الورقة الأولى

من رواية حب في قاعة التحرير

     للكاتب عبد الله خمّار

 

 أعداء الحب 

 

قال لي المخرج علال قدري وأنا أناوله بطاقتي الصحفية: "شريف الصادق، جريدة الضّياء؟ لم أسمع بهذه الجريدة من قبل!"

- "عددنا العاشر يصدر هذا الأسبوع. وأرجو أن يكون لنا السّبق في الحديث عن أوبريت "أعداء الحب".

فوجئت بقامته القصيرة التي جعلته قزما. قلت له: "سمعت عنك الكثير وعن أعمالك المسرحية".

ويبدو أنه لاحظ اندهاشي وارتباكي حين قدّمه لي أحد عمال القاعة، ولم يبد عليه الامتعاض لأنه اعتاد على ردود الفعل هذه.

أجابني ضاحكا: "تسمع بالمعيدي خير من أنْ تراه".

جلسنا في الصف الأول من قاعة الموقار حيث تجري التدريبات على الأوبريت. كنت قد اتصلت بالمخرج وأخذت موعدا معه بعد أن سمعت عن الاستعدادات لتقديم هذه الأوبريت الغنائية الراقصة.

سألني: "هل جريدتكم يومية؟"

- "بل أسبوعية متنوعة. وهي تهتم كثيرا بالأنشطة الثقافية والفنية".

- "سيبدأ عرض الفصل الأول بعد دقائق فابق هنا".

وقبل أن يغادر مكانه إلى المسرح سألته: "هل تسمح بالتصوير؟ سأتصل بالجريدة لإرسال المصورة؟"

- "ليس اليوم. ولكن لدي صور عن التدريبات السابقة، يمكن أن أزودك بها".

- "والحديث؟"

- "انتظرني بعد العرض".

لم يكن هذا عملي الأول في الصحافة، فقد عملت في صحفيتين يوميتين خلال السنتين الماضيتين، أولاهما أغلقت أبوابها بعد ستة أشهر، والثانية لم تستمر سوى أربعة أشهر. نظرت حولي إلى الجدران المطلية حديثا بلون السماء وإلى الكراسي المريحة المنجدة بالأزرق والستائر الزرقاء والقرمزية البديعة. تجددت قاعة "الموقار" عدة مرات منذ عرفتها. ولكنها رغم تغيير الفرش والديكور بقيت كما هي، أنيسة قريبة من القلب. هي قاعة سينما ومسرح عادية  ليس فيها ما يميزها عن غيرها سوى خفة الظل، والأماكن كالناس هناك ما نعشقه من أول نظرة، وهناك ما يبقى موحشا ثقيل الظل بالنسبة لنا.

ربما أحببت هذه القاعة لارتباطها في ذهني بأنشطة الطفولة، حيث كنت أحضر حفلات "حديدوان"  و"ماما مسعودة" و"الساحر العجيب"، وغيرها من الأنشطة المشوقة.

 *

سمع صوت دقات ثلاث من وراء الستار، وتلاه صوت أجش يعلن: "أوبريت أعداء الحب. الفصل الأول".

كنت وحدي في الصف الأول، وكان ثلاثة عمال تقنيين جالسين في القاعة الكبيرة. عزفت الفرقة الموسيقية الموجودة في أسفل المسرح على اليمين لحنا هادئا مريحا ورفع الستار أثناءه عن فتاة جميلة في حلة بيضاء سلطت عليها بقعة ضوء، ووراءها وعلى جانبي المسرح ديكور يمثل البحر والجبال والتلال والصحراء بألوان اختلط فيها الأزرق بالأخضر والأصفر والأحمر في تموج وتدرج بديعين. أنشدت الفتاة بصوت أوبرالي وبلحن بسيط أقرب إلى الحديث منه إلى الغناء:

"أسـطورهْ كـانت أسـطورهْ      تتحدث  عنها المعـمورهْ

أسطورهْ عن جزر في الشّمس     تسمّى  الجزر المنصورهْ

أضحت مثـلا بعد  جـهـاد     هزم  المستعمر  وشرورهْ

وتساقى أهـلوهـا زمـنـًا      من خمرة  حبٍّ معصورهْ

وعـيون العـالم  أجمعـها      بتلاحـمهم هي مبهـورهْ

كانت مفاجأة لي أن أتعرف على الفتاة ذات الردّاء الأبيض، والصوت الملائكي العذب. إنها "راضية" بشحمها ولحمها، بطولها الفارع الأنيق ووجهها المستدير الجذاب وعينيها العسليتين. درست معها في المرحلة الثانوية ثلاث سنوات وحصلنا على الشهادة الثانوية معا. كانت تربطنا علاقة قوية حتى أصبحت مستودع أسرارها وأصبحت مستودع أسراري. كان كل منا يعرف عن الآخر كل شيء تقريبا. كنت أحس باستلطافها لي، وتحس باستلطافي لها، وبدأ حبها يتسلل إلى قلبي. وكدت أصارحها بحبي لولا ظهور خاتم الخطبة في يدها في سنة البكالوريا. تراجعت عواطف الحب وتركت مكانها لخيبة الأمل. ولكن الأمور بيننا لم تكن وصلت لنقطة اللاعودة. لعقت جرحي وانسحبت في هدوء ولم أظهر لها تصريحا أو تلميحا ما يدل على صدمتي لخطبتها المفاجئة.

انقطعت أخبارها عني منذ تزوجت بدبلوماسي يعمل في وزارة الخارجية. سمعت أنها أنجبت توأما وسافرت مع زوجها إلى الخارج.

انطفأت بقعة الضوء واختفت الفتاة، وتغيرت الموسيقى لتصبح إيقاعية خفيفة. أضيء المسرح، ودخلت على أنغام الموسيقى مجموعة مكونة من عشرين شابا وشابة، كل زوجين يلبسان ثيابا فلكلورية تمثل مناطق الجزر المختلفة وهم يرقصون ويتحركون على المسرح ذات اليمين وذات الشمال في خطوات منسجمة متناسقة متناغمة، وقد تداخلت ألوان حللهم الجميلة لتتغير في كل مرة فترسم شكلا جديدا.

انتهت الرقصة وانطفأت الأضواء. عزفت الفرقة الموسيقية التي يرتدي أفرادها ثيابا موحدة تقليدية عبارة عن سروال أبيض وسترة خضراء وشاشية حمراء على الرأس موسيقى هادئة.

ظهرت بقعة الضوء من جديد وبرز من خلالها شاب من الجهة اليمنى للمسرح يلبس ثيابا زرقاء ويحمل كاميرا صغيرة ويلتقط صوراً للديكور على اليمين والشمال. تدخل من الجهة اليسرى الفتاة ذات الرداء الأبيض يستوقفها الشاب:

            الشاب: "نعمتِ صباحاً"

             الفتاة:                    "بل ظهراً     فنحن الآن في الظهْرِ

أهـلاً بكَ في بـلـد تِـنـا      أأمُرْ فأنا رَهْنُ الأمرِ"

            الشاب:    "إني صحفيٌّ جوّالْ       جئت لجزر  المنصورهْ

                         لأعاين فيها الأحوالْ      وأسجّل عنها صـورهْ"

الفتاة: "ما اسم صحيفتك الورقيةْ؟"

- "الأقلامُ الذهبيَّهْ".

- "يوميَّه؟"

- "بل أسبوعيّهْ".

- "حزبيّه؟"

- "ليست حزبيّهْ".

- "مأجورهْ؟"

- "لا. بل وطنيَّهْ".

- "من أين لها الميزانيّهْ؟"

- "لم أفهم"!

- "من يدفع مالَ "الأقلامْ؟"

- "لا أدري والكذبُ حرامْ".

تسأله باستغراب:

"لا تسأل عمّن "رَسْمَلها"       أيدي الأشراف أم الدونيّهْ؟

لا تسأل عمّن رسَمَ لها          خطّ الأحرار أو التبعيّهْ؟"

- "لا تنسيْ أنّي صحفيْ          ولست ملاكاً علويّا

لكنَّ ضميري المهنيْ            حيٌّ ما أبقى حيّا

أما التمويل فأعفيني          هذا أمرٌ لا يعنيني"

- "هذي ساحتنا المشهورهْ     فتجوّل وخذ الصّورهْ"

تتابع الفتاة طريقها، ويضاء المسرح من جديد، وتظهر مجموعة من النساء والرجال في حللهم الجميلة.

 يخاطب الصحفي المجموعة:

"إني صحفيٌّ محترفُ         الصدق شعاريَ والشرفُ

بالموضوعيةِ أتَّصِفُ         لا زورَ وزيفَ لما أصِفُ"

مجموعة الشابات:

"أهلاً بصديق الأمم ِ         يامَنْ يتسلحُ بالقلم ِ

ليدافع عن أسْمى القيم "ِ

مجموعة الشباب:

"ويكافحُ من أجل الإنسانْ     أوباءَ الظلمةِ والطغيانْ"       

في كل زمانٍ و مكانْ".

كان الفصل الأول من الأوبريت يصور التكاتف والتلاحم بين أبناء الجزر مما أثار إعجاب الصحفي الذي يسألهم:

الصحفي: "وما الذي يجمعكم؟"

تنشد المجموعة: "الحبُّ الحبْ"

يكتب الصحفي في دفتر الجواب: "الحبُّ الحب".

تواصل المجموعة:

"بالحب نعيش أعزّ حياةْ  وبه نتحصّن للأزماتْ".

مجموعة الشاب:  

"نتحد معا             جسدا قويا واحدا".

مجموعة الشابات:

"نبني وطنا              حرا عزيزا ماجدا".

مجموعة الشباب:

"الحبُّ ضياء علويْ       والحـب سلوك يوميْ"

مجموعة الشابات:

"الحبُّ كفاح وتعاونْ     والحبُّ سماحٌ وتضامنْ"

يكتب الصحفي العبارتين الأخيرتين في دفتره.

مجموعة الشباب:             "الحبُّ لنا     يعني الوطنا 

                                 يعني العملا    يعني الأملا"

مجموعة الشابات:           "حبُّ الخير ِ   حبُّ الغير ِ 

                                 حبُّ الناس ِ    والأجناس ِ"

يردد الصحفي العبارة الأخيرة وهو يكتبها  في دفتره.

تكرر المجموعة المقطع الأخير ثم تنسحب إلى جانب المسرح الأيسر، وينطفئ الضوء المسلط عليها.

تتغير الموسيقى فتصبح مثيرة رهيبة. تتجه بقعة الضوء إلى الجانب الأيمن من المسرح حيث تدخل مجموعة الشياطين الأربعة يلبسون عباءات سوداء وعلى وجوههم أقنعة مخيفة متشابهة. يبقى الصحفي في زاوية يراقب دخولهم وذراع كل واحد منهم في ذراع الآخر وهم ينشدون  بصوت أجش مهيب:

"ها نحن شياطين الإنْس ِ        جئنا للفتنة والدسّ ِ

نمشي في دعوةِ إبليسْ       ونحيلُ الحلمَ كوابيسْ

أعداءُ الألفة والسلمِ ِ     أنصارُ البغضا  والظلم ِ"

يترك كل منهم ذراع الآخر ويتقدمون واحداً واحداً:

الأول:             "ويلٌ للحب".

الثاني:                               "تعساً للسلم".

الثالث:            "ونعم للكره".

الرابع:                             "وأجل للظلم".

يعودون للاتحاد من جديد يكررون نشيدهم من جديد وهم يتحركون على المسرح.

يسألهم الصحفي:    "من أنتم؟"

الشيطان الأول:                    "بل قل: "من أنت؟"

الصحفي: "أنا صحفي جوّالْ".

الشيطان الأول:         "هيّا، اهربْ، غادرْ في الحالْ! "

الشيطان الثاني: "فستجري في الجزر الأهوالْ!"

الشيطان الثالث :         "وحيـاتك في خطر ٍ قتّالْ!"

الشيطان الرابع : "وستخطفُ حتماً أو تغتالْ!"

الشياطين معا:         "هيا سافرْ غادر في الحالْ".

يدفعه الشياطين إلى خارج المسرح ويكررون نشيدهم وهم خارجون. تخفت الموسيقى قليلا قليلا. يعود الصحفي من جديد وهو يضحك ويخاطب الجمهور:

"الأمر مزاحٌ لا جدُّ     واللعبة شيّقة تبدو

ثلة شبّـان ٍ مجانينْ      لبسوا أقنعة الشياطينْ".

 ينظر إلى الساعة ثم يتابع:

"سأعجل حتماً بالسفر ِ       لا خبرَ مثيرٌ في الجزر ِ

فـالحبُّ مقيمٌ  للأبدِ              للولـدِ وحـفيدِ الولدِ

لا أثرَ لكرهٍ أو حسدِ            فوداعاً يا أبهـى بلدِ

سأزور أقاليماً  أخرى          ملأى بالأحداث  الكبرى

ثوراتٌ حربٌ إعصارْ          فهواء الصحفيِّ الأخبارْ"

يخرج الصحفي ويغلق الستار.

 *

حضر إليَّ علال بعد إغلاق  الستار مباشرة وسألني: "ما رأيك؟"

أجبته بحماس: "رائع. وأنا متشوق لرؤية بقية الفصول". سألته عن مؤلف الأوبريت. أطرق قليلا وقال بلهجة حزينة: "الشاعر المرحوم كامل الحر".

  - "رحمه الله. فجعنا الإرهابيون به منذ أعوام؟"

- «نعم. رحمه الله. ولكنه لم يتم كتابة الأوبريت. كتب ثلاثة فصول قبل استشهاده وأهداها لضحايا الإرهاب، فكان ضحية أخرى له. قررت أن أبدأ تمرينات الفصول الثلاثة ريثما أجد شاعرا جيدا يستطيع وضع نهاية صالحة لها".

- "ومتى أستطيع رؤية بقية المسرحية؟"

- "الخميس القادم في نفس الموعد سترى الفصل الثاني".

قطعت حديثنا الفتاة ذات الرداء الأبيض التي وقفت أمامنا فجأة وانحنت على المخرج راجية: "هل يمكن أن تقدمني إلى الصحافة؟".

بدا التناقض واضحا بين طولها الفارع وقصره الشديد وبين بياضها الناصع وسمرته القاتمة. فوجئ علال بهذا الطلب وبدت الدهشة واضحة في وجهه الطفولي، لكن دهشته زالت حين وقفت مرحبا بها:

- "راضية! كانت مفاجأة سعيدة لي أن أراك بعد هذه السنوات الطويلة".

ضحك المخرج وعلق: "أنتما متعارفان إذن. تعجبت لأن راضية تتهرب دائما من الصحافة، وتطلب مني الآن أن أعرفها بصحفي".

قالت راضية: "شريف من أعز أصدقائي. كنا ندرس معا في ثانوية المقراني، ونجلس في طاولة واحدة مدة ثلاث سنوات، وهو من أطيب الناس".

قاطعها علال قائلا بخبث: "احذري! أنت تعرفينه تلميذا. وهو الآن صحفي، والمهن تغير طباع أصحابها".

قلت له: "أنت معبأ ضد الصحافة إذن. لا بد أن هناك سببا؟"

- "بل أسباب لا مجال لذكرها الآن، هيّا اقبلا دعوتي على الغداء وسنتحدث في موضوع الأوبريت".

قالت راضية: "سأغير ملابسي وآتي إليكم. أعطوني خمس دقائق".

قال علال: "بل نصف ساعة، ولكن دون زيادة فخمس دقائق المرأة ربما تصل إلى الساعة  والساعتين". وضحكنا. 

 *

كان المطعم الذي دخلناه في الشارع المواجه لقاعة "الموقار" والصاعد إلى البريد المركزي غاصا بالزبائن. لكننا وجدنا طاولة محجوزة في انتظارنا. لم تمض على جلوسنا دقيقتان حتى دق جرس هاتف علال المحمول. ابتعد عنا قليلا ثم عاد متوترا، وقد تغير وجهه قائلا: "زوجتي نقلت إلى المستشفى. إنه أول مولود لنا. خذوا راحتكم واطلبوا ما تشاؤون. سأوصي صاحب المطعم بالعناية بكم. أعتذر لأنني لن أتمكن من الغداء معكم، لا تحاولوا دفع الحساب فهو مدفوع".

- "والحديث؟"

- "راضية ستعطيك بعض المعلومات عن الملحن وفرقة التمثيل، وسنلتقي في الخميس القادم".

قالت راضية: "أرجو أن تقوم زوجتك بالسلامة، وأن نقول مبروك".

بقيت وجهاً لوجه مع راضية. قالت لي حين رأتني أتأملها: "أعتذر عن هذا اللباس فلم أعرف أني سألتقي بك ونتغدى معا. إنه اللباس الذي أرتديه عادة للعمل".

كان عبارة عن ثوب كاكي بأكمام طويلة وفوقه جاكيت صوفي بني".

- "وأنا أيضا أرتدي ثيابا عادية جدا. متى كنا نحرص على الرسميات؟".

- "أولا بدلتك أنيقة وتبدو فيها وسيما كما عهدتك، لم تتغير".

       - "وأنت أيضا جميلة جدا وأرى أنك تغيرت نحو الأحسن".

احمر وجهها قليلا ثم تابعت: "ثانيا مسألة اللباس مهمة حين تلتقي ممثلة بصحفي".

جاء النادل وطلب كلانا طبق اليوم حتى نخفف تكلفة الغداء على المخرج. سألتها: "ما آخر أخبارك؟"

- "تسألني كصحفي أم صديق؟"

- "أعرف أنك تزوجت دبلوماسيا وأنجبت توأما وسافرت معه إلى إحدى سفاراتنا في الخارج. هذا كل ما أعرفه".

- "أنت تعرف جزءاً من أخباري، وما أخبارك أنت؟"

- "تخرجت من معهد الإعلام، وبقيت سنوات دون عمل، وعملت منذ سنتين أعمالا متقطعة في الصحافة، وفي العام الماضي فتحت مع صديق لي ناديا للأنترنت نتناوب على العمل فيه".

- "ولكنك قدمت نفسك اليوم كصحفي؟"

- "نعم أعمل ثلاثة أيام في محل الأنترنت، وثلاثة أيام في الجريدة، فالصحافة وحدها لا تطعم خبزا. واليوم الخميس هو عطلتي الأسبوعية، ولحسن حظي أني حضرت إلى المسرح لألتقي بك. هذه أخباري فما آخر أخبارك؟"

- "هل تدري أن فكرة الاتصال بك راودتني منذ مدة. ولكني عدلت كي لا أتطفل عليك وعلى.."، وترددت قليلا ثم أكملت: "وعلى زوجتك".

- "لم أتزوج".

تساءلت بدهشة: "وبسمة؟! ألم تكونا مخطوبيْن؟"

صعدت الدموع إلى عيني لذكرى بسمة. قلت وأنا أحاول مغالبة الدموع بصوت يفضحه البكاء: "مرّت الآن سبعة أعوام على موتها في الحافلة التي فجرها الإرهابيون قرب مركز الصحافة. ألم تسمعي بذلك أو تقرئي في الصحف؟"

أجابت بحزن ظاهر: "كنت في الخارج ولم أسمع بذلك أبدا".

كانت بسمة في الثانية والعشرين تتوثب حيوية ونشاطا وبهاء، كانت كاسمها بسمة حقا. كنت أنظر إليها بالساعات دون أن أمل من التأمل في حسنها، وأنا حائر فيما تخبئه تلك العينان الخضراوان، وماذا يدور في ذلك الرأس الصغير الوديع. كانت أحلامها كبيرة، ولكنها كانت تحجز لي الحيز الأكبر في أحلامها، إلى جانب أسرتها ووطنها. فجأة قتل الإرهابيون حلمها وحطموا حلمي.

رفع النادل طبقي الحساء ووضع طبقي اللحم والخضرة، فأيقظني من شرودي. اعتذرت راضية قائلة: " رحمها الله أنا آسفة لأني ذكرتك بهذه الحادثة الأليمة".

خيم جو من الحزن والأسى على الجلسة، وباءت محاولاتنا في تغيير مجرى الحديث بالفشل فأكملنا الغداء في صمت تتخلله عبارات معدودة وسطحية عن الطعام وجو المطعم. ودعتني بعدها وانصرفت بعد أن أخذت عنوان المحل الذي أعمل فيه وأرقام الهاتف في المنزل والمحل والصحيفة. لم نتحدث عن المسرحية ولا عن الملّحن والفرقة.

 *

ركبت عربة التلفريك الصاعدة من شارع بلوزداد إلى حي المدنيّة في اتجاه الدار. وفي الساعة الثامنة تماما وصلت إلى الزنقة الضيقة المغلقة التي يتصدرها منزلنا. وجدت سيارة أخي على كتف الزنقة فعرفت أن أمي حضرت معه من سطيف في إحدى زياراتها التفقدية الفصلية للاطمئنان على أحوالي وأحوال الدار. سرى في جسمي تيار دافق من البهجة والبشر والدفء، ليس لأني سأنعم بلقمة طريّة وأضمن نظافة البيت، فأخي يقطن في شارع قريب في الحي نفسه وزوجة أخي تشرف كل أسبوع مع عاملتها على تنظيف الدار، وترسل لي باستمرار أطباقا من طعامها اللذيذ. ولكنني أشعر ككل طفل بسعادة لا حدّ لها بقرب أمي، ويزداد نشاطي وقدرتي على الإنتاج.

كانت خارجة للتو من الحمام فجلست أنتظرها مع أخي الحسين حتى تغير ملابسها. أخبرني بأنه لم يمكث هذه المرة كثيرا في سطيف وبأن زيارته كانت لتزويد متجرنا هناك ببضاعة من العاصمة وجلب بضاعة من هناك لمتجرنا هنا. وحين سألته عن أبي أجاب بأن معنوياته تحسنت كثيرا وبأن القروض تسدد شيئا فشيئا.

قالت لي معاتبة بلهجتها المستغانمية الحلوة وأنا أعانقها وأقبل يديها: "متى أطمئن عليك وأستريح من عناء رحلات الشتاء والصيف؟ ألم تقرر الزواج بعد يهديك الله؟"

شممت وأنا أعانقها الرائحة المحببة التي اعتدت عليها منذ صغري، رائحة بشرتها السمراء الحنطية النظيفة ممزوجة بنكهة صابونها المعطر. قلت لها مبتسما: "وهل لديك عروس؟"    

-      "إن كنت جادا فالعرائس كثيرات".

تأملت بشغف وجهها المستدير الذي رأت عيني الدنيا والمرأة ومعايير الجمال من خلاله، وشعرها الناعم المحنّى الذي برزت خصلة منه خارج المنديل فغطت أذنها اليسرى الصغيرة. وعينيها السوداوين اللامعتين، وشفتيها اللتين طالما طبعتا على جبيني ووجهي وفمي في الصغر أعذب القبلات. لم تتغير كثيرا. ربما ليست جميلة الجميلات بمقياس هذا العصر الذي يعتبر النحافة المفرطة عنوان الرشاقة، لأنها بدينة بعض الشيء ولكنها معتدلة الطول، مرحة وخفيفة الظل، في منتصف الخمسينات وتبدو وكأنها في بداية الأربعينات، وقد زادتها الجبة "السطايفية" الزرقاء نضرة وبهاء. لا يمكن أن تصدق أنها جدة لخمسة أطفال هم أولاد أخي وأختي.

ودعنا أخي وانصرف إلى داره، وجلست أستمتع بحديث أمي وأسمع منها أخبار أبي وأختي دليلة المتزوجة هناك وزوجها وأولادها.

جلست إلى الكومبيوتر بعد العشاء بعد أن نامت أمي لأرقن التعليق الذي كتبته عن الجزء الأول من الأوبريت للزاوية التي أعدها للجريدة في صفحتين بالاشتراك مع زميلي سامي العسل بعنوان "هموم ثقافية". ويقدم كل منا ما يكتبه للأستاذ عبد الحفيظ سكرتير التحرير. ثم راجعت زاوية التسلية التي أعدها كل أسبوع بعنوان: "تعال نتسلى"، وتتضمن ركن الكلمات المتقاطعة وتعريفات لاذعة وأقوال مرحة عن الحب والزواج والمرأة والرجل والمجتمع والسعادة والصحافة وغيرها مما أستخرجه من قواميس وموسوعات الاستشهادات في الأنترنت، بالإضافة إلى طرف من الغرب والشرق يزين بعضها سليمان برسومه الكاريكاتيرية.

 *

 يوم الجمعة هو يوم الاجتماعات بالنسبة إلي. ففي الصباح ألتقي مع شريكي بوعلام في محل الأنترنت، ثم أتوجه إلى الجريدة لأستعد لاجتماع المساء الأسبوعي. وصلت قبل موعد التاسعة بقليل فوجدت المحل مفتوحا، وبوعلام منشغل مع زبونة صبية، قال لي مبررا فتح المحل قبل الموعد: "وجدت هذه الفتاة تنتظر بفارغ الصبر فلم أرد أن أتركها في الشارع".

قدمت له الإيراد وجدولا ببعض المشاكل والأعطال في الأجهزة. بوعلام مهندس صيانة يتولى إصلاح الأجهزة بنفسه في أوقات مناوبته ويحضر للدراسات العليا وهو الذي يدفع الأقساط للبنك ويحسب الأرباح، وقد اتفقنا على ذلك منذ البداية فهو يقدر ظروفي، وأنا أقدر ظروفه، وأثق به ويثق بي والشراكة تحتاج إلى ثقة، ويساعد كل منا الآخر بالقدر الذي يستطيع لإنجاح هذه الشراكة.

طلبت الزبونة المساعدة فذهب بوعلام ومكث بضع دقائق ثم عاد، أخبرني بأنها تلعب لعبة "سوليتير" لتمضية الوقت، ولكنها تشتكي من أن الأوراق لم تفتح لها ولو لمرة واحدة. وأجابها إن هذه اللعبة تعتمد على الحظ.

أحسست فجأة برعدة تسري في جسمي، وكدت أقول له: "إياك أن تلعب بك هذه الفتاة، كما لعبت بي "زازا"، وما هذه اللعبة إلا مقدمة وطعم لاصطياد الضحية". ولكنني تمالكت نفسي فربما تكون هذه الفتاة بريئة، فليست كل الفتيات زازا. هي حالة خاصة وشاذة. وتابعت الحديث عن العمل معه، وقبل أن أخرج من المحل وقع نظري على الفتاة المنشغلة بلعبة "سوليتير"، وتذكرت من جديد "زازا".

كان ذلك قبل عام تقريبا، حين دخلت إلى هذا المحل وجلست إلى جهاز الكومبيوتر. تعودت على مجيئها فهي تأتي منذ عشرة أيام وأحس أحيانا أنها تراقبني عن كثب. هادئة، محتشمة، ورزينة وفي أوائل العشرينات. أشارت إلي بعد ساعة فذهبت إليها، كانت تلعب لعبة "سوليتير"، وهي لعبة ورق يلعبها الإنسان وحده فيفتح ورق اللعب حتى تنتهي الأوراق، أو يغلق في وجهه الورق فلا يستطيع إتمام فتحه.

 سألتني: "هل فتحت هذه الأوراق أمام أحد من قبل؟"

أجبتها: "نعم، إنها مرة تفتح ومرة تغلق، هذا هو الورق!"

قالت لي بلهجة يائسة: "ولماذا تغلق في وجهي دائما ؟ لم تفتح لي هذه الأوراق منذ أيام، أي منذ بدأت اللعب".

قلت لها ضاحكا: "سيء الحظ في الورق سعيد الحظ في الحب".

قالت لي ببراءة وقد احمر وجهها: "أحقا ما تقول؟"

-                   "هكذا يقولون".

-                   "يعني إذا صارحت من أحب بحبي فلن يسخر مني".

-                   "ومن الغبي الذي يسخر أمام هذا الجمال؟"

نظرت إلي نظرة حب واستعطاف أصابتني في مقتل. وبدأت أفكر فيها، وحين تأكدتْ أنها صادتني غابت خمسة عشر يوما ثم جاءت من جديد، ورأت لهفتي عليها فأدركت أن الصنارة غمزت.

قلت لها بحرارة وصدق: "قلقت عليك".

-                   "كنت مريضة".

-                   "سلامتك، اشتقت إليك".

-                   "وأنا أيضا". وأمسكت يدي، وبدأت حكايتي معها.

وفي فترة قصيرة لا تتعدى الشهرين أصبحت متمسكا بها وحين عرفت بأنني جاد في حبي وغرضي الزواج، وأردت أن أعرفها بأهلي، اختفت فجأة كما ظهرت. مر شهر على اختفائها، ولم يكن لدي عنوانها أو رقم هاتفها لأتصل بها، وتذكرت فجأة أننا تغدينا مرة في "بيزريا" في شارع ديدوش مراد وأن صاحب البيزريا يعرفها، ذهبت إليه وسألته عنها.

-                   "من؟ زينب"

-                   "بل زازا".

-                   "اسمها الحقيقي زينب".

-                   "أنا قلق عليها فقد اختفت منذ شهر ولا أعرف عنوانها".

-                   "هاهاها، ستجدها في أحد المقاهي القريبة تبحث عن صيد".

قلت له بغضب: "لا تلوث سمعة الفتاة ففي نيتي أن أتزوجها".

-                   "إياك. كنت مثلك مغشوشا فيها ثم اكتشفت أنها عاشقة ملالة، ولا ترغب في الزواج بل بقضاء وقت ممتع. وحين اكتشفت علاقاتها المتعددة هرعت إلى المستشفى لأفحص دمي خوفا من إصابتي بالسيدا. ولحسن الحظ....."

-                   "أنت تمزح".

-                   "تأكد بنفسك، ستجدها بين ذراعي شخص آخر".

 *

توجهت  بعد ذلك إلى مقر الجريدة في الطابق الثالث من عمارة قديمة بشارع علي بو منجل قرب بور سعيد مزدحمة بمكاتب المحامين والأطباء والإدارات. كدت أعثر وأنا داخل بشيخ مستلق على الأرض قرب المدخل وقد تلحف بغطاء  صوفي شبه مهترئ. وضعت في يده قطعة نقود هي كل ما استطعت أن أفعله من أجله وأنا أعرف أنها لن تسد جوعه أو تحميه من البرد. كان الجزء الأيمن من الطابق الثاني مشتركا بين جريدتنا بالعربية وجريدة "صوت المواطن" بالفرنسية. كلا الصحيفتين أسبوعيتان لهما مدخلان متقابلان، كل منهما يؤدي إلى رواق يقود إلى أربعة غرف عادية على جانبه وقاعة كبيرة في آخره خصصتها جريدتنا للتحرير. كنا متجاورين نعمل في بناء واحد ولم يكن الاختلاف بيننا في اللغة بقدر ما كان اختلافاً في النظرة إلى ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.

 لم أكن أول الداخلين فقد وجدت مكتب صاحبة الجريدة والمديرة المسؤولة السيدة "آسيا" على يمين قاعة التحرير مفتوحا، وقد خرج منه رجل أشيب  ترتسم في وجهه وتطل من عينيه نذر الشر، وهو يدمدم بكلمات سمعت منها: "سترين من أنا" و  "سنتواجه في المحكمة". أسرَّ لي العم صالح البواب حين سألته:

 "هذا أخو زوج آسيا يطالب بميراث أخيه".

أعمل معها منذ شهور ولا أعرف عنها إلا أنها كانت صحفية في وكالة الأنباء الجزائرية. أبوها كان كتبيّا في تلمسان. تحسن العربية والفرنسية والإنجليزية. استقالت من وكالة الأنباء وأسست هذه الجريدة، وتعمل معها ابنتها سماح المختصة في المحاسبة كنائبة لها في الإدارة. هي مديرة حازمة تعرف كيف تجعل الصحفي يبذل جهدا يساوي ما يتقاضاه من أجر بل يفوقه في أغلب الأحيان. وهي رغم حزمها لطيفة في تعاملها مع الجميع تعكس لطف التلمسانيين ودماثتهم.

لم تكن تعرفني وقد رشحني لها الأستاذ عبد الحفيظ العامري سكرتير التحرير، وهو صحفي  قديم عمل منذ الاستقلال في صحف ومجلات عديدة تابعة للقطاع العام بدءا بجريدة الشعب ثم بمجلتي ألوان والثقافة. وأصدر بعد تحرير الصحافة جريدة مستقلة مع بعض زملائه القدامى باسم "رأي الناس". وقد لاقت قبولا حسنا لدى الرأي العام، ولكنها لم تستمر رغم جودتها فقد منع عنها الإشهار، ولم تستطع أن تتكفل بالتوزيع وتراكمت عليها الديون. فالصحيفة استثمار وعليها أن تنجح اقتصاديا قبل أن تنجح إعلاميا، وإلا لم يكتب لها الاستمرار. أعرف عبد الحفيظ ابن حيّنا "المدنيّة" منذ كنت تلميذا. وحين انتسبت إلى معهد الإعلام بعد البكالوريا، كنت أستشيره في البحوث التي أنجزها. ونشأت بيننا علاقة مهنية كنت أنا المستفيد فيها من تجاربه وخبرته.

 *

سمعت صوت رئيسة التحرير تتحدث مع عبد الحفيظ فمكتباهما متجاوران في الجهة اليسرى من الرواق. السيدة زبيدة مثقفة مزدوجة اللغة إعلامية حائزة على أعلى الشهادات من الجامعات الفرنسية. امرأة متحررة متمسكة بمعايير المجتمع الأوروبي. لا تعترف بالخطوط الحمراء التي لا يجوز تجاوزها احتراما لقيم مجتمعنا. ليست غبية ولا سيئة أخلاقيا، ولكنها اعتادت حياة الحرية التامة، وهي تعتبر احترام أي معيار قيدا للحرية. كانت محررة في جريدة "صوت المواطن"، وكانت تأمل أن تكون جريدتنا نسخة معربة عنها، لكن آسيا لم ترض أن تلتزم الجريدة بالخط الذي اقترحته.

 *

قبل أن أدخل إلى قاعة التحرير دعاني عبد الحفيظ إلى مكتبه. عدل نظارته عدة مرات وحك رأسه الأصلع. استنتجت أنه يريد أن ينقل لي خبرا سيئا. خلع سترته البنية ووضعها على علاقة خشبية موضوعة بجانب المكتب. فك ربطة العنق قبل أن يخبرني بأن "سماح" مخرجة الجريدة حذفت جزءا من المقابلة التي أجريتها مع أحد الشعراء الجزائريين المرموقين لهذا العدد. اخترت في الحقيقة أن أضع مع المقابلة قصيدة جميلة له من ستة عشرا بيتا حذفت سماح نصفها بحجة أن القصيدة العمودية طويلة تفسد شكل الصفحة. اكتشفت من خلال الاجتماعات السابقة أنها تهتم بالشكل على حساب المضمون، بل هي لا تهتم بالمضمون أبدا. أعتقد أنها لا تقرأ ما يكتب في الجريدة  ولا يهمها أن تقرأ. كل ما يهمها جمال الجريدة حجماً وتبويباً وزوايا وخطوطاً وألواناً. وهي لذلك تعمل مقصها فتختار الحجم المناسب. لا مكان عندها للمقالات الطويلة أو التحقيقات المستفيضة أو القصائد الشبيهة  بالمعلقات، والقصص الشبيهة بالروايات، فهي تعلق دائما بقولها: "هذه صحيفة وليست مجلة أدبية".

شعرت بحرج عبد الحفيظ لأن الحذف من اختصاصه وليس من اختصاصها فسكت على مضض.

سماح متكبرة تتكلم باستعلاء مع الناس أو هكذا كنت أشعر. وأنا بطبعي لا أحب المتكبرين وإذا استطعت حذفت وجودهم من قاموس حياتي. كانت حين تدخل إلى قاعة التحرير، يرحب بها بعض الصحفيين ويتقربون منها لأنها ابنة المديرة، أما أنا فأتجاهلها وأتشاغل بالكتابة أو القراءة. كنت أحس أنها تنظر إلي خلسة، واليوم زاد نفوري منها وتمنيت أن أستطيع أن أرد لها الصفعة في يوم من الأيام.

 *

ربّما عليّ أن أوضح هذه النقطة حتى لا أتهم بفساد الذوق أو انعدام النظر، فسماح في الحقيقة  ليست جميلة فحسب ولكنها فائقة الجمال ولا ينفر من الجمال إلا عديم النظر. أول ما عرفت سماح حين دخلت الجريدة لأول مرة، رأيتها في الرواق تتكلم في الهاتف المحمول بالفرنسية. تساءلت: "ما الذي جاء بهذه الشقراء الفرنسية البارعة الجمال ذات العينين الزرقاوين الواسعتين إلى جريدة معرّبة؟"

كانت تبتسم ابتسامة عذبة دافئة، وهي المرة الوحيدة التي رأيتها تبتسم. تسمرت كالمسحور في مكاني وأنا أنظر إليها. لم يحدث هذا معي من قبل. أحسست بهزة في كياني كله، برعشة لم أحس بها في حياتي. جمال الدنيا وبهجتها وروعتها وسحرها تجسّدت في هذه المرأة. نسيت نفسي وتربيتي التي تمنعني من التنصّت على الناس. لكنني لم أكن أتنصت، فما سمعت أو فهمت شيئاً. كانت حواسي كلها مبهورة مخدّرة. كنت أنظر إليها ببلاهة المعجب المشدوه مستمتعاً بالنظر إليها كما يستمتع الإنسان برؤية حديقة بالغة التنسيق والجمال تضم أبدع الزهور أو بمنظر طبيعي خارق. سرحت بعيداً وأنا أقول لنفسي: "لو أنني أجد امرأة بهذا الجمال لوهبتها عمري كله". لكنني طردت هذا الخاطر من ذهني حين كلمتني بتلك اللهجة المتعالية وأيقظتني من حلم جميل حولته بلهجتها العنيفة إلى كابوس. صاحت: "من أنت؟ وماذا تريد؟"

كانت تتحدث بمزيج من العربية والفرنسية فعرفت أنها جزائرية. أجبتها: "أنا أعمل هنا".

قالت مصعدة من لهجتها: "ماذا تعمل هنا؟"

- أعمل محرراً".

- "وهل هذا يعطيك الحق في التنصّت على الآخرين؟"

- "لم أكن أقصد..".

قاطعتني بغلظة: "ألم تكن تنظر إليّ كل هذا الوقت وتستمع إلى مكالمتي؟ اذهب إلى عملك والزم أدبك".

لم يتكلم أحد معي من قبل بمثل هذه اللهجة. لم أضع نفسي من قبل في شبهة فما الذي حدث لي؟ قاتل الله الجمال ما أبدعه وما أفظعه! هل يصدر هذا الكلام حقاً من تلك الجميلة.

عرفت فيما بعد أنها ابنة صاحبة الجريدة ومخرجتها ورغم أنها مهندسة كمبيوتر فلديها اهتمام بإعداد الصفحات والإخراج الصحفي، وهي أيضا نائبة المديرة ومحاسبة الجريدة وتلمسانية من بلد الزيانيين. لكن مكتبها في الطابق الثالث مع بقية موظفي الإدارة والمحاسبة.

كانت دائما متحفظة في تعاملها معنا، لا تبتسم في وجه أحد، ولا تجامل أحدا. كنت أتمنى أن تكون أكثر رقة حتى نستمتع بصحبتها، فالجمال لا يؤكل ولا يشرب، ولكنه ينشر حوله نورا يضيء الأرواح ووهجا يدفئ القلوب، وما لم يكن الجمال الخارجي يستمد وهجه وإشعاعه من الجمال الداخلي فهو تمثال من جليد، داخله خواء، لا يبهج ولا يدفئ. نقبل كبرياء الجمال في غير مجال العمل، أما في علاقات العمل فالناس متساوون ولا حقّ لأحدهم في الاستعلاء على الآخر.

 *

وجدت في قاعة التحرير كرمين المحررة الفنية ذات الشعر الأحمر والثياب الملفتة للنظر بألوانها الفاقعة. سلمت عليها بحرارة فبيننا استلطاف متبادل. سمراء خفيفة الظل شعرها أسود قاتم ولكنها صبغته بالأحمر وسرحته بشكل دوائر صغيرة كالخواتم. ثيابها لوحة فنية سريالية فهي تلبس اليوم سروالا نصفه بلون أزرق سماوي ونصفه بلون أخضر زيتي، وقميصا وربطة عنق ضخمة جدا، وحذاء بكعب عال كأنها تمشي فوق كرسي. كان لباسها في كل مرة لوحة فنية جديدة وكذلك لون شعرها المتغير باستمرار. وتلبس أحيانا سترة بكم طويل وكم قصير وقرطين؛ واحدة كبيرة وواحدة صغيرة. ليس في لباسها ما يخدش الحياء، ولكن ما يخدش الجمال أحيانا أو لنقل معايير الجمال الكلاسيكية بالنسبة لأمثالي. اسمها كريمة ولكنها معروفة باسم "كرمين". هي بنت القصبة وتفخر علينا دائما بأنها عاصمية أصيلة أبا عن جد. تأتي أحياناً بالكراكو والسروال العاصميين فتوفق بين اللباس التقليدي والموضة.

خرجنا بعد أن رتبنا أوراقنا لاجتماع المساء توجهنا إلى "الميلك بار" لتناول القهوة. لا أدري لم أخفيت عنها خبر أوبريت "أعداء الحب". اشتكت من قلة النشاط الفني في بلادنا، فنادرا ما تعرض مسرحية وأندر منه أن ينتج فيلم جزائري، وبرامج التلفزة أكثرها مستوردة مع وجود فنانين جزائريين أكفاء في مختلف المجالات.

كانت تتحدث بيديها ووجهها ورأسها وكتفيها وكلها، وكأن فيها فيضا من الطاقة الفنية لا يمكنها التحكم فيه. تحس أحيانا أنها ولد لا بنت، وتحس أحيانا بأنوثتها الطاغية حين ترميك بنظرة4 من عينيها المكحولتين بكحل ربّاني وتهمس لك بدلال: "بعض أصدقائي ينادونني "كارمن" ولكن نادني "كرمين" فأنا أحب هذا الاسم".

تجهم وجهها فجأة ومطت شفتيها قائلة: "بخيل".

سألتها مندهشاً: "من؟ أنا؟"

- "انظر إليه. إنه هناك. لم يدعني مرة واحدة إلى كأس عصير أو فنجان قهوة!"

كان زميلنا الصحفي "شاكر" يعبر الطريق دون أن يرانا. ضحكت من تعليقها ولم أتعجب فهي الصحفية المشاغبة الوحيدة في جريدتنا التي لا ينجو من تعليقاتها اللاذعة أحد.

 *

وجدنا معظم المحررين قد سبقونا إلى قاعة التحرير، وجلسوا في أماكنهم المعتادة على طرفي الطاولة الكبيرة. يخصص اجتماع الرابعة مساء من كل يوم جمعة لوضع آخر اللمسات على العدد قبل إرساله إلى المطبعة. صحفيو الجريدة لا يلتقون إلا وقت الاجتماعات حيث نتحلق حول الطاولة الكبيرة، أما الأوقات الأخرى فكل منا يناوب فيها ثلاثة أيام في الأسبوع. وباقي العمل يتم في المنزل أو خارج المؤسسة. عمي صالح الحاجب رتب الكراسي. هو في الخامسة والأربعين سرح من إحدى الشركات العامة بعد إفلاسها وإغلاقها. منظم ونظيف وأمين تساعده زوجته في تنظيف مقر الجريدة مرتين في الأسبوع .

وضعت أجهزة الحاسوب الأربعة على طاولتين في الزاوية اليمنى الداخلية للقاعة. كل الصحفيين يكتبون على الحاسوب. والمواضيع تقدم مكتوبة خلال الأسبوع على الأقراص المرنة إلى "سكرتير التحرير" الذي يقوم بإعداد الصفحات بإشراف رئيسة التحرير والمديرة، ثم يأتي دور المخرجة "سماح" التي تعمل مقصها في المواضيع لتنسجم مع حجم الصفحات وحجم الجريدة.

جدران القاعة المطلية باللون الأصفر الفاتح تحمل صور الصحفيين الجزائريين الذين استشهدوا بسبب آرائهم وذهبوا ضحية الإرهاب. طاقم جريدتنا كقوس قزح  يضم مختلف الأعمار من الجنسين، ومختلف الاتجاهات والألوان السياسية. ومن الطبيعي أن يكون الاختلاف أيضا في الثقافة والحِرَفِيَّة والقيم والطباع والأمزجة. ليس للجريدة لون حزبي أو عقائدي فصاحبة الجريدة ومديرتها لا تمانع في وجود اتجاهات مختلفة تصب كلها في خط الجريدة وهو الإعلام ونشر المعرفة والتوعية والمحبة بين أبناء الوطن كما يدل عنوانها "الضياء". هي تريد أن تكون الجريدة في عهد التعددية منبرا للديمقراطية ومثالا لها في أرقى أشكالها.

 *

في صحيفتنا ست نساء يمثلن الجنس اللطيف أفضل تمثيل بقوامهن وجمالهن وألوان بشرتهن وأزيائهن وطباعهن وأمزجتهن. السيدتان هما المديرة "آسيا" ورئيسة التحرير "زبيدة"، والآنسات هنّ "سماح" ابنة المديرة ومخرجة الجريدة و"كريمة" المحررة الفنية و"مسعودة" المحررة الاجتماعية و"حفيظة" المصوّرة.

حين يحضرن جميعاً اجتماع مساء الجمعة تتحول قاعة التحرير إلى مهرجان للجمال وعرض للأزياء الوطنية والأجنبية بألوانها الزاهية المشرقة والدّاكنة، والأحذية الجلدية الفاخرة الجزائرية والإيطالية والفرنسية وحقائب اليد الكبيرة والصغيرة من كل المقاسات والأحجام والأنواع والألوان. وتفوح روائح العطور المستوردة والمحلية، الغالية والعادية وينتشر عبيرها في الهواء الذي نتنفسه فينشط بعض الأذهان ويخدّر بعضها ويزيد من نبضات قلوب الرجال.

كلهن يتنافسن في الرشاقة باستثناء رئيسة التحرير "زبيدة" فهي بدينة وقصيرة، ترتدي وهي في الخمسين آخر صيحات الأزياء الباريسية المعدة أصلاً لبنات العشرين الرشيقات. ورغم أني لا أوافق "كرمين" في وصفها لها بأنها "برميل حشر حشراً في كيس أو "شكارة" يتحرك بصعوبة بالطول بدل أن يتدحرج على الأرض"، فأنا أحب الأشخاص البدينين لظرفهم وخفة ظلهم. لكن رئيسة التحرير ثقيلة الظل لا تجد فيها مرح البدينات وخفتهن فهي دائمة العبوس بوجهها المرشوم بالنمش وشعرها الأحمر البالغ القصر.  هي لا تعرف المزاح ولا تحس بأي عاطفة لديها، كأنها لا تحب ولا تكره، لا تضحك ولا تغضب، بل تغضب أحيانا ولكن هدوءها أكثر إثارة للأعصاب من غضبها.

وكلهن يتنافسن في اللباس عدا "مسعودة" محررة الصفحة الاجتماعية التي ترتدي منذ عرفناها "جلابة" رمادية واحدة ووشاحاً من اللون نفسه يغطي معظم شعرها الحريري الأسود، وحذاء وحيداً أسود. تسميها كرمين "الراهبة البوذية". وتضيف: "لو أن معرض الأزياء المتنقل ـ وهي تقصد "سماح" ـ تتكرم بعشر ملابسها على "مسعودة" لتحقق توازن الهندام في الجريدة". أما المصورة حفيظة فهي أنيقة بثيابها التي تشبه ثياب الباكستانيين، سروال طويل، وفوقه ثوب قصير باللون الأزرق السماوي، وغطاء للرأس من نفس النوع. حجاب من النوع العصري.  

ومن الطبيعي أن يتأنق الرجال في حضرة النساء. أحرص دائماً على هندامي قدر الإمكان دون أن أبالغ مثل سامي شريكي في الصفحة الثقافية الذي يأتي كل أسبوع في بدلة جديدة وحذاء جديد وعطر أخـّاذ هو آخر صيحة في عالم العطور الرجالية. أو أبدو مثل "شاكر" محرر الصفحة الاجتماعية الذي لم نره إلا ببدلة زيتية وحيدة منذ اكتحلت أعيننا برؤيته.

 *

جلست في المقعد الرابع من جانب الطاولة الأيمن. كانت على يميني كريمة وعلى يساري شاكر، ويواجه كل منا في الجانب الآخر من الطاولة شريكه في الصفحة؛ سمير يواجه كريمة وسامي يواجهني، ومسعودة تقابل "شاكر"، ثم يأتي "سليمان" رسام الكاريكاتير تقابله حفيظة مصورة الجريدة.

دخل عبد الحفيظ ومعه "ساطع عبد الحسين" العراقي  المحرر في الصفحة السياسية العربية والدولية فجلسا في المقعد الأول والثاني تقابلهما سماح مخرجة الجريدة وعبد الرزاق الشعال صاحب التحقيقات الساخنة. كانت المديرة ورئيسة التحرير آخر من دخل. جلستا في الصدر. اكتمل النصاب أقصد المحررين المداومين، فهناك محررون يكتبون من خارج الجريدة، وهناك محررون مراسلون لا أعرفهم إلا بأسمائهم.

الطقس جميل فنحن في بداية شهر مارس الذي يحمل بشائر الربيع. أزيحت الستارة البنية وفتح باب النافذة العريضة المؤدية إلى الشرفة وبدأت نسائم المساء ترطب القاعة.

 

 

 لقراءة الفصل التالي انقر هنا:  الورقة الثانية: سحر الحبر الأسود

للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: حبٌّ في قاعة التحرير

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات