوخ كثر يتحدثون جماعات، وقد صمتوا حين مررنا بهم، ثم عاودوا أحاديثهم، فكأن مجموعة ببغاوات تتجاوب بخفوت.

        تركني المدير عند باب إحدى المقصورات قائلا:

        - أدعك الآن ياسيد "مرسو"، وسأظل طوع إرادتك في مكتبي. ولقد حدد الدفن مبدئيا في الساعة العاشرة، لتتمكن من السهر على الفقيدة كما تحب!... عفوا لقد نسيت أن أنبهك أن أمك رغبت أكثر من مرة أن تدفن باحتفال ديني، وقد أخذت على عاتقي أن أنفذ رغبتها."

        فشكرته على ذلك، على أن أمي، رغم أنها لم تكن ملحدة، لم تفكر يوما بالدين، كانت الغرفة غارقة في النور. وكانت جدرانها مطلية بالكلس، ومغطاة بالزجاج. وكان أثاثها بعض الكراسي والحمالات. وقد وضع على حمالتين في الوسط، نعش مغلق، تبرز منه بعض مسامير لم يحكم إنفاذها بعد. وكانت هناك ممرضة قرب النعش، ارتدت ثوبا أبيض، ولفت وشاحا فاقع اللون حول رأسها.

        في تلك اللحظة دخل البواب لاهثا، وقال متلعثما:

        - لقد غطوا النعش وعلي ان أكشف عن الفقيدة لتتسنى لك رؤيتها.

        واقترب من النعش فأوقفته، فسألني دهشا:

        - ألا تود ذلك؟

        فقلت: - كلا

        فتوقف، وشعرت ببعض الحرج، لأني اعتقدت أنه لم يكن لي أن أفعل ذلك. حدق في لحظات ثم سأل: - ولماذا؟

        ولم يكن في كلامه ما يشبه اللوم. فقلت:

        - لا أدري!

        ففتل شاربه الأشهب وقال: - فهمت.

        قدم لي كرسيا واتخذ آخر، وجلس خلفي، فقامت الممرضة، واتجهت صوب الباب، وعندما خرجت قال البواب:

        - سأتركك وحيدا الآن!

        ما أدري أي حركة أتيت حتى بقي واقفا خلفي. كان وجوده يزعجني. وكانت الغرفة شديدة الإضاءة، وفراشتان تحومان على الزجاج، والنعاس يدب إلى عيني."

الغريب- ألبير كامو ص 8

الأسئلة:

1- أكد المدير أن السيدة "مرسو" كانت سعيدة في دار العجزة، لأن لها أصدقاء في مثل سنها، فهل توافق على هذا القول؟

2- ما المبرر الذي أورده المدير، وأكده الابن في سبب إدخال أمه إلى دار العجزة؟ وهل هو مبرر مقنع في نظرك؟

3- لماذا لم يعد الابن يزور أمه في الفترة الأخيرة؟

4- لماذا اندهش البواب من رفض الابن رؤية أمه؟

5- ما الذي تنبئك به تصرفات الابن عن طباعه وعن مشاعره؟

6- هل هناك دار عجزة في بلدتك أو مدينتك؟ ومن الذي يوضع فيها عادة؟

6- هل توافق على وضع أحد والديك في دار العجزة؟ وضح إجابتك وعللها.

 

من كتاب: تقنيات الدراسة في الرواية: العلاقات الإنسانية

                     الفصل الرابع: جوانب متنوعة من الروابط الأسرية