رواية جرس الدخول إلى الحصة

     للكاتب عبد الله خمّار

-8-

العطلة الشتوية (تتمة)

- 74 -

في جلسة صفاء تنفتح فيها مغاليق قلب المحبين بمفتاح الحب السحري فيكشف كل منهما للآخر ما استودع من أسرار، قالت لي جانين: "لا يمكن أن أحب جاك لأنه إنسان منافق ذو وجهين، يدعي أمام الجزائريين أنه جزائري، ويتحدث عنهم بالسوء وراء ظهرهم". وباحت لي بما أسره لها. كنا في السيارة على شاطئ قصر الأمم بعد الغروب، نتمتع بصوت الأمواج، ومنظر البحر في امتداده اللامتناهي تحت أشعة القمر. الجو صقيعي في الخارج. درجة الحرارة حوالي الصفر، ربما ناقص أو زائد واحد. ونحن نتمتع بالداخل بدفء مسخن السيارة، وبدفء قلبينا، قالت: "أنت تعرف أن جاك هو صاحب البيت الذي أسكنه. كنت متجهة معه في سيارته من الأبيار إلى السكن الذي استأجرته منه مع مونيك، حين بدأ يعدد لي صفات الجزائريين ويحذرني منهم: "إن أول صفة يمتازون بها هي الكسل ثم الثرثرة والزهو الفارغ فهم متبجحون ومغرورون ومنافقون، يفعلون في السر ما ينتقدونه في العلن. وهم فوق ذلك مرتشون، وتستطيعين بهدية صغيرة الحصول على ما تريدين". توقف المرور فجأة في ساحة أديس أبابا، فالتفت إليّ وهو يهز رأسه هزة العارف الخبير قائلا: "لقد أمضيت عمري في هذه الأرض وأعرف الكثير عن أهلها، إنهم كذابون، كلهم كذابون، ولا يحترمون القانون". واستطرد وكأنه تذكر شيئا: "غير أن أهم ما يجب أن تعرفيه عنهم"، وصمت  قليلا. ظننت أنه سوف يحدثني عن بعض مزاياهم، ولكنه خيب ظني فقال: "هو أن الرجال الجزائريين يحبون النساء كثيرا". وابتسم ابتسامة ذات مغزى وهو ينظر إليّ. ثم تابع حديثه: "ولا سيما الشقراوات مثلك، وسوف يحاولون التودد إليك بكل وسيلة حتى"

احمر وجهه قليلا. وأضاف متلعثما: «أقصد"، وصمت، ثم قال: "أرجو أن تكوني فهمت ما أقصد". فهززت رأسي بالإيجاب.

تابعت قائلة: "عجبت لأنه لم يذكر مزية واحدة للجزائريين، فهم شعب كله عيوب في نظره. ولست ممن يتأثرن بسهولة، ولا ممن يقبلن بإطلاق الأحكام المطلقة على شعب كامل. ولكني لم أشأ أن أناقشه، وأنا ألتقي به لأول مرة لغرض محدد وهو استئجار شقته".

أصبحت الإشارة خضراء، وانسابت السيارة في سيل السيارات المتجهة إلى اليسار. كان يناديني "آنسة" وكنت أدعوه"سيد". قال لي ونحن في الطريق إلى الشقة: "هل أستطيع أن أناديك باسمك؟"

ـ "بكل سرور".

ـ "أرجو أن نصبح أصدقاء يا جانين".

ـ "وأنا أرجو ذلك يا جاك".

شعرت فجأة أن جاك لم يعد غريمي في حب جانين، ولا ندا لي فهو إنسان دنيء. ليس لأنه شتمني شخصيا. بل لأنه يدعي أنه جزائري ويطعننا في الظهر. تمنيت أن يسمع حكيم وعمار ما يقوله عنهما من يدعي صداقتهما.

قلت لجانين: "لن أدافع عن أهل بلدي إلا فيما يتعلق بالكذب وانتهاك القانون، أما الأمور الأخرى فسخيفة ولا ضرورة للرد عليها". تابعت بحرارة وغضب من طعن في كرامته: "الجزائريون لا يكذبون على بعضهم بعضا، ولا على أصدقائهم، فلديهم قيم دينية وخلقية وحضارية يحترمونها، وتنظم سلوكهم. لكنهم تعودوا الكذب على السلطة، وانتهاك القانون لأن السلطات الاستعمارية كانت تصم آذانها عن سماعهم. والقانون نوعان: ما يسن لتمكين السلطات من اغتصاب الأراضي، وجمع الأموال والقضاء على المقومات الحضارية للجزائريين، وتسخيرهم لخدمة الأوربيين. وما يتجاهل واقعهم، ولا يحل مشاكلهم الاجتماعية والصحية. ولن أتحدث عن النوع الأول فهو معروف للجميع، بل عن النوع الثاني وهذا مثال عن ذلك:

"حدث ذلك منذ خمسة عشر عاما. كانت أمي في زيارة أختها في وهران. وكان زوج خالتي عاملا في السكة الحديد. مرضت أمي بالحمى، وكان أبي في السجن، فأخذتها خالتي إلى طبيب السكة الفرنسي وبعد أن فحصها، اكتشف أنها ليست زوجة العامل المؤمن صحيا بل أخت زوجته. رفض أن يكتب لها الوصفة الطبية رغم حالتها الخطيرة، وطردها مع خالتي من العيادة، وهو يتهم الجزائريين بالكذب والتزوير وينعتهم بأبشع الصفات".

نسي الطبيب واجبه المهني وقسم أبوقراط. لم ير إلا الجانب الضيق من سلوك أمي وخالتي فاتهمهما بالتحايل على القانون. لكن المثير للسخرية أن السلطات الاستعمارية كانت تستخدم هذا الطبيب نفسه ليزور شهادات من ماتوا تحت التعذيب تثبت وفاتهم الطبيعية. ولحسن الحظ لم يكن الأطباء الفرنسيون كلهم من هذا النوع.

قانون الضمان الاجتماعي القديم والحديث يضمن أسرة العامل الصغيرة، وهو مفصل حسب مقاسكم في أوربا. لكن العامل عندنا يكون مسؤولا أحيانا عن زوجته وأولاده، وأخته الأرملة أو المطلقة وأولادها. وكذلك عن أمه، وعمته أو خالته. لا يأخذ القانون هذه الحالات بعين الاعتبار فيضطر لانتهاكه. كانت لنا عاداتنا وتقاليدنا المبنية على التضامن والتكافل، وكانت مؤسساتنا الخيرية والاجتماعية تعتني بأسر الفقراء واليتامى والأرامل، فحطمتها القوانين الاستعمارية، وادعت أنها تتكفل بذلك".

استمعت جانين لما قلته بانتباه، ولم تعلق، لكنها أمسكت يدي وأحسست في نظرتها الحنونة بتعاطفها الكامل. لم أستطع أن أقول لجانين: "إن القوانين مازالت في الجزائر المستقلة منتهكة، ويعطي المشرع أحيانا صلاحية انتهاكها للمسؤول، بدل أن يسهر على تنفيذها.  فلا يجوز مثلا البناء في الأراضي الزراعية، ولكن يحق للبلدية أن تمنح رخصة في البناء فيها. ولا يجوز إرسال المرضى الذين يمكن معالجتهم في الجزائر إلى الخارج، ولكن يحق لوزارة الصحة أن تمنح رخصة استثنائية بذلك. ولا يحق للمسافر أن يخرج إلا ما يعادل مئة دينار من العملة الصعبة، ولكن يحق لوزير المالية أن يمنح رخصة استثنائية بإخراج مبالغ معتبرة. ولا يجوز تسجيل الأطفال دون السادسة في المدرسة، ولكن يحق لمفتش المنطقة أن يمنح رخصة استثنائية لتسجيل من لم يبلغوا السادسة. وهكذا يعطي المشرع للوزير ورئيس البلدية والمفتش حق انتهاك القوانين بدلا من السهر على تنفيذها. والقانون لا معنى له في ظل الجهل ما دام معظم الناس لا يعرفون حقوقهم، ولا يعرفون حدودهم. والقانون الذي لا يطبق على الجميع دون استثناء لا يحترمه أحد.

اعتدلت جانين في جلستها، وغيرت من لهجتها لتضفي جوا من البهجة والمرح على حديثنا قائلة: "دعنا لا نتحدث في شيء غير الحب الآن".

ـ "وماذا بعد الحب؟"

ـ "الحب هو كل شيء. هو الحياة، لا شيء قبله ولا شيء بعده".

ـ "ألا تريدين الارتباط بي؟"

ـ "وهل هناك رباط أقوى من الحب؟"

ـ "نعم. الزواج. ام أنك لا تودين الارتباط بجزائري؟"

ـ "الزواج رباط رسمي، وليس أقوى من الحب، ثم إنك لم تتقدم لي رسميا حتى أعطيك رأيي. أنت تسألني فقط. ألا ترى أنها طريقة سخيفة لطلب يد امرأة؟"

ـ "معك حق، لم يخطر ذلك ببالي".

ـ "الأفضل أن نتحدث عن الحب".

وحملتنا مناجاتنا إلى مجاهل ومجرات لا يعرفها إلا المحبون.

- 75 -

في الساعة الثالثة من بعد ظهر الجمعة، قرع شاب يرتدي لباس الزرناجيّة باب شقة جانين، وسلمها باقة عملاقة من الزهور. كانت في الحمام تغسل ثيابها، ويداها ما تزالان بالصابون. سألته عن مرسلها، فأشار إلى البطاقة الملصقة بها. كان مطبوعا على الظرف بالفرنسية: "إلى وردة بيزانسون الفتانة جانين". وفي داخل البطاقة مكتوب:

"هل تتزوجينني؟ قولي نعم، أتوسل إليك. كلمة منك تسعدني أو تشقيني. أنتظر ردك تحت الشرفة".

فتحت جانين باب الشرفة، وخرجت وهي تحمل الباقة العملاقة لتعرف من المرسل. كانت بثوب منزلي بسيط، وإذا بموسيقا الزُّرْنَة تعزف فجأة، والطبل يضرب عند ظهورها. أطلت من الشرفة فرأت الفرقة بلباس عاصمي تقليدي: سترة حمراء مطرزة بالقصب تحتها قميص وسروال "دزيري" أبيضان، وشاشية حمراء على الرأس مطرزة أيضا وتتلاءم مع السترة. كانوا ثلاثة: عازف الزُّرْنَة، وضارب الطبل الكبير بالعصا، وضارب الطبلة الصغيرة بعودين. رأتني بينهم ببدلتي الزرقاء ألوح لها بيدي. سألتني بإشارة من يدها: "ما هذا؟"

طلبت من الفرقة التوقف، وقلت لها بصوت مرتفع: "هل تتزوجينني؟"

لم تسمع جيدا ما قلته، فأشارت سائلة: "ماذا قلت؟"

وضعت يدي بشكل بوق على فمي حتى لا يضيع الصوت في ضجيج الشارع. وهتفت وأنا أنظر إليها في الشرفة: "هل تتزوجينني؟"

كان الناس قد تجمعوا على صوت الزرنة، وفوجئوا بالحوار بيني وبين جانين في شرفة الطابق الثاني.

كنت حضرت في الصباح، ووضعت سيارتي قرب عمارتها. واتصلت بفرقة الزرنة في القصبة، واتفقت معهم على الموعد، ووصيت على باقة الزهور. لم تكن البطاقة بخطي، حتى لا تعرف جانين طالب الزواج إلا عندما تطل من الشرفة. أعدت الطلب من جديد:

"أنا أحبك وأريد الزواج بك فهل تقبلين؟"

قالت بصوت عال، وأشارت بيدها إلى رأسها لتؤكد المعنى: "هل أنت مجنون؟"

ـ "مجنون بحبك. أرجو أن تكون هذه الطريقة الأوروبية مناسبة لطلب يدك. هل توافقين على الزواج؟"

ـ "أعطني مهلة لأرد عليك".

ـ "خذي الوقت الذي تشائين، وسأنتظر ردك هنا في الشارع".

ـ "هذا ابتزاز إذن!"

ـ «لا. بإمكانك أن ترفضي، وسأمضي لحال سبيلي".

ساد الصمت. كنت أنتظر على أحر من الجمر، والناس معي ينظرون إلى أعلى وينتظرون. قالت جانين بعد هنيهة: "حسنا. أنا موافقة".

ـ "على ماذا. على الرفض؟"

ـ "بل على الزواج يا مجنون".

ـ "أحقا ما تقولين؟"

وضعت يدها على فمها بشكل بوق ووجهت صوتها إلى أسفل صائحة: "نعم. موافقة، موافقة، موافقة".

قفزت بفرح رافعا قبضة يدي إلى أعلى وأطلقت صيحة تهليل، وقلت مشيرا إلى الجمهور المحتشد: "هؤلاء هم شهود على موافقتك". 

انطلق هتاف من أحد المتفرجين بالفرنسية "يحيا الحب" تبعه نفس الهتاف بالعربية. وصفق الجميع. بدأت الزرنة تعزف أنغام الأعراس والأفراح الجزائرية. وجدت نفسي فجأة أرقص من الفرح على هذه الأنغام دون أن أشعر. انضم إليّ بعض الأولاد والشباب، فاختلط الرقص البوسعادي بالعاصمي. ليس أمرا شائعا أن يرقص أستاذ اللغة العربية في شارع العربي بن مهيدي على أنغام الزرنة، وحوله جمهور المارة يصفقون وبعضهم يرقص معه وهم سعداء.

 خرجت مونيك إلى الشرفة، ويبدو أنها كانت نائمة. سألت: "ماذا يجري؟"

فأشارت جانين إلى الحشد في الأسفل وقالت لها: "خطبني عابد رسميا وقبلت".

ـ "متى؟"

ـ "الآن".

أطلت مونيك مستغربة. غيرت جانين ملابسها، ولبست ثوبا بسيطا وهبطت السلالم وخرجت من العمارة. عانقتها وقبلتها أمام الجمهور. توجهنا على أنغام الزرنة وتصفيقات الحاضرين إلى سيارتي. وقبل أن أفتح بابها، قالت لي امرأة من الجمهور في الخمسين من عمرها بالدارجة: "ألم تحضر خاتما لتلبسها إياه؟" أجبت: "نسيت الخاتم، وسأحضره غدا".

خلعت السيدة خاتما من إصبعها، وقالت لي: "اربطها من اليوم، ولا تنتظر إلى الغد فتضيع منك. خذ هذا الخاتم يا ولدي وألبسها إياه فهو هدية مني لكما".

أخذت الخاتم من المرأة وشكرتها، ووضعته في إصبع جانين. قبلت جانين المرأة وشكرتها، وصفق الحاضرون.

كانت مونيك تنظر إلينا من شرفتها وتبتسم. أشارت إلينا حين ألبستها الخاتم، وكأنها تقول شيئا. ربما تريد تهنئتنا، ولكننا لم نسمعها فقد علا صوت الزرنة وتصفيقات الجمهور على صوتها. فتحت لخطيبتي باب السيارة، وركبناها وانطلقنا. قالت: "ماذا فعلت يا حبيبي المجنون؟"

ـ "فعلت ما يفعله العاشقون".

ـ "ليس كل العشاق مجانين مثلك".

ـ "وليست كل المعشوقات جانين".

كنت مبهورا بها، وكانت مبهورة بانبهاري بها. لم تحس بمثل هذا الحب من قبل. سألتني: "إلى أين؟"

ـ "سنقوم بجولة، وسنحتفل بهذه المناسبة السعيدة". وتوجهنا إلى البحر.                             

- 76 -

وجدت تحت الباب رسالة من وجدي، يطلب مني أن أطرق بابه فور وصولي، حتى وإن كان ذلك في الساعة الثالثة صباحا، كانت الساعة تقارب الحادية عشرة. فتح لي الباب، وبدا لي رغم تصنعه الهدوء قلقا مضطربا. وضع إبريق الشاي، وصب كأسين لي وله. قال لي: "بحثت عنك مساء الخميس وصباح اليوم فلم أجدك"، ثم بدأ يروي لي ما حدث له مع فايزة يوم الخميس: "كانت فايزة طبيعية جدا، تواعدنا أن نلتقي في المركز الثقافي لنشاهد الفيلم سويا. كنا مرحين نتبادل النكت والتعليقات على كل ما نراه قبل العرض. ربما كان خطأ مني أن أدعوها إلى فيلم لا أعرف قصته. أطفئت الأضواء. منذ المشاهد الأولى بدأت فايزة ترتجف وكان عليّ أن أخرجها من القاعة فورا. اسم الفيلم "رجل بلا قلب"، تمثيل يحي شاهين، وهو عن رجل يعامل زوجته بقسوة بالغة. فجأة جاء مشهد الضرب العنيف الذي لم تستطع فايزة احتماله. فصرخت صرخة أرعبت كل الحاضرين. ونهضت من مقعدها، وانطلقت بسرعة لتخرج من القاعة، فعثرت في الظلام ووقعت. حاولت مساعدتها لتنهض، فصرخت: "ابتعد عني. لا تلمسني. أنتم الرجال كلكم سفاحون".

كانت ترتجف هلعا وذعرا، وكان ذلك واضحا في صوتها. خرجت من المركز فلحقت بها وناديتها، فالتفتت إليّ وهي حريصة على أن تبقي بيني وبينها مسافة لتشعر بالأمن، وحذرتني بقولها: "إياك أن تقترب مني وإلا ناديت الشرطة، واستنجدت بالناس".

كانت علامات الذعر مرسومة في وجهها وعينيها. أصبحت شخصا آخر. لم أعد أعرفها. خفت عليها، وخفت أيضا أن تنفذ تهديدها، وتسبب لي فضيحة. سارت بسرعة كأنها تجري، وكانت تلتفت وراءها. تبعتها عن بعد إلى حيها في القصبة حتى دخلت إلى دار تأكدت بعد قراءة الاسم على الباب أنها دارها، فعدت وأنا أشعر بإحباط شديد. رجعت معها إلى درجة الصفر من جديد، وكأن شيئا لم يكن بيننا".

سألته: «ألم يحدث شيء بينكما، خلاف أو مناقشة قبل الفيلم؟"

ـ "كنا مثل السمن على العسل كما قلت لك، وكانت منشرحة في أحسن حال، قبل أن ترى هذه المشاهد".

ـ "ربما ذكرها هذا المشهد بما حدث لها سابقا؟"

ـ "هذا بالضبط ما حدث. إنها لم تشف حتى الآن. ما تزال مريضة وبحاجة إلى علاج".

قلت له مواسياً: "على كل حال أنت فعلت ما في وسعك. لا لوم عليك مادامت هي التي طلبت منك الابتعاد عنها".

أجابني مستنكرا: "ماذا تقول؟ أنا أحبها، وأخاف عليها. هي مريضة، وبحاجة إليّ. ما معنى الحب إذن إن كنت تتخلى عمن تحب وهو بأمس الحاجة إليك؟"

أدركت فداحة الخطأ الذي اقترفته، وقلت معتذرا: "خانني التعبير. قصدت أنك قمت بواجبك فلا تلم نفسك".

ـ "لا يهمني لوم أحد، يهمني أن تشفى فايزة. أعرف أن علاجها عندي وسأعالجها. لا أحد يحبها كما أحبها، والحب لا بد أن يجلب الثقة، وحين تثق بي تشفى من خوف الرجال، كل الرجال".

أدركت أن وجدي كان يريد أن يفتح قلبه لي ويبثني همومه، لا أن يستشيرني، ويسألني رأيي. فالمحب لا يستشير أحدا في حبه. كل ما يريده هو الموافقة والمصادقة على كل ما يقوله. ومن يفهم المحب ويحس بلوعته كمحب مثله. لو كان حدث هذا لجانين لفقدت صوابي. ولفعلت كل ما في وسعي لعلاجها.

- 77 -

أفقت متأخرا في الصباح. تواعدت مع جانين أن نتغدى في شارع طنجة، ثم نذهب بعدها إلى السينما. حاولت فتح باب الدار لأخرج فلم ينفتح. لا بد أن نابض القفل انكسر. رأيت أن الحل الأمثل هو أن أنزع القفل، وأضعه عند مصلح الأقفال، وأحضره في المساء. نزعته، وخرجت رادا الباب ورائي. قلت في نفسي: "ليس هناك خطر في تركه دون قفل، فلن يخطر في بال أحد أن الباب مفتوح".

وجدت جانين تنتظرني عند باب عمارتها. كانت ترتدي سروالا رماديا وسترة صوفية سوداء، وهي أنيقة ببساطة ودون تصنع كعادتها. جلسنا مقابل الشواء على مقعدين مرتفعين. شوى أمامنا على الصاج الكبدة والنخاع واللحم والمرقاز. جانين كمعظم الفنانين تفضل الأماكن الشعبية، لما فيها من تلقائية ودفء وإيحاء، على الأماكن الضخمة الباذخة المقصورة على الأثرياء، والتي يشترط فيها اللباس، وتحسب على الإنسان فيها حركاته وسكناته.

شربنا القهوة في المِلك بار في ساحة الأمير عبد القادر. وفجأة ومن دون سابق إنذار، وجدنا أنفسنا مبللين. لم نر البرق أو نسمع صوت الرعد إلا بعد أن اغتسلت الساحة ومن فيها في طرفة عين. دخلنا إلى "السينماتيك". كان يعرض فيها فيلم "حق الإنسان في الحب". وهو فيلم عاطفي عن أحد السجناء السياسيين اليونانيين وزوجته التي تحبه، تغلب فيه العاطفة على السياسة. انهمرت عينا جانين بالدموع التي كنت أراها تلمع خلال الظلام، وكنت أنا كذلك. كانت يدها في يدي أحس بانفعالها وارتجافها في بعض المشاهد المؤثرة فأضغط عليها بيدي وأربت عليها بيدي الأخرى فتحس بالأمان.

خرجنا من السينما فإذا الناس يحتمون من المطر تحت سقوف المحلات ومداخل العمارات. انفتحت بوابات السماء بعد طول انتظار، لم تجُد فيه الشهور الماضية إلا بقطرات قليلة. وتعاقب البرق والرعد والمطر في عرض طبيعي بديع من مشاهد الصوت والضوء. كان الصغار يستمتعون بهذا المشهد فيضعون أرديتهم فوق رؤوسهم ثم يتمايلون تحتها ويهتفون في جذل وابتهاج، وكأنهم يرقصون رقصة المطر.

اقترحت على جانين أن نذهب إلى شقتي ونتناول الشاي هناك، ونسمع بعض الأغاني الجزائرية والعربية، فوافقت. ركبنا سيارتها وانطلقنا في زحام طوابير السيارات، وحين صعدنا إلى شقتي وجدتها مختومة بالشمع الأحمر، وعليها تحذير من محافظ شرطة الحي بعدم فتحها إلا بمعرفة رجال الشرطة. ذهبت مع جانين إلى محافظة الشرطة فوجدت وجدي هناك. سألني المحافظ ضاحكا: "هل أنت الذي نزعت القفل عن الباب؟"

أجبت باستغراب: "نعم".

ـ "هذا يفسر كل شيء". ثم أضاف: "بفعلتك هذه جعلت ضيوفك يشرفوننا هنا. وكدنا أن نرسلهم إلى السجن".

كنت أتساءل عما يقصده المحافظ، ومن هم هؤلاء الضيوف؟ حين قال وجدي: "الخطأ خطئي، فعندما وصلت في المساء إلى شقتي، سمعت أصواتا في شقتك، فطرقت الباب، ففتح. رأيت في الصالون رجلين وامرأتين يحسبون نقودا كثيرة وحليا ذهبية، ولم أجدك بينهم. سألتهم عنك، فأجابوا: "ليس هنا ولم نره". ساورتني الشكوك، وتساءلت: "كيف فتحوا الباب إذن؟" توجهت إلى محافظ الشرطة وحدثته بالأمر فجاء ووجد القفل منزوعا، ووجد معهم المال والحلي، فقبض عليهم بتهمة اقتحام البيت والسرقة. وحين استجوبهم قالوا: "نحن جيران عابد وأقرباؤه في بوسعادة. أتينا لنشتري شاحنة وبعض الحلي لزواج أختنا. واتفقنا على تسلم الشاحنة ودفع المال في الغد. فاجأتنا المطر، ولم نجد مكانا في الفنادق التي ذهبنا إليها، فأتينا إلى عابد".

صدق المحافظ روايتهم لأن القفل منزوع من الداخل لا من الخارج، وهيئتهم لا تدل على أنهم لصوص. ثم إن اللصوص يسرقون ويذهبون بسرعة، ولا يتحاسبون في المنزل الذي سرقوه. وفوق هذا لا يمكن أن يحتفظ أستاذ أعزب في بيته بكل هذه الأموال والحلي. لكنه أمر بختم الشقة بالشمع الأحمر ليعطيني درسا كي لا أترك باب بيتي مفتوحا. ولامهم أيضا لأنهم دخلوا بيتا دون إذن صاحبه، فالبيوت لها حرمة.

اعتذر وجدي منهم وأحضر لهم سندويتشا وماء وإبريق شاي. ودخلوا ليستريحوا في غرفة المناوبة في انتظار قدومي. ترجمت لجانين ما حدث فضحكت. عرفت دون أن يخبرني أحد هوية زوّاري: توفيق وعبد الباري أخوان يعملان في تربية وتجارة المواشي وزوجتاهما خديجة ونسيمة. هم جيران لنا وأبناء عمومة أباعد. كان اللقاء محرجا لهم، ولكني فرحت بهم فرحا لا يوصف. واعتذرت منهم على ما حدث. أسعدني أن يفكروا في القدوم إليّ حين لم يجدوا فندقا. عانقت الرجلين عناقا طويلا. كان الجميع يرتدون ملابس بوسعادة. توفيق في الخامسة والثلاثين بينما أخوه الأصغر في الثلاثين إلا أنه يبدو أكبر منه لضخامة جثته. أما خديجة ونسيمة فكانتا متقاربتين في السن وفي منتصف العشرينات.

أخبرني توفيق ضاحكا بما حدث: "طرقنا باب شقتك فلم يجب أحد، وانتظرناك حتى تعبنا. حركت قبضة الباب بعصبية بعد أن مللت من الانتظار، ولم أصدق أنه انفتح. دخلنا، فدارك هي دارنا".

قلت له: "بالطبع".

ـ "ولكن الشرطة حضرت وألقت القبض علينا. أهذه ضيافتك ياعابد؟". وضحك الجميع. خرجنا من القسم وسمح لي محافظ الشرطة بنزع الشمع الأحمر.

كان رد فعل جانين هذه المرة عنيفا لم أتوقعه، فقد اتجهت إلى سيارتها وركبتها. طلبت من وجدي مرافقة الضيوف ريثما أودعها. قالت لي بغضب شبه مكظوم: "بصراحة، لا يمكنني قبول هذا الوضع. هذه هي المرة الثانية التي تذهب مشاريعنا أدراج الرياح، بسبب الناس الذي يسقطون علينا من السماء دون إنذار، ودون موعد مسبق. لم تعد وحدك الآن. نحن مخطوبان. كيف يمكن أن نتدبر الأمر فيما بعد ماديا ومعنويا؟ كيف يمكن أن ننظم حياتنا؟ ما أزعجني أكثر وزاد الطين بلة أنك استقبلتهم بسعادة لا توصف، وكأنك فرحت لأنهم خلصوك مني".

لم تترك لي جانين فرصة الحديث أو الرد، فقد كانت مغتاظة من يوم تركتها ومكثت مع أمي، والعملية تتكرر الآن. عرفت أنها لا تستسيغ الجلوس مع أهلي وأقاربي، بالإضافة إلى أنها لا تريد أن يأخذوني منها. أدارت مفتاح السيارة وقالت بنفس اللهجة الغاضبة: "قل لي: هل سنعيش بهذه الطريقة الفوضوية في المستقبل؟"

أجبتها بلهجة المحب المذعن طواعية لإرادة من يحب: "لن يكون إلا ما تريدينه أنت فأرجوك ألا تنزعجي. ماذا أفعل؟ أنا لم أدعهم ولكنهم لم يجدوا فندقا، فهل هذا ذنبي وذنبهم؟"

أجابت بحدة: "بل ذنبي أنا". كانت في مقعد القيادة وكنت منحنيا عليها أكلمها من خارج السيارة. أردت أن أسترضيها بأي طريقة، فلم أتحمل غضبها وانزعاجها. استدرت وفتحت باب السيارة الآخر، وجلست بجانبها وأمسكت يدها وقبلتها قائلا: "سامحيني، وأعدك ألا يتكرر ذلك". أوقفت محرك السيارة وابتسمت نصف ابتسامة، فقلت لها: "ما أجملك وأنت تبتسمين". سألت: "وهل أنا عابسة لا أبدو جميلة؟"

ـ "لا يمكنك أن تعبسي فعبوسك ابتسام بالرغم عنك". اتسعت ابتسامتها وبدا كأن ثورتها امتصت شحنة الغضب كلها.

ـ "قولي سامحتك".

ـ………..

ـ "هيا قوليها يا حبيبتي".

ـ "سامحتك يا حبيبي. ولكن احذر، فهذه آخر مرة".

هززت رأسي بالموافقة. سألتها: «متى نلتقي؟"

ـ «اتصل بي غدا في العاشرة لنقرر ما نفعله. ارجو أن يكون ضيوفك قد ذهبوا".

ـ "سأتصل بك في العاشرة تماما".

ـ "طيب". وأدارت محرك السيارة وانطلقت.

- 78 -

تعشيت مع ضيفي ومعنا وجدي، وتعشت المرأتان وحدهما. كانت السهرة رائعة حملت لي أنس الأهل والأقرباء ودفء مجتمع بوسعادة. جددت أواصر المحبة التي تربطني بأبناء عمي الأباعد، وجيراني في الوقت نفسه. وعدت جانين ألا يتكرر ما حدث اليوم لأني لا أريد إغضابها. لم أكذب عليها، ولكني سأحاول التوفيق بين ما وعدت به جانين، وبين التزاماتي تجاه أهلي وأقربائي وجيراني التي لا أستطيع التحلل منها. صحيح أن حياتي في المدينة غيرت بعض طباعي فأصبح وقتي منظما وميزانيتي كذلك. وتضايقت في السنة الماضية من كثرة الزيارات وتخلخل الميزانية. لكن أهلي وأقربائي كانوا يساعدونني ماديا، ويساهمون معي في الميزانية. بل إن أمي وإخوتي يرسلون لي ما يفوق تغطية نفقاتي، ولولا ذلك ما أمكنني براتبي المتواضع أن أبقي بيتي مفتوحا لهم وللضيوف في العاصمة.

جانين تحب النظام والمواعيد المضبوطة، ولا تريد اضطراب حياتنا في المستقبل بالزيارات المفاجئة، والنفقات الباهظة غير المتوقعة. تريد أن تكون لدارنا حرمة، وليست مشاعا للجميع يهدر فيها الوقت والمال، وتنتهك الفردية والخصوصية التي اعتادتها. أعتقد أنني أفهمها فهي تؤمن بأن الزواج امرأة ورجل، وليس امرأة وعشيرة. لا تقبل أن تكون ممولة لضيوفي وطاهية في المطبخ لهم. هي تريدني وحدي دون أهلي ومجتمعي، والمشكلة أنني كذلك أريدها وحدها دون مجتمعها. ولعل الحل الأمثل أن نعيش بعيدا عن مجتمعي ومجتمعها. ولكن أين؟

حدث انسجام سريع منذ بداية السهرة بين وجدي وتوفيق. اكتشف وجدي حب أهل الجنوب للفن المصري، وتذوقهم للرفيع منه، ولرواده من موسيقيين ومطربين ومسرحيين وسينمائيين. كان وجدي يبدأ كلمات الأغنية فيتمها توفيق، ويقول له: «هذه قصيدة "سلوا قلبي" لأحمد شوقي من ألحان السنباطي وغناء أم كلثوم". أو "هذه "أنشودة الفن" للشاعر صالح جودت من ألحان وغناء محمد عبد الوهاب". كان توفيق يعتبر أن الشعراء والفنانين الكبار ملك للعرب لا لمصر وحدها. ورد وجدي بلباقته وذكائه المعتاد: "كانت مصر ملاذا للعرب في زمن الاستعمار والاحتلال، وكانت لها الريادة في الأدب والفنون. أما الآن بعد الاستقلال، فالمطلوب أن يتنافس العرب جميعا تنافسا بنّاء في المشرق والمغرب، فالمنافسة هي التي تخلق الجيد. ونحن ننتظر منكم في الجزائر بناء نهضتكم الأدبية والفنية كما تبنون نهضتكم العلمية". وأضاف: "سماء العروبة تضيء أكثر إذا تعاون في إضاءتها نجوم المشرق والمغرب".

تركت البيت للضيوف، ونمت عند وجدي. أحضرت في الصباح الحليب والزبدة و"الكرواسان" من السوق. وهيأت لهم الفطور. انصرفوا بعد أن أخذ توفيق وعدا من وجدي بزيارة بوسعادة في عطلة الربيع.

اتصلت بجانين في الساعة العاشرة بالهاتف فردت علي "مونيك". أخبرتني بأنها مريضة ونائمة الآن. ظننت أنها غاضبة ولا تريد أن تكلمني، فاختلقت هذه الحجة. ثم قلت في نفسي: "وماذا لو كانت مريضة حقا؟ ثم إن جانين صريحة ومستقيمة لا تعرف المواربة وإذا أرادت أن تقول شيئا قالته دون حرج". بدأت أقلق عليها. مددت يدي إلى جهاز الهاتف في الحادية عشرة ثم أحجمت. لعلها ما تزال نائمة، وإذا بجرس الهاتف يرن. كانت مونيك. قالت: "جانين نائمة الآن، ولكنها تريد رؤيتك. تعال في الساعة الواحدة. أرجوك". سألتها عنها، فأجابت: "إنها تحسنت". طرت من الفرح بدعوتها. لأول مرة سأزورها في البيت، وسأرى عالمها الجميل الذي طالما تصورته من خلال أحاديثها. ماذا أحمل لها؟ وجدي ليس هنا لأسأله. ذهب إلى المركز الثقافي المصري ككل يوم بحثا عن فايزة. الزهور ليس موسمها الآن، ولكن العطور صالحة في كل موسم. هناك محل في شارع باب عزون يبيع العطور الفرنسية بسعر غال، ولكن لا شيء يغلى على جانين. اشتريت زجاجة شانيل ماء الكولونيا رقم 5، وضربت الجرس في الساعة الواحدة تماما. فتحت لي مونيك واستقبلتني بابتسامة ود حقيقية. أحببت مونيك رغم أني لم أرها إلا مرة واحدة لأني أحسست أنها تعاملني معاملة الند للند مثل جانين. ولم أشعر معها كما شعرت مع جاك بنوع من الاستعلاء الحضاري. صحيح أنني من شعب متخلف تقنيا لأسباب تاريخية، ولكنه ينتمي إلى حضارة إنسانية عظيمة ساهمت فيها أعراق كثيرة. وجوهر الحضارات الإنسانية واحد، هو الرقي بالإنسان، لا بالعرق، ماديا وروحيا، لذلك فهي لا تنقرض كالحضارات العرقية.

- 79 -

قادتني مونيك إلى غرفة جانين وهي الغرفة الثانية على اليسار في الدهليز الذي يفضي إليه باب الدار. كانت نصف جالسة في السرير مسندة ظهرها ورأسها إلى وسادتين. قبلتها ولثمت يديها وأنا أردد: "سلامتك يا حبيبتي. ليتني كنت المريض بدلا عنك". ابتسمت لي ابتسامة ذابلة، وقالت: "لا تقلق علي، أنا بخير". عرفت أنها حين أتت بالأمس من عندي أصابتها نوبة معوية حادة صحبها غثيان وقيء شديدين، واتصلت مونيك بالطبيب الجزائري الذي سهر معنا ليلة عيد الميلاد، فأتى وأعطاها أدوية ومهدئات. وشخص السبب بالسهر والإرهاق والبرد.

سألتني جانين: "هل لديك شهادة في التمريض أو تجربة على الأقل؟"

ـ "لماذا؟"

ـ «أريد أن أعينك ممرضا لي بأجر مغر".

ـ "كم تعطيني؟".

ـ "حدد أنت أجرك".

ـ "قبلتان في اليوم".

ـ "هذا كثير. أنت طماع، قبلة واحدة تكفي".                                         

ـ "اتفقنا". ثم أردفت بلهجة جدية: "مونيك ستسافر اليوم مع بعض الأصدقاء إلى تمنراست لزيارة منطقة الهقار. هي لم تتمتع بعطلتها حتى الآن، لأن أصدقاءها ليست لديهم عطلة. ولا أريد أن أحرمها من هذه الفرصة بسبب مرضي. وقد أخبرتها بأنك ستعتني بي في غيابها. تذهب الطائرة في الساعة الثالثة والنصف، وسيحضر أصدقاؤها لاصطحابها بعد قليل. هي مصرة على عدم الذهاب، فأقنعها بالسفر وعجل فليس هناك وقت".

ناديت مونيك ورجوتها أن تذهب. قالت لي: "لا يمكنني أن أتركها على هذه الحال. يجب أن أعطيها الدواء بانتظام، وأعتني بها وأرعاها".

ـ "أعدك أن أعتني بها وأرعاها في غيابك".

ـ "هل تستطيع أن تبقى معها كل الوقت حتى مساء الثلاثاء، وتنام هنا؟"

ـ "نعم".

قالت بلهجة فيها توسل: "سأعتمد عليك فلا تخذلني".

ـ "كوني مطمئنة".

أعطتني مونيك وصفة الدواء، وأرتني الأدوية ومواعيدها. ثم قالت: "البفتيك" في الثلاجة وكذلك شوربة الخضار. هناك ما يكفيكما حتى حضوري. ستنام في غرفتي، وسأضع لك ملاءات نظيفة في السرير حالا". وأضافت: "انتبه إلى درجة حرارة مدفأة الغاز في الصالون، واحذر أن تتعرض جانين للبرد".

قرع جرس الباب في الثانية إلا ربع، ونودي على مونيك. ودعتنا وأخذت حقيبتها ومضت وهي توصيني بجانين.

 ناولتني جانين مفتاحا وقالت لي بعد ذهاب مونيك: "بإمكانك أن تذهب إلى شقتك لإحضار منامتك وأدواتك، ولكن لا تتأخر علي". وهكذا كان. ذهبت وعدت في حوالي ساعة فوجدتها نائمة.

غرفة جانين هي الثانية على يسار الدهليز الذي يفضي إليه باب الشقة، واسعة، سقفها مرتفع، من البناء القديم المتين. يدخل إليها الضوء بقوة من نافذة الشرفة الكبيرة التي تكاد تأخذ صدر الغرفة كلها. أما الستارة السكرية التي بلون طلاء الجدار الزيتي فمعقودة بأناقة، ومعلقة في الجهة اليمنى من النافذة. على الجدارين اليميني واليساري بعض لوحات جانين: ثلاث في كل جدار. اثنتان على مستوى واحد، وأخرى مرتفعة في الوسط. كلها لوحات صغيرة، ليست مما شاهدته في معرضها، تبرز جمال طبيعة "بيزانسون". أما لوحتا الوسط فواحدة لأمها، والثانية لوالديها معا نقلت من صورة قديمة.

أثاث الغرفة يظهر جشع جاك وبخله، فهو يؤجر الشقة مفروشة لكنه يختار لها أرخص الأثاث. السرير عادي في وسط الغرفة، وعلى يساره خزانة فردية للملابس ببابين. أحدهما رصع بمرآة تحل محل التسريحة. المكتبة في الزاوية اليمينية من جهة الباب عبارة عن ألواح خشبية تفصل بينها أحجار الآجر. وهناك مكتب صغير وضعت عليه كراريس وكتب، وبعض أعداد مجلة "نوفل أوبسرفاتور". وبجانبه كرسي مما يشترى عادة للأولاد لا للكبار. لكن لمسة جانين الأنثوية، ومواهبها الفنية، وذوقها الرفيع، حولتها إلى غرفة أنيقة وفخمة. فغطاء السرير من لون الستارة ومطرز مثلها بزخارف ناعمة باللون الأحمر الفاتح. والورق الملون بالبني القاتم الملصق على ألواح الخشب يجعلها تبدو كأنها رفوف مكتبة فاخرة. وأخفت الزهور الصناعية وبعض التحف الصغيرة الموضوعة بمهارة ألواح الآجر. كما زينت زوايا الغرفة وظهر الخزانة. وفرشت طاولة السرير بمفرش يتلاءم مع لون الغطاء والستارة. وامتزجت رائحة عطرها الخاص ورائحة صابونها المعطر مع رائحتها المحببة، فجعلت الغرفة في جوها ودفئها أبهى من القصر.

مازالت جانين نائمة. دفعني الفضول لرؤية الكتب، فلفت نظري وجود سلسة كلاسيك لاروس كاملة، وبعض أجزاء من السلسلة الكلاسيكية المصورة، ومن سلسلة "ماذا أعرف؟"، و"كتاب الجيب"، وبعض الكتب عن الفن في إفريقيا والشرق الأقصى، وديوان "كلمات" لجاك بريفير، وكتب في تعليمية اللغة الفرنسية، وبعض كتب القواعد وتقنيات التعبير، وقاموسي لاروس وروبير.

تذكرت وأنا أتصفح سلسلة "كلاسيك لاروس" الفرنسية، سلسلة "الروائع" اللبنانية لفؤاد أفرام البستاني التي وضعت في متناول التلميذ العربي ملخصات عن أعمال الكتاب ودواوين الشعراء منذ العصر الجاهلي حتى الآن. تمنيت لو استمر هذا العمل ليشمل الكتاب والشعراء العرب المعاصرين في مختلف الأقطار العربية. لم لا تتولى كل جامعة إعداد كتيبات على نموذج الروائع؟ فتعرف جامعة الجزائر مثلا بشعرائنا وروائيينا

ومبدعينا في كافة المجالات بما في ذلك السينمائيين والمسرحيين والرسامين والموسيقيين.

- 80 -

استيقظت جانين جائعة في الساعة الرابعة، وطلبت قليلا من شوربة الخضرة فسخنتها في الحال. ثم حضّرت لها كأسا من عصير البرتقال الطبيعي. وبعد ذلك بقليل طلبت قهوة خفيفة لتنشط أعصابها. ثم تمنت أن أحضر لها مدورة الأسطوانات لتسمع الأسطوانتين اللتين أهديتهما لها في الشريعة. كان الجهاز ستريو متوسط الحجم موضوعا على خزانة صغيرة "كوميدينا" في غرفة الصالون، والأسطوانات داخل الخزانة. بحثت بين الأسطوانات الكلاسيكية وأغاني الأوبرا والأغاني الفرنسية لموستاكي وريجياني وبراسانز وايديت بياف وماتيو وليوفيري وموسكوري وهوليدي وبريل وغيرهم فلم أجد الأسطوانتين. تذكرت جانين أنها لا تضعهما مع الباقي بل تسمعهما ثم تعيدهما إلى خزانتها. سمعنا الأسطوانتين وأعادت سماعهما عدة مرات وأنا جالس على طرف السرير. وقد أسندت رأسها إلى صدري. وأنا أمسد رأسها، وأربت على شعرها، وأمسح وجهها وصدغيها، علّني أنجح في شفائها من الصداع الذي ألم بها بسبب المرض. ثم سمعنا أغنية "ميري ماتيو": "مادامت الأرض تدور فنحن متحابان".

كانت سعيدة تشعر بالدفء والأمان، وقد استرخت كالقطة الأنيسة بين ذراعي، ثم قالت لي برجاء: "أسمعني الشعر الذي قلته فيّ". بدأت بترجمة قصيدة "سيّان عندي" فقاطعتني معتذرة: "أريد أن أسمعها باللغة العربية التي كتبت بها، وأن أحس بها من نبرات صوتك، فأنا أحفظ ترجمتها الفرنسية". قبلتني حين ختمت القصيدة وقالت: "أسمعني قصيدة: "إلى ممثلة". أجبتها مرتبكا: "أنا أعتذر فأنت لست ممثلة". ألحت متوسلة بدلالها الذي لا يقاوم: "قلها من أجلي فهي كتبت لي". أجبتها بصدق: "ولكني لا أحفظها". فتحتْ درج الطاولة، وأخرجتْ علبة مفضّضة وناولتني إياها. فتحتها فوجدت فيها قصائدي وترجمتها بالفرنسية. أخذت قصيدة "إلى ممثلة" وقرأتها بلهجة مؤثرة، فلما أتممت، ابتسمت وعلقت بقولها: "ما زلت تعتقد أنني ممثلة. استنتجت هذا من طريقة قراءتك".

أردت أن أحتج، ولكنها وضعت يدها على فمي قائلة: "أنا سعيدة بهذه القصائد. أفضل ما في حياة الإنسان أن يحس بمن يحبه مثل هذا الحب. وأكثر من ذلك أن يكتب فيه من يحبه مثل ما كتبت". وبدأت تعيد ترجمة القصيدتين إلى الفرنسية بلهجة شعرية معبرة، وإحساس مرهف، فقد حفظتهما عن ظهر قلب. قلت لها وأنا في قمة النشوة: "أفضل ما في حياة الشاعر أن يكتب لمن تتذوق الشعر، وأن تكون له قارئة رائعة مثلك".

دق جرس الباب في الثامنة، سألتُ جانين: "أتنتظرين أحدا؟"

ـ "لا. لا أحد يزورني أو يزور مونيك بلا موعد، فلا تقلق وانظر من بالباب". كان هناك زوار لساكني الشقة التي فوق شقة جانين أخطأوا في الطابق. قالت جانين: «من يطرق علينا الباب دون استئذان هنا هم الباعة المتجولون والمتسولون والذين يخطئون في العنوان". أما في فرنسا فلا يطرق علينا الباب أحد دون موعد أبدا".

ـ "والأقرباء؟"

ـ "لا أحد يأتي دون موعد، فالوقت محدود ومنظم. لا أحد يمكنه أن يعدل برنامجه المنظم إلا في حالة الطوارئ، فلابد أن يساعد الناس بعضهم بعضا في حالة المرض أو الكوارث. أما في الحالة العادية فلا أحد يأتي حاملا حقائبه إلى قريبه أو صديقه، فالدار ليست فندقا".

أدركت أنها تشير إلى الضيوف الذين حضروا من بوسعادة، وتنتقد هذه العادة، وتلمح إلى أن ذلك غير مقبول عندما نتزوج، بل وقبل أن نتزوج. قادنا النقاش في أهمية الوقت إلى دخول جدّتها نزلا للمسنين. قالت تدافع عن قرار جدتها: "لقد ذهبت بمحض إرادتها، فليس هناك من يهتم بها ويرعاها طيلة الوقت. عمّتي متزوجة وتعيش مع زوجها في كندا، وعمّي طبيب جراح وزوجته طبيبة، وليس لديهما الوقت الكافي حتى لأولادهما". سألتها: "لماذا لا تعيش مع أحدهما ابنها أو ابنتها؟"

ـ "هذا مستحيل. وهي نفسها لا تقبل بذلك. إن لها استقلاليتها. أنتم تظنون أننا بلا عواطف، ولكن الحقيقة أننا نفكر بواقعية. عاشت حياتها مع الرجل وأسست أسرة، واليوم تترك ابنها وابنتها يعيشان حياتهما ويتفرغان لأسرتيهما".

ـ "أليس للأبناء التزامات نحو آبائهم؟"

ـ "بالطبع، وابنها وابنتها يقومان بهذه الالتزامات. يسألان عنها ويرسلان إليها المال. لكنها حين خافت من الوحدة والعزلة، ذهبت إلى حيث تعيش مع أناس من سنها وتفكيرها".

ـ "نحن لا نقبل بذلك. نعيش متجاورين كأسرة كبيرة والجد والجدة في الحقيقة لديهما المكان الأول في الأسرة".

ـ "هل تعتقد أن أبناءك وأبناء إخوتك سيظلون في بوسعادة، وسيعيشون نفس الحياة؟ الجزائر تتطور، وغدا سترون أولادكم يعملون في أماكن مختلفة وأقطار متباعدة. ولن يكون للأسرة الكبيرة وجود في المستقبل. لا أهمية للوقت لديكم الآن، ولكن الوقت سيصبح غدا أهم بكثير من الإنسان. كنا مثلكم في الماضي ولكن التطور فرض علينا أساليب جديدة في المعيشة، وأنتم تسيرون في طريقنا. ستتفتت الأسر الكبيرة، وتنتشر دور المسنين سريعا في بلادكم وتصبح جزءا من مؤسساتكم".

تأملت فيما قالته، وأدركت أن هذا صحيح مع الأسف. نحن نسير في طريقهم. طريق التطور المزعوم، من الأسرة الكبيرة إلى الأسر الصغيرة ثم إلى الفردية الطاغية التي تقضي على روابط العائلة والجوار، وتجعل الناس يجرون في كل الاتجاهات بلا هوادة. لا أحد لديه وقت يخصصه للآخر، وبذلك تنتشر الأمراض النفسية والغربة الاجتماعية والانحلال الأخلاقي. كم هو باهظ ثمن التقدم والتطور.

- 81 -

دق جرس الهاتف ثلاث مرات بين الثامنة والتاسعة. في المرة الأولى هتفت مونيك من تمنراست، لتطمئن على جانين. أحضرت لها الهاتف وتحدثتا معا. وفي المرة الثانية سأل الطبيب عن صحتها فشكرته. أما في المرة الثالثة فطلب المتكلم بلهجة استعلائية التحدث مع جانين. سألته عن اسمه، قال: "جاك" فتكهربت. همست جانين: "أخبره أني تعبة وسأكلمه فيما بعد". فرحت بجوابها ونقلت الرسالة. سألني: "من أنت؟"

ـ "أبلغت جانين رسالتك، وأبلغتك رسالتها، ولا يهم من أكون!".

أغلق الهاتف بوقاحة. كلمت وجدي لأطمئن عليه فوجدته مشغولا بزيارة زملائه المصريين. سررت بذلك، وقلت: "لعله يتسلى عما حدث له مع فايزة".

اتصل جاك من جديد بعد نصف ساعة محذرا: "إذا لم أسمع صوت جانين وأتأكد من وجودها، فسآتي حالا إلى الشقة، فلست مطمئنا إلى من يحدثني".

كلمته جانين، وسمعتها تقول له: «شكرا على اهتمامك وسؤالك، لكني تعبة وسأتصل بك فيما بعد". ثم سمعتها ترد على سؤاله بخبث، وهي تنظر إليّ مبتسمة: "أقضي السهرة مع خطيبي. ألم تسمع أني خطبت. لابد أنك تعرفه جيدا، هو السيد عابد إمام أستاذ اللغة العربية وزميلك في الثانوية".

أخبرتني بعد إنهائها المكالمة أنه صمت طويلا حين سمع اسمي، ثم أجاب ببرود: "مبروك".

قبلتها وعانقتها هاتفا: "ما أسعدني بك يا حبيبتي". ولأنني أكره جاك شعرت بفرحة التشفي منه إلى درجة خجلت معها من نفسي.

كان المطر ينزل على دفعات يعقبه صحو مؤقت. بعد العشاء جلسنا جلسة العشاق، وسمعنا أغاني حبنا من جديد. أحسست أن جانين بدأت تستعيد صحتها، وبدأ وجهها يشرق وتتفتح وروده. في الثانية عشرة ليلا سمعنا طلقات المدافع وصفارات البواخر تعلن نهاية عام وبداية آخر، فأطفأنا الأضواء، وأشعلنا الشموع، وظللنا نثرثر ونتسامر احتفالا بالسنة التي تشهد بدايتها تطور حبنا. وفي الثانية والنصف بدأ النعاس يغزو عيني جانين، فتركتها تنام وانسحبت إلى غرفة مونيك.

- 82 -

حدثتني جانين عندما كنا نثرثر في مواضيع شتى، لا يجمعها جامع عن مونيك. قالت لي: "إنها امرأة رائعة ولكنها موسوسة بالنظافة. هناك امرأة تأتي كل سبت لتنظف البيت، لكن مونيك تنظف غرفتها وغرفة المطبخ كل يوم. تفرك الجدران وتصقل البلاط، وتنظف الأواني كلما أمكنها ذلك. دخلت إلى غرفتها المواجهة لغرفة جانين وأضأت النور. غرفتها أقل أناقة من غرفة جانين ولكنها أنظف. كل شيء يبرق وكل لون يلمع فيها. ربما تنقصه لمسة الذوق والفن، ولكنه يلمع. الجدران عارية إلا من لوحة وحيدة لجانين، ولكنها تلمع. واللوحة مشهد طبيعي من بيزانسون عرضت في المركز الثقافي. الرفوف الخشبية وقوالب الآجر عادية كما هي، ليست مغلفة، والكتب فيها قليلة، ولكنها تلمع، ولا أثر للغبار عليها. أشفقت أن أنام على السرير وعلى الملاءات من كثرة بياضها. لا تشم في الغرفة إلا رائحة واحدة، هي رائحة النظافة في الملاءات والملابس وفي بلاط الأرض والجدران. رائحة النظافة القوية والجميلة، ولكنها رائحة الأشياء دائما. ليس فيها رائحة الإنسان بطيبها أو خبثها.

قالت لي جانين: "إن مونيك طباخة حاذقة، وممرضة ماهرة، ومدبرة بيت حكيمة". وأنا متأكد أنها مربية أولاد من الطراز الأول. ورفيقة أنيسة ممتازة، تسعد من يتزوجها، إن كان واقعيا مثلها وتسعد به. ولكنها تشقي الفنان وتشقى معه، لأنها لا تستطيع أن تشطح معه بخيالها، فخيالها موثق بالأرض ليس له أجنحة، ولا يمكنه التحليق. ومع ذلك فهي منسجمة مع جانين أشد الانسجام يكمل كل منهما الآخر، ففي الصداقة ليس من الضروري تماثل الأذواق والطباع.

تغير عليّ السرير، فبقيت أتقلب حتى الصباح. تصفحت أعداد مجلة "الباري ماتش" التي وجدتها على مكتب مونيك. لم أستطع النوم إلا حوالي الخامسة صباحا، وظللت هكذا حتى العاشرة حين أيقظتني جانين بقبلات طبعتها على فمي وخدودي وجبيني، هامسة بعذوبة: "أيها الممرض الكسول، قم واستلم عملك. ألم تتعهد لمونيك أن تعتني بي وترعاني. تجاوزت الساعة العاشرة فأين الفطور والدواء؟"

رأيت جانين لأول مرة في الثوب البوسعادي الذي أهديته لها، ولم أكن أدري أنه بهذا الجمال حتى رأيته عليها. قصرته وأصلحته فأصبح فوق الركبة، وبدت فيه فائقة الجاذبية. كان مزاجها رائقا، ووجهها نضرا. لم تبق فيه إلاّ آثار ذبول قليلة لا تلحظ من جهة العينين. سألتني حينما رأتني أنظر إلى الثوب: "هل تراني بوسعادية أصلية؟"

أجبتها ضاحكا: "البوسعاديات لا يلبسن أثوابا فوق الركبة".

 قالت مازحة: "أنا مستعدة أن أطيله نصف سنتمتر من أجلك، ولكن لا تطمع في أكثر من ذلك". ثم أضافت: "إياك أن تضايقني وإلا شكوتك إلى أميرك". قلت لها باستغراب: "أميري! قالت مؤكدة: "نعم أميرك، تعال معي". أخذتني إلى غرفتها ووقفنا بجانب النافذة قالت وهي تشير إلى تمثال الأمير عبد القادر في الساحة: "أليس هذا أميرك؟"

ـ "بلى أميري، وأمير كل الجزائريين"

ـ "قرأت عنه وعن شهامته وفروسيته، وأحيانا أستيقظ في الليل فأقف في الشرفة أحادثه وأحاوره. وحين يكون الطقس باردا، أكلمه من وراء النافذة. وقد شكوتك إليه في تلك الليلة المشؤومة. الأمير هو الوحيد الذي رأى دموعي ليلتها، حين اتهمني حبيبي الظالم".

ـ "أما أنا فقد اختلطت دموعي بالمطر في تلك الليلة، وغسلت شوارع الجزائر. كنت غبيا فاعذريني. وعلى كل حال الأمير أميري في السياسة، وأنت أميرتي في الحب ولا حاجة لأن تشتكيني إليه. مريني بما تريدين وستجدينني طوع أمرك".

خرجت واشتريت الخبز و"الكرواسان"، ثم تناولنا الفطور وأعطيتها الدواء. قادتني بعد ذلك إلى غرفة جانب الحمام، تستعملها كمرسم. رأيت لوحة جديدة لم تتم بعد، للأمير عبد القادر على حصانه كما تراه جانين من شرفتها. كانت ملامح الرجولة والشهامة والفروسية واضحة في اللوحة. قالت جانين: "هذه اللوحة لك، ولكني سأعرضها في بيزانسون في الصيف قبل أن أعطيها لك".

قضينا يومي الاثنين والثلاثاء وحدنا، وما يلزمنا من الطعام موجود في البيت. كأن شقتها جزيرة للحب معزولة عن الدنيا كلها، وعن العالم وهمومه. ما عشته معها في هذه الأيام يفوق أقصى ما يتصوره المحبون، ولكنها مرت سراعا كما تمر الأحلام.

وصلت مونيك في الساعة العاشرة من مساء الثلاثاء. قالت لتطمئن على جانين وأنا آخذ منها الحقيبة: "هل كان ممرضك في المستوى المطلوب؟"

ـ "نعم كان ممرضا ممتازا، يتمنى المريض ألا يشفى سريعا ليتمتع بخدماته".

ودعتهما وخرجت، وانتهت بذلك عطلة العمر.

- 83 -

وجدت عند عودتي نور شقة وجدي مضاء فذهبت إليه. وجدت عنده "عصام" الذي عاد مساء اليوم من تونس حيث قضى عطلة ممتعة مع زوجته لطيفة وابنهما. أحضر لي ولوجدي الملوخية المسحوقة، والحلاوة الشامية. أما وجدي فلبث يذهب كل يوم إلى المركز الثقافي المصري، صباحا ومساء لعله يرى فايزة. لم يستطع أن يسأل عنها في دارها حتى لا يحرجها ويعقد الأمور. وظل قلقا مهموما منشغل الفكر عليها. لم يستفد من العطلة مثلنا ومثل زملائه من المصريين والعرب في التجول داخل الجزائر أو الذهاب إلى المغرب أو تونس أو أوربا، فتحولت عطلته التي خطط لها ليسعد بلقاء فايزة إلى فترة انتظار مضن لحبيبته التي لا تأتي.

كان ممزقا بين حبه لها وشفقته عليها، وبين خوفه من أن تكون هذه الشفقة مدمرة. لم يكن ساذجا فهو يعرف أن الشفقة في بعض الأحيان خطيرة، ووخيمة العواقب. كان يريد منها أن تبذل جهدا في مواجهة خوفها، لأن من لا يساعد نفسه في مواجهة أزمته مهما كان نوعها، فإنه لا يدمرها وحدها، ولكن يدمر كل من يحبه أو يشفق عليه. وبدلا من أن يبذل كل جهده للصعود من الهاوية، يجر معه من يمد يده لإنقاذه منها. ألا يكفي أنها سببت له فضيحة في المركز الثقافي المصري، فأصبح الناس يشيرون إليه ويتغامزون عليه. وظن بعضهم أنه مهووس جنسيا حاول الاعتداء عليها فصرخت. وربطوا بين ذلك وبين قصة بريجيت.

كشف وجدي لي ولعصام عن مشاعره المتناقضة، فهو يلوم نفسه تارة لأنه عرض فايزة لأزمة عنيفة، إذ لم يحسن اختيار الفيلم، ويلومها تارة لأنها لا تثق به وتساعد نفسها وتساعده على اجتياز أزمتها. لم نستطع التعليق أو إسداء النصيحة، فقد كان واعيا بالمشكلة. وفي يده ويد فايزة وحدهما حلها. وأقصى ما استطعنا أن نفعله هو الاستماع بكل جوارحنا إليه، وإبداء تعاطفنا معه، وتأثرنا بما يحدث.

غادرت شقة وجدي في الحادية عشرة والنصف، وراجعت قبل أن أنام دروس الغد التي حضرتها في بداية الأسبوع الأول من العطلة.

           

 لقراءة الجزء التالي انقر هنا: 9- الثلاثي الثاني: مفاجآت ليست في الحسبان أ

لقراءة الجزء السابق انقر هنا: 7- عطلة الشتاء أ

 للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: جرس الدّخول إلى الحصّة

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات