الفصل الخامس

من رواية "القاضية والملياردير"

للكاتب عبد الله خمّار

 

 

الخيط الخامس: الموعد المنتظر

-53-

بدأ قلب سوسن يخفق بالحب وللحب منذ بداية سن المراهقة فأحبت في السادسة عشرة من عمرها أستاذ الرياضيات في الثانوية وكان شابا وسيما سرعان ما تزوج في منتصف السنة، وكانت الصدمة شديدة عليها. ولكن رعاية ماما زهرا وبابا عزوز لها وإحاطتها بالحنان والكتب والموسيقى خفف عنها الصدمة.

أما في الجامعة فقد تعلق قلبها في السنة الأولى بمعيد في معهد الحقوق اسمه زهير الصواف اهتم بها ولمست منه حبا ورعاية واعترف لها بحبه وبنية الزواج منها، فتحت قلبها له وأعلمته بأنها مجهولة النسب فابتعد عنها وأخذ يتحاشاها، واكتشفت فيما بعد أنه اقترب منها لأنها كانت ترتدي الثياب الغالية الأنيقة التي يشتريها السيد مصباح لها، وتصل إلى الجامعة في سيارة فخمة يقودها بابا عزوز. كانت صدمتها كبيرة في من وثقت به فخان ثقتها واكتشفت انتهازيته. ومن حسن الحظ أن ذلك حدث في نهاية العام وقد انتقلت إلى السنة الثانية فلم تعد تراه ولكنها بدأت تبتعد عن الشباب وتكتم عواطفها لتحتفظ بسرها لنفسها، فلا يمكن أن تصارحهم بأنها فتاة مجهولة النسب.

أدركت أن الزواج هو علاقة بين الأسر وليس بين الأفراد ومن الضروري أن يعرف من أحبته وأحبها أسرتها ويقابل أباها وأمها. وحين حصلت على الليسانس بتفوق وشجعها مصباح على تحضير الماجستير اختارت موضوع حقوق الطفل اليتيم في الجزائر. وعزمت على أن تحدد في بواعث الرسالة والأسباب التي دفعتها إلى اختيار هذا الموضوع أن تعلن على الملأ أنها مجهولة النسب فلا تريد أن تخفي سرها إلى الأبد، ولكنها تريد أن تعلنه بربطه بحقوقها وحقوق كل من يماثلها من اليتامى. تريد أن تعلنه وهي قوية يعترف المجتمع بشهادتها وعلمها لتكون في موقف قوة لا ضعف وهي تطلب المساواة بين الأطفال في حقوق الغذاء والكساء والتعلم واللعب والسكن والأسرة والأمن .

 لكن قلبها اليوم بدأ رغما عنها يخفق من جديد. من المؤكد أن هذا الرجل الذي رأت شهامته بعينها ولمستها بنفسها، لن يخيب أملها، ولن تصدم به كما صدمت بزهير الصواف.

 -54-

لم تنم سوسن في تلك الليلة والليلة التي تلتها إلا لماما. تساءلت: "لماذا يريد أن يراها؟"

وسرعان ما قفز إلى ذهنها الجواب المناسب الذي أصبح لديها في حكم اليقين. لا بد أن الأطفال نقلوا إليه إعجابهم بها فأراد أن يراها ويتعرف إليها. لذلك عليها أن تسعى ألا تخيب أمله عند رؤيتها والتحدث إليها، بل أن يزيد إعجابه بها بعد أن يقابلها. ظلت تنتظر اليوم الموعود الذي ستلقى فيه فاتح. أي ثوب يا ترى ترتديه عند اللقاء؟ كانت كل ليلة تدك رأسها في خزانة ثيابها وتستعرض أثوابها الصيفية، ثم ترتدي المناسب منها واحدا واحدا وتقف أمام المرآة لتحاول أن ترى نفسها بعين فاتح وتختار منها ما تراه الأجمل وتتردد متسائلة:

" هل الثوب الوردي يلائم بشرتي أكثر أم البنفسجي؟ وهل أبدو أجمل بالياقة المفتوحة أم بالياقة الكلاسيكية". وتمضي هكذا في ارتداء ونزع ثيابها وتساؤلها أمام المرآة معظم الليل. وحين تأوي إلى فراشها تستكمل ما بقي من الليل في تخيل لقائها مع فاتح وترتب في ذهنها العبارات التي تنوي قولها له لتترك في نفسه انطباعا مبهرا شبيها بالانطباع الذي تركه في نفسها. لكنها ما تفتأ تعدل هذه العبارات فتزيد فيها وتنقص منها ولا تنام إلا بعد بزوغ الفجر. كانت تنوي أن تعبر له عن إعجابها الصادق بروايته فتقول مثلا: " إنها رواية رائعة ومثيرة. حين بدأتها لم أستطع تركها حتى أكملتها في ليلة واحدة". وتنوي أيضا أن تبدي له إعجابها بشهامته:

"يالك من فارس شهم. تابعتك مع كل الموجودين في شاطئ زرالدة وأنت تنقذ تلك الفتاة من الغرق".

لن تتطرق بالطبع إلى التفاصيل وتعرفه بهوية الفتاة وأن ما فعلته مجرد تمثيلية. لا بد أن تشير أيضا إلى اهتمامه باليتامى: "أنا سعيدة بوجود صحفيين مثلك يهتمون باليتامى ويزورون مراكزهم".

ذهبت يوم الخميس إلى صالون الحلاقة الذي لم تكن تزوره إلا في المناسبات والأعياد، واحتارت وحيرت الحلاقة  في اختيار أجمل تسريحة تناسبها.

-55-

حانت اللحظة السعيدة يوم الجمعة. كانت ترتدي ثوبها الحريري الأبيض الذي تبدو فيه عروسا جديدة تبتسم للدنيا فتبتسم لها الدنيا. جاء فاتح ومعه مصورة. أوصلهما الأطفال إليها. سلم عليها ثم قدم نفسه وزميلته إليها:

"أنا فاتح الطيب صحفي بجريدة العدالة، وهذه زميلتي المصورة نصيرة".

- "تشرفنا".

 سألها بلطف: "هل نستطيع التقاط الصور؟"

تورد وجهها خجلا وهزت رأسها بالإيجاب. بدأت المصورة نصيرة تلتقط صورا لها من كل الجهات. كانت في منتهى السعادة فقالت معترضة: "أنا لست مهمة لهذه الدرجة. صوروا مديرة المركز والمشرفات على الأطفال".

أجابها فاتح: " لكن المسألة لا تتعلق بالمركز بل بك شخصيا".

ردت مندهشة: " أنا! وما دخلي أنا؟"

تردد فاتح قليلا ثم أردف مستفهما: "هل تسمحين لي أن أدخل في الموضوع مباشرة؟"

أجابت سوسن بنفاد صبر: "نعم، أرجوك".

فجّر فاتح قنبلته سائلا: " هل صحيح أنك ابنة غير شرعية لمصباح قلب الحديد؟"

لم تكن تتوقع ولا يمكن لأحد في مكانها أن يتوقع مثل هذا السؤال. وممّنْ؟ ممّنْ تعتبره الفارس الشهم والروائي المبدع. نقلها السؤال من قمة السعادة إلى قمة التعاسة. أحست برغبة في البكاء وكادت أن تنهار، لكنها استجمعت شجاعتها وتصدت له سائلة بسخرية: "هل أردت مقابلتي من أجل هذا؟"

-  نعم. إذا لم يكن لديك مانع.

ردت بحدة: "لكن ما تقوله ليس صحيحا. ماتت أمي في المستشفى بعد ولادتي مباشرة ونقلت إلى المركز، وتولى السيد مصباح رعايتي وأنا في العاشرة من عمري".

-  وأبوك هل تعرفين من هو؟

أجابته وقد احمرت عيناها العسليتان، وبدأ ضباب أحمر يكسو وجهها الأبيض، والكلمات تخرج من فمها رشا ودراكا: "لا أعرف للأسف، ولكنه ليس السيد مصباح. أنا متأكدة. ثم إنك فاجأتني وصورتني وتريد أن تستغل حكايتي للهجوم على السيد مصباح، ولا يهمك مصيري كإنسانة. كنت أظن أنك حضرت لإجراء تحقيق عن المركز وعن الأيتام. كنت أظن أنك صحفي إنسان، واكتشفت أنك بلا قلب ولا تهمك مشاعر الآخرين".

أجابها بهدوء: "بالعكس. أردت أن آخذ لك حقك ممن ظلمك".

-  وإذا تأكدت أن من ظلمني ليس السيد مصباح هل ستأخذ حقي منه؟ ربما لا تدري أنني أبحث منذ وعيت على الدنيا عن عائلتي ولكن دون جدوى.

تردد قليلا ثم تمتم: "اعذريني لم أكن أقصد إزعاجك. ولكن انظري إلى الأمر نظرة واقعية. أليس من الممكن أن يكون السيد مصباح هو والدك؟ أليس هذا احتمالا ممكنا لا يجب إغفاله؟"

أجابته بجفاء: "إذا كنت تريد استخدامي في الهجوم على السيد مصباح فلن أسكت وسوف أقاضيك في المحاكم بتهمة القذف. السيد مصباح أكثر من أب بالنسبة لي، ولن أسمح لك بتلويث اسمه بسببي".

ثم أردفت بسخرية وهي تدير ظهرها له وللمصورة: "تشرفت بمعرفتكما".

كان الأطفال ينتظرونها بشوق ليسمعوا بقية حكاية الخالة صابرة، وكان سامر قد رسم صور الشخصيات كما تخيلها من وصف سوسن لها: عرمط بقبحه وضخامة جسمه، وقافز المكار بضآلة جسمه وكبر رأسه، وملهوف الأكال باتساع فمه وبروز كرشه. لكن سوسن لم تكن في حالة تسمح لها بالحديث مع أي كان. سارت بعصبية نحو سيارتها فركبتها وانطلقت مسرعة نحو مخرج المركز متجهة إلى الشراقة. كانت فكرتان مسيطرتان تتزاحمان في رأسها، وما إن تستسلم لواحدة حتى تجد الأخرى تطل برأسها محاولة أن تكون لها الأولوية. أما الفكرة الأولى فهي أن السيد مصباح يمكن أن يكون أباها وهو احتمال قوي يدعمه اختيارها بالذات من بين كل بنات المركز ليرعاها. وما يؤكد هذا الاحتمال أنه بحث عنها وانتشلها من بين براثن علجية. صحيح أنه بحث عنها متأخرا بعد أن بلغت العاشرة وربما يرجع ذلك لندمه أو لصحوة ضميره. أما الفكرة الثانية فهي أنها فقدت الأمل في حب فاتح. لم تكن تحلم بالزواج منه لأنها بلا نسب، ولكنها كانت تمني نفسها بحبه. والمحب لا يفكر في المستقبل، فكل ما يهمه هو الحاضر.

وما إن وصلت إلى الشقة حتى دخلت إلى غرفتها وانفجرت بالبكاء. كانت ماما زهرا في المطبخ وسمعت صوت فتح الباب ثم إغلاقه فبحثت عن سوسن ووجدتها في غرفتها. أحست من زينتها وإشراقها وتوهجها في الصباح بأنها على موعد وأن الحب بدأ يغزو قلبها من جديد ودعت في سرها أن ينعم الله عليها بشاب مستقيم يحبها ويحميها ويعوضها حنان الأم والأب وينسيها تجربتها الأولى الفاشلة في الحب، ولكن ها هي تعود حزينة محبطة وعيناها تفيضان بالدموع.

عانقتها ماما زهرا وضمتها إلى صدرها قائلة: " لا تبكي يا ابنتي فليس هناك من يستحق أن تذرفي من أجله هذه الدموع الغالية".

-56-

عادت الذكرى بماما زهرا إلى اليوم الذي حملت فيه القابلة نادية الطفلة الوليدة سوسن إلى مركز رعاية الأيتام في البليدة في انتظار أن تستردها أمها التي ولـّدتها في العاصمة، والتي هي في مستشفى مصطفى وبعد أيام ماتت الأم دون أن يعرف أحد عن أبي الطفلة شيئا سوى ما ذكرته الأم للقابلة بأن اسمه محمد أمين.

كانت ماما زهرا هي المكلفة بها فأحبتها وولعت بها. وفي السنة الأولى من عمرها، تبنتها الحاجة حبيبة وزوجها الحاج شريف. كانا يشتهيان الولد ولم ينجبا فسعدا بالطفلة فأحباها وأدخلاها الحضانة ثم المدرسة ودللاها بالطعام والألعاب حتى كادت أن تصبح بدينة. كانت ماما زهرا تزورها كلما اشتاقت إليها. ولكن شريف زوج الحاجة حبيبة مات بالسرطان وهي في سن الخامسة. وحين بلغت السابعة مرضت الحاجة حبيبة وماتت تاركة سوسن وحيدة، وأوصت أخاها محجوب بها، فنقلها إلى داره وأساءت زوجته علجية معاملتها وأخرجتها من المدرسة وجعلتها خادمة لها ولزوجها وأولادها.

تزوجت ماما زهرا في تلك الأثناء وانقطعت أخبار الطفلة عنها، وطلقها أهل زوجها منه لأنها لا تنجب فعادت للعمل في الملجأ فعرفت بموت الحاجة حبيبة. عرفت أن علجية أخرجت سوسن من المدرسة وعاملتها كخادمة، ولم تسمح لها برؤيتها. أعلمت مديرة المركز لكن المركز كان يعاني من مشاكل في أواخر الثمانينات كمعظم المؤسسات نتيجة لعدم الاستقرار السياسي فلم يستطع التدخل. ومن حسن حظ الطفلة أن السيد مصباح استطاع أن ينتشلها بالقوة من محجوب وزوجته علجية وهددهما بالسجن لأنهما أساءا معاملة الطفلة وحرماها من التعليم.

كانت ماما زهرا تتساءل منذ كلفها مصباح برعاية سوسن والإشراف على تربيتها عن دوافعه في ذلك. لم تقتنع بما قاله لها عن رغبته في رعاية طفلة يتيمة فقد عرفت أنه بحث عن هذه الطفلة بالذات وكان عمرها عشر سنوات واتصل بدار رعاية الأيتام التي استردت الطفلة من محجوب وعلجية بمساعدة عزوز. لو كان مصباح يريد رعاية طفلة يتيمة لما بحث عن هذه الطفلة بالذات، بل لتوجه إلى دار رعاية الأيتام وتكفل بتربية أحد الأطفال الموجودين هناك.

خمنت أن هذه الطفلة لا بد أن تكون ابنته التي أنكرها في البداية ولا شك أنه ندم بعد ذلك فبحث عنها وتولى العناية بها والاهتمام بتعليمها. كلفها بالسهر عليها وكلف عزوز بتلبية احتياجاتها واحتياجات مربيتها. وحين رأى تعلق زهرا وعزوز بها شجعهما على الزواج واشترى شقة محترمة لعزوز ليعيشا مع الطفلة فيها، وأشرف على تعليمها وخصص لها أساتذة بالعربية والفرنسية والإنجليزية خلال مراحل دراستها ووفر لها القصص والكتب والألعاب حتى تخرجت من كلية الحقوق واشترى لها سكنا وسيارة بعد حصولها على الليسانس، ووظفها عنده وظيفة تسمح لها بمتابعة دراستها العليا وهي تحضر الآن الماجستير.  

 من المؤكد أنه لا يستطيع تقديمها لزوجته وعائلته ولا أن يعترف بأبوته لها، ولكنها تحس بأنه ينتظر الفرصة المناسبة ليعلن للطفلة وللناس أن سوسن ابنته. فاتحت ماما زهرا زوجها عزوز مرارا بما كان يجول في خاطرها وكانت تسأله إن كانت سوسن ابنة مصباح، لكنه كان يؤكد لها دائما بأنه لا يعرف شيئا عن هذا الموضوع .

لا شك أن كل ما فعله مصباح لسوسن لم يكن ليؤتي أكله لو لم تحطها زهرا وعزوز بحبهما الكبير والصادق فقد أصبحت ابنتهما فعلا. وتتذكر ماما زهرا باستغراب أن سوسن لا ترى مصباح إلا في عيدي الفطر والأضحى حيث تذهب مع بابا عزوز إلى داره لتهنئته بالعيد فيعطيها مبلغا من المال دون أن يعانقها أو يقبلها. وحتى في عيد ميلادها يرسل لها هدية ثمينة وباقة من الورود البيضاء دون أن تراه.

-57-

كانت الساعة الثامنة والنصف من صباح الغد حين خرجت سوسن من باب العمارة متجهة إلى سيارتها فوجدت أمامها فاتح. حياها بلطف قائلا وهو يشير إلى مظروف في يده: " صباح الخير. معي أمانة لك وأرجو أن تقبلي اعتذاري".

ترددت سوسن وسألته: "ما هذا؟"

-  الصور التي التقطناها بالأمس ولن ننشر شيئا منها.

أخذت منه الصور مجيبة بلهجة جافة: "شكرا لك".

واستدارت لتتوجه إلى سيارتها فقال لها: "لم أكن أعرف بأن لك كل هذه الشعبية في المركز. قضيت النهار بطوله هناك أجري تحقيقا عن المركز والكل كانوا يتحدثون عنك".

-  لم تقل لي بأنك تنجز تحقيقا عن المركز.

-  عملت بنصيحتك فحولت التحقيق عنك إلى المركز فهل توافقين في إجراء حديث عن نشاطك في المركز.

-  لا مانع لدي إذا كان التحقيق فعلا عن المركز. هل يوم الجمعة القادم يناسبك؟

-  ما يناسبك يناسبني. هل تسمحين أن أركب معك إلى العاصمة؟

-  تفضل، ولكن كيف جئت؟

-  جئت في الحافلة فسيارة الجريدة مشغولة. انتظرتك منذ السابعة والنصف حتى أضمن أن أراك عند خروجك.

-  ومن أعطاك العنوان؟

-  أعطوني عنوانك في المركز طبعا.

-  أنا ذاهبة إلى حيدرة. ولكني سأوصلك إلى حيث تريد.

-  سأنزل في ساحة حيدرة فلدي عمل هناك. حدثني الأطفال عن حكاياتك الجميلة. يبدو أنك كاتبة موهوبة.

-  أحب أن أكتب للأطفال قصصا جميلة ومسلية.

لمعت في ذهنها فكرة وأحست بجرأة غير طبيعية تتملكها وأرادت أن ترد له الصاع صاعين، فسألته بخبث: "وأنت. أليس لك نشاط أدبي غير الصحافة؟"

- نعم. أنا أكتب الرواية.

- أنا قارئة مجيدة للروايات ولكني لم أسمع باسمك قبل الآن.

- لأني لم أنشر بعد. كتبت روايتي الأولى وأرجو أن أنشرها قريبا.

- ماذا سميتها؟

- زمن المليارديرات.

تظاهرت سوسن بالتفكير وهي تكرر العنوان: "زمن المليارديرات، زمن المليارديرات! آه. تذكرت. قرأت رواية بهذا الاسم لروائي مصري نسيت اسمه".

سألها بقلق: "هل أنت متأكدة؟"

أجابت بثقة: "طبعا. ولكن ربما يكون هناك تشابه في العنوان. الرواية التي قرأتها تتحدث عن رجل أعمال مصري اسمه صابر الحمال كان أبوه يعمل حمالا في ميناء الاسكندرية. كان اشتراكيا في عهد عبد الناصر ثم رأسماليا في زمن الانفتاح ثم....

قاطعها مندهشا: "إنه بطل روايتي وهي تعالج الموضوع نفسه".

تجاهلت تعليقه وأردفت: " لكن نهاية الرواية لم تعجبني فالكاتب ترك النهاية مفتوحة بحجة الواقعية واعتذر من القراء لأن بطل الرواية لم ينل جزاءه على ما اقترف من أفعال".

سأل بانفعال ظاهر: "أين قرأت هذه الرواية؟"

أجابت بلا مبالاة: " لا أتذكر".

ألح متوسلا: " أرجوك أن تتذكري".

اجابت بنفس لهجة اللامبالاة: "ربما في المكتبة الوطنية. ربما مسلسلة في الأنترنت".

قال وقد قارب أن يخرج عن طوره: "ولكنها نفس روايتي. كيف يمكن هذا. لا بد أن أحدا سرقها وانتحلها لنفسه".

-  اهدأ قليلا. إذا كنت صاحبها فلديك مسودة الرواية بخط يدك، وخبير الخطوط سيؤكد أنك الكاتب.

-  ولكني لا أكتب على الورق بل بالحاسوب.

-  هل لديك أنترنت؟

-  نعم.

-  هذا يفسر كل شيء.

-  يفسر ماذا؟

-  ألا تدري أن ما تكتبه بالحاسوب يمكن أن يسرقه الآخرون ما دمت متصلا بالأنترنت؟

- أرجوك أن تتذكري أين ومتى قرأت هذه الرواية فأنا أعول عليها كثيرا وأريد أن أعرف من سرقها وادعاها لنفسه.

-  هذا إذا افترضنا أنك كاتبها فعلا.

-  ماذا تقولين؟ أتشكين في صدق كلامي؟

-  إذا كانت الرواية نشرت قبل سنوات وأنت تأثرت بها دون أن تدري. هذا احتمال ممكن تماما كاحتمال أن يكون السيد مصباح أبي.

- هكذا. أنت تردين لي الصرف إذا.

كانت السيارة قد وصلت إلى ساحة حيدرة. أوقفت سوسن السيارة ونزع فاتح حزام الأمن استعدادا للنزول. أخرجت سوسن من حقيبتها مظروفا وناولته إياه قائلة: "هذا لك".

- لي أنا.

- نعم.

أراد أن يفتحه فوضعت يدها عليه قائلة: " أنا مستعجلة. اقرأه فيما بعد من فضلك".

انطلقت سوسن بالسيارة نحو مؤسسة مصباح وهي تدرك أن قصتها مع فاتح التي ظنت أنها انتهت بالأمس هي على وشك البداية.

-58-

 مشى فاتح عدة خطوات ثم توقف في آخر صف المنتظرين أمام موقف التاكسي الجماعي المتوجه إلى ساحة أول ماي، حيث يوجد مقر الجريدة في شقة واسعة في الطابق الثاني من إحدى عمارات شارع حسيبة بن بوعلي القريبة من الساحة.

فتح المظروف بلهفة ليعرف ما فيه فوجد نسخة روايته التي أضاعها في شاطئ زرالدة وعاد في ذلك المساء للبحث عنها فوجد الشاطئ مهجورا ولم يجد لها أثرا. فرح كثيرا بها لأنه اهتم وحزن لفقدها رغم أنها موجودة لديه في الحاسوب فقد تعب في تصحيح هذه النسخة وتنقيحها وأتم خاتمتها على الشاطئ في ذلك اليوم. ضحك في سره وقال: "لقد فعلتها سوسن. سخرت مني وأثارت غضبي حتى ظننت فعلا أن روايتي سرقت ونشرت بهذه السرعة رغم أن ذلك لا يمكن أن يصدقه عقل. إنها فعلا شديدة الذكاء، وفوق ذلك فقد قرأت الرواية وفهمت فحواها. أخذ يقلب الصفحات فرأى أوراقا مضافة إلى آخر الرواية. كانت مكتوبة بخط جميل أنيق بالحبر الأخضر تحت عنوان: " خاتمة مقترحة بدلا من الخاتمة الحالية". وكتب تحتها: "الدافع إلى تغيير الخاتمة:

"ليس مقبولا أن ينقل الكاتب الواقع كما هو، وكأنه مصور فوتوغرافي، بل إن المصور الفوتوغرافي الفنان يبرز ذاته وفكره وذوقه ليس من خلال اختياره للصور التي يلتقطها فحسب بل كذلك من خلال الزاوية التي يَرى منها ويُري المشاهدَ كل صورة منها. ليس المطلوب من الكاتب أن يجمّل الواقع ولكن ألا يجعل الباطل والشر والقبح هي القاعدة والحق والخير والجمال هي الاستثناء. وألا يجعل الغلبة للأولى على الثانية في نهاية الرواية".

انزعج من هذا التطفل ولم يقتنع بحجة سوسن وقال مخاطبا إياها وكأنها بقربه: "عندما تكتبين رواية ضعي خاتمتها كما تشائين. هذه روايتي وأنا الذي أضع الخاتمة كما أشاء".

جاء دوره فركب وهو يفكر في سوسن قائلا في نفسه: "ما أجملها وما أذكاها! لكنني أذكى منها. لاشك أنها صدقت أني عدلت عن إجراء تحقيق عنها وعن علاقتها بمصباح. سأغير التكتيك، لكن الخطة لن تتغير. أنا صحفي والحقيقة عندي مقدسة وهي أهم من العواطف".

-59-

نشرت جريدة "الأقلام الحرة" صباح يوم السبت نص العريضة التي وقعها المصلون في مسجد "بيعة الرضوان" ضد جمعية إغاثة الأمهات العزباوات وطالبوا بإغلاقها أو إبعادها عن حيهم. وشن الشيخ طاهر البدوي إمام المسجد هجوما عنيفا عليها، وطلب من وزارة التضامن والأسرة عدم الاعتراف بهذه الجمعية التي تسعى إلى ترسيم الخطيئة، وإضفاء الشرعية عليها. وأعلن أن حد الزانية في الإسلام الجلد لا مكافأتها على خطيئتها وفرضها على المجتمع أما عزباء. ووعد بمقال مطول في الأسبوع القادم يبين فيه الأدلة الشرعية في ضرورة محاسبة القائمين على جمعية الأمهات العزباوات واعتبار رئيستها محرضة على الفساد والانحراف تستحق عقوبة الجلد.

-60-

كتبت السيدة هدى في افتتاحية جريدة العدالة لليوم التالي ردا على مقال طاهر البدوي في جريدة الأقلام الحرة:

" نحن لا نشجع على الانحراف وإحدى مهامنا الأساسية في الجمعية توعية الفتيات حتى لا يقعن في الخطيئة. ولنتساءل: "هل من الأفضل أن نمد يدنا للمخطئات، فننقذهن من مصير مظلم لهن ولأولادهن، أم ندفعهن إلى الإجهاض في الظلام، وإلى الوقوع فريسة لعصابات لا ترحم، تقتل الجنين وتعرض حياتهن إلى الخطر؟ هل من الأفضل أن نفتح باب الأمل للمخطئة أم ندفعها إلى ارتكاب جريمة قتل الطفل بعد ولادته، أو التخلي عنه حيا ورميه في الشارع وحرمانه من أمه وحرمانها منه؟

على الفتاة أن تكون شجاعة وتتحمل تبعة خطيئتها، وعلى المجتمع أن يساعدها على ذلك بدلا من أن يلعنها. نحن لا نشجع على الخطيئة، لكننا لا ندير ظهرنا لها إذا وقعت. الخطيئة مسؤولية اثنين: الشاب والفتاة ولا يجب أن نبرئ الشاب ونُجَرِّمَ الفتاة، كما لا يجب أن نضع المخطئة أمام خيارين صعبين هما قتل الجنين أو التخلي عن الطفل الوليد خوف الفضيحة".

-61-

قالت السكرتيرة للسيدة هدى: "إن فتاة اسمها نوال تود مقابلتها شخصيا، ورفضت أن تتحدث عن مشكلتها أو تملأ استمارة المعلومات. دخلت فتاة نحيلة معتدلة الطول، يبدو أنها قاصر لم تبلغ الثامنة عشرة، طغى شحوبها واصفرارها على لون بشرتها البيضاء. نظرت إلى هدى بعينين عسليتين منكسرتين ثم انحنت على يديها تقبلهما قائلة: "أرجوك ياسيدتي ليس لي بعد الله غيرك. أنا حامل بغير علم أهلي. أنقذيني، أتوسل إليك".

نهضت السيدة هدى وأجلستها على الكرسي مرددة: "اطمئني، اطمئني، ولا تخافي. سنجد حلا لمشكلتك بإذن الله. حدثيني بالتفصيل عن مشكلتك".

جلست هدى وراء مكتبها وفتحت السجل وطلبت منها اسمها وعمرها وأين تسكن وماذا حدث بالضبط؟

أجابت الفتاة: "اسمي نوال وعمري سبع عشرة سنة"، ثم صمتت.سألتها هدى: "أين تسكنين؟"، فلم تجب.

سألتها من جديد: "هل أنت تلميذة؟"، فلم تجب أيضا.

أغلقت هدى السجل وقالت للفتاة: "أنت لجأت إلى جمعيتنا لمساعدتك. أليس كذلك؟"

هزت الفتاة رأسها بالإيجاب.

قالت هدى: "ساعدينا إذاً لنساعدك. لا يجب أن تخفي عنا أي معلومة وإلا لم نستطع مساعدتك. إذا لم تكوني مستعدة للكلام الآن سأدعك تستريحين وتأكلين إذا كنت جائعة ثم تتحدثين إلى إحدى عضوات الجمعية لأنني سأخرج بعد قليل إلى الجريدة".

أجابت بصوت مرتعش: "لا أريد التحدث مع غيرك ياسيدتي".

فتحت هدى السجل وسألتها: "هل أنت مستعدة للحديث الآن؟"

ترددت نوال ثم قالت: "طلبوا مني أن لا أذكر شيئا عمن أعمل عنده ولا عن أهلي".

-                       لا بد أن من طلب منك ذلك هو الذي اعتدى عليك.

ردت الفتاة بحماس: "لا ياسيدتي. أقسم لك ليس هو".

-                       من إذاً؟

ترددت الفتاة ثم قالت: "ابنه".

-                       كم عمر ابنه؟

-                       عشرون عاما.

-                       أكيد أنه وعدك بالزواج فصدقته وسلمت نفسك إليه.

-                       لا ياسيدتي. انتهز فرصة غياب أبويه وزعم أنه خارج ثم عاد واغتصبني. قاومته بشدة لكنه كان أقوى مني، وحين عادت أمه أخبرتها بما حدث فطلبت مني إخفاء الأمر عن أبيه. وبعد مدة اكتشفت أني حامل فأخبرتها فطردتني من المنزل واضطررت لإخبار أبيه.

-                       هل أنت خادمة؟

-                       نعم ياسيدتي، وأنا بعيدة عن أهلي فهم يسكنون في قرية على الحدود الليبية.

-                       عند من تعملين؟ قولي ولا تخافي.

ترددت ثم أجابت: "عند الشيخ طاهر البدوي".

أذهلتها المفاجأة فسقط القلم من يدها. سألت باهتمام: "ومن أرسلك إلى هنا؟" 

-                       هو الذي أرسلني ودلني على العنوان.

أرادت أن تتأكد فسألتها من جديد: "هل الشيخ طاهر البدوي نفسه هو الذي أرسلك إلى هنا؟"

-                       نعم ياسيدتي. حين عرف وتأكد بأني حامل من ابنه عماد الدين أرسلني إلى هنا وأخبرني أنكم ستهتمون بي، لكنه طلب مني أن أكتم أنني أعمل عنده، وأن ابنه هو الذي تسبب في حملي مدة خمسة عشر يوما.

-                       ولماذا هذه المدة؟

-                       قال إنه سيتدبر الأمر ويزوجني بابنه، لكني خائفة لأن أمه طردتني وهددتني.

-                       هكذا إذاً! لا تخافي يا ابنتي. كل شيء سيكون على ما يرام. ستأخذك نصيرة الآن لتستريحي وتدلك على سريرك، وستبقين عندنا حتى الولادة، وسنرى كيف نحل قضيتك. خذي هذه الاستمارة واملئيها إن كنت تحسنين القراءة والكتابة.

تناولت نوال الاستمارة مجيبة: "وصلت إلى الصف الأول الثانوي وكنت متفوقة ولكني انقطعت عن الدراسة لأعيل إخوتي الصغار بعد وفاة أبي ومرض أمي". توقفت قليلا قبل خروجها ثم أضافت: "أرجوك ألا يعلم الشيخ البدوي أنني أخبرتك، فقد وعدته ألا أذكر اسمه واسم ابنه".

قالت هدى في نفسها: "لابد أن يعلم من يرمي الناس بالحجارة بأن بيته من زجاج".

أخبرتها السكرتيرة قبل أن تخرج أن رسائل التهديد قد توقفت هذا الأسبوع وتساءلت: "ربما يكون رجال الأمن استطاعوا الوصول إلى الفاعل". علقت السيدة هدى هامسة لنفسها: "أما أنا فقد عرفت الفاعل. إنه الشيخ البدوي. لقد وقعت ياشيخ، تآمرت مع مصباح الذي حرضك علينا، وفتح لك الجريدة الناطقة باسمه. ومثلما كنت لا ترحم الفتيات الضعيفات ضحايا الخديعة والغدر والاغتصاب وتهاجم بعنف من يقف في صفهن ويفتح لهن باب الأمل، فأنا بدوري سأسقيك من نفس كأس القسوة المرة ولن أرحمك أبدا وسترى". 

-62-

لم يصدر مقال الشيخ طاهر البدوي الذي وعد فيه ببيان الأدلة الشرعية في ضرورة محاسبة القائمين على جمعية الأمهات العزباوات واعتبار رئيستها محرضة على الفساد والانحراف تستحق عقوبة الجلد. واعتذرت الجريدة بمرض الشيخ ورجت له الشفاء العاجل.

-63-

دخلت سوسن إلى العمارة الضخمة التي تضم بكاملها مؤسسة مصباح العملاقة، واتجهت إلى المصعد. حياها عامل المصعد الكهل بابتسامة صادقة، وقال لها: " إلى الطابق السفلي طبعا؟"

-                       بالطبع، هل بابا عزوز هنا.

-                       إنه هنا يا آنسة سوسن.

كانت سوسن تزور بابا عزوز في مكتبه منذ كانت في العاشرة من عمرها، أي منذ أن أنقذها السيد مصباح من براثن علجية وتولت ماما زهرا وعزوز كفالتها وتربيتها. كانت تزوره في البداية عندما كان سكرتيرا لمصباح في مؤسسة صغيرة ثم توسعت المؤسسة وكبرت ولكن منزلة عزوز كانت تتراجع يوما بعد يوم. وحين أصبح السيد مصباح رئيس مجلس إدارة هذه المؤسسة الضخمة ومديرها العام وصاحب أكبر حصة أسهم فيها نقل السيد عزوز إلى الأرشيف برتبة رئيس لمصلحة هو فيها الموظف الوحيد. ربما يكون صحيحا ما قاله أحد المتعاملين القدماء مع مصباح لخلدون، فكثيرون ممن وصلوا إلى أعلى السلم لا يحبون من يذكرهم بماضيهم، ويستغنون عن خدمات من عمل معهم في تلك الفترة. كان عزوز هو الموظف الوحيد الذي يعرف ماضي مصباح الوظيفي كصاحب مكتب لتخليص البضائع، بينما يعرفه الموظفون الجدد كرئيس مجلس إدارة المؤسسة الضخمة ومالك أكبر حصة من أسهمها. كان مصباح رجلا عمليا فهو لم يقطع الصلة بماضيه بل وضعه في الأرشيف، فهو لا يلغيه ولا يريد أن يراه كل يوم، إذ يحتاج إليه أحيانا كما يحتاج أحدنا إلى الأرشيف ليستخرج معلومة منه.

الأرشيف عبارة عن قاعة كبيرة مليئة بالرفوف التي تضم أضابير وملفات الشركة منذ تاسيسها، مع صور عن مراسلات الشركة مع المؤسسات الأخرى الجزائرية والعربية والعالمية. وكان عزوز يستطيع استخراج أي وثيقة منها في ظرف دقائق، فذهنه يعد بمثابة أرشيف إضافي للشركة يعرف كل صغيرة وكبيرة فيها، وهذا ما يجلب له غيرة خلدون وسخطه. وما يزيد من غضبه أن هذا الكهل الأصلع النحيل شديد السمرة يحظى بحب واحترام سائر الموظفين والعاملين ولا أحد يذكره بسوء منهم، بينما يحس خلدون رغم شبابه ووسامته أن من حوله يخافونه أكثر مما يحترمونه. وحتى السكرتيرات اللواتي تحت إمرته يمتدحون بشاشة عزوز ولطفه وإنسانيته مع كل منهن عند الحاجة وفي أوقات الأزمات.

دخلت سوسن إلى قاعة الأرشيف فوجدت عزوز منشغلا بالبحث عن بعض الوثائق. ابتسم لها ابتسامته العذبة التي تظهر نصاعة أسنانه رغم كبر سنه، ونظر إليها بعينيه السوداوين الصافيتين هاتفا: "أهلا بك. سأتم ما في يدي وآتي إلى مكتبك. سأحضر معي الشاي لنشربه معا".

توجهت سوسن إلى غرفة مكتبها الملاصقة لقاعة الأرشيف وهي ككل بناء المؤسسة مكيفة في الصيف ومدفأة شتاء. هي رسميا موظفة في المؤسسة تتقاضى راتب مستشار، لكن السيد مصباح طلب أن يكون مكتبها في الأرشيف بجانب عزوز وبعيدا عن الموظفين لتحضر موضوع الماجستير دون إزعاج. وطلب تجهيز المكتب المكيف في الصيف والمدفأ شتاء كباقي مكاتب المؤسسة، بمكتبة تحتوي على الكتب المطلوبة للبحث، وبجهازي حاسوب ثابت ومحمول متصلين بالأنترنت، وهو ما أثار حسد خلدون وفضوله لمعرفة سبب اهتمام مصباح الزائد بسوسن ولا سيما حين عرف من أحد أعوان المحاسبة أن راتبها كمستشارة يعادل راتبه الضخم دون أن تفعل شيئا، بينما هو يقدم كل وقته وجهده للمؤسسة.

فتحت سوسن كراسة البحث وبدأت بتننظيم ما سجلته خلال الأسبوع عن أنواع الظلم التي يتعرض لها الأطفال مجهولو النسب وعن الانتهاكات المختلفة لحقوقهم واقتراحاتها العملية والقانونية لحفظ هذه الحقوق.

حين دخل عزوز إلى مكتب سوسن كانت قد أقفلت كراسة البحث وفتحت كراسة حكاية الخالة صابرة لتحضر للأطفال حلقة هذا الأسبوع تعويضا عن حصة الأسبوع الماضي. 

-64-

اتصلت السيدة هدى بالشيخ البدوي وطلبت منه الحضور إلى مقر الجمعية، لكنه رجاها أن يتم اللقاء في مكتبها بالجريدة.

فوجئت هدى في الموعد المحدد بدخول ابنها مع شيخ مهيب معمم، يبدو أنه تجاوز السبعين ولكنه ما زال صحيح الجسم قوي البنية، قال لها فاتح: "الأستاذ طاهر أستاذي في التربية الإسلامية حين كنت في الثانوي. أتذكرين يا أمي كم كنت أحدثك عنه وعن دروسه الرائعة. فمنه تعلمنا عظمة ديننا، وكان يحضنا على أن نمثل الإسلام في سلوكنا وتعاملنا في حياتنا اليومية. ويسرني أن يأتي إلى جريدتنا، وأرجو أن يتعاون معنا. اسمحا لي أن أذهب إلى عملي".

تذكرت هدى حديث ابنها عن أستاذه وكيف كان يعتبره أحسن الأساتذة علما وأخلاقا وتعاملا مع التلاميذ، وقالت في سرها: "المظاهر خداعة. أكيد أن فاتح لا يعلم أن أستاذه الطاهر هو الشيخ طاهر البدوي الذي يطالب بجلد أمه". قال الشيخ طاهر بعد خروج فاتح: "إنه يبالغ، فأنا لا أستحق كل هذا، لكني أهنئك على مستوى ابنك فقد كان متفوقا في الدراسة وحسن الخلق، فقد أحسنت تربيته، أما أنا فقد حاولت مع ابني لكن أمه أفسدته بدلالها، والأم هي المدرسة التي تربي وليس الأب. تزوجتها بعد وفاة زوجتي وكانت أصغر مني بعشرين عاما".

رن جرس الهاتف. كلمها مسؤول الأمن وأخبرها بأنهم قبضوا على مرسل رسائل التهديد. كانت المفاجأة أنه مسعود سليمي طالب الحقوق الذي كانت هدى طلبت من الأمن البحث عنه باعتباره أبا الطفلة غير الشرعية التي ولدتها نعيمة. اعترف بأبوته للطفلة وبإرساله رسائل التهديد أملا في التأثير على الجمعية وإغلاقها وتهربا من الاعتراف بابنه.

صمت الشيخ هنيهة حتى أتمت هدى الحديث بالهاتف ثم استأنف الحديث قائلا: "أعتذر عن المقال الذي كتبته بحقك وبحق الجمعية. كنت أتعامل مع النصوص دون معرفة الواقع، وقد غشني من نقلوا إلي أخبارا كاذبة عنك تأكدت فيما بعد من عدم صحتها".

سألته: "هل تعرف أن مقالك عن جمعيتنا هو فتوى تحرض كل من يقرؤه على العنف ضدنا والاعتداء علينا؟"

رد الشيخ بأسف ومرارة: "أعرف ذلك. لقد تسرعت بالفتوى التي أصدرتها، أذكر الآن أن أحد أسباب شقائنا وبلائنا هو مثل هذه الفتاوى المتسرعة التي أضفت على أعمال الإرهابيين الإجرامية شرعية لا أساس لها ولا سند. كيف سقطت في هذا الفخ؟ لست أدري. وقد عاقبني الله في أن جعل ابني يرتكب خطيئة كبيرة لأتفهم الدور العظيم الذي تؤدونه، ولا أجد في مصيبتي ملجأ إلا عندكم".

أخبرها الشيخ عن العريضة التي تداولها الناس ووقعوها في المسجد عن حسن نية. وأكد لها أن مروجي العريضة زعموا أن هذه الجمعية تشجع على الفسق وبأن رئيستها تجاهر بالإلحاد والعداء للإسلام وللأديان عموما. وأنها تدعو إلى الإباحية وتعتبر الأسرة التقليدية إعاقة للتقدم لذلك تنادي بعد أن طلقها زوجها بالاستغناء عن الرجل وتكوين الأسر من الأمهات العزباوات بحيث يكون دور الرجل هو التلقيح ثم يتم الاستغناء عنه. قال بأسف ظاهر: "كانوا متحمسين للدين والأخلاق فصدقتهم دون أن أتحقق مما قالوه، ووقعت على العريضة، وكتبت المقال وسلمته إلى مدير جريدة الأقلام الحرة بناء على طلبه". تنهد قليلا ثم أضاف: "فهمت الآن لماذا أقر بعض الفقهاء تعطيل الحدود في هذا العصر لندرة الشهود العدول وكثرة شهود الزور. كدت أثير فتنة لأني صدقت مع معظم المصلين شهود الزور الذين كذبوا علينا وافتروا عليك".

وذكر لها الشيخ أن مدير الجريدة اتصل به وهنأه على المقال، ثم قرأ عليه برقيات مساندة وتأييد من عدة شخصيات ومؤسسات أهمها مؤسسة مصباح، وعرض عليه أن يكتب ركن الدين في الجريدة بمبلغ ضخم. "اكتشفت ساعتها أني تسرعت وحين قرأت ردك على مقالي فوجئت به، فقد كنت أنتظر هجوما عنيفا على الدين وسخرية من تعاليمه نتيجة للصورة التي رسموها لي عنك. سألت عنك فقيل لي إنك امرأة فاضلة وأرملة قتل الإرهابيون زوجك ثم فوجئت بمصيبة ابني وإصرار زوجتي على طرد الفتاة بعد حملها، فلم أستطع إرسالها إلى أهلها قبل حل المشكلة، وكان من الأفضل أن تترك المنزل مؤقتا حتى أصفي الأمور مع زوجتي وابني فأرسلتها إليك. أتراني أخطأت؟"

-                       لا. لقد اتخذت القرار السليم.

-                       أقسمت زوجتي أنها لن تزوج ابنها بخادمة. كانت تمني نفسها أن تزوجه واحدة من بنات العائلات المعروفة. وأنا أيضا كنت أرغب أن أزوج ابني بابنة صديق من أصدقائي ممن أثق بدينهم وأخلاقهم، لكن الفتى الطائش الأرعن بدد أحلامها وآمالي. هي لا تفكر إلا في نفسها وسمعتها، أما أنا فأفكر في مسؤوليتي أمام الله عن هذه اليتيمة التي هي أمانة في عنقي لأنها تعرضت للأذى في داري ومن ابني.

تابع الشيخ حديثه فأعلمها أنه طلب من نوال أن تمنحه مدة خمسة عشر يوما وهي المدة التي منحها لزوجته لتفكر بهدوء وتتخذ قرارها، فإما أن تقبل بزواج ابنها من الفتاة وإما أن تنتهي عشرتهما بالطلاق. أما الفتى عماد الدين فيتزوج نوال في الحالتين. وإذا ركب رأسه واتبع رأي أمه فسيسلمه بنفسه إلى العدالة ويشهد ضده.

-                       بارك الله فيك يا شيخ وإذا أردت أن تزور مقر الجمعية وترى كيف تعيش نوال وبقية الفتيات فمرحبا بك في أي وقت.

-                       شكرا لأنك استمعت إلي ولم تبادري بفضيحتي أمام الناس.

 

لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الخيط السادس: الاتهام

 

لقراءة الفصل السابق انقر هنا:الخيط الرابع: الأمهات العزباوات

 

   للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: القاضية والملياردير

    للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات