رواية جرس الدخول إلى الحصة
للكاتب عبد الله خمّار
-1-
طباع وميول
ـ 1 ـ
كانت الساعة الثامنة إلا عشر دقائق عندما قرع الجرس. شمس سبتمبر الدافئة جففت رطوبة الليل، وامتصت قطرات الندى، وتربعت في ساحة الثانوية، حيث وقف التلاميذ زُمَراً زُمَراً بمآزرهم البيضاء النظيفة، يرحّب بعضهم ببعض، ويتبادلون التحية مصافحة وعناقاً حاراً، وعبارات ودية تنم عن فرحة اللقاء بعد العطلة الصيفية.
تحلّق الأساتذة في مقدمة الساحة حول السيد آكلي آيت شاكر مدير الثانوية. كان بطوله وضخامة جسمه واسطة عقدهم. تبادلوا معه وفيما بينهم قبلات الترحيب، وعبارات الود الصادق والكاذب، بعضهم بالمآزر البيضاء، وبعضهم من دون مآزر. انفرط العقد عند سماع الجرس ليقف كل منهم أمام تلاميذه المصطفين في الساحة، بينما وقف المدير وعلى يساره المراقب العام في مواجهة الصفوف. كان وقع الجرس على بعض الأساتذة والتلاميذ مبهجا للنفس بينما كان وقعه مزعجا ومنغصا على بعضهم الآخر.
وقفت أمام تلاميذي المنتظمين في صفين اثنين أسمع تهامسهم وهم يتساءلون عمن أكون؟ وعن المادة التي أدرسها؟
همس أحدهم للآخر: "هومصري"، فأجابه الآخر: "بل سوري. قال ثالث: "بل عراقي"، وقال رابع: "أنا متأكد من أنه جزائري. ألا ترون سحنته الصحراوية؟"
التلاميذ كلهم جدد، وقد أتوا من عدة إكماليات ليواصلوا دراستهم في السنة الأولى الثانوية. ولا غرابة في أسئلتهم فقد تعودوا أن يدرّسهم أساتذة من مختلف الأقطار.
وقف على يميني في الساحة الأستاذ المنصف مقادري زميلي في تدريس اللغة العربية، وعلى يساري الأستاذة مارتا دانيال مدرسة اللغة الفرنسية. وكل منهما يلفت أنظار التلاميذ، الأول بلباسه التقليدي المتميز، وأناقته الفائقة، والثانية بقصرها وبدانتها المفرطة. كان الأستاذ مقادري يرتدي سترة وسروالا عاصميين، وفوقهما "قندورة" وكلها بلون رمادي، وحذاء "موكاسا" من اللون نفسه. أما رأسه فمعمم بشاشية بيضاء. كان حليق الوجه، وحين ينزع شاشيّته يظهر شعره الأسود مسرح بعناية إلى الجانبين مع فرق في الثلث الأيمن منه، ولا يعوزه ليكون وسيماً سوى تصغير كرشه وأنفه.
وأما مارتا فتضع مئزرا ورديا يحشر فيه جسمها الذي تحول إلى كتلة واحدة ضخمة من الشحم واللحم لا تقاطيع لها. لكن وجهها الباسم دائما مازال يحتفظ بقسماته الجذابة. وظل رغم حلول الشيب في رأسها وجها طفوليا في براءته ومرح العينين الزرقاوين. وغير بعيد عنها، كان محفوظ عمار أستاذ الرياضيات بالفرنسية بسمرته الغامقة وقامته المائلة إلى القصر، يحمل قبعته الرمادية التي لا تفارقه، والتي تميزه عن بقية الأساتذة الجزائريين في الثانوية، يقف موجها نظرته المتعالية لكل من حوله وما حوله.
قرع الجرس الثاني؛ جرس الدخول إلى الحصة الأولى، فبدأ التلاميذ يتجهون إلى قاعات الدراسة. سار الأستاذ مقادري أمام تلاميذه بخطوات عصبية متصنعا الرزانة والاتزان، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، صاما أذنيه عن تعليقاتهم. ثم سرت مع تلاميذي تتبعنا الأستاذة مارتا وهي تثب بينهم بخفة ورشاقة كأنها صبية في العشرين.
وقفت على المصطبة تقابلني صفوف المقاعد الثلاثة التي جلس عليها التلاميذ مثنى مثنى. نظرات الوجوه الفتية الستة والثلاثين مصوبة نحوي تعد علي حركاتي وسكناتي، وترصد ما أقوله وما أفعله في هذا اللقاء الأول. هي المرة الثانية التي أقف فيها هذا الموقف، لكنني في هذه المرة مطمئن هادئ عكس ما كنته في العام الماضي. لم تكن لدي خبرة بالتعليم ولا بسياسة التلاميذ. كنت أرتعد من الداخل وأنا أتلمس الطريق إلى قلوبهم وعقولهم من خلال السبورة والطباشير وليسانس الآداب وثقافتي العامة. كان وقوفي أمامهم في العام الماضي أصعب من كل الامتحانات التي واجهتها في حياتي. لم أحس أنني حققت بعض النجاح إلا في نهاية السنة بعد اكتسابي قليلا من الخبرة في التعليم، وبعد أن زادت معرفتي اللغوية والأدبية نتيجة الإعداد والتحضير.
رحبت بالتلاميذ وكتبت على السبورة التي تشكل جزءا من الجدار تاريخ اليوم: "الاثنين 25 سبتمبر 1972"، ثم المادة: "الأدب العربي"، ثم اسمي: "عابد إمام". أضفت لأعرفهم بنفسي: "أنا من مدينة بوسعادة. تخرجت من كلية الآداب في العام ما قبل الماضي، وهذه هي السنة الثانية لي في الثانوية". لم أقل لهم إني حصلت على منحة في القاهرة لتفوقي في امتحان البكالوريا حتى لا يظنوا أنني أزهو بنفسي. قرأت في وجوههم علامات الارتياح للطريقة التي قدمت نفسي بها، ثم أخرجت من محفظتي قائمة بأسمائهم سلمت لي يوم الجمعة الماضي في اجتماع مجلس الأساتذة، وبدأت بالتعرف عليهم واحدا واحدا.
طلب أحد التلاميذ فتح النافذة، فقد زكمت الأنوف رائحة الطلاء الجديد. تدفق شلالان مبهران من النور على الغرفة عند فتح النافذتين الزجاجيتين المطلتين على الساحة، بينما بقي النور الآتي من زجاج النافذة المغلقة المطلة على الممر أقل إبهارا. القاعة واسعة. الجدران مطلية بالأصفر باستثناء السبورة العريضة الخضراء. السقف مرشوش بالأبيض، أما البلاط فمزخرف بالأحمر والأبيض، ينبئ لمعانه وبريقه عن الجهد المبذول في تنظيفه.
كتبت التوقيت على السبورة وأعلمتهم بمنهاج الأدب لهذا العام والمتضمن دراسة الأدب في العصور الجاهلية والإسلامية والأموية، فلم أجد حماسا لديهم. لم تصل الكتب إلى الثانوية بعد، وأغلب الظن أنها لن توزع قبل أسبوع. أردت الاطلاع على مستواهم من خلال ما طالعوه من كتب، وهو ما وضعته في مذكرة إعداد الدرس. طلبت أن يخرج كل منهم ورقة ويسجل عليها اسم آخر كتاب طالعه.
بدأوا يتهامسون ثم قال أحدهم من آخر القسم: "هل أسجل ما قرأته بالفرنسية؟"
ـ "لابأس، من لم يطالع بالعربية، يستطيع ذكر ما طالعه بالفرنسية". ارتاح التلاميذ لهذا الجواب، لأن معظمهم يقرأون بالفرنسية، فقسمهم عُرِّبَ هذا العام، وكان مزدوجاً في المرحلة المتوسطة.
ـ 2 ـ
كان القسم هادئاً والتلاميذ يسجلون أسماء ما طالعوه من كتب عندما سمع صوت يجلجل في القاعة المجاورة في قسم السنة الأولى الثانوية المزدوجة، أشعل الغضب نبرته. لم أميز ما يقول، لكنني عرفت صوت الأستاذ مقادري، وأستطيع أن أخمن أنه يشكو من سوء أخلاق التلاميذ ويوبخهم. أتخيله جالسا وراء الطاولة على الكرسي الذي لا يتزحزح عنه طيلة الحصة، بوجهه الحليق ذي البشرة الحنطية وعينيه البنيتين الجاسوسيتين، يفوح منه عبير عطر الورد، وتذكر أناقته بشيوخ جامع الزيتونة الذي درس فيه مدة قصيرة لم تمكنه من اكتساب علم أساتذته ومنهجيتهم وسماحتهم. وعاد إلى الجزائر لوفاة والده، واضطراره للحلول محله إماما لمسجد الحي ومعلما في المدرسة الملحقة به. تابع دراسته الحرة بعد ذلك، وتقدم لامتحانات التأهيل ثم رُسِّمَ مع غيره أستاذاً في الثانوي.
وإذا جرت الحصة الأولى كما جرت في السنوات الماضية، فهو يبدأ كما روى تلاميذه بشرح البيت الأول من الألفية:
كلامُنا لفْظٌ مُفيدٌ فاسْتقِمْ واسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمّ حَرْفٌ الكَلِمْ
ويشرح للتلاميذ معاني الاسم والفعل والحرف. ليس لدى مقادري مُذَكِّرَة فهو يدرّسُ ارتجالا ولا يعترف بمنهاج. يعتمد في النحو الألفية التي يحفظها عن ظهر قلب، وفي الأدب الشعر العربي حتى شوقي، والنثر حتى الرافعي. وهو يدرس شفاها فالسبورة تظل فارغة، ومحفظته مغلقة في أغلب الأحيان. وإذا حسبنا خبرته في التعليم فيمكن القول إنها خبرة سنة واحدة مكررة بعدد سنوات خدمته.
ارتفع صوته فجأة مفهوما هذه المرة بعبارة: "لعنة الله"، سادت فترة صمت ثم تابع: "على الشيطان". ولعله كان يريد أن يلعن تلميذا أزعجه ثم تدارك نفسه في آخر الأمر.
ـ 3 ـ
أما الأستاذة مارتا في القسم المجاور على اليسار فعادة ما تكتب في الحصة الأولى التوقيت على السبورة، والأدوات والكراريس المطلوبة، وتعطي كل تلميذ نسخة مطبوعة عن منهاج اللغة الفرنسية لهذا العام. ثم توزع مطبوعة تحتوي على عشرين سؤالا للإجابة عنها. وتتضمن الأسئلة ملء بعض الفراغات، واختيار الجواب الصحيح من ثلاثة مقترحة تتعلق باستعمال المفردات والجمل، وتصريف بعض الأفعال، مما يمكنها من معرفة مستوى التلميذ الحقيقي.
أتخيلها تدور بينهم بتلقائية وعفوية لتجيب عن استفساراتهم، واضعة النظارة الطبية على عينيها لتقرأ الكلمة أو العبارة الغامضة في الطباعة. ولا شك أن حب الأستاذة ومادتها بدأ يدق بلطف على أبواب قلوبهم منذ الحصة الأولى. وبدأت كتلة اللحم والشحم الضخمة تتحول شيئا فشيئا إلى امرأة رشيقة فاتنة.
ـ 4 ـ
جمعت الأوراق وبدأت أتفحصها فوجدت أن معظم التلاميذ يطالعون بالفرنسية. وتشد اهتمامهم كتب الرحلات والمغامرات مثل "رحلات جيلليفر" و "جزيرة الكنز" و "روبنسون كروزو"، وقصص الخيال العلمي لجول فيرن، وبعض الروايات الاجتماعية كالبؤساء لفيكتور هيغو، وبلا عائلة لهكتور مالوت. لم يطالع بالعربية سوى تلميذين أولهما قرأ "عروس فرغانة" لجرجي زيدان، والثاني قصة للأطفال هي "علاء الدين والمصباح السحري".
لم تفاجئني هذه النتائج، فكتب العربية التي تحرك قلب المراهق وتداعب خياله قليلة ونادرة في مكتبات المدارس وعند الكتبيين، بينما الكتب والقصص بالفرنسية ومجلات الأطفال والمراهقين متوفرة في كل مكان. وبالتالي فالأقسام مزدوجة اللغة ليست مزدوجة في الحقيقة، والتلميذ فيها كزوج اثنتين: امرأة معتزة بنسبها مكتفية به في زمن تساوت فيه الأنساب. لا تتزين ولا تتكحل ولا ترتدي من ثياب العصر ما يبرز مفاتنها ويحببه بها فتبدو له عجوزا في الغابرين. وأخرى تبدل له فساتينها وزينتها كل يوم لتطرد عنه الملل، وتستهويه بغزلها الرقيق فيقع في أسر غوايتها، وينظر للمتفاخرة بنسبها شزراً، ويعرض عنها فلا يعطيها حقها من الرعاية والعناية.
بدأ أحد التلاميذ يعرض ما قرأ بعد أن سجل اسم الكتاب على السبورة. طلبت من التلاميذ ألا يقاطعوه لتصحيح أخطائه، وشجعته على التحدث بالعربية قدر الإمكان. لاحظت أن أحد التلاميذ أشار إلى زميله رافعا إبهامه كدليل على إعجابه بطريقة الأستاذ.
ـ 5 ـ
خرجت من القسم في الساعة التاسعة والأساتذة يتبادلون الأقسام. التقيت بالأستاذ عبد الرحمن السردي مدرس التاريخ بلحيته الكثيفة المخضبة بالحناء، والدمغة الحمراء على جبينه الأبيض، ووجهه الخالي من أي تعبير، داخلا إلى القسم الذي خرجت منه يحاول جاهدا إخفاءعرجه الطفيف، فتبادلنا التحية. كما التقيت بالأستاذ الهادي العروسي خالي الذي كان من حسن حظي أن ألتقي معه في ثانوية واحدة، وهو يدرس التاريخ أيضا. كان ينتظر خروج مقادري ليحل محله. الباب مفتوح وصوته يلعلع كأنه يخطب، والظاهر أنه يجيب عن سؤال أحد التلاميذ في روايات جرجي زيدان: "هذا الأفاق الذي يدس على الإسلام ويشوه تاريخه. إياك أن تحضر هذه الكتب مرة أخرى وإياك أن تقرأها".
ـ "هل قرأتها يا أستاذ؟"
ـ "لم أقرأها بالطبع. كيف أقرأ كتبا تُشَوِّهُ تاريخ الإسلام؟"
سلّمت على خالي الذي ابتسم عند سماع ما قاله مقادري ابتسامة بريئة زادت وجهه السمح، وشيخوخته الرزينة رقة وعذوبة ووقارا في الوقت نفسه. وقفت معه أتابع ما يجري بفضول زميل مهنة. سأله تلميذ: "ما رأيك في روايات محمد ديب ومولود فرعون يا أستاذ؟"
ـ "ومن هما؟ لم أسمع بهما من قبل".
ـ "إنهما يكتبان الرواية بالفرنسية". علق مقادري على ذلك بعصبية: "الروايات تعلم المجون والخلاعة، وهي كلام فارغ. وإياكم والكتب المترجمة فهي تفسد الأسلوب. اقرأوا "من وحي القلم" للرافعي، و "النظرات "للمنفلوطي". استفزه تلميذ سائلا: "ما رأيك في نزار قباني؟"
ـ "أعوذ بالله. اياكم أن تقرؤوا شعر هذا الفاسق. اقرؤوا المعلقات وشعر جرير والمتنبي والمعري".
كانت لدي حصة فراغ من التاسعة إلى العاشرة، فاتجهت إلى غرفة المدير لترجمة بعض التعليمات الإدارية إلى العربية. وفي طريقي إلى مكتبه التقيت بالأستاذ حكيم بو علام مدرس الفيزياء بالفرنسية. رد تحيتي بهزة رأس، وعينين ساخطتين ووجه فلطح التقطيب والعبوس المستديم استدارته، ومحا الحدود بينه وبين صلعته الزاحفة على ما تبقى من شعيرات في منتصف الرأس. قلت في نفسي وهو يدخل إلى قسم البكالوريا: "لابد أن يحدث في حصته الأولى ما يحدث كل عام". تلكأت في سيري أنتظر انفجار القنبلة. صح ما توقعت، ولعلع صوت الأستاذ بالفرنسية غاضبا: "نحن ندرس العلوم، ولسنا في درس الدين ولا أريدكم أن تكتبوا مثل هذه الأمور الغيبية على السبورة وإلا تعرضتم للعقاب". ثم قال بلهجة صارمة: "امسحوا هذه العبارة". وأضاف بعد برهة صمت: "لا اسم يذكر في حصتي إلا اسم العلم الذي له وحده الفضل فيما وصلت إليه البشرية من تقدم". وساد سكون مطبق.
في مطلع كل سنة ينتفض حكيم بو علام عند دخوله القسم، إذ يجد عبارة: "بسم الله الرحمن الرحيم" مكتوبة في أعلى السبورة. ومع أن ذلك أمر طبيعي، يرغب فيه معظم الأساتذة لاستفتاح كل عمل باسم الله فإن حكيم ينتفض كالملدوغ أو الممسوس عند رؤيتها. ويفاجأ التلاميذ ويصدمون بسلوكه. لكن المعيدين منهم يعرفون رد فعله ويتعمدون إغاظته في بداية العام.
كان أول معرفتي به في العام الماضي، حين وجدت في بريدي رسالة له، سألته: "هل أنت الأستاذ عبد الحكيم؟". فأجابني وهو يرتجف غيظا: "اسمي حكيم ولست عبدا لأحد". وحين سألت المدير عنه أجابني ضاحكا: "هو ملحد لا يؤمن بالله. لكن اسمه في شهادة الميلاد عبد الحكيم شاء أم أبى".
ـ 6 ـ
استوقفتني بجانب المكتبة أمينتها الصبية السمراء ذات الشعر الخرنوبي المجعد، والنظارات السميكة. سألتني: "هل صحيح أن المدير طرد اليوم أستاذا مصريا؟"
ـ "ليس في الثانوية أساتذة مصريون هذا العام". قالت بإلحاح العارف المطلع وعيناها السوداوان تكادان تجحظان من زجاج النظارة: "جاء اليوم يحمل قرار التعيين، لكن المدير قال له: "آسف، لا يمكنني قبولك في الثانوية"
ـ "ربما. لم أسمع بهذا. من قال لك؟"
ـ "شريفة، موظفة المحاسبة. سمعته بأذنها وهو يقول له ذلك".
كانت تنبعث من قاعة الموسيقى عند مروري بها أنغام غربية كلاسيكية، تحمل نفحات موزار وبيتهوفن وشوبان. لابد أن أستاذة الموسيقى "فرانسواز "الفرنسية هي التي تدغدغ بأصابعها السحرية ملامس البيانو، فتجعله يصدح بهذه الأنغام.
ـ7ـ
سلّمني المدير ثلاث تعليمات موجهة إلى الأساتذة لترجمتها من الفرنسية إلى العربية. كان الناظر في السابق يتولى هذه المهمة، واشتكى الأساتذة العرب من سوء الترجمة معنى وأسلوبا. ولعل رؤية الناظر إلى الإدارة تؤثر في ترجمته، فما يكتبه المدير بالفرنسية بصيغة الرجاء يترجمه إلى العربية بصيغة الأمر. فعبارة "يرجى من الأساتذة" بالفرنسية، يترجمها "يجب على الأساتذة". تضاف إلى ذلك أخطاؤه اللغوية، فالمَخْرَجُ عنده "مَخْروج"، والاختلاط "تَخْلاط"، ممّا يثير غضب الأساتذة أحياناً وتهكّمهم غالبا. لذلك قرر المدير تكليفي بالترجمة لأكون أمينا على أسلوبه في الإدارة ومخاطبة الأساتذة باحترام. وليضمن سلامة الألفاظ والتعابير في التعليمات الإدارية. تهيبت في البداية، وبذلت جهدي لأكون عند حسن ظنه. استعنت بالقواميس والأوامر والقرارات المنشورة في الجريدة الرسمية باللغتين، وبتشجيعاته المستمرة، ولم أخجل من سؤال ذوي الخبرة لأتجنب الأخطاء.
جلست في القسم الأيسر من غرفة المدير الذي يستعمل كقاعة اجتماعات مصغرة، فيها طاولة كبيرة محاطة باثني عشر كرسيا من الجلد الأسود أترجم ما طلب مني. كان المدير يجلس وراء مكتبه في القسم الأيمن من الغرفة على كرسي جلدي مماثل لبقية الكراسي، وفوق رأسه نافذة مفتوحة تدخل منها الشمس لتغطي جزءا من الطاولة والغرفة. وعن يمينه وشماله خزانتان عاديتان تحويان الوثائق الرسمية والمراسيم والقرارات الوزارية، وملفات الأساتذة.
كنت مستغرقا في عملي وكان جرس الهاتف يرن بين الفينة والأخرى، وأسمع رده بالفرنسية: "لا أستطيع فهذا مخالف للقانون".
ـ "……………………………………."
ـ "ابنك راسب ولا أستطيع منحه وثيقة نجاح ليدرس في ثانوية أخرى".
ـ "……………………………………."
ـ "لا يهمني إن كان المديرون يفعلون هذا، فأنا مسؤول عن عملي".
وضع المدير سماعة الهاتف ونظر إلي وكأنه يخاطبني متمتما، وهو يتلمس بيده شعره الكثيف الذي ابيض معظمه بعصبية واضحة، وقد اصطبغ وجهه الأبيض بحمرة قانية واعتكرت عيناه الزرقاوان. لم أفهم ما قاله، فنظرت إليه مستفهما، فأعاد قوله بوضوح: "إذا كانت الإطارات الكبرى تطلب الغش والتزوير، فماذا يفعل الناس العاديون؟"
رن جرس الهاتف مرة أخرى، وسمعته يقول: "ليست لدي صلاحية لنقله من الشعبة المعربة إلى المزدوجة، وإن كنت المدير. قدم طلبا وسينظر مجلس القسم فيه". دخلت السكرتيرة قائلة: "السيد عبد العظيم يطلب مقابلتك". قال المدير بحيرة: "ليس هذا وقت مقابلة، فنحن اليوم مشغولون بالدخول". ثم أضاف: "أدخليه، فهو رجل متنفذ، وسيعتبر اعتذاري عن استقباله إهانة".
دخل الزائر ووقف المدير مرحبا به: "أهلا بك سيدي تفضل بالجلوس". خمنت أن سبب الزيارة يتعلق بابنه سامر، وكان تخميني صحيحا. هو تلميذ ضعيف المستوى، كان في قسمي، ولم يتجاوز معدله العام ست نقاط رغم تدخل الناظر وأستاذين من منطقته لإعطائه أقصى نقطة في مادتيهما. وحاول معي ومع أساتذته الآخرين لزيادة نقطه وإنجاحه، فرفضنا ذلك. وها هو أبوه يتدخل لنقله إلى ثانوية أخرى كتلميذ ناجح.
كان المدير يرد على الهاتف بينما كان الزائر يتأمل اللوحتين المعلقتين على الجدار المقابل له. كتب على اليمنى بالعربية بخط نسخي جميل: "العلم نور". وكتب على اليسرى بالفرنسية وبأحرف بارزة: "الناس سواسية أمام القانون". بدا من هيئته ولهجته المتعالية أنه من علية القوم، أو يعتبر نفسه كذلك. وأن تنازله بهذه الزيارة ليس مجاملة بل ضرورة.
وضع المدير سماعة الهاتف والتفت إلى زائره الجالس على أحد المقاعد الجلدية الخمسة التي تشكل نصف دائرة في مواجهة المكتب.
سمعته يقول بتلطف مصطنع: "ما زلت آمل أن تعطيني تلك الوثيقة". وفجأة خفض صوته فأصبح همسا، ويبدو أنه لمحني. كانت تصل إلى أذني بعض الكلمات، حيث سمعت من المدير عبارة "تطبيق القانون"، وسمعت من زائره عبارتي: "المرونة" و "اعتبار الحالات الخاصة". ثم رأيت الرجل ينهض والمدير يخاطبه مودعا: "أنا هنا في خدمة التلاميذ وأوليائهم، ولكن في حدود الإمكان والقانون". وأضاف وهو يرافقه إلى الباب، وخيبة الأمل تظهر في وجه الزائر وفي صمته: "مع السلامة وأهلا بك في أي وقت". التفت المدير إلي قائلا، والأسى والغضب ممتزجان في لهجته: "إنك لا ترضي أحدا في الإدارة. من تعطه حقه لا يشكرك لأنك طبقت القانون، ومن لا تخرقه من أجله عاداك".
أنهيت ترجمة التعليمات، فخرجت وأعطيتها للسكرتيرة لرقنها. كان الناظر واقفا مع السيد عبد العظيم وهو يقول له بلهجة تذلل معرضا بالمدير: "القانون ليس حجرا، والمسؤول يجب أن يكون سيدا له لا عبدا. كن مطمئنا يا سيدي فسنجد حلا". مط صاحب العظمة شفتيه ثم هز رأسه آمرا: "أنتظرك في السادسة. انت تعرف الدار". تهللت أسارير الناظر، وأجاب والفرحة ترقص في عينيه وفي لهجته: "بكل سرور يا سيدي، سأكون في السادسة تماما". لكن السيد عبد العظيم لم يسمع قوله، فقد أصدر أمره ومضى.
ذكرني تذلل الناظر بما يتناقله التلاميذ عما حدث لسامرعبد العظيم وزميله في القسم. حيث اشتكى أحد الأساتذة من سلوكهما، وطلب إحضار ولي كل منهما. استدعاهما الناظر وبدأ يقلب ملفيهما. التفت إلى الأول موبخا: "أنت تلميذ مهمل وكسول وفوق ذلك مشاغب لا تحترم الأساتذة والنظام. كثرت الشكاوى منك، ومصيرك الطرد إذا بقيت على سيرتك. انصرف الآن ولا تعد إلى الثانوية إلا بولي أمرك". وخاطب الآخر ملاطفا: "أرجو ألا تنزعج من استدعائي لك. اذهب إلى قسمك ولا تهتم وبلّغ سلامي الحار لوالدك".
ـ "لكنّ والدي ميت يا سيدي الناظر".
ـ "ميت؟!". بدأ الناظر يقلب الاستمارتين بعصبية، صعدت الدماء إلى وجهه فجأة، وتقاسمه الغضب والحيرة، وسأله: "ألست سامرعبد العظيم؟"
ـ "لا يا سيدي. هو زميلي الذي طردته. اسمي حسان العرموط".
ـ "لعنة الله عليك. أنت المذنب إذن. لماذا تركتني أوبخ زميلك ابن السيد عبد العظيم؟" وأخذ يكرر بعصبية: "أتريد أن تورطني؟ أتريد أن تقطع عيشي؟ من سلّطك علي؟ من؟ من؟".
لم أستطع تمالك نفسي من الضحك وأنا أتصور المشهد. اتجهت إلى قاعة الأساتذة. وداعبت سمعي أنغام شرقية عذبة مألوفة لدي تنبعث من قاعة الموسيقى. لعلها لمحمد عبد الوهاب أو القصبجي أو السنباطي. تساءلت في عجب: «هل يمكن أن تعزف الأستاذة فرانسواز هذه الألحان العربية؟".
ـ 8 ـ
التقيت بمحفوظ عمّار متوجها إلى قاعة الأساتذة، يحمل بيده قبعته الرمادية التي لا تفارقه. حيّاني بالفرنسية كعادته، فقليلا ما يتحدث عمار بالدارجة. ولعلي ممن يفضلون التحدث معه بالفرنسية، فهو يتقنها أكثر من أهلها، ويتلاعب بمفرداتها وجملها نثرا وشعرا، فتخرج من فمه الراء غينا والجيم قريبة من الشين بموسيقى عذبة، كما تتمايل حروف المد والإمالة مع حركة الشفاه الراقصة تقاربا وتباعدا، كأنها أنغام طبيعية. أما عندما يتكلم بالدارجة فيصبح نطقه فجّاً، وسوقيّاً لا رشاقة فيه ولا إيحاء ولا إيقاع. فهو حين يلفظ مثلا بالفرنسية عبارتي "لاسومين بروشين" أي الأسبوع القادم و "جونو سيبّا" أي لا أدري فكأن أنساما عليلة تداعب الآذان. وأما حين ينطق نفس العبارتين بالدارجة: "السوق الماجي" و "ماعلا باليش"، فتحس كأن إعصاراً هبّ من الشفتيْن وكاد أن يثقب طبلتي الأذنيْن. إنه يحمل الفرنسية كل ما لديه من الإعجاب والانبهار والحب، ويحمّل العربية كل مشاعر النقص واحتقار الذات.
رغم أن حبه إلى درجة الهوس للفرنسية التي يعتبرها ملاذه وجنته التي يريد أن يخلد فيها، وللفرنسيين ولكل ما هو فرنسي فإنه ـ والعهدة على الراوي ـ يصاب بالإحباط عند ذهابه إلى فرنسا، لأنه من سوء حظه شديد السمرة، والفرنسيون يعاملونه بحذر كبقية الجزائريين. وهو الذي يحاول أن يثبت أنه منهم ومثلهم في التربية والتمدن، ينتسب إليهم بالثقافة، ونسب الثقافة أهم من نسب الدم.
ـ 9 ـ
قابلتني عند دخولي القاعة وقت الاستراحة اللوحة السريالية المعلقة في صدرها. وتتكون من خطوط تشكل مربعات ومستطيلات ودوائر ومثلثات بيضاء وحمراء وخضراء وزرقاء وصفراء وسوداء متداخلة فيما بينها.
كانت اللوحة بلا عنوان، أشبه بمتاهة، لا يعرف من رسمها، ولا من وضعها في الصدر. ورغم ذلك يفسرها كل أستاذ كما يريد. ويرى ألوانه المفضلة فيها.
كان الباب الصغير المفتوح في صدر القاعة، والمؤدي إلى غرفة الخزائن الفردية للأساتذة مزدحما بالداخلين منهم والخارجين لوضع المئزر والأدوات، ولبس السترة أو العكس. ارتفعت أصواتهم واختلط بعضها ببعض. تجمّعوا في حلقات في طول الغرفة الواسعة وعرضها، يتبادلون عبارات الترحيب. ويسأل كل منهم الآخر عن العطلة، أين قضاها؟ وكيف؟. العربية والفرنسية هما اللغتان السائدتان في هذه الأحاديث. كانت الإنجليزية والألمانية والروسية حاضرة في الأعوام الماضية، لكن الأساتذة الألمان والبولونيين والروس غادروا الثانوية. وتقلص عدد الأساتذة العرب والفرنسيين وعُوِّضوا بخرّيجين جزائريين. أما العرب فبقي منهم عصام النوري مدرس الفيزياء السوري، ومانع السعدون وكاظم أصلان العراقيان ويدرسان على التوالي العلوم الطبيعية والرياضيات بالعربية.
وأما الفرنسيون فما زال هناك جاك لوبتي ومارتا دانيال، وهما من "الأقدام السوداء" أي من الأوربيين الذين ولدوا في الجزائر من نسل المعمّرين الأولين. بقي بعضهم بعد الاستقلال لأنهم لم يعادوا الثورة بل تعاطفوا معها ومنهم الأستاذة مارتا، وبقي بعضهم الآخر على مضض حفاظاً على مصالحه، رغم أنه لم يهضم مساواته بالجزائريين ومنهم جاك لوبتي أستاذ العلوم الطبيعية بالفرنسية.
وقف الأساتذة عمّار وحكيم ولوبتي في الجانب الأيسر من الطاولة العرضية في صدر القاعة، بينما وقف مقادري والسردي والأستاذان العراقيان في الجانب الأيمن من الطاولة الثانية التي تشكل مع الأولى زاوية قائمة. وكلتا الطاولتين مفروشة بقماش مخملي أخضر ومغطّاة بزجاج سميك شفاف. وقفت كل من المجموعتين بجانب المقاعد التي تحتلها عادة. تميز المجموعة الأولى قبعة محفوظ والثانية عمامة مقادري، وهما تشكلان رأسي ضلعي الزاوية، بينما يتوزع الأساتذة الآخرون في الجزء الأوسط. الحديث دائما بالفرنسية في الجانب الأيسر ودائما بالعربية في الجانب الأيمن، وباللغتين في أواسط الضلعين.
ـ 10 ـ
تبادلت مع الزميلات والزملاء عبارات التحية والترحيب، معانقا بعضهم، مصافحا بعضهم الآخر. ووقفت مع من يقرأ تعليمات الوزارة والإدارة في لوحة الإعلانات في منتصف الحائط الأيمن من القاعة، ووقف آخرون إلى اليمين يطلعون على البريد في الخزانة المكشوفة المقسمة إلى مربعات بحسب الترتيب الأبجدي الفرنسي لأسمائهم.
كان خالي العروسي محاطا بالزميلات والزملاء في الزاوية اليسرى المخصصة للقهوة، يسلمون عليه ويستمعون إليه بود واحترام صادقين. فهو يعد عميدهم ذا القلب الكبير الذي يسدي لهم النصح ويساهم في حل مشاكلهم، ويفيدهم من خبرته في شؤون التربية والحياة.
وضع القهوجي فنجاني القهوة على الرف الخشبي الذي اصطلح على تسميته "الكونطوار". ناولت أحدهما لخالي، ومددت يدي لتناول الآخر لكن يدا سبقتني إليه، وقال صاحبها بلهجة مصرية واضحة: "ألا تنوي دعوتي إلى فنجان قهوة؟"
التفت فإذا بي أرى رجلا طويلا وسيما في بذلة رمادية أنيقة يبتسم في وجهي. نظرت إليه في برود واستغراب وإنكار، وذاكرتي تعمل بسرعة لاسترجاع واستعراض صور كل من عرفتهم في مصر، ولكن دون جدوى. لم أعرفه في البداية، فقد لوحت الشمس بشرته البيضاء الناصعة فأصبحت بين الحمرة والسمرة. لم يأبه لإنكاري له بل استمر ينظر إلي بعينيه الودودتين الزرقاوين. أذهلتني المفاجأة، وهتفت بعد أن عرفته وتأكدت منه، هتفت بصوت جعل الأنظار كلها تتجه نحونا: "وجدي! وفتحت ذراعي واحتضنته وعانقته بحرارة متمتما: "اعذرني، لم أعرفك لأنك غيرت جلدك".
ـ "بل أردت أن تنكرني إنكار المَرْوِزيّ للبغدادي". وضحكنا. سألته بلهفة أسئلة متلاحقة عن أفراد أسرته ثم قدمته لخالي قائلا: "وجدي عزّام أعز صديق لي في مصر. عاملتني أسرته كأني واحد منها. ولم أحس بالغربة في السنوات التي قضيتها في القاهرة بفضل رعايتها لي. ولن أنسى ذلك ما حييت".
عاتبته لأنه لم يخبرني بقدومه. اعتذر بأنه لم يخطط لمجيئه من قبل. سمع بالصدفة أن الجزائر بحاجة إلى أساتذة موسيقى، فاتصل بالسفارة ووقع عقدا، وجاء مباشرة ثم قال: "معي عنوانك في بوسعادة، وكنت أنوي أن أتصل بك أو أزورك هناك. ودخلت الآن إلى غرفة الأساتذة لأبحث عن أستاذ مصري أستأنس به، فأنا لا أعرف أحدا هنا، ولم أصدق عيني عندما رأيتك".
ـ "الخطأ خطئي فلم أرسل لك عنواني في العاصمة". علق خالي قائلا بحرارة وصدق: "الجزائريون كلهم أهلك فمرحبا بك في بلدك".
ـ "شكرا جزيلا". سألته بلهفة وفرحة من يريد التأكد من خبر سعيد سمعه: "هل عينت هنا؟ وهل سنعمل معا في ثانوية واحدة؟"
ـ "عُيِّنْتُ هنا، لكن المدير.."، وسكت قليلا ثم قال: "دعنا من هذا الآن". تذكرت ما قالته أمينة المكتبة عن الأستاذ المصري، وتذكرت الأنغام الكلاسيكية والشرقية الرائعة المنبعثة من قاعة الموسيقى. سألته: "أأنت الذي كنت تعزف على البيانو؟"
ـ "نعم"
ـ «وأين الأستاذة فرانسواز؟"
ـ "عينت بدلا عنها، وقيل لي إنها سافرت إلى فرنسا". همست له كيلا يسمعنا أحد: "ماذا حدث لك مع المدير؟"
زفر زفرة طويلة ثم أجاب: «سنتحدث عن ذلك فيما بعد".
ـ "هل لديك حصة الآن؟"
ـ "لم أبدأ بعد. ربما أبدأ غدا". طمأنني كلامه فهذا يعني أن المدير لم يرفضه كما قيل لي. قلت له: "أرجو أن تنتظرني في الساعة الثانية عشرة لنتغدى معا في مطعم الثانوية". أضاف خالي: "وتتعشيان عندي". رد وجدي معتذرا: "أنا مرتبط مع زميل لي في المساء". قال العروسي بإصرار: "إذا تتعشيان معي غدا". قلت لخالي راجيا: "اتركه لي هذا الأسبوع".
تعرفت بوجدي في سنتي الجامعية الأولى، بمناسبة ذكرى أول نوفمبر. ألقيت بنادي الطلبة الجزائريين قصيدة أعجبته، فطلب نسخة منها، ودعاني إلى داره، وتوطدت بيننا صداقة متينة. كان حينها في السنة الأخيرة في المعهد العالي للموسيقى. نجح بتفوق وأرسل في منحة إلى إيطاليا لدراسة الأوبرا مدة ثلاث سنوات، وكان خلالها يحضر إلى القاهرة أثناء العطل، ونلتقي. كانت أسرته تدعوني وتكرمني حتى في غيابه، وعاملني والده ووالدته كأني أحد أبنائهما.
ـ 11 ـ
دخل الآذن وفي يده مجموعة رسائل بدأ يضعها في صناديق البريد، ويقرأ أسماء أصحابها بصوت مرتفع. توجهت مع خالي لاستلام الرسائل. لمحت وجدي يختلس النظر إلى الأستاذة فايزة نجار مدرسة الفلسفة، وهي تتكلم مع زميلتها نادية مدرسة الرسم، وعلامات الجد في لهجتهما توحي بأن الحديث بينهما ذو شجون رغم البسمة الساخرة المرتسمة دائما على وجه فايزة. تساءلت عما لفت نظره إليها؟ إنها تعد جميلة بمقاييس الجمال المتعارف عليها؛ فالتناسق يكاد يكون كاملا في قسمات وجهها وبين أجزاء جسمها، بالإضافة إلى جاذبية بشرتها السمراء الفاتحة، وعينيها اللوزيتين الناضحتين عسلا مصفى، والشامة البنية الصغيرة التي تزين خدها الناضر، وتمنحها تفردا أصيلا في الحسن يميزها عن غيرها.
كانت ترتدي بدلة كلاسيكية زيتية اللون ذات أزرار ماسية لامعة، زادها قدها البديع أناقة ورشاقة، وتحتها قميص حريري مطرز أبيض يحف برقبتها فيعزز شموخها. وكانت لفرط انفعالها بالحديث تحرك حقيبة يدها الصغيرة الزيتية من لون البدلة والحذاء السامق الكعب.
هزت رأسها بدلال إلى أعلى لترفع الغرة الخرنوبية التي تعابث جبينها وتكاد تغطي عينها اليمنى، فاهتزت السلسلة الذهبية حول عنقها وبرز المصحف الصغير المعلق فيها. وربما لاحظت أن هناك من ينظر إليها، فوضعت يديها بحركة عفوية على ركبتيها لتتأكد من أن التنورة تغطيهما وهي جالسة، بينما برهنت ساقاها اللدنتان ما بين الركبة والحذاء على رشاقة جسمها وفتوته. ونمت حركة رأسها ويديها عن أن الغلظة والقسوة اللتين تبديهما للرجال من حولها، قشرة زائفة تخفي وجها آخر لإنسانة حساسة رقيقة.
كان وجدي يتظاهر بتأمل اللوحة الضخمة المرسومة بأسلوب الكاريكاتير على طول الحائط الأيسر وهي تمثل الأساتذة في أوضاع مضحكة بأجسام كبيرة ورؤوس صغيرة. تساءلت: "ما الذي لفت نظره إلى فايزة؟" كان الجواب الذي استنتجته من معرفتي به: "ليس جمالها بالطبع". لم يكن من الذين يغترون بالجمال، فقد لدغ مرة، وكانت له تجربة قاسية معه. كانت حبه الأول جميلة الجميلات. مصرية تعرف بها في روما، حيث كانت تعمل في شركة إيطالية. سحرته بابتسامتها الحزينة وصمتها الحكيم الموحي. كانت مطلقة مكثت مع زوجها الأول ثلاثة أشهر. كان ينظر إلى زوجها نظرته إلى مجرم تسبب في إيذاء هذه الإنسانة الرقيقة، وساذج فرط في جوهرة لم يعرف قيمتها. سهر الليالي يفكر فيها، ويحسب أن السعادة الكاملة في العيش معها. بادلته الحب وتزوجها دون تردد مخالفا رأي أهله وأصدقائه الناصحين له بالتريث حتى يعرفها وتعرفه جيدا. وعندما اقترب منها اكتشف غباءها. وأدرك أن عقلها أضيق من سم الخياط، وأن صمتها ناتج عن الغباء لاعن الحكمة، وقد انقلب بعد زواجهما إلى ثرثرة فارغة ونميمة وزهو وادعاء. ومع ذلك قال في نفسه: "الجمال في حد ذاته يكفي فلا أحد يطلب من اللؤلؤ أن يكون ذكيا ولا من الزهر أن يفكر. إن حضوره وحده يبهج العيون، وينعش النفوس". لكنه أدرك بعد التجربة أن هناك فرقا بين جمال الأشياء وجمال الإنسان، فجمال اللؤلؤ خالد ولكنه بارد لا روح فيه، وجمال الإنسان كجمال الزهرة ساحر ولكنه سريع الذبول. فإن كان الإنسان ذكيا وجميل الطباع فهو كالوردة الجورية، يبقى فيها الشذى والعبير وإن ذبلت. وإن كان غبيا أو قبيح الطباع فهو كزهرة الدفلى يهرب الناس من رائحتها حتى قبل أن تذبل.
كانت إلى جانب غبائها أنانية وغيورة وشديدة الميل للتملك، فلم يعد يسعد بجمالها وابتسامتها الخلابة، بل يشقى بطباعها الفظة وسلوكها الأناني. ومن حسن حظه أنها كانت مع ذلك ملولة تبدل العشاق كما تبدل الثياب، فطلبت الطلاق منه قبل مضي أربعة أشهر على زواجهما. انصرف عنها غير آسف، وقد لقح بلقاح فعال جعله لا يغتر بالجمال الظاهر، بل يبحث عن جمال المرأة الداخلي ولا سيما جمال الروح والطباع.
استعدت قصته التي عايشتها أثناء دراستي في القاهرة كشريط مر أمام عيني سراعا وفي لحظات. وبقي السؤال معلقا: "ما سِرّ اهتمامه بفايزة؟". قطع الجرس علي أفكاري، فأكدت مع وجدي موعد الثانية عشرة، وتوجهت إلى القسم.
- 12 -
لمحت في طريقي عصام النوري أستاذ الفيزياء السوري واقفا أمام المخبر. لم أره منذ بداية العطلة الصيفية. سلمت عليه بحرارة وسألته عن زوجته التونسية "لطيفة". أجابني: «بقيت في تونس، وربما تحضر في رمضان". تواعدنا على اللقاء في المطعم.
تعرفت به في العام الماضي وتوثقت علاقتنا، فهو جاري في السكن. في الثلاثين من عمره. تجد في أخلاقه طيبة السوريين، وسماحة الدمشقيين، كما أنه شديد الذكاء. وهو كاسمه عصامي حقيقي، عمل في فرنسا ليدرس وحصل على منحة لتفوقه. حاصل على الماجستير من جامعة السوربون ويحضر للدكتوراه. تعرف على زميلته لطيفة في السوربون وتزوجا، وقدما معا للعمل في الجزائر في العام الماضي.
- 13 -
دخلت إلى قسم السنة الأولى ثانوي لاستكمال ما بدأته مع التلاميذ في الصباح، فوجدت السبورة مملوءة بخط الأستاذ السردي. كان عنوان الدرس المكتوب: "دور المسجد في بناء الأمة وصنع التاريخ". وتحته كتبت هذه العناصر: الدور السياسي والدور الاجتماعي والدور التعليمي والدور الديني. وتحت كل عنصر رئيسي عناصره الفرعية. لكن السردي لا يعترف بأن الدور التعليمي أخذته من المسجد المدارس والمعاهد والجامعات، كما حملت الأحزاب عن كاهله الدور السياسي، والجمعيات الدور الاجتماعي، وبقي له أهم دور وهو الدور الأخلاقي لأنه أساس لها جميعا؛ يوقظ ضمير الفرد، ويحرص على لحمة المجتمع وسلوكه السوي. يهتم السردي بإحياء دور المسجد السياسي لغاية في نفس يعقوب بل في نفس السردي وحاشا النبي يعقوب.
كان عبد الرحمن السردي يستغل الحصص الأولى لمعرفة ميول التلاميذ وآرائهم، لاختيار من لديهم استعداد للتأطير والتنظيم. سمعت عنه أثناء دراستي في القاهرة. تخرج قبلي من قسم التاريخ بكلية الآداب، فهو يكبرني بسنوات، ولكنه ظل في مصر حيث جندته جماعة التكفير والهجرة، وشارك في التدريب السري على مختلف أنواع الأسلحة. أكد لي من يعرفه أنه كان طموحا منذ صغره، يحب لفت الأنظار إليه، ووجد في التنظيم مجالا لتحقيق طموحه السياسي، كما وجد فيه التنظيم عنصرا هاما لذكائه وإتقانه الفرنسية. رأيته مرة واحدة في نادي الطلبة الجزائريين، وتحاشيته لما سمعت عن تطرفه ونزعته للسيطرة والعنف. ويشاع أنه اعتقل سنتين في مصر، وأن عرجه ناتج عن قفزه من حائط مرتفع أثناء ملاحقة الشرطة له. والأمر المؤكد أنه طرد من القاهرة قبل عامين، وبدأ يدرّس في الثانوية. وأول درس يلقّنه لتلاميذه المنضمين إلى التنظيم يتمثل في ثلاثة أسس: أولها أن الأعمال العظيمة تحتاج إلى قلوب حديدية، ويجب أن ينزع أنصاره من قلوبهم العواطف والرحمة والشفقة، ويتركوها للنساء حتى يستطيعوا تحقيق غايتهم العظيمة بالجهاد. وثانيها أن صلاح هذه الأمة يجب أن يتم ولو بقتل الثلثين لإصلاح الثلث. وثالثها أن طاعة أمير الجماعة طاعة مطلقة في كل أمر واجبة لتحقيق ما تقدم.
كان التاريخ بالنسبة إليه هو تاريخ الإسلام والدولة الإسلامية، وهو ينحصر في فترة الرسول الكريم[ص] والخلفاء الراشدين. والهدف من دراسته هو استعادة أمجاد الماضي لحث الأجيال الجديدة على إعادة بناء دولة الإسلام. أما تاريخ الأمويين والعباسيين ومن بعدهم، فقد اغتصبت فيه الخلافة، وكان الحكم مدنيا لا دينيا، منحرفا عن جادة الإسلام الصحيح. ولا وجود للتاريخ قبل الإسلام فهو تاريخ وثني لا يستحق أن يدرس. كما أن تاريخ الأمم غير المسلمة هو تاريخ الكفر والإلحاد.
قارنت بين نظرته للتاريخ ونظرة خالي العروسي الذي ينظر إليه كابن خلدون و"توينبي" وكل المؤرخين العظام على أنه تاريخ حضارات إنسانية متعاقبة للجنس البشري كله، يدرس من خلاله التلميذ الأسباب التي أدت إلى نشوء الحضارات وازدهارها، ومعرفة العوامل التي أدت إلى انهيارها، مقيّماً كل حضارة تقييماً موضوعياً يبرز مزاياها ومساهمتها في مجالات التقدم الإنساني، كما يظهر عيوبها، بما في ذلك الحضارة العربية الإسلامية، لأن ذكر المزايا والعيوب ضروري للاستفادة من دروس الماضي في بناء المستقبل، حتى لا يعيد التاريخ نفسه إعادة غبية بلهاء.
مسحت السبورة وتا بعت ما بدأته في الصباح مع التلاميذ.
- 14 -
جلست مع وجدي وعصام على إحدى الطاولتين المخصصتين للأساتذة في زاوية بعيدة عن التلاميذ من زوايا المطعم. وصل بعدنا مباشرة الأستاذان العراقيان كاظم أصلان ومانع السعدون، فسلما علينا وتعرفا بوجدي ثم واصلا نقاشهما الذي بدآه قبل أن يصلا إلى المطعم. أما الطاولة الثانية فكان عليها بعض الأساتذة والإداريين، بينما جلس الناظر على طاولة وحده في غرفة ملحقة بالمطعم كعادته لتناول الغداء.
قال مانع بصوته المرتفع الحاد وبعصبية ظاهرة: "الشيوعيون هم المسؤولون عما حدث، لأنهم البادئون بالتصفيات في زمن قاسم". اعترض أصلان ورد بصوت هادئ خفيض كأنه الهمس: "هذا رأيك أنت، لكن الوقائع تثبت عكس ذلك". لم يستغرب أحد سلوكهما، وقد جعلت منهما نقاشاتهما المستمرة كتابا مفتوحا قرأه الجميع وأعادوا قراءته طائعين أو مكرهين.
أمضى كاظم أصلان شبابه وجزءا من كهولته مناضلا في الحزب الشيوعي. وتحول غليانه مع السنوات إلى فتور فبرود. وظل على ولائه للحزب رغم اكتشافه الانهيار الداخلي للمجتمعات الاشتراكية التي قضى فيها سنوات طويلة كلاجئ سياسي، وانتقاده اللاذع للطبقة الانتهازية الجديدة في الأحزاب الشيوعية الحاكمة، وهجومه العلني على تدخل الاتحاد السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا والمجر. ووصل به المطاف إلى العمل في الجزائر أستاذا للرياضيات.
أما مانع السعدون مدرس العلوم الطبيعية فهو بعثي متحمس في مستهل حياته العقائدية. يؤمن بالمطلق والحزب عنده هو المطلق الذي سيقيم دولة العرب العظمى على أسس الوحدة والاشتراكية والحرية. ولا ضيرـ في رأيه ـ إذا تعطلت الحرية الآن، وإن أريقت بعض الدماء في سبيل تحقيق هذا الحلم الجبار. ولا بأس إن سجن أعداء الحزب والمتآمرون عليه لأنهم أعداء الأمة بأسرها. ولا فرق إن تحققت الوحدة سلميا أو بالقوة والضم، فالمهم تحقيق هذا الحلم الذي يعيد للعرب مجدهم الغابر، ويضعهم على خارطة العالم كقوة عظمى من جديد.
كانا يتناقشان بالمنطق لا بالسلاح لأنهما على أرض محايدة. ويحاول كل منهما أن يحمل الآخر أو على الأصح حزب الآخر مسؤولية فشل الجبهة التقدمية وتبعات التصفيات الجسدية والاعتقالات التي قام بها حزباهما.
الطعام في اليوم الأول سلطة طماطم ولوبية باللحم وعنب، لكن الوجبة كانت غير كافية للتلاميذ، فقد وجدت بعض اللوبية الفاسدة وأتلفت، فأثر ذلك في الكمية. بدأ التلاميذ يضربون الملاعق بالصحون احتجاجا.
قليلا ما كان مانع يتغدى معنا في المطعم، فهو متزوج، وزوجته أستاذة في الإكمالية، لكنه إذا حضر يواصل نقاشه المعتاد مع أصلان. يرفع صوته عليه، ويقاطعه قبل أن يتم فكرته. ومع ذلك يصبر عليه الكهل الذي عركته الحياة، وابيضّت مقدمة رأسه وفوداه، وبدأت عيناه تغوران وتحيط بهما هالتان سوداوان من الهمّ والسُّكْر، صبر الأب على ابنه الطائش المغتر بشبابه وقوته، ظانا أنهما يبقيان معه إلى الأبد.
جال المدير في المطعم ليعاين الطعام بنفسه كما يفعل كل يوم. وشهد احتجاج التلاميذ، فأمر بتوزيع قطعتين من الجبن على كل منهم تداركا لنقص الوجبة، ثم مضى إلى داره. لم يعتد أن يتغدى في الثانوية أو يأخذ شيئا إلى داره بعكس الناظر الذي لا يتورع عن طلب القهوة والسكر والخبز.
صدحت حنجرة أحد التلاميذ بصوت جهوري عذب بأذان الظهر، فترك بعض التلاميذ الطعام، وأخذ بعضهم الخبز والفاكهة، وهرعوا إلى المسجد. أما نحن فأتممنا تناول الغداء مستمعين بالرغم عنا لنقاش الصديقين اللدودين، ثم نهضنا لأداء صلاة الظهر.
مسجد الثانوية قاعة كبيرة فرشت بالحصير المغطى بسجادات صغيرة مختلفة الألوان والأنواع والأحجام، بعضها حال لونه وانمحت زخرفته من شدة القدم، وبعضها جديد زاه. ازدانت جدرانه البيضاء بلوحات كتبت عليها آية الكرسي وسورة الفاتحة والمعوذتان و "محمد رسول الله" بخطوط رقعية ونسخية وكوفية جميلة، وبلوحة ضخمة في الصدر كتب عليها بخط مغربي بديع "الله جل جلاله".
كان الإمام في الركعة الأخيرة حين توضأنا ودخلنا المسجد. ومنذ أن بدأ عبد الرحمن السردي يؤم التلاميذ في الصلاة تعمد ألا ينتظر فراغهم من الغداء. كانوا مخيرين بين أن يصلوا الظهر حاضرا وراءه ويحرموا من الغداء، وبين أن يتغدوا ويحرموا من الصلاة وراءه. صلينا الظهر وتوجهنا إلى قاعة الأساتذة.
- 15 -
كانت مارتا عند دخولنا تزيح الباب الزجاجي للمكتبة الموجودة على يسار خزانة البريد لتخرج منها مجلدا من موسوعة لاروس الموضوعة مع بعض القواميس اللغوية تحت تصرف الأساتذة الذين بدأوا يتوافدون إلى قاعتهم من المطعم أو المسجد أو من بيوتهم. تكونت هنا وهناك حلقات النقاش اليومية المعتادة التي تعكس في كثير من الأحيان مواضيع الساعة مما يشغل بال الناس. لم تكن المناقشات فكرية عميقة بل أشبه بالمحادثات العادية السطحية التي تزداد أحيانا حدة وعمقا حين يكون الموضوع مثار جدل، فتعلو أصوات المتناقشين، وينقسم المتفرجون بين مؤيد ومعارض لهذا أو لذاك. ومثل هذه المواضيع كالتعريب والقضية الفلسطينية والوحدة العربية والديموقراطية الليبرالية والاشتراكية وغيرها لا تحمل جديدا لأحد، ولا يستفيد منها لا المناقشون ولا المتفرجون لأن آراء كل منهم معروفة سلفا يتموقع فيها ولا يتزحزح عنها، وحججه مكرورة يرددها باستمرار لا يزيد فيها ولا ينقص إلا في حدة الطرح أو لهجة الغضب أو التعبير عن الدهشة أو السخرية. وفيما عدا ذلك فغالبا ما تدور المناقشات حول الرياضة ومباريات الأسبوع في كرة القدم، ومستوى الفرق والتحكيم، وبرامج التلفزة، ونقص بعض المواد الغذائية والسلع في أسواق الفلاح، وغيرها من المواضيع اليومية التي يشترك فيها الأساتذة مع بقية المواطنين.
لكن موضوع الساعة الأساسي عند الأساتذة اليوم هو التوقيت الذي عاث فيه الناظر فسادا بعد أن كلفه المدير للمرة الأولى بإعداده. جعل ساعاتهم موزعة على كافة أيام الأسبوع صباحا ومساء مخفيا تسلطه وراء مصلحة التلاميذ. احتج الأساتذة فطلب المدير منهم التفاهم فيما بينهم لحل مشاكل التوقيت. كان المدير يعتقد أن الإدارة وجدت لتسهيل العملية التعليمية، فالتلاميذ أولا والأساتذة ثانيا والإدارة أخيرا. وكان الناظر يؤمن بأن الإدارة هي المدرسة والكل تبع لها وخدم ما داموا يأتمرون بأمرها.
ليست هذه المرة الأولى التي يسيئ فيها الناظر استعمال صلاحياته، فقد كلفه المدير في العام الماضي بتسهيل طباعة مجلة الثانوية التي أشرفت على إعدادها لجنة من التلاميذ والأساتذة، وكنت مع الأستاذ العروسي من بينهم. سلمنا مواضيع المجلة وزواياها ورسومها إلى الناظر، فحذف أسماء التلاميذ معدي الزوايا الثقافية والترفيهية والرياضية والفنية، وأسماء المبدعين من شعراء ورسامين وخطاطين، كما حذف أسماء لجنة التحرير وعوّضها بإدارة الثانوية. قلت له محتجا: "التلاميذ هم الذين أنجزوا المحلة وليست الإدارة، فلماذا حذفت أسماءهم؟"
ـ "إنها عمل جماعي وهي باسم الثانوية لا باسم الأفراد".
ـ "العمل الجماعي لا يستلزم إنكار جهود الأفراد بل يجب إبراز عمل كل منهم، ولن يقتنوا المجلة إذا لم يروا أسماءهم فيها".
ـ "سنجبرهم على شرائها، وسنقتطع دينارا من منحة كل منهم ثمنها".
ـ "لكن المجلة التي تباع جبراً لا تقرأ جبراً".
ـ "المهم أن تصدر مجلة باسم الثانوية وأن يعرف المسؤولون نشاطنا".
كان يحدثني بإصرار واعتداد مما اضطرّني إلى الاستنجاد بالمدير الذي غضب واستدعاه وسمع حجته، ثم وبخه قائلا: "كلفتك بالإشراف على طباعة المجلة لا بالتدخّل فيما لا يعنيك. لو خرجت المجلة كما تريد لكانت فضيحة لنا. وبدلا من أن تشجع هؤلاء التلاميذ في باكورة أعمالهم ليزداد عطاؤهم، تثبط هممهم، وتسرق إنتاجهم".
اعتذر الناظر أمام المدير بحرقة وتذلل عن غلطته مدعيا أن نيته كانت حسنة، وأنه اجتهد فأخطأ. كان الناظر من المرؤوسين الذين يتخذ أحدهم شكل الإناء الذي يوضع فيه أمام رؤسائه، ويتحول إلى غول مفترس أمام مرؤوسيه. وكثيرا ما لمس المدير نفاقه وانبطاحه أمام أصحاب الحل والعقد في وزارة التربية وفي غيرها، متنصلا من صلابة المدير ظاهرا أمامهم بمظهر المرن المستعد لتلبية أي رغبة لهم لو أطلقت يده. ومرونة الناظر تنبع من حريته المطلقة، في التحرك في كل الاتجاهات دون أن يصطدم بأي حاجز فليست لديه مقدسات ولا خطوط حمراء تحد من سيره أو تعيق حركته. فلو أطلقت يده وأصبح هو المدير لاتخذت الأمور منحى آخر، ولكان بيدقا من بيادقهم يحركونه كما يشاؤون. كان آكلي يتعامى عن دسائس الناظر ويتغابى. و"سيد القوم المتغابي" كما يقول له العروسي دائما، ولكنه يدرك أن المسؤولين ـ في هذه المرحلة على الأقل ـ يبحثون عندما يقررون التغيير عن رأس آخر أكثر مرونة لا عن ذيل لوضعه مكان الرأس. ولعل ضآلة جسمه وصفرة وجهه المستديمة رغم الوجبات الدسمة التي يزدردها، والبثور التي تملأ جبينه ووجنتيه، وقد حار فيها الأطباء، ولم يجدوا سبباً عضوياً لها، ونظرته الكئيبة الممزوجة بالحقد توحي بأنه ليس في سلام مع نفسه، وأن شيئا ما في الداخل ينهش قلبه وينخر روحه. ربما لأنه لم يستطع إشباع طمعه وتلهفه على السلطة، ويحسد المستطيعين.
- 16 -
بدأت الحلقات الصغيرة تتسع، والواسعة تضيق بانتقال الأساتذة بين حلقة وأخرى، وكل منهم يحمل توقيته ويتفاوض مع زملائه لتبديل حصة بحصة. استغربت من اقتراب الأستاذ حكيم بو علام مني، ودهشت من قوله بلهجة آمرة: "أريد تبديل حصة صباحية بحصة مسائية". أجبته مبتسما: "يسرني ذلك، لكننا لا نشترك في قسم واحد". أمسك لحيته الصغيرة من الزاوية السفلى، ونظر إلي بعينين متوسلتين هذه المرة، وقال هامساً: "أعرف". وسكت لحظة يبتلع ريقه ثم أضاف: "الحصة التي أريد تبديلها عند الأستاذ مقادري". فتحت عيني على مصراعيهما دهشة وعجبا، وقبل أن أفرك أذني لأتأكد مما سمعت أتم جملته الأخيرة بقوله: "من فضلك". أدركت أنه يريدني رسول سلام مؤقت بينه وبين مقادري. مهمته محددة وهي تبديل حصة بحصة، أما السلام الدائم فلا وجود له في قاموسهما.
حكيم بو علام والمنصف مقادري لا يكلم أحدهما الآخر، ويعتبره عدوه اللدود. يتجهم وجه الاثنين حين يتصادفان وكأن كلا منهما رأى الشيطان، رغم تجاورهما في السكن الوظيفي. ويحكى أن حكيم حين أحضر أمه لتسكن معه في أواخر العام الماضي أوصاها ألا تختلط بزوجة مقادري. لم يسبق أن تشاجرا في الثانوية أو السكن، فكرههما المتبادل مبدئي وليس شخصيا أو مصلحيا. كره مبدئي لأن كلا منهما ينغص بوجوده أحلام الآخر، فمقادري يحلم بقيام دولة عربية مسلمة لا يتكلم فيها أحد إلا العربية، ولا يلبس إلا القندورة والشاشية. وحكيم يحلم بدولة عصرية أمازيغية لغتها الفرنسية، وليس فيها للعرب ولا للعربية والإسلام مكان. وكل منهما يعرف أن الآخر يتمنى أن تكون لديه ممحاة سحرية ليمحوه مع ما يمثله ومن يمثله من الوجود. لكن المصلحة اليوم تقضي بأن يتفاهما، وهذه حالة خاصة، فإذا انقضت عادا إلى حالهما. وهما لا يستطيعان التحاور، فمقادري لا يحسن غير العربية، وحكيم حرم على نفسه الحديث بها. كان لا بد أن أكون وسيطا بينهما، وأثمرت الوساطة بتبديل الحصة برضى الطرفين.
حلت معظم مشاكل التوقيت في اليوم الأول، وظهر الارتياح في وجه معظم الأساتذة قبل أن يقرع جرس الثانية.
- 17 -
خرجت مع وجدي من القاعة بعد دخول التلاميذ والأساتذة ممن يعملون في المساء إلى الأقسام. كنا سعيدين بوجودنا معا في مؤسسة واحدة. مالت الشمس إلى الغرب، واستمتعنا بدفئها ونحن نقف في الحديقة الصغيرة التي يطل عليها الجناح الإداري وقاعة الأساتذة. اخضرت شجيرات الياسمين في مساكبها بينما تعرت شجيرات الورود ونبتات الخزامى والزهور الأخرى في انتظار الربيع. أما الأوراق الصفراء النادرة فيها فتدل على العناية الفائقة بتنظيمها وتنقيتها أولا بأول. سألت وجدي: "ما رأيك أن نطوف بأرجاء الثانوية لتأخذ فكرة عنها؟"
أجاب بلهجة هازلة: "لست مستعجلا، فأمامي العام بطوله للتعرف عليها". ثم أضاف بلهجة جادة: "لا بأس بأن نأخذ فكرة مجملة، فربما..". لم يتم عبارته، لكنني استنتجت أن تعيينه في الثانوية ليس نهائيا.
تقع الثانوية الجديدة، وهي تسمية مؤقتة لها في انتظار الاتفاق على اسم مناسب، في شارع مغلق، متفرع من شارع حسيبة بن بوعلي بالقرب من ساحة أول ماي وسط العاصمة. كان الاسم الذي اقترحه أحد المسؤولين في الوزارة هو اسم القائد العربي المسلم أبي عبيدة بن الجراح. وفيما كان القرار يعد، كلف المدير الأستاذ العروسي بإعداد نبذة عنه لتعريف التلاميذ به. وكادت اللوحة أن تعلق بالاسم الجديد لولا تدخل حكيم وعمار بتحريض من الناظر لدى جهات نافذة، فجمد القرار. واقترحت هذه الجهات اسم القائد الأمازيغي يوغرطة، واقترح المدير تسميتها طارق بن زياد لإرضاء الطرفين. لكن البلدية تدخلت معلنة أنها ستسمي الثانوية باسم أحد الشهداء، واقترحت أربعة أسماء. وهكذا ظل اسمها الثانوية الجديدة، لأن الاتفاق لم يتم بعد على اسم آخر.
تتألف من ثلاثة أجنحة، بالإضافة إلى الساحة الخارجية المربعة المخصصة لوقوف سيارات الإداريين والأساتذة. أما المتعاونون العرب والأجانب فسياراتهم حديثة لأنها معفاة من الجمارك، وهو ما يجعلهم موضع حسد البعض. وأما الجزائريون فسياراتهم معظمها قديم مستعمل كسيارة المدير "الفيات" الإيطالية، وسيارة الناظر الفرنسية بحصانين، وسيارة خالي العروسي ومقادري والاثنتان من نوع الثلاثة أحصنة. وأفخم سيارة في الثانوية سيارة جاك لوبتي السوداء من نوع بيجو آخر طراز.
وقفنا أمام الجناح الإداري الذي يشكل مستطيلا واجهته مفتوحة على سلم حجري عريض ذي ست درجات يؤدي إلى الساحة والجناح التعليمي المؤلف من طابقين. بدأ وجدي يروي ما حدث له صباحا مع المدير، حين وصلنا إلى الممر الذي يفصل بين مسكبتي الحديقة، كما يصل بين الباب الخارجي الذي يدخل منه الإداريون والأساتذة والزائرون، وبين السلالم المؤدية إلى ساحة الثانوية. قال: "وصلت إلى الثانوية ومعي قرار التعيين، وأخذته السكرتيرة إلى المدير فخرج وأعاد لي القرار وخاطبني بالفرنسية فلم أفهم شيئا. ترجمت السكرتيرة قوله لي: "آسف لا يمكنني قبولك في هذه الثانوية". صدمني جوابه غير المتوقع فسألته: "لماذا؟". ترجمت السكرتيرة من جديد: "لأن المكان ليس شاغرا. الأكاديمية أخطأت بتعيينك هنا، وسأكلمها لتجد لك مكانا آخر. أرجو أن تنتظر قليلا".
انتظرت عند السكرتيرة التي تعاطفت معي. كانت محرجة وأفهمتني أن المدير إنسان طيب، ولكنه يريد أستاذا فرنسيا للموسيقى يجيد استعمال الآلات الغربية. أحسست بالإهانة وشعرت فجأة بالغربة وبالحنين إلى بلدي مصر أو كما يقال بالعربية "الوُطان". عاد المدير بعد قليل بعد أن أكدت له الأكاديمية تعذر تلبية طلبه في الوقت الحاضر، وطلبت منه أن يقبلني مؤقتا ريثما ترسل له أستاذا حال توفره لديها. أخبرني بذلك بواسطة السكرتيرة، ثم استدعى الناظر، وبقيت واقفا دون أن يدعوني إلى الدخول. طلب منه أن يسلمني مفتاح قاعة الموسيقى، وأن ينبهني إلى الحرص على سلامة الآلات، ولا سيما البيانو. أما آلة العود فيمكنني استعمالها في انتظار وصول الأستاذ الفرنسي الذي وعدت به الأكاديمية. ترجم لي الناظر ما قاله المدير، وقادني إلى قاعة الموسيقى".
- 18 -
آلمني ما حدث لوجدي. لم أستطع الدفاع عن المدير لأنه بالفعل لا يحب الأساتذة الشرقيين. كان بالمقابل يحظى باحترامهم لا بحبهم. وذلك أمر طبيعي، فهو يعاملهم باحترام خال من الحب. كان المدير موضوعيا ومنهجيا في كل شيء إلا في نظرته إلى الشرقيين، فتخونه موضوعيته ومنهجيته حينذاك، ويلقي الأحكام جزافا دون روية وتفكير.
تذكرت ما حدث في بداية السنة الدراسية حين زار ثانوية عائشة التي كانت مركزا لاستقبال المعلمين الشرقيين. رأى في ساحتها امرأة ريفية مصرية كشفت عن صدرها لإرضاع ابنها، فقال للمديرة ساخرا: "انظري ما يرسله لنا المصريون لتعليم أبنائنا!". أجابته المديرة بحزم: "هذه زوجة معلم ريفية. وكيف تريدها أن تكون؟ وهل إذا طلبت موريتانيا منا إرسال معلمين بالفرنسية، سنرسل لها سفراء من وزارة الخارجية؟ نرسل لها بالطبع معلمين ريفيين مثل هؤلاء. ولا تظن أن الريف الفرنسي أو السويدي يختلف، فالريفيون طبيعيون ليس فيهم تصنع المدن وهذا لا يعيبهم، وأنا أفخر بكوني ريفية".
بهت المدير لأنها كانت على حق، ولأنه اكتشف فجأة تحامله على الشرقيين. أحس بخطئه، وكان ممن يعترفون بأخطائهم، فهز رأسه مؤمنا على كلامها.
قلت لوجدي مطمئنا: "لا تقلق، واترك لي هذا الموضوع. سأسويه مع المدير". قلت هذا لأنني أعرف أن المدير تهمه مصلحة الثانوية. وأعرف مستوى وجدي في الموسيقى، وهو كسب للثانوية. أعرف أيضا حب المدير لي فعلاقتي به ليست علاقة أستاذ بمدير فحسب، إذْ أنه يعتبرني كولده. قضى سنتين في سجن سركاجي مع والدي وخالي العروسي، ونشأت بين الثلاثة صداقة حميمة، وهو الذي أصر على تعييني في الثانوية الجديدة بعد تخرجي من القاهرة، ومنحني سكنا وظيفيا إكراما لذكرى أبي. أضفت قائلا: "سأذهب إلى المدير الآن لأكلمه في أمرك".
اعترض وجدي بشدة ممسكا بي بعصبية صارخا: "إياك أن تفعل. أرفض أن أعمل مع مدير لا يحترمني، وكما أنه لا يريدني فأنا لا أريده. سأعمل في ثانوية أخرى فلا تقلق علي. المهم أننا في بلد واحد". أدركت أن تدخلي يسيء إليه، ويمس كرامته فعدلت، لكنني رجوت في سري ألا تجد الأكاديمية أستاذا آخر لنبقى معا في الثانوية.
لم يكن حكم المدير المسبق على الشرقيين موقفا فرديا يخصه وحده. كانت هناك هجمة منظمة عليهم، يقودها من وراء ستار أصحاب المصالح والمرتبطون بالأجهزة الفرنسية ممن يعملون على إبعاد الجزائر عن العروبة والإسلام وجعلها فرنسية اللسان والروح. كانوا يروجون إشاعات مفادها أن أغلب المتعاونين الشرقيين ولا سيما المصريين، ليسوا أساتذة مختصين في بلادهم بل منهم الإسكافي والجزار والخباز وعامل المصعد. كان المكلفون بملفات الشرقيين يعرفون أن هذا زعم باطل، وأن مصر وسوريا والعراق كانت ترسل خيرة أساتذتها الجامعيين والثانويين إلى الجزائر. لم تؤثر هذه الشائعات على حب الجزائريين للمشارقة واحتضانهم لهم واعترافهم بفضلهم، فقد ربطت بينهم جسور من الدين واللغة والتاريخ المشترك منذ عصور الإسلام الأولى وتوطدت على مر الزمان، ولا سيما أثناء حرب التحرير.
كان المدير ممن تأثروا بهذه الشائعات لا ممّن روجوها، لأنه لم يعرف الشرقيين عن قرب في الماضي وتسربت إليه عن طريق ثقافته الفرنسية بعض الأفكار المغرضة عن العرب. أما معظم العاملين في الثانوية من معربين ومفرنسين فيحبون الشرقيين، فيما عدا زمرة قليلة لا يعتد بها. وكان الناظر يلعب بخبث ورقة الشرقيين مع المدير، فيتلكأ في إعداد ملفاتهم، وتسهيل أمور رواتبهم وتحويلاتهم، ويوهمهم أن المدير يفعل ذلك لأنه يكره العرب والمشارقة، وينقل إلى المدير احتجاجهم وتذمرهم مدعيا أنهم ليسوا في المستوى المطلوب.
-19-
سرنا في الممر الذي يقسم الجناح إلى قسمين متناظرين. كانت على يميننا الغرف التي تضم مكاتب المدير والناظر والمراقب العام. وفي الزاوية قاعة الأساتذة ثم غرفة المقتصد فالمصلحة التابعة له، فمغاسل الأساتذة والموظفين. وكانت على يسارنا المكتبة ومخابر العلوم واللغات وقاعة الخرائط، وفي الزاوية قاعة الرسم فقاعة الموسيقى ثم مدرج المحاضرات. وبعد حدود الحديقة يقع في أقصى اليمين مباشرة باب دخول التلاميذ.
أدرنا ظهرنا للجناح الإداري، فقابلنا الجناح التعليمي المؤلف من طابقين، وهو يشكل مربعا تصطف على أضلاعه الثلاثة الغرف المتشابهة في الطول والعرض والارتفاع وسعة النوافذ حول الساحة المطلة على السلالم من خلال الضلع المفتوح علينا. وفي صدر المبنى على الجانبين سلالم توصل إلى الطابق الأعلى المشابه تماما للأسفل.
لم نصعد السلالم بل سرنا عدة خطوات إلى يسار الجناح الإداري فوصلنا إلى بناء يضم المطعم والمسجد على شكل مستطيل كبير يناظره مستطيل آخر لقاعة الرياضة الشتوية. وبجانبها ملعب مكشوف، وبينهما ممر يؤدي إلى مسكن الإداريين المكون من ثلاثة طوابق.
قال وجدي بأسف: "مستطيل هنا ومستطيل هناك. مربع هنا ومربع هناك. أشكال رسمها مهندسون على الورق ليكون بينها تناسق فكان. لكنك لا تجد فيها أي لمسة جمال، ولا ترى فيها الطابع الجزائري للبناء". عرفت أنه سيصدم أكثر برؤية السكن الوظيفي، وهذا ما حدث بالفعل. فعندما وصلنا إلى عطفة قريبة من الثانوية، قابلتنا عمارتان متلاصقتان من سبعة طوابق. صممها وبناها مهندس مفتون بلعبة التناظر. أربع شقق متلاصقة في الطابق كلها متشابهة. كل النوافذ مربعة. كل الشرفات مستطيلة. ليس لها طابع عربي ولا أمازيغي ولا تركي ولا أوربي. إنها بلا شخصية. لا يعرف من هندسها وجنسيته. هي كبناء الثانوية؛ أحجار متراصة ملساء، لا نتوء فيها ولا زوائد. لا مقرنصات في الأعمدة ولا زخارف في الواجهة. تفتقر إلى حرارة ودفء بيوت القصبة العتيقة، وذوق الأبنية الفرنسية في ديدوش مراد والعربي بن مهيدي والتلملي التي لم يحرمها التناظر من لمسات الجمال. والفرق بين الثانوية والعمارة أن الثانوية طليت حديثا، بينما استحال بياض السكن الوظيفي إلى لون رمادي قاتم قريب من السواد. السلالم مظلمة ليس فيها نوافذ ولابد من إشعال النور في النهار. وهي متسخة تنظف مرة في الأسبوع وتحتفظ على الدوام برائحتها الكريهة. والساحة الخلفية مليئة بالأوساخ والقاذورات التي يرميها السكان من الأعلى ويتجاهلها عمال البلدية فتتراكم باستمرار. والسكن الوظيفي باختصار جزء من المجمعات والأحياء السكنية الحديثة التي تبنى دون أي مرافق اجتماعية وثقافية كحديقة للأطفال وملعب للرياضة وناد للشباب وغيرها.
علق وجدي ونحن نصعد إلى الشقة بقوله: "المجمعات السكنية متشابهة في كل المدن، سواء هنا أو هناك في القاهرة أو نيويورك أو طوكيو. ربما تكون نوعية الخدمات مقبولة أكثر في الدول المتقدمة، ولكنها تبقى كلها محتشدات جماعية ومساكن قصديرية ولو أنها من حجر وإسمنت.
-20-
فتحت باب شقتي في الطابق الأول من العمارة الأولى، ودعوت وجدي إلى الدخول. طفت معه في غرف البيت ليأخذ فكرة عن شقق العمارة من الداخل، ما دامت جميعها متشابهة. الحمام ودورة المياه في الجانب الأيمن من الدهليز الذي يصل باب الشقة بالصالون. المطبخ في الجانب الأيسر. وحين يعبر الداخل الدهليز إلى البهو "الصالون" تقابله نافذة كبيرة في صدره تطل على الساحة. قسمت البهو إلى قسمين؛ قسم قرب النافذة وضعت فيه غرفة طعام مستعملة، والقسم المجاور للدهليز فرشته بمقاعد جلدية.
قلت لوجدي: "هذه غرفتك". وأريته الغرفة الكبيرة في الجانب الأيمن، وفيها نافذة واسعة تطل على الساحة أيضا. أثثت الغرفة بسرير وخزانة ملابس فرديين ومكتبة متواضعة وطاولة مكتب صغيرة وكرسي. تفحص وجدي الغرفة وأجاب: "هذه غرفتك ولن أخرجك منها فلا تحاول". كان في الغرفتين الصغيرتين المقابلتين للكبيرة في جانب الصالون الأيسر فرش وأغطية لاستعمال الأهل والضيوف الذين يترددون على العاصمة من وقت لآخر للعلاج أو التسوق أو النزهة وفي كل غرفة شرفة تطل على المدخل. قال وجدي: "سآخذ إحدى هاتين حين أحضر أمتعتي غدا". وافقت على مضض فقد أحببت إكرامه بإعطائه غرفتي، وقلت له: "الحمام مجهز بسخان على الغاز إن أردت الاستحمام الآن".
-21-
سألني وجدي وهو في حالة استرخاء يرتشف القهوة بعد أن استحم: "أريد سؤالك عن أستاذة في الثانوية". أجبت قبل أن يكمل: "الأستاذة فايزة، أليس كذلك؟"
بانت الدهشة في عينيه، وسألني بسرعة سؤالين متلاحقين: "كيف عرفت؟ ومن أخبرك بالقصة؟"
ـ "مهلا، مهلا، أية قصة؟ كل ما في الأمر أني رأيتك تنظر إليها مليا صباح اليوم في قاعة الأساتذة". هز رأسه وقال: "لا بأس سأخبرك بما حدث لي معها في الصباح". وبدأ يروي حكايته مع فايزة:
"توجهت بعد مقابلة المدير غير المشجعة إلى المصالح الاقتصادية. سألت عن الموظف المكلف بملفات المتعاونين فأحالوني على "شريفة"، وهي فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة. وشعرها المصبوغ بالأشقر لا يتناسب بتاتا مع بشرتها السمراء القاتمة. سألتها عن الخطوات اللازمة لاستكمال الملف. أجابتني بالفرنسية وهي تلثغ بحرف الراء بأنها لا تفهم العربية. لم يتطوع أحد من الموظفين ليخبرني عن المطلوب، فكل منهم غارق في أوراقه. توجهت إلى قاعة الأساتذة لأبحث عن أستاذ مصري يساعدني فوجدت أستاذتين جالستين. حييتهما وسألت: "هل الأختان جزائريتان؟" نظرت إلي إحداهما شزرا، وأجابتني الأخرى بلطف: "نعم. وأنت؟"
ـ "أنا مصري وأرجو أن تساعدني إحداكما في ترجمة ما تقوله موظفة المحاسبة فأنا لا أعرف الفرنسية". خاطبتني صاحبة النظرة النارية بلهجة وقحة: "ومن أخبرك أننا نعمل مترجمات؟"
نهضت الأخرى وأجابت بلطف: "سأذهب معك". وانطلقنا. اعتذرت عن تصرف صديقتها قائلة: "أرجو ألا تنزعج من كلام زميلتي فايزة".
ـ "لن أنزعج فقد تعودت. تلقيت اليوم ثلاث إهانات. هل تستطيعين أن تشرحي لي لماذا تكرهون المصريين؟".
أجابت بدهشة: "مطلقا. من قال ذلك؟ على العكس تماما. نحن نحبهم". ثم استدركت مضيفة: "لعلك ظننت أن فايزة تكره المصريين؟"
ـ "سمعت بأذنك ما قالت".
ـ "المسألة أعقد من ذلك. كيف أشرح لك؟ إنها تكره الرجال جزائريين كانوا أو مصريين أو سويديين لا فرق عندها، ولم أكن أريد الحديث عن مشكلة صديقتي لولا أنك فهمت خطأ".
ـ "وما السبب؟"
ـ "تجربة زواج قاسية أفقدتها الثقة في كل الرجال".
عرفتها بنفسي، وعرفت أن اسمها نادية وتدرس الرسم. وحين وصلنا تحدثت نادية مع الشقراء المزيفة بالدارجة، وقدمتني إليها. تغيرت معاملتها واعتذرت بأنها لا تفهم اللهجة المصرية، وزودتني بالمعلومات اللازمة. شكرت نادية وتوجهت إلى قاعة الموسيقى لأعاين الآلات.
سألت وجدي: "ما الذي تريد معرفته عن فايزة؟"
ـ "هل صحيح أنها مرت بتجربة قاسية؟ وهل لديك تفاصيل؟"
ـ "سأروي لك القصة التي يتناقلها الجميع: "زوجها أهلها في السادسة عشرة من شاب في الحي من عائلة ميسورة، لا طمعا في مال أبويه الغنيين وهو وحيدهما، ولكن لأنهما جيران، وكانت تميل إليه ويميل إليها. أخذه بعض أقرانه يوم عرسه فأسكروه، وأقنعوه أن الرجل يجب أن يشكم المرأة ليلة الدخلة، ليثبت لها أنه رجل، وأنه الآمر الناهي فتطيعه وتتعلق به. أما إن كان ضعيفا احتقرته وكرهته. عليه أن يغلق الباب ثم يضربها ضربا مبرحا تتذكره كلما حاولت الخروج عن طاعته فتستقيم.
كانت قبل ذلك تحبه لخجله وطيبته. لكنه هذه الليلة دخل عليها متنمرا، وبدأ يخلع ثيابها بعنف ودون مقدمات، فأظهرت ممانعة فيها من الدلال أكثر ما فيها من المقاومة. تغيرت سحنته فجأة فأمسك بمعصميها وفوجئت به يلفهما بحبل بحيث لم تعد تستطيع الحراك. وعراها ممزقا ثيابها ثم أخذ يلطمها على وجهها بكل قوته حتى سال الدم من أنفها وفمها، وهو يصرخ كالوحش الهائج: "أنا الرجل هنا. أنا الآمر الناهي". وأخذ عصا المكنسة التي هيأها من قبل، وهجم عليها. ذهلت العروس من سلوكه الوحشي فلم تستطع حتى الصراخ. ومن حسن حظها أنه نسي إغلاق الباب بالمزلاج ففتحت الباب بأصابعها، ومعصماها مقيدان. وهربت من الغرفة. فوجئ الأهل والأحباب والجيران الذين كانوا لا يزالون ساهرين يغنون ويرقصون حين رأوها تهبط السلالم راكضة، وتخرج من الدار عارية كما ولدتها أمها، مقيدة اليدين وهي تصرخ من الفزع بأعلى صوتها كمن مسته العفاريت. اتجهت نحو بيتها وأخذت تطرق بابه بقوة دقا متواليا وهي تنظر حولها خائفة من أن يلحق بها زوجها ويعيدها بالقوة قبل أن يفتح الباب. لحق بها أهلها بسرعة وغطّوها برداء، وأدخلوها دارها. ظلت ترتجف طيلة الليل وهي معانقة أمها. انقلب العرس إلى مأتم وتمت بعد ذلك إجراءات الطلاق في هدوء وبرضى العائلتين.
انصرفت فايزة إلى دراستها فأتمت الدراسة الثانوية ثم الجامعية، وحصلت على ليسانس في الفلسفة. لكنها لم تستطع أن تتخلص من عقدتها في الخوف من الرجال كل الرجال، ما دام من أحبته منذ صغرها وتوسمت فيه الخير انقلب إنسانا آخر حين تزوجته. وهي حتى الآن ترفض الزواج رفضا قاطعا بالرغم من كثرة من تقدموا لها".
ـ "ألا تتحدث مع الرجال؟"
ـ "بلى. وتبدو طبيعية مع زملائها، وتشارك في النشاطات المدرسية، ولاسيما المسرحية، فهي تحب المسرح كثيرا، وتشرف على إخراج بعض المسرحيات للتلاميذ، لكنها لا تتبسط مع أحد، خاصة مع الغرباء".
تأثر وجدي حتى لمعت الدموع في عينيه، وقال بصوت تكاد تخنقه الدموع: «مسكينة. أوقعها حظها في شاب أحمق لم يقدرها حق قدرها". شعرت بأنه تعاطف معها وأشفق عليها لأنها مثله ضحية اختيار غير موفق لشريك العمر.
- 22 -
كانت التاكسي تتجه بنا نحو حيدرة، حيث تواعد وجدي مع صديقه أن ينتظره في الساعة السابعة في موقف الساحة. لم أدعه يذهب وحده، فهو لا يعرف شوارع المدينة بعد. اتفقنا أن يحضر أمتعته في الغد إلى الثانوية ليسكن معي. توقف المرور قبل أن نصل إلى حيدرة بسبب الازدحام في الشارع الرئيسي فلجأ السائق إلى شارع فرعي. انطلق من مسجّلة السيّارة صوت أحمد وهبي بأغنية "يادزاير زينك خطف عقلي"، حين عبقت فجأة روائح الفل والياسمين من حدائق الفيلات والقصور القائمة على الجانبين، والمسوّرة بأسوار لا تسمح للطفيليين برؤية ما بداخلها، لكنها لا تخفي بهاءها وجمالها والتنافس في طراز عمارتها وزخرفتها.
أنهى الاستقلال التقسيم العنصري لمدينة الجزائر لؤلؤة المتوسط الفريدة، ذات الألف عام. كانت مقسمة عنصريا وطبقيا وعمرانيا إلى قسمين رئيسيين: القسم الأوربي ويقع وسط المدينة مطلا على الخليج. ويشكل بأبنيته البيضاء المتدرجة على الهضبة المطلة على البحر، مع الحدائق الغناء والغابات البديعة الخضراء المحيطة به، والشواطئ الرملية الأسطورية، لوحة خلابة تأخذ بألباب من يراها لأول مرة من البحر أو البر أو الجو، بينما يحتشد الجزائريون في القصبة ذات الطابع الإسلامي العربي والتركي، أو يعزلون في الضواحي. وانتهى هذا التقسيم بسكن الجزائريين على اختلاف مناطقهم ووظائفهم في مساكن الأوروبيين الذين غادر معظمهم بعد الاستقلال.
ها هي الأبنية الجديدة والفيلات الفخمة تقسم ساكنيها من جديد. وعلى أساس مختلف هذه المرة. توسعت ما كانت تسمى بالمدينة الأوربية أضعاف المرات من الجنوب، والجنوب الشرقي والجنوب الغربي في شكل فيلات فخمة للإطارات المسيرة، وتجمعات سكنية مبتذلة للموظفين والعمال. واستطاع كثير من مسؤولي الشركات والمؤسسات ـ فيما عدا قلة من النزيهين منهم ـ في إطار تبادل الخدمات مع بعضهم بعضا، ومع من يماثلهم من مسؤولي البلديات، أن يبنوا على أرض الدولة، وبإسمنت الدولة وبرخامها وبلاطها، وبتصميم مهندسي الدولة، وبسواعد عمال الدولة، وباستخدام سيارات الدولة وآلياتها، أحياء مثل هذا الحي، ليتمتعوا بالفيلات الفخمة ذات الحدائق الغناء وأحواض السباحة التي تسقى وتملأ بموتورات الدولة بينما لا يصل ماء الشرب إلى كثير من الأحياء السكنية. كل هذا في ظل نظام يرفع شعار الاشتراكية، فكيف لو رفع شعار الرأسمالية؟ في هذه الفيلات التي سورت بأسوار عالية لتكون بمنأى عن عيون الرقباء ترى من لمسات الذوق والجمال ما تفنن المهندسون الجزائريون والمتعاونون من مختلف الجنسيات في إنجازه في فترة نشاطهم وإبداعهم، وتنافسوا في تزيين سقوفه وأعمدته وواجهاته بالزخارف والمقرنصات والتيجان والقبب من طراز عربي وأمازيغي وتركي وأوربي، مما ستفخر به جزائر المستقبل. أما في أوقات سأمهم وتعبهم التي يخونهم فيها الإلهام، فيرسمون مربعات ومستطيلات ومثلثات ثم ينسخون منها ما يحتاجونه ليقيموا مدارس وأحياء سكنية لا لون لها ولا طعم. وأما الرائحة فتلك مسألة أخرى.
-23-
فجأة خرج أمامنا من أحد الفيلات الناظر سالم الزين. تجاوزته السيارة. نظرت إلى الخلف فوجدته يركب في سيارته الـ"دو شوفو". لا شك أنه كان يزور السيد عبد العظيم. لا أعرف فيلا السيد عبد العظيم لكن خالي العروسي الذي حضر فيها خطبة ابنة أحد معارفه حدثني عن فخامتها، وبذخ صاحبها، وعن قاعاتها المتنوعة ذات الطراز الجزائري بأبعاده التاريخية المتنوعة في معمارها وأثاثها وفرشها واللوحات الفنية التي تزين جدرانها. استغربت ما قاله لي خالي ساعتها حين استنكرت هذا الإثراء غير المشروع: "لا بد من وجود طبقة ثرية تشجع العمران، وتبني القصور الفخمة لأنها تبقى تراثا للبلاد وعنوانا للحضارة. هؤلاء هم الذين يشجعون الفنون الجزائرية، ويقتنون لوحات الفنانين الجزائريين ويعرضونها. ويشترون الكتب، فيشجعون الأدب والأدباء، والمطربين والموسيقيين الجزائريين. نحتاج إلى طبقة ثرية متنورة تتذوق الجمال للنهضة بالأدب والفن الجزائري بكل أنواعه". وأضاف كأنه يجيب على ما قرأه في عيني من استنكار: "لو كانت الدنيا كلها زُهّاداً مثلي لما عمرت الأرض".
ما زلت أفكر فيما قاله خالي. أراه بمنظار العدل فلا أستسيغه. وأراه بمنظار الحضارة فلا أستهجنه. والعدل والحضارة لا ينظر إليهما بمنظار واحد. وأتساءل مع ذلك: "ما نوع الحضارة التي يمكن أن يبنيها أمثال السيد عبد العظيم الذي يريد إنجاح ابنه بالغش؟"
لقراءة الجزء التالي انقر هنا: 2- الأسبوع الأول: الاعتراف بالخطأ فضيلة
للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: جرس الدّخول إلى الحصّة
للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا: الرّوايـات