رواية جرس الدخول إلى الحصة

     للكاتب عبد الله خمّار

-13-

 

العطلة الصيفية

اللغة جسر إلى القلوب والعقول

ـ 110 ـ

                                                                                 العطلة الصيفية

اللغة جسر إلى القلوب والعقول

ـ 110 ـ

خططت مع وجدي للاستفادة من العطلة الصيفية دراسياً وسياحياً، وسجّل كل منّا مسبقاً في معهد لتعليم اللغة. أما أنا فقضيت الأسابيع الثلاثة الباقية من شهر جويلية في معهد إنجليزي أوربي في لندن، لا يقبل إلا الطلبة الناطقين باللغات الأوربية. اكتشفت ذلك عند التسجيل إذ وضعت في استمارتي أن لغتي الأم هي العربية. أخبرت مسؤولة التسجيل المدير المفرط في البدانة حتى أصبح عرضه وثخنه يساويان طوله، فنهرها بلهجة غاضبة وهو ينظر إليّ شزرا: "ما دام جزائريا سجلي الفرنسية لغته الأم". فتحت فمي لأحتج على هذا التزوير الفاضح، فهمست السكرتيرة في أذني: "أرجوك لا تحرجني أمام المدير، فالغلطة غلطتي عند التسجيل. ولو انتبهت إلى أن العربية هي لغتك الأم لما قُبِلَ تسجيلك وما دمت تحسن الفرنسية سأضعك مع مجموعة هذه اللغة"

أقمت في السَّكَن الملحق بالمعهد وكانت الغرفة مناسبة والطعام جيدا. ثم انتقلت في شهر أوت إلى معهد لتعليم اللغة في مدينة بورنماوث الساحلية، وهو مفتوح لكل الجنسيات. منهج الدراسة في المعهدين واحد رغم اختلاف النصوص، فهو يعتمد على طريقة المحاور كالأسرة والتربية والمواصلات والصحة إلى آخر ما هنالك من مواضيع.

معظم النصوص حوارِيَّة ترتكز على الحديث اليومي والتعابير المستعملة فيه، بالإضافة إلى صور من قصاصات الصحف الجديدة والإعلانات الواردة فيها، ونماذج من قوائم الطعام المستعملة في مطاعم المدينة. وتتضمن نشرة عن حالة الطقس وخارطة لاستعمال الطرق، وكل ما يتعلق بالحياة اليومية، مع اهتمام بالأدب الإنجليزي في الصفوف العليا. المجموعات في الأقسام بين العشرة والخمسة عشر طالبا.

حوّلَ لي عمّي نفقات الدورتيْن من فرنسا إلى إنجلترا بالعملة الصعبة على أن أسددها من رواتب الصيف. أقمت مع عائلة إنجليزية في "بورنماوث"، وضايقتني ربة الدار بمحاسبتي على الماء الذي أستحم به، والغاز الذي أصرفه في التسخين، والنور الذي أنساه مضاء في الدهليز وفي الحمام، وعدد قطع السكر التي أضعها في الشاي، وعدد شرائح الخبز الإضافية التي أطلبها مع الطعام. ما أبخل هذه المرأة! قالت لي بوقاحة حين خرجت من الحمام: "استهلكت الماء الذي نستحم به كلنا!". مسكينة هذه الإنجليزية، حتى التلفزيون تفتحه بقدر. لو أتت إلى الجزائر ورأت كيف نعيش لخرجت عن عقلها.

لاحظت أن تعليم اللغة الإنجليزية تحول إلى صناعة وتجارة ثقافيتين مربحتين. تمتلئ الجامعات ومراكز اللغة في الصيف بالدارسين، وتُعَدُّ النّصوصُ الإنجليزية في كل المستويات إعداداً دقيقا تستخدم فيه المفردات والتعابير المناسبة لكل مستوى، كما تعد نسخ خاصة من الروايات والمسرحيات المشهورة تتناسب مع المستويات المختلفة.

ليس غريباً أنّ من يعاشر قوما لابدّ وأن يحبهم، لأنه يكتشف إنسانيتهم وحضارتهم العلمية والأدبية والفنية وأخلاقهم ومبادئهم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى من يتعلم لغة قوم، فكأنه يعاشرهم، فاللغة سجل حضارتهم ومآثرهم.

تعلم مثقفونا لغات الغرب وتشبعوا بحضارتهم، ورأوا مزاياهم وعيوبهم فتغاضوا عن العيوب لأنها بشرية، وأسقطوا الأحكام المسبقة عنهم، ومدّوا جسوراً لهم إلى قلوبنا وعقولنا. ولكن هذه الجسور ظلت معلّقة لأنها من طرف واحد. ولم نستطع، رغم انتشار جالياتنا في بلادهم، أن نمدّ جسورا إلى قلوبهم وعقولهم. لم نصنع شيئا للحضارة في الحاضر فنفرض نفسنا به على الغرب علميّاً أو طبّياً، فقد دخلنا في سبات وسكون وبيات شتوي وصيفي استمر قرونا، وما زال روّاد النهضة يحاولون إيقاظنا من سباتنا وتحريكنا من سكوننا وإخراجنا من بياتنا. ولم ننافسهم في الألعاب الأولمبية بما يلفت نظرهم إلينا. ولا يعرفون لغتنا ليقرؤوا أدبنا ويستوعبوا فنوننا.

أما مساهمتنا السابقة في الحضارة فتصل إليهم مشوهة ومزيفة. نظرتهم إلينا مليئة بالحذر والريبة والأحكام المسبقة، فأصحاب المصالح الاستعمارية والعنصرية قدموا لشعوبهم صورة مشوهة عن تاريخنا وديننا ولغتنا وضخموا عيوبنا. وساعدهم على ذلك ممارسات بعض الجهلة منا من متطرفين متزمتين أو منحلين، حتى أن بعض أفراد مجتمعنا ممن أتقنوا لغات الغرب وجهلوا لغتهم وثقافتهم تأثروا بما قيل عنا فكرهونا، وكرهوا ذواتهم معنا ورددوا طروحات خصومنا، وحاولوا أن ينسلخوا عنا أو أن يجعلوا منا مسخا مشوها عن الغرب.

من السهل أن تمتد هذه الجسور المعلقة إلى قلوب الغربيين وعقولهم إن تعلم بعضهم لغتنا، فاللغة تقرب المسافات بين الشعوب، فتتهاوى الأحكام المسبقة، وتنهار الادعاءات المضللة. هل يمكن أن نطور تعليم اللغة العربية للأجانب، ونقيم لهم دورات صيفية في بلداننا العربية، ونشجع الاستشراق الجديد على أساس سياحي لا استعماري، فيأتون للسياحة وتعلم اللغة وكثير منهم يرغبون في ذلك؟ وتبقى المنافسة بيننا وبينهم قائمة، ولكن على أساس من التسامح وفهم الآخر.

وأما وجدي فيقضي شهرا واحدا في فرنسا بين مدينتي بيزانسون وديجون ثم يتوجه إلى القاهرة  ليستقبل فايزة وأهلها، ويقام عرسهما في أحد الفنادق الفخمة. ولو لا ارتباطي المسبق بدورة اللغة لكنت أول الحاضرين.

ـ 111 -

تلقيت رسالة من وجدي في الأسبوع الأخير من إقامتي في بورنماوث، ذكر فيها أنه التقى بجانين يوم وصوله إلى بيزانسون. استقبلته بحفاوة وحجزت له غرفة في المدينة الجامعية، وتعشى معها في المطعم الجامعي. التقى بها مرة ثانية حين دعته لافتتاح معرضها المشترك مع بعض فناني مدينتها. من بين اللوحات التي عرضتها جانين تلك التي رسمتها في الجزائر وأهمها لوحة الأمير عبد القادر ثم ثانية تمثل منظرا من القصبة، وثالثة اسمها "خداوج الحسناء العمياء" تمثل خداوج بنت الداي كما تصورتها جانين وهي تقف أمام النافورة في ساحة قصرها، بقدّها الممشوق وجمالها الأخّاذ، ولباسها العاصمي التقليدي "كراكو" وسروال "دزيري". وعيناها ما تزالان تحتفظان بسحرهما رغم كونها عمياء. وأما اللوحة الأخرى التي لفتت نظر وجدي وكتب لي عنها فهي "وجه من بوسعادة". وتمثل أحد شباب بوسعادة باللباس التقليدي، ويضع على رأسه "القنّور" البوسعادي.

قال وجدي في رسالته: "كان وجهاً معبّراً تذكرت أنه مألوف لدي، وأني رأيته في مكان ما. وجه من يا ترى؟ وأين رأيته؟ اكتشفت في النهاية وجه من. لن تصدقني إذا قلت لك. تصور، إنه وجهك ياعابد. كنت أنت في اللوحة بشحمك ولحمك. رأتني أتأمل اللوحة باندهاش، فتركت من حولها وتقدمت مني باسمة وسألتني: "هل عرفته؟" ثم أضافت مشيرة إلى آخر القاعة: "المصور هناك، تستطيع تصوير اللوحة إذا أردت إهداءها إلى أحد، لأن الأصل سيبقى عندي". أوحت لي بذكاء أن أصورها لك، وسأحضرها لك حين نلتقي. وتابع وجدي قائلا:

"لكن اللوحة التي لفتت أنظار الحاضرين هي لوحة الأمير عبد القادر، وتمثله على حصانه. ملامحه تنطق بالقوة والحزم، وبشهامة المحارب الفارس ونبله. ليس فيها قسوة ولا وحشية. حاول بعضهم شراءها ولكنها اعتذرت مشيرة للبطاقة الملصقة بها: "ليست للبيع". لابد أن أحد المتاحف الفرنسية اشتراها".

نكأت الرسالة الجرح الغائر، ودغدغت الشوق المكتوم إلى جانين. ألحت عليّ صورتها وبسمتها وصوتها البلبلي، وعتابها الرقيق، وغضبها العاصف. استحوذت عليّ فكرة طاغية إلى حد الهوس، هي أن أقطع دورة اللغة وأتوجه إلى بيزانسون لأستسمحها وأستعطفها وأقول لها: "تعبت ولا أستطيع العيش بدونك فافعلي بي ما تشائين. سأقطع علاقتي بكل الناس من أجلك. المهم أن نبقى معا وأن تكوني راضية". لكنني تماسكت. أدركت أني حتى وإن ضعفت فلن تقبل بي. لن تقبل ضعيفا مهزوزا تخلى عن مسؤولياته تجاه من حوله.

عدت إلى رسالة وجدي متابعا القراءة: "أما المنهج فمعظمه نصوص أدبية روائية ومسرحية وأغان عصرية. وفي المساء هناك نشاطات مسرحية وحفلات راقصة ورحلات في نهاية الأسبوع إلى منطقة الجورا التي سحرتني بطبيعتها الخلابة.     

التقيت قبل مغادرة بيزانسون بالأستاذة مارتا دانيال مع مجموعة من أساتذة الفرنسية الجزائريين يتابعون دورة يشارك فيها أساتذة الفرنسية في العالم لتطوير تعليمها. تذكرتك وتذكرت أساتذة اللغة العربية كان الله في عونهم. من يهتم بهم وبالعربية وبتطوير تدريسها؟"

آلمتني ملاحظة وجدي لأنها في محلها، وتوقفت متأملا أوضاع تكوين معلمي العربية عندنا والاهتمام بالكم على حساب الكيف ثم تابعت القراءة: "أما في ديجون فكانت نصوص الدورة الجامعية التي تنظمها الجامعة أكثر كلاسيكية واهتماما بالقواعد والإملاء. وفي المساء تعطى دروس في الرقص الفولكلوري لمنطقة بورجون، وفي أغانيها الشهيرة. 

وفي يوم السبت آخر الأسبوع استضافت التلاميذ عائلات فرنسية في بلدة "بلينيي سور حوش" وهو اسم النهر الذي تقع البلدة على ضفته. لم أدرك من قبل أن الضيافة في منطقة "بورجون" تعني تذوق خمورها المشهورة مع الطعام. استضافتني عائلة مكونة من الأب الموظف في البلدية، والأم المدرسة في الثانوي، وابنتهما الطالبة في كلية الحقوق. المنزل ريفي مدني تحيط به حديقة جميلة. قدموا لي لحظة وصولي كأسا من الخمر فاعتذرت، وأعتقد أنهم نعوا سوء حظهم الذي أوقع من لا يشرب الخمر في قرعتهم. ولو كنت أستطيع أن أجاملهم لفعلت ولكن لا يجامل الإنسان في معتقده وصحته. مع ذلك بشوا في وجهي ولم يظهروا لي إلا ما استطعت استنتاجه من ارتباكهم".   

تأسفت للمأزق الذي وقع فيه وجدي، وتوقعت أنه قضى يوما عصيبا حافلا بالمجاملات، يتبادلها مع مضيفيه، ويحس كل منهم بثقله على الآخر وثقل الآخر عليه. تابعت القراءة دون لهفة كمن يقرأ رواية يعرف آخرها سلفا ولكنه يقرأها لأنها مقررة عليه في المدرسة: "وجدت في المنزل بيانو فاستأذنت في العزف عليه، فوجدت نغماته نشازا وأوتاره تحتاج إلى ضبط. وبما أني أحمل دائما في محفظتي الصغيرة أداة ضبط الأوتار، شددتها حتى استقام صوته وعزفت عليه. كانت ربة البيت وابنتها عازفتان هاويتان فبهرتا بعزفي أيما انبهار. لم يسمح لي مستواي في الفرنسية بالنقاش الجاد، لكن الموسيقا كانت لغة مشتركة وإذا بكل من أفراد الأسرة يحضر لي نوتة لأعزفها. عزفت مقطوعات لبيتهوفن وموزارت وشوبان وشوبير وبيزيه وتشايكوفسكي وكورساكوف والجاز القديم والحديث والأغاني الفرنسية الشائعة ثم عزفت شيئا من الموسيقا الشرقية والألحان المصرية والعربية للقصبجي والسنباطي وعبد الوهاب والرحابنة. كان يوما فريدا أحاطتني به هذه الأسرة الفرنسية بالرعاية والحب والاحترام، حتى أن الأم وابنتها امتنعتا أثناء الطعام عن تناول الخمر إكراما ومجاملة لي. وربما أحستا أن النشوة التي تسمو بك إليها الموسيقا الرفيعة، تعجز عن بلوغها كؤوس خمر بورجون بل باخوس نفسه. شرب الأب وحده واعتذر لأنه لا يستطيع الامتناع".

سررت لحسن تخلص وجدي من المأزق الاجتماعي الذي وقع فيه ووصلت إلى الفقرة الأخيرة في وصف الرحلة: "المهم أنهم أغرقونا في بيزانسون وديجون بالنصوص الأدبية الشعرية والروائية والمسرحية والتاريخية والأغاني العصرية والفولكلورية. وهم يسوقون حضارتهم مع دورات اللغة، والدولة تساهم مساهمة كبيرة في دعم هذه المعاهد".

قارنت بين تعليم اللغة في البلدان المتقدمة وتعليم العربية عندنا. الفرق شاسع بين المناهج، فمناهجنا قديمة لا تساير العصر ولا تعكس ما يجري في الحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولا صلة بينها وبين الرواية والمسرح والسينما الجزائرية والعربية والعالمية النابعة من الواقع. والأستاذ يبقى حبيس هذه المناهج، يطبق نصوصها حرفيا ولا يسمح له بالخروج عن نطاقها. ولا يستفيد من دورات خاصة تشرف عليها اليونسكو والأليكسو لتبادل الأفكار بين أساتذة العربية في البلدان العربية وتجديد معلوماتهم كما كان يجري سابقا. وليس تدريس العربية في معظم بلدان المشرق بأفضل منه عندنا ما دامت الدولة تحتكر التأليف وإعداد المناهج والبرامج فكلنا في الهم شرق.

 

 

 لقراءة الجزء التالي انقر هنا: 14- الدخول المدرسي: تحديات المستقبل

 لقراءة الجزء السابق انقر هنا: 12- الثلاثي الثالث: مدير أم سجّان؟

 للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: جرس الدّخول إلى الحصّة

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات