الورقة العاشرة

من رواية حب في قاعة التحرير

     للكاتب عبد الله خمّار

 

القـطيعـة

قادتني قدماي إلى الجريدة. اليوم الخميس يوم عطلة الجريدة. لكن عبد الحفيظ لا يعترف بالعطل. حياته كلها عمل متواصل. قرعت الجرس وانتظرت. فتح عبد الحفيظ الباب ودعاني إلى الدخول. كان وجهه متجهما على غير العادة فاستعذت بالله وقلت في نفسي: "ماذا صنعت حتى يقابلني اليوم من أحبهم بوجه متجهم؟" لكنه لم يلبث أن نقل لي خبراً صاعقا كاد يفقدني توازني: "نصيرة حاولت الانتحار مساء أمس ونقلت إلى مستشفى مصطفى وهي في غرفة الإنعاش".

آلمني الخبر كثيراً، وعرفت سبب غياب آسيا وبقاء سماح وحدها اليوم وكنت متلهفاً على سماع ما حدث بالتفصيل:

    "استجوبها الكوميسير في الفيلا بحيدرة بحضور آسيا وموافقتها. سألها عن سبب طلب العودة عن طريق الغابة فأجابته بأنها تحب منظر الطبيعة في الليل. ثم سألها إن كان سبب طلب التوقف في الغابة ناتجا عن المرض أو أنها اتفقت مع المجرمين على الوقوف في تلك النقطة بالذات فأنكرت بشدة. وحين سألها عن الشاب الذي زارها في المنزل يوم الجمعة أثناء غياب سماح في تلمسان وآسيا في الجريدة، أنكرت أنها استقبلت أحدا. وحين ضيق عليها واتهمها بخيانة الأمانة والثقة نفرت الدموع من عينيها وصرخت: "سماح تعرفني جيدا وتثق بي وتعرف أني بريئة".

أمسكها من يدها وهزها بقوة قائلا: "سماح اكتشفت خيانتك أنت وابن عمتك نوّار وهي التي طلبت مني التحقيق معك ولن تثق بك بعد الآن".

وقالت لها آسيا: "ائتمنتك على ابنتي وكانت تعتبرك أختاً لها فقولي لنا الحقيقة لنساعدك. هل دبرت الحادثة فعلا مع نوّار؟"

سحبت يدها بقوة وهربت إلى غرفتها وأغلقت الباب من الداخل.    طلبت آسيا من الكوميسير أن يتركها فترة من الوقت لتهدأ وبعد ربع ساعة طرقت الباب عليها فلم تجب. وأعادت الطرق بقوة فلم تجب. خافت عليها وطلبت من الكوميسير خلع الباب. وجداها في حالة إغماء والدم ينزف منها وبجانبها مقص قطعت به شريان يدها اليسرى.

قلت في نفسي: "إنها بذلك تثبت التهمة على نفسها".

كانت هناك ورقة تركتها بجانب المقص كتب فيها:

"حبيبي نوّار

سامحني لأني تركتك. عاهدتك ألا يفرق بيننا إلا الموت وها أنا أتركك وحيدا".  نصيرة                                                           

- "أرجو أن تتحسن حالتها لنعرف الحقيقة".

- "ما رأي الكوميسير؟"

- "هو واثق من إدانتها، وينتظر تحسن حالتها الصحية ليستجوبها من جديد".

 *

أطلعني عبد الحفيظ على إحدى الصحف المسائية التي كتبت تفاصيل ما حدث لسماح ومحاولة انتحار نصيرة ونص الرسالة التي تركتها لابن عمتها نوار وهو مشتبه به مجهول العنوان ويبحث عنه رجال الشرطة. ونشرت مع الخبر صورة مكبرة لسماح على كرسي الإعاقة. وقد ذكرت اسمها الكامل واختصاصها كمهندسة كمبيوتر وطبيعة عملها في جريدة الضياء واسم المصحة الخاصة التي تعالج فيها.

وأراني بعد ذلك من أرشيفه تحقيقا منشورا أجراه منذ سنوات مع الناجين من مذابح الإرهابيين وبينهم نصيرة. أجابت عن سؤال: "هل تعرفين من قام بذبح أهلك؟"

-      "نعم. اسمه حسني ويسمي نفسه الأمير مسعود. استدعيت كشاهدة حين اعتقل وحضرت محاكمته".

-      "كيف كان شعورك وأنت ترينه؟"

-     "لا أدري بالضبط. كنت أنتظر أن أرى رجلا ضخما عريضا ذا لحية كثة وشعر طويل وأنياب حادة، ولكني وجدته شابا نحيلا حليق الذقن ليس فيه ما يوحي بأنه وحش كاسر. لم أصدق أن مثل هذا الشاب في الواحدة أو الثانية والعشرين يمكن أن يرتكب هذه المجزرة الرهيبة، ولكنه حين تكلم ظهرت أنيابه وأظافره وساطوره وسكاكينه".

-     "هل تتذكرين ما قاله؟"

-     "أذكر ذلك ولا أنساه. سأله رئيس المحكمة بعد أن اعترف بقتل عائلتي وبجرائمه الأخرى: هل تعرف أنك قتلت أناسا أبرياء ستحاسب عليهم عند الله تعالى؟"

-     "أنا قتلتهم تقربا إلى الله تعالى، وليسوا أبرياء بل كفرة فجرة!"

-     "والأطفال الذين ذبحتهم، أليسوا أبرياء؟ هل يستطيعون التمييز بين الخير والشر؟ وهل هم مكلفون شرعا؟"

-     "هؤلاء الأطفال هم أبرياء الآن ولكنهم أولاد كفرة وسيكونون كفرة في المستقبل. قال نوح عليه السلام في السورة التي تحمل اسمه: "ربِّ لا تذرْ على الأرض من الكافرين ديّارا. إنّك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا".

أجابه رئيس المحكمة: "نوح دعا قومه إلى الإيمان أكثر من تسعمائة عام، فهل أنت نبي؟ وكم سنة ظللت تدعو قومك إلى الإيمان؟ ألم يقل الرسول عليه الصلاة والسلام حين آذاه قومه: "رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون". ألست مسلما؟ لماذا لا تقتدي بالرسول الكريم؟"

صمت ولم يجب، سأله رئيس المحكمة مرة أخرى: "هل أنت نادم على ما فعلته؟"

فأجاب بملء فمه مصرا على قناعته وأفعاله: "لا يندم الإنسان على عمل يتقرب به إلى الله".

سألها رئيس المحكمة: "بماذا شعرت وأنت تسمعينه يبرر جرائمه ويصر عليها؟"

-      "شعرت بأنه إنسان مريض وخطر في الوقت نفسه. هناك أناس غسلوا دماغه وأقنعوه بأن ما يفعله هو الحق. رؤوس الفتنة الذين أفتوا له بقتل الأبرياء هم أخطر منه. وما دامت الرؤوس التي تفتي بقتل الأبرياء موجودة، فلا جدوى من القضاء على الأذناب. ستخرج للأفاعي كل يوم أذناب جديدة".

-      "هل تريدين أن تضيفي شيئا؟"

-       "نعم. هناك من يحاول إقناعي بأن الإسلاميين هم الذين قتلوا أهلي، وهذا غير صحيح. ليس كل من صعدوا إلى الجبل قتلة ومجرمين. ولكن هناك من يحاولون وضع الإسلاميين كلهم في سلة واحدة".

سألت عبد الحفيظ بعد أن أكملت قراءة التحقيق: "وبماذا حُكِمَ عليه؟"

-     "قتِلَ قبل أن تنتهي محاكمته في أحداث سجن "سركاجي" حين حاول الهرب مع بعض المساجين".

سألني عبد الحفيظ بدوره: "ما رأيك بنصيرة الآن؟"

-     "تبدو إنسانة متزنة وموضوعية وخلوقة، ولا يمكن أن تشترك في سرقة العقد".

قال لي عبد الحفيظ: "وهذا رأيي أيضا، ولكن يجب أن نترك دائما مجالا لتغير النفس البشرية نتيجة للإغراءات التي تتعرض لها".

أخبرت عبد الحفيظ بما فعلته سماح وأبديت نيتي في الاستقالة من الجريدة، ورجوته إبلاغ آسيا بأني قطعت كل علاقة بابنتها بعد أن طردتني وأهانتني. نصحني عبد الحفيظ بالفصل بين عملي وعلاقتي بسماح ووعد بإبلاغ آسيا رسالتي.

 *

توجهت يوم الجمعة بعد لقائي الأسبوعي مع بوعلام في محل الأنترنت إلى الجريدة. واستقبلني نبأ حصول سامي على جائزة أفضل قصيدة شعرية لهذا العام نظمتها جمعية عربية ثقافية مشرقية. قرأت بعضا من شعره ولا شك في أنه شاعر، لكنه كما قالت كريمة في تعليق قديم لها على شعره بأنه يشعر بنفسه أكثر من شعوره بالآخرين. ربما يحسن التعبير في المواضيع الذاتية أما المواضيع الاجتماعية والوطنية فلا يحسن التعبير عنها.

 عنوان القصيدة التي حصل فيها على الجائزة "أنا". قرأها علينا شاكر بنبرة إعجاب بها. لا أذكر كلماتها ولكنه يعتبر نفسه فيها مركز الكون وبدايته ونهايته. هو بحر العلوم وكنز المعرفة. هو ضياء الشمس ونور القمر. هو الزهرة والنحلة والطير والسمكة.. الخ

الطريف أن لجنة التحكيم اعتبرتها قصيدة صوفية رائعة تتحدث عن وحدة الوجود. علقت كريمة:

"لا أعتقد بأن سامي سمع يوما عن الحلاج أو قرأ شيئا لابن العربي أو يدرك معنى وحدة الوجود أو مبدأ الحلول. إنه يتحدث في القصيدة عن نفسه بنرجسية واضحة من غير لبس أو غموض أو ترميز. ولكن القارئ الذي لا يعرف سامي يظن القصيدة حافلة بالرموز الصوفية". ضحكت أنا ومسعودة مؤمنين على قول كريمة. وعلى عبث لجان التحكيم التي تمنح الجوائز لكل من هب ودب.

لكن شاكر لم يضحك وفاجأنا بقوله: "ومن منا يعرف سامي حق المعرفة ليحكم عليه؟ نحن نعرفه كزميل صحفي وننظر إليه بمنظار المهنة وبمنظار علاقتنا به ولكننا لا نعرفه كإنسان ولا كشاعر.

ليس من الضروري في اعتقادي أن يعرف الإنسان أو الشاعر المصطلحات الصوفية ليصبح صوفيا. الصوفية إحساس بالتوحد مع الطبيعة ومع الكون. وقد استطاع سامي أن يعبر عن هذا الإحساس ونجح في ذلك. نحن ننتقص من قيمة القصيدة لأننا نعرفه ونعتقد أننا خير منه. قد نكون خيرا منه كصحفيين، وربما لا يكون صحفيا جيدا ولكنه بالتأكيد شاعر مبدع. لا بدّ أن نقرأ القصيدة بمعزل عن سلوك الشاعر ومعرفتنا به، فقد أصبحت إبداعا فنيا لها وجود مستقل عنه. أعتقد أنّ من لا يعرف الشاعر يقيّم شعره تقييما فنيا موضوعيا أفضل بكثير مِمَّن يعرفه".

أضافت حفيظة: "من الأفضل أن نهنئه من قلوبنا وأن نقيم له حفلة صغيرة ليشعر بأننا لسنا غيورين ولا حسودين فليس من الإنصاف أن يُكرّم عربيا ويُسخر منه في بلده ومقر عمله".

لم يعلق أحد على ما قاله شاكر. لم أستطع هضم كل ما قاله ولكني بدأت أعيد النظر في تقييمي لسامي فلا يجوز لي أن أقيمه على أساس علاقتي المهنية التنافسية به وحدها.

 *

كان اجتماع الجمعة هذا الأسبوع فاترا تغيب عنه ساطع عبد الحسين لمرضه ولكنه أرسل أخبار وتعليقات الصفحة الدولية وكلها عن العراق. وتظهر هذه التعليقات سخط الشعوب والجمعيات المدنية والمنظمات الإنسانية على مشعلي هذه الحرب وعجزها عن إيقافها في الوقت نفسه. وحتى الصفحات الوطنية والثقافية حفلت بالنشاطات المختلفة لنصرة الشعب العراقي.

كانت آسيا خلال الاجتماع بادية الحزن والكآبة، غير أنها لم تنس تهنئة سامي وأظهرت افتخار الجريدة بأن أحد محرريها حصل على جائزة عربية هامة. أقمنا له في نهاية الاجتماع حفلة شاي صغيرة وقدمت له آسيا مسجلة صغيرة من النوع الفاخر. لم يغير حصوله على الجائزة من نظرتي إليه ورغم أنني لا أحبه فلم أشعر نحوه بالإعجاب ولا أدري إن كنت بدأت أشعر بالغيرة منه.

 *

قال لي عبد الحفيظ بعد نهاية الاجتماع: "آسيا تريد أن تتحدث إليك".

دخلت مع عبد الحفيظ إلى مكتبها فطلبت منا الجلوس وبدأت حديثها عن ابنتها بلهجة حزينة ممزوجة بالندم دون مقدمات:

"لا ألوم إلا نفسي فانا المخطئة. أردت أن أربي ابنتي على عدم الخوف وأنير عقلها ولم أدر أنني سأسبب لها الهلع والفزع والاكتئاب وعدم التلاؤم مع المجتمع. ربيتها على العقل وحده وكنت أختار لها ما تقرأ منذ صغرها وأناقشها فيه. وحتى الدين أفهمتها أنه عقل فقط وليس معجزات وخوارق وأفهمتها أن معجزات الأولياء لا صحة لها وأنها خرافات يتناقلها الجهلة والبسطاء.

  أردت أن أجنبها تجربتي مع الخوف وأنا صغيرة وأن تكون نموذجا للأجيال الجديدة التي تنشأ على منهج العقل بعيدا عن تأثير المشعوذين والدجالين مِمَّن جهلوا الشعب وخوفوه من الجن والعفاريت وحشوا ذهنه بالخرافات ليستغلوه ويسيطروا عليه. وعمل المستعمرون على إخضاعه بنشر الآراء التي تدعو إلى الاستسلام للقضاء والقدر فأصبح معنى التدين هو الاستسلام، أما الثورة على الاستعمار فهي كفر لأنها رفض للقضاء والقدر. أردت أن تكون الأجيال الجديدة مسلحة بسلاح العلم وحده وكنت أظنه يكفي.

أخفيت من المكتبة كتب الأطفال التي تغذي الخيال والمستوحاة من ألف ليلة حتى أنمي عقلها فلم أرض لها أن تقرأ السندباد ورحلاته العجيبة ولا علاء الدين والمصباح السحري لأنها قصص خرافية بعيدة عن الواقع. وحتى القصص الأجنبية مثل أليس في بلاد العجائب والثلجة البيضاء لم أضعها بين يديها. وضعت تحت تصرفها القصص والموسوعات العلمية للأطفال ولما كانت المكتبة العربية فقيرة بهذا النوع فقد اعتمدت كليا على الكتب الفرنسية. ولم أكن أدري أنني أغذي عقلها وأهمل تغذية خيالها وعواطفها فنشأت تكره الشعر ولا تميل إلى الفنون.

  كنت أناقشها فيما تقرأ وأرى تطور عقلها وأنا سعيدة بمحاكمتها المنطقية للأمور. ولأني علمتها ألا تقبل إلا ما يقبله العقل حتى في الدين لم أفاجأ بأسئلتها الغريبة عن الإسلام والأديان الأخرى. كانت تصلي وتصوم في صغرها فتركت الصلاة والصوم ولم أبال، لأنني ظننت أن العقل سيدلها على الأجوبة الصحيحة. لكني اكتشفت أن الدين لا يدرك بالعقل وحده بل بالعقل والقلب معا. القيادة للعقل في الأمور الدنيوية، أما الأمور الغيبية فيقصر العقل عن إدراكها فيقوده القلب فيها. الإيمان يبدأ بالقلب ويردفه العقل والقلب المغلق لا يمكن للعقل أن يسعفه في مسألة الإيمان.

  اهتممت بتكوينها العلمي فكانت الأولى في قسمها في المواد العلمية ولكنني أهملت عواطفها وخيالها ولم أهيئها لذلك".

تنهدت بعمق فلم يقاطعها أو يعلق أحدنا على مقالها ثم أضافت: "لو كانت الحياة لعبة شطرنج لنجحت سماح فيها أيما نجاح ولكنها ليست كذلك. لعبة الحياة لا تعتمد على الذكاء وحده بل على حسن التصرف والتلاؤم مع الواقع وهذا ما لا تحسنه ابنتي.

  نشأت تواجه الحياة بعقلها فقط فلم تستطع التلاؤم مع الناس وكانت علاقاتها الإنسانية منذ صغرها حافلة بالإخفاق فليس لها صديقات تقاسمهن ميولهن وتشاركهن عواطفهن. كانت تفسد كل شيء بتشريحها العقلي للحياة وتسفيه آراء من حولها وعدم قدرتها على التلاؤم مع أحد. حتى أساتذتها كانوا يمتدحون ذكاءها الشديد ولكنهم يلاحظون زهدها في الآداب والفنون وتعثرها في علاقاتها مع زملائها وزميلاتها. كانت تقول ما يخطر ببالها دون أن تزنه بميزان المجتمع وتعتبر المجاملة نفاقا مصطنعاً.

رحم الله أبي. كان حكيما فنمّى عقلي ولم يهمل قلبي وروحي".

ثم التفتت إلي قائلة: "كنت أخاف ألا تحب، وألا يخفق قلبها لأحد. كانت دائما هي المحبوبة ولكنها عندما كبرت أصبحت تخاف من الفشل في علاقاتها مع النساء والرجال. ليست لها إلا صديقة واحدة هي نوال التي تثق بها ثقة عمياء كما كانت تثق بنصيرة وفيما عدا ذلك كانت لا تثق بأحد. فرحت عندما خفق قلبها بحبك. كان المدخل إلى حبك عقلها لأنها وثقت بك فلم تكن تثق كثيرا بالرجال بعد أن تأثرت سلبيا بتجربتي وأحيانا يتأثر المشاهد بالتجربة أكثر ممن يعانيها شخصيا. وتحرك قلبها بعد عقلها فأحبتك بقوة. لم أكن أستطيع أن أتدخل في حياتها وأقرر بدلاً منها، فلا يمكننا أن نكون مع أولادنا طيلة الوقت، وعليهم أن يواجهوا الحياة بأنفسهم. ربما أثرت صدمتها بصديقتها نصيرة عليها فأصبحت تشك حتى فيك أنت. أرجو أن تعذرها حتى وإن قررت أن تقطع صلتك بها".

 *

طلبت من عبد الحفيظ أن نزور نصيرة في المستشفى لأنني أحسست بأنها مظلومة. سمح لنا الأطباء بمقابلتها بعد أن تحسنت حالتها.

كان أول ما قالته لنا: "لماذا لم تتركوني أموت وأستريح؟ كنت أظن أن الحياة عوضتني بعد فقدان أهلي بسماح كأخت أجد في كنفها الأمان وبآسيا كأم أجد في صدرها الحنان. وها هي الدنيا تنكرت لي من جديد، واتهمني من كنت آمل أن يحميني. لماذا لم تتركوني أموت؟ لماذا؟ لماذا؟"

    صدرت مذكرة توقيف بحقها ووجهت إليها تهمة الاشتراك في عملية سطو وسرقة وشروع في قتل. أنكرت نصيرة كل التهم الموجهة إليها وحين سئلت عن الشاب أنكرت أنها استقبلت أحدا. وحين ذكر اسم نوّار أمامها بكت وأقسمت أنها لم تره منذ مدة ولا علاقة له بالموضوع ثم صرخت: "اتركوه وشأنه. حرام عليكم فهو الوحيد الذي بقي من عائلتنا. ألا يكفي أن أخاه مفقود ولا يعرف أحد إن كان حيا أو ميتا؟"

لم يخبر أحد سماح بما حدث. أما الكوميسير فيؤكد أنها مذنبة. وحين أخبرنا آسيا بما قالته همهمت في حيرة: "دعوا العدالة تقول كلمتها".

مساء ذلك اليوم تلقت آسيا على هاتف الجريدة مكالمة هاتفية من مجهول يهددها فيه بالموت هي وابنتها إن مس "نصيرة" سوء. أخبرت الكوميسير بذلك وسجل كشاف هاتف الجريدة رقم الهاتف الذي جرت المكالمة منه ولكنه كان من هاتف عمومي في ساحة الشهداء بالعاصمة. تذكر صاحب المحل أن المتكلم كان يلبس جلابة بيضاء ويغطي رأسه بقبعة ويضع نظارة. رجحت هذه المكالمة ثبوت التهمة على نصيرة وعلى علاقتها بالمهاجمين ورجح الكوميسير أن يكون نوّار نفسه هو المتكلم.

 *

علق الشيخ الواقف بجانبي ينتظر الحافلة وهو يشير إلى صورة ملصقة في مؤخَّرة إحدى الحافلات: "انظر إلى الجمال المعاق! كم هي جميلة وحزينة". نظرت وفوجئت بصورة "سماح" على كرسي الإعاقة وقد كتب فوقها: "أيها السائق! احذر السرعة! الرعونة والطيش تسببتا في إعاقة هذه الصبية". أضاف الشيخ: "إنَّ جرم السائق الذي تسبب في هذا مضاعف. أليست إعاقة الصِّبا والجمال من أفظع الجرائم؟"

انتبهت فوجدت الصورة معلقة في معظم الحافلات. وحين سارت بنا الحافلة رأيتها مثبتة في مفترق الطرق وفي الطرق السريعة بأحجام مختلفة. تجمع صورتها بين كبرياء الجمال وأسى الإعاقة. شعرت للحظة بالغيرة حتى وأنا غاضب منها. كنت أودُّ ألاّ يشاركني أحد حتى في الحزن والإشفاق عليها. لكنني سخرت من غيرتي الطفولية، وقلت في نفسي لا بدّ أنها وافقت على استخدام صورتها للتقليل من حوادث المرور وحتى لا يتكرر ذلك مع صبية أخرى، ولو لم يكن الهدف نبيلاً لما فعلت، فهي لا تحبُّ أن تثير شفقة أحد.

 *

زارني الموظف "علي ن" في الجريدة وشكرني بحرارة ودعاني إلى بيته وأصر على أن يعرفني بأسرته وأولاده الذين كنت سبب إنقاذهم من المأساة التي عاشوها خلال ست سنوات. اعتذرت بلباقة وسألته أن يدعوني إلى فنجان قهوة في أحد المقاهي القريبة.

قال لي: "فقدت ثقتي بالناس بعدما حدث لي. لا أحد اهتم بمشكلتي مثلك".

أجبته: "إياك أن تفقد ثقتك بالناس. لم أكن أستطيع مساعدتك وحدي لولا شهادة زملائك بك وتحمس رئيسي في العمل وتجاوب مدير مكتب الوزير والوزير نفسه. الدنيا ما زالت بخير".

- "ولكنني ظللت أصرخ مدة ست سنوات ولم يسمع صراخي أحد".

- "يجب أن تعذر الناس فنحن مررنا بظروف صعبة بسبب الإرهاب جعلت الناس يخافون أن يتدخلوا في قضية لها علاقة بالأمن، ويستشهدون بالمثل القائل: "لا دخان بلا نار". ويقولون: "لو كان بريئا لما طلبت أجهزة الأمن تسريحه". وهذا ما اعتمد عليه مدير الموظفين، حيث كان الدخان مصطنعا. ولا بد أن هناك مظلومين مثلك تخلص منهم خصومهم بنفس التهمة. يجب أن يعلم الناس أن عديمي الضمائر يستطيعون خلق دخان بلا نار".

- "أحس بأن عليَّ دينا كبيرا لك لا اعرف كيف أسدده".

- "إذا كان هناك دين فيجب أن تسدده للصحافة. أن تدعم الجريدة التي تثق بها وتحس بأنها تعبر عن آرائك وتدافع عن حقوقك".

رفعت هذه الزيارة من معنوياتي وأعادت لي الثقة في نفسي بعد أن زعزعها موقف سماح مني وتفوق زميلي سامي.

 *

جاء عم سماح وأولاد عمها إلى المستشفى حين سمعوا بما حدث لها. استقبلتهم آسيا استقبالا حسنا وتكررت زيارات العم وفي إحدى الزيارات أعطته آسيا شيكا بالمبلغ الذي عرضته عليه. قال لها معتذرا: "لقد خدعني المحامي وصور لي.."

- "لا تكمل أرجوك. هذا حديث مضى وانتهى. نحن أسرة واحدة وسماح ابنتكم مثلما هي ابنتي".

 *

كنت أتابع أخبار سماح من عبد الحفيظ وأسأل عنها أمها وعلمت بأن حالتها تتغير نحو الأسوأ. أصبحت شديدة الوسوسة والشكوك. سمعت مؤخرا بمحاولة انتحار نصيرة فتضاعف حزنها وأحست بالذنب لشكها فيها.

هاتفني عبد الحفيظ صباحا في محل الأنترنت وقال لي:

"سأزف إليك بشرى سارة. اتصلت بي سماح الآن وطلبت أن أشتري لها كتاب ألف ليلة وليلة وهذا يعني أنها بدأت تتفاعل مع الحياة. سأبحث الآن عنه في المكتبات".

- " إن لم تجده أعيرك النسخة العربية إن أردت".

- "هل ترافقني لنحمله إليها؟"

- "أرجو أن تعفيني من هذه المهمة فلست مستعدا لتحمل إهانة أخرى".

*

عرفت من عبد الحفيظ قبل اجتماع يوم الجمعة أنه وجد النسخة العربية لكتاب ألف ليلة وليلة وحمله إليها. وطلبت منه مجموعة من الروايات بالعربية أو الفرنسية هي "الحرب والسلام" و"البؤساء" و"ذهب مع الريح" وغيرها. كلفني بالبحث عن هذه الروايات ومن حسن الحظ أن معظمها عندي ووعدته بإحضارها إلى منزله صباح الغد. قال لي مستغربا: "سألتني عن بعض الشخصيات النسائية ومنها اعتماد الرميكية وحكايتها مع المعتمد بن عباد. لا أدري من أين سمعت بها لتسأل عنها".

- "وبماذا أجبتها؟"

- "رويت لها حكاية "يوم الطين" فظهرت خيبة الأمل على وجهها".

- "وماذا يعني هذا؟"

- "لا أدري. أخمن أن أحدهم شبهها باعتماد الرميكية وحين اكتشفت نكرانها لجميل المعتمد بعد أسره خاب أملها".

 *

    كنا في بداية اجتماع الساعة الرابعة حين دخل علينا العم صالح معتذرا للمديرة بأن شابا يلح في مقابلتها، ولكن الشاب دخل علينا قبل أن يتم العم صالح حديثه.

سأله عبد الحفيظ:" ألم يقل لك البواب بأنا في اجتماع؟"

لكن آسيا صاحت بدهشة: "نوّار!"

أمسكه عبد الحفيظ بلطف محاولا إخراجه: "تعال معي لأعرف ماذا تريد من السيدة المديرة".

تسمر الشاب في مكانه ولم يرض أن يتزحزح قائلا: "أنا نوار ابن عمة نصيرة. أنتم تبحثون عني وجئت لأسلم نفسي".

كان الشاب في الخامسة والعشرين. ربع القامة، يميل إلى النُّحول رغم بروز عضلات يديه اللتين تكادان تمزقان أكمام السترة الشبابيّة التي يلبسها فوق سروال الجينز. حنطي البشرة شعره أجعد غير مسرّح. لا ينقص من وسامته التعب الظاهر في وجهه من أثر السفر والسهر والاضطراب الواضح في هندامه وحركاته.

صاحت كريمة: "لا بدَّ أنْ نؤدِّبه قبل أن نسلمه للبوليس".

تعالت صيحات الموافقة وكنت أول الناهضين. أليس هذا من هاجم حبيبتي سماح وسرقها وأرهبها ثم أعطبها؟ أليس هذا من كان سببا في القطيعة بيني وبينها؟ وها هُوَ يعترف بفعله الشنيع ببرودة أعصاب ودون ندم.

ظهر الفزع في عينيه ونحن نقفز في اتجاهه، ولكنه لم يهرب ولم يتراجع خطوة واحدة بل أغمض عينيه مستسلماً لما سيحل به. وقال: "اصنعوا بي ما تشاؤون ولكن اتركوا نصيرة فهي بريئة".

وقبل أن تمتد إليه يد علا صوت آسيا الآمر والحازم: "توقفوا وعودوا إلى أماكنكم. لنْ يمسه أحد منّا بسوء. دعوا العدالة تأخذ مجراها".

    عاد الجميع إلى أماكنهم وبقيت مكاني أمامه ولوْلا آسيا لكنت شفيت غليلي منه. قلت محتجّاً: "ولكنه اعترف بجرمه أمامنا".

قال عبد الحفيظ بهدوء موجهاً الكلام لنا جميعاً: "هل جُنِنْتُمْ؟ أنسيتم أننا صحفيون ولسنا قضاة لنحاكم، ولسنا عصابة لنصفـّي حساباتنا بأيدينا؟"

    فتح نواّر عينيه حين سمع ما قالته آسيا وعبد الحفيظ وتنفّس الصّعداء بعد زوال الخطر. عدت إلى مكاني على مضض. كلمت آسيا الملازمة "ياسمين" ضابطة الشرطة القضائية المكلفة بملف حادث الغابة. جاء رجال الشرطة وألقوا القبض عليه.

لكن ما حدث لم يثنه عن أن يسأل: "هل نصيرة بخير؟"

ردت آسيا: "لا تقلق عليها فهي بصحة جيدة".

قالت كريمة بغضب: "تسأل عن نصيرة ولا يهمك أمر سماح".

أجاب: "سماح لها من يعتني بأمرها ويهتم بها، أما نصيرة فليس لها غيري". والتفت إلى المديرة قائلا: "آسف لما حدث لابنتك ولكن ثقي أن نصيرة ليس لها ضلع فيما حدث. أما أنا فاضطرتني الظروف إلى ما فعلته دون علمها. أصدر إلي الأمير مصعب أوامره وكان علي أن أنفذ. أنا نادم على ما فعلت".

بدأت حفيظة تلتقط له صورا من مختلف الزوايا. عرفنا من آسيا فيما بعد أن نوار اعترف أمام الشرطة القضائية بأنه هو الذي جاء يوم الجمعة على الدراجة النارية. عرف من نصيرة أنها ذاهبة إلى العرس مع سماح وأنها سترتدي عقدا ثمينا. وكان الأمير مصعب قد أبلغه بحاجتهم إلى المال لشراء السلاح والتموين، فقرر سرقة العقد دون أن يكون في نيته إيذاء سماح، وأن نصيرة لا تعرف شيئا عن العملية.

وحين سئل عن مكان الأمير مصعب ادعى بأنه يتلقى أوامره من الجبل دون أن يعرف مكانه فهو يتنقل باستمرار، كما ادعى أن العقد أخذه شريكه في الهجوم إلى الأمير مصعب. وحين سئل عن شريكه أجاب بأنه لا يعرف إلا اسمه الجهادي "أبو عبيدة" ولا يعرف طريقة الاتصال به لأن الأمير هو الذي يتصل به متى أراد .

    نقل نوار إلى غابة "بو شاوي" ليمثل الجريمة فادعى أنه لا يعرف المكان بالضبط لأنه لم يكن يقود السيارة والطريق كانت شبه مظلمة وهكذا قبض على نوار ولكن معالم الجريمة لم  تتوضح كلها.

قالت آسيا: "ألم يكن من الأفضل لنصيرة أن تعترف بالحقيقة. ظلت طيلة الوقت تنكر بأنها استقبلت أحدا يوم الجمعة وها قد اعترف نوار. أنا لا أعتقد بأنها بريئة بل شريكة ومتواطئة معه".

 *

    قال لي ساطع عبد الحسين ونحن نجلس في ساحة الأمير عبد القادر: "فتحت السجون العراقية ليخرج منها سجناء النضال ضد الديكتاتورية وفي سبيل الحرية وليوضع فيها سجناء النضال ضد الاحتلال وفي سبيل الحرية. هناك كثير من السجناء الأول لن ينعموا بالحرية طويلا وسيعودون إلى السجن من جديد.

كانت هناك لحظات مضيئة حتى في السجن. كانت تهرب لنا الكتب والأطعمة والأدوية ورسائل التشجيع بواسطة بعض السجانين، فليس كل ضباط البوليس والسجانين عملاء لصدام. ومن أهم ما حدث لي هو أني بعد أن قضيت خمس سنوات في السجن زارني رجل متنكرا وقال لي: "أنا أحد ضباط البوليس الذين فتشوا بيتك وصادروا كتبك وبينها هذه المخطوطات".

سلمني المخطوطات وهي خمسة دفاتر شعرية لم تنشر وظننت أنني فقدتها إلى الأبد. وقال لي: "احتفظت لك بها. أنا لا أفهم في السياسة ولكني أفهم في الشعر وهذه الدفاتر ليست ملكك وحدك ولكنها ملك الشعب العراقي بل ملك الإنسانية جمعاء".

توقف ساطع لحظة يبتلع ريقه وارتشف رشفة من القهوة وأضاف: "هناك سجناء يقبضون ثمن سجنهم أضعافا وهناك سجناء يموتون في كل العصور وفي كل أنحاء العالم من أجل آرائهم ولا يسمع بهم أحد. أقترح أن يوضع مثل نصب الجندي المجهول الذي يمثل من ماتوا في الحروب ولم يعرف لهم قبر، تمثال للسجين المجهول يمثل كل سجناء الرأي والحرية ممّن ماتوا أو قتلوا ولم يسمع بهم أحد أو لا يعرف أحد مصيرهم. تمثال يمثل كل الذين ماتوا في سجون صدام أو الاحتلال الإسرائيلي أو الاستعمار أو الديكتاتورية الفردية والحزبية والدينية أو النازية أو الخمير الحمر".

- "هل أنت نادم على هجرتك إلى أمريكا؟"

- "مطلقا. كنت مضطراً، والهجرة مشروعة للبحث عن لقمة العيش أو الأمن أو الحرية أو البحث عنها جميعاً. إلاّ أنّ للهجرة مصاعبها وأوّلها العنصريّة. لا بد أن يواجه المهاجر العنصرية في كل مكان على سطح الأرض. طالما هناك بشر هناك عنصريّة تلبس قناع الوطنية وتعتبر المهاجر دخيلاً مرتزقاً تحوطه الشكوك ولا يوحي بالثقة. ستجد في كل مكان أناساً يعادونك لمجرد أنّك تختلف عنهم في اللون أو العرق أو الدين. لا تشفع لك عندهم كفاءتك ونزاهتك وتفانيك في العمل. لذلك أنت مضطر في المهجر للتكتل مع أبناء جلدتك أو معتقدك. هذا الدرس تعلمته بعد كثير من المعاناة. وهذا لا يعني أنك لا تجد أناساً منصفين ونزيهين وغير عنصريين ولكن الكثرة الكاثرة تستمع إلى من يدغدغ عواطفها من السياسيين المحترفين لا إلى من يطالبها بالسمو بسلوكها وفقاً للمبادئ والقيم الإنسانيّة من المفكرين والفلاسفة والأدباء".

 *

اليوم السبت بداية الأسبوع. كنت منشغلا بتسجيل بعض المعلومات على قرص مضغوط لأحد الزبائن حين وجدت قبالتي سماح على كرسي متحرك تطالعني بابتسامتها الساحرة. كدت أترنح من وقع المفاجأة السارة ولكنني تذكرت ما حدث لي معها فتماسكت. قلت لها مرحبا: "أهلا بك. أنا مسرور جدا برؤيتك. وسألتها بدهشة: "كيف دخلت إلى هنا؟"

-      "جئت بسيارة المستشفى وأدخلني ممرضان بكرسيي إلى هنا، ولكنك كنت منشغلا فلم ترني إلا الآن".

-      "ولكن لماذا أتعبت نفسك؟ لو أنك أرسلت إلي لحضرت إليك".

-       "أردت أن أعتذر منك عما حدث مني، ومن يريد الاعتذار يأتي بنفسه ليعتذر. أرجو أن تقبل اعتذاري فلم أكن في وعيي حين اتهمتك. سامحني".

كان معظم الزبائن يتابعون مشهد سماح منذ دخولها، وقليل منهم منشغل بجهازه. سألتها: "هل أحضر لك كأسا من العصير؟"

-      "هذا مكان عمل. أفضل أن نتناوله معا عندما تزورني في المستشفى".

-      "سأرى إن سمح وقتي بذلك، فأنا مشغول جدا هذه الأيام".

امتقع وجهها فجأة واختفت الابتسامة العذبة وحركت الكرسي بعصبية ولكنه لم يتحرك لأن إحدى العجلتين كانت عالقة بطاولة أحد الأجهزة. أسرع الممرضان لنجدتها فساعدتهما على تحريكه، وخرجت معها حتى حملاها إلى السيارة. ظللت واقفا لكنها لم تلتفت. شعرت بأن عينيها بدأتا تنضحان بالدموع. كانت الساعة الحادية عشرة والنصف حين عدت إلى المحل وأنا أسأل نفسي: "لماذا فعلت هذا معها؟ ولماذا كنت قاسيا إلى هذا الحد؟" ولكنني لم أجد جوابا، وظللت ساهما شاردا طيلة النهار.

 *

حين قرأت نصيرة اعترافات "نوار" بكت وقالت لي ولعبد الحفيظ حين زرناها في المستشفى وهي ما تزال تحت الحراسة: "لا علاقة لنوار بالجبل ولا يمكن أن يسرق. لقد اعترف لينقذني. هو يعرف أنني بريئة، لكنه لا يثق بالعدالة. إنه يضحي بنفسه من أجلي. أعطيت ضابطة الشرطة التي حققت معي منذ قليل عنوانه في وهران ليحققوا ويستفسروا عنه وسيجدون أنه لم يأت إلى العاصمة في تلك الفترة. كنت على اتصال دائم معه بالهاتف. أخذنا منها العنوان واتصل عبد الحفيظ بمراسلنا في وهران ليكلفه بهذه المهمة وأرسل له صورة لنوار بالفاكس من الصور التي التقطتها حفيظة.

    كان جواب المراسل أن من يعرفونه أكدوا له أنه كان ليلة الحادثة يحضر حفل ختان ابن صديقه نذير، وصلى الجمعة معه في مسجد الحي. ولا يمكن أن يكون الشاب الذي رأته نوال على الدراجة النارية في ذلك اليوم.

    تعجبنا من تصرف نصيرة ونوار. هل يمكن أن يصل حبهما إلى درجة أن يضحي كل منهما بحياته من أجل الآخر؟ أيعقل أن يكون هناك حب من هذا النوع في هذا العصر؟

لكن الكوميسير كان له رأي آخر. قاله لآسيا وعبد الحفيظ حين التقى بهما عند سماح:

"هذه حيلة دبراها بإحكام ليقتنع الناس ببراءتهما، لكنني متأكد من أن العقد معهما أو مع شريكهما ولن يهدأ لي بال حتى أثبت لكم ذلك".

أثبت التحقيق صحة أقوال نوار ووجوده ساعة الحادثة بحفلة ختان صديقه بوهران. وسمح له بمقابلة نصيرة التي اعترفت بأن صمتها كان حماية لنوار لأنها هربته من يد الإرهابيين بعد أن اتصلوا به وأخبروه بأن السلطات هي التي اختطفت أخاه وقتلته وطلبوا منه أن يلتحق بهم. وحين أخبر السلطات طلبوا منه بدورهم أن يبقى على اتصال بالإرهابيين ليأتيهم بأخبارهم.

أضافت نصيرة: "لم نوافق كلانا على ذلك وقررنا أن يذهب إلى وهران ليعمل مع صديق له كان معه في الخدمة الوطنية".

قال الكوميسير: "لو بقي لوفروا له الحماية".

- "هل كانوا سيضعونه في قصر الأمم؟ إنهم يحمون الكبار، أما نحن فلا أحد يبحث عنا. أرادوا أن يستعملوه طعما لصيد الإرهابيين ولا يهمهم مصيره. الإرهابيون يبحثون عنه لأنهم يعتبرون أنه خانهم ويريدون قتله. والشرطة تبحث عنه لاعتقادها أنه مع الإرهابيين. إنه الشخص الوحيد الذي بقي من عائلتي ولا أريد له الأذى والموت. الرجل الوحيد الذي أحببته وخفت اليوم أن تلصق به تهمة جديدة. آلمني أن اتهم بسرقة الإنسانة التي أحببتها ومنحتني ثقتها وحبها فحاولت الانتحار في لحظة يأس لأنني لم أجد غير هذا الطريق لأخلص مما أنا فيه".

 *

عرفتني آسيا بضابطة الشرطة المكلفة بملف سماح برتبة ملازم أول "ياسمين". كانت ترتدي بدلة الضباط الرسمية وتوحي بحركتها النشيطة وجسمها المتوثب وبريق عينيها والنجمتين الذهبيتين على كتفيها بالحيوية والشباب والذكاء والثقة. أما شعرها الأشقر الذي انسدل على كتفها بعد أن نزعت قبعتها فيفضح أنوثتها. قالت بصوت ناعم ولكن بلهجة حازمة: "أعتقد أن نصيرة وابن عمتها بريئان من سرقة العقد".

أضاء وجه آسيا فجأة بابتسامة أمل قائلة: "سأكون سعيدة جدا إذا ثبتت براءتهما". لكن الابتسامة انطفأت من جديد حين أردفت: "لكن الكوميسير يؤكد دائما أنهما مذنبان ويصر على ذلك".

- "أعرف الكوميسير وعملت معه قبل أن يتقاعد وتعلمت منه أشياء كثيرة. هو نزيه ونشيط لكن عيبه أنه يعتمد على الحدس عند غياب الأدلة. إنه يشك في كل الناس ويعتبرهم مذنبين حتى تثبت براءتهم".

- "لماذا اعتبرت ذلك عيبا؟"

- "لأنه إذا اقتنع بشيء فمن الصعب أن يتراجع عنه. وكثيرا ما يكون حدسه واستنتاجاته خاطئة. نحن ننطلق من الوقائع ونبحث عن الأدلة أما هو فينطلق من حدسه وظنونه".

- "هذا صحيح فقد شك في نصيرة من اللحظة الأولى ولم يتراجع عن شكوكه".

- "هذه طريقته في مضايقة المتهم ومحاصرته حتى يعترف. وهي طريقة قد تؤدي إلى تضليل العدالة بدلا من تحقيقها. نوار اعترف بما لم يقترفه ليخلص نصيرة من المضايقة فكأنه اعتراف تحت التعذيب. وهي حاولت الانتحار بعد أن ضغط عليها وهددها. حين حققنا مع نوار اكتشفنا أنه لا يعرف غابة "بو شاوي" أصلاً ولم يرها في حياته".

- "والشاب الذي استقبلته نصيرة وأنكرت أنها استقبلته؟"

- "هو لغز محير لا بدَّ من حله".

    أخبرتنا آسيا فيما بعد أن الضابطة "ياسمين" زارت نوال وسألتها عن الشاب الذي رأته يوقف الدراجة النارية بجانب فيلا آسيا وطلبت منها أن تتصل بها إن رأته مرة أخرى أو رأت الدراجة بالقرب من المنزل.

 *

  أعلمتنا آسيا فيما بعد أن "نوال" رأت في الصباح نفس الدراجة النارية التي شاهدتها في ذلك اليوم بلون أحمر تقف بالقرب من منزل سماح. اتصلت فورا بالضابطة "ياسمين" التي حضرت وانتظرت حتى رأت الشاب صاحب الدراجة يخرج من الفيلا المجاورة لسماح وحين سألته تبين انه لا يسكن في الحي بل أتى لزيارة صديق له يدرس معه في الجامعة.

سألته "ياسمين": "هل هذه المرة الأولى التي تزور فيها الحي؟"

- "بل المرة الثانية".

- "هل تذكر متى كانت  المرة الأولى؟"

- "يوم جمعة مثل اليوم فهو يوم عطلة".

- "هل طرقت باب هذه الفيلا في زيارتك السابقة؟"

- "نعم. هذا صحيح فقد أخطأت في العنوان ثم حين نظرت إلى الرقم عرفت غلطتي فاتجهت إلى فيلا صديقي. ولكن كيف عرفت؟"

ابتسمت الضابطة وأجابته: "هذا عملي. قل لي: من فتح لك الباب في تلك الفيلا؟"

- "الحقيقة أني لم أنتظر حتى يفتح الباب ولكني حين مشيت سمعت صريره. كان يجب أن أعود وأعتذر ولكني لم افعل".

  أكدت نوال بعد ذلك أنها لم تر الشاب يدخل إلى فيلا سماح بل شاهدته بجانب الباب ثم دخلت حين نادتها أمها، وعادت لترى نصيرة تغلق الباب فاعتقدت بأنه دخل. وعاد التحقيق في القضية إلى نقطة الصفر.

  قررت مع عبد الحفيظ زيارة نصيرة لنرفع معنوياتها ونخبرها بما وصل إليه التحقيق وحين وصلنا قيل لنا بأنها خرجت بعد أن أسقطت النيابة الاتهام عنها وعن نوار. وحاولنا معرفة عنوانهما من المستشفى أو البوليس لكن أحدا لم يكن يعرف إلا عنوان نوار في وهران وعنوان نصيرة في حاسي مسعود. ولم يظهر أحدهما في هذين العنوانين.

 *

هتف لي في المساء طارق العميري المخرج الإذاعي وسألني إن كنت سمعت بما حدث لراضية: "أبداً. هل أصابها مكروه؟"

- "لا ولكن زوجها مات في حادث اصطدام سيارة في إحدى الطرق السريعة بألمانيا".

- "كيف علمت بالخبر؟"

- "قرأته في نشرة وكالة الأنباء الجزائرية ولم ينشر بعد".

- "كيف حدث الاصطدام".

- "كان في حالة سكر مع امرأة يبدو أنها عشيقته ولم تعرف جنسيتها بعد. ومات الاثنان معا حين اصطدمت سيارتهما بشاحنة كانت متوقفة بصورة نظامية على يمين الطريق".

اتفقنا على أن نذهب لتعزيتها غدا في الرابعة مساء.

- "سأجدك قرب عمارة جريدتكم وسنذهب بسيارتي".

حضر في الموعد ركبت معه وانطلقنا. سألني:

- "هل أستطيع أن أكلمك بصراحة؟"

أجبت مندهشا: "بالتأكيد. ماذا في الأمر؟"

- "أنا أحب راضية وأحلم بالزواج منها؟"

- "جيد. والمطلوب؟"

-"كيف أفاتحها في الأمر؟  فهذا الوقت ليس مناسبا".

- "طبعا، ولكن هل تعرف أنك تحبها؟"

- "لا أعتقد. كان حبا صامتاً بلا أمل لأنها متزوجة ولم أكن أتوقع موت زوجها".

- "انتظر حتى تتم العدة".

- "أخاف أن أنتظر فيسبقني أحد إليها".

فهمت منه أنه يريد جس نبضي وهل أفكر بالارتباط بها. قلت له بتلقائية أذهبت ما في قلبه من شكوك: "إذن لمِّحْ لها منذ الآن. قل لها مثلا بأنك تقف إلى جانبها في هذه المصيبة وأنك مستعد أن تكون دائما إلى جانبها وستفهم قصدك حتماً".

خفت أن يطلب مني أن أكلمها فمن الصعب علي القيام بهذه المهمة وماذا لو أجابتني: " لماذا لا تتحدث عن نفسك".

هي لا تعرف علاقتي بسماح. حين وصلنا إلى المنزل علمنا بأنها سافرت إلى قسنطينة لتستقبل جثمان زوجها الذي سيدفن هناك. أخبرني بسفره غدا إلى قسنطينة ووعدني أن يبلغها تعازيّ الحارة.

 *

منذ أن سمع محررو الجريدة بما حدث لسماح وهم ينوون زيارتها في المصحة، لكن عبد الحفيظ كان دائما يؤجل موعد الزيارة بناء على تعليمات آسيا قائلا: "من الأفضل تأجيل الزيارة حتى تتحسن حالتها النفسية".

أخبرتني كريمة اليوم بأن موعد الزيارة تحدد غدا بعد الظهر. قالت بأنها المكلفة بشراء باقة الورد وطلبت مني دفع مبلغ مائتي دينار نصيبي من ثمن الباقة. دفعت المبلغ فأعلمتني أن الانطلاق سيكون في الساعة الثانية من مقر الجريدة في سيارتيْ عبد الحفيظ وسمير. لم أحضر بالطبع في الموعد، وظن الجميع أنهم سيجدونني هناك. كانوا سبعة: عبد الحفيظ والعم صالح وشاكر وسمير وسامي وحفيظة ومسعودة.

استقبلتهم آسيا وتركتهم مع سماح وخرجت مع الطبيبة. لاحظت كريمة أن سماح تبحث بعينيها بين الوجوه عن أحد ما، فقالت لها فورا: "ساطع عبد الحسين مريض في داره ولم نستطع إبلاغه"، ثم أضافت بخبث: "ولكن أين شريف؟ توقعنا أن نجده هنا".

سألت سماح: "هل أعلمتموه بموعد الزيارة؟"

-      "طبعا، وأصر على الاشتراك معنا في إهداء باقة الزهور".

قالت سماح محرجة: "ربما حدث طارئ منعه من الحضور".

ردت كريمة بخبث أيضا: "لا أعتقد. لو حدث له طارئ لاتصل بالهاتف ليعتذر. لابد أن هناك سببا آخر!"

قالت سماح بعصبية: "هل أخبرك بشيء؟"

-     "لا أبدا".

-     "بل أخبرك وأنت تريدين أن تشمتي بي".

انفجرت باكية وهي تقول: "لماذا كل هذه الأسئلة؟" لماذا تريدين تعذيبي؟ نعم شريف لا يزورني لأنه لا يريدني. هل ارتحت الآن؟"

لم يتوقع أحد ما حدث وأخذت كريمة تعتذر متوسلة صادقة: "سامحيني. أقسم لك بأن شريف لم يفتح فمه بكلمة عنك. أنا فضولية زيادة عن اللزوم. أرجوك أن تسامحيني".

استأنفت سماح الحديث وقد سكنتها نوبة البكاء: "كنت أعتقد أنه سيعذرني لأني مريضة ولم أكن أقصد ما أقول. ذهبت إليه في المحل وأنا على الكرسي واعتذرت منه لكن قلبه أسود ككل الرجال".

قبلت كريمة رأسها وعانقتها وقالت: "لن أخرج من هنا حتى تسامحيني".

-     "سامحتك. ولكن لا تقولي لشريف شيئا، لا أريده أن يعرف أنني بكيت بسببه".

-     "أعدك بذلك".

سألت سماح عن أوضاع الجريدة فأجابها المحررون بأن إخراجها تغير نحو الأسوأ منذ مرضها، وبأن الجريدة بانتظارها بفارغ الصبر ليعود إليها بهاؤها وإشراقها.

لم تخبرني كريمة بما حدث لكن الآخرين أخبروني ولاموني على تجاهلي لها وهي مريضة وحاولوا إقناعي بزيارتها ما دامت نادمة على ما فعلته معي.

 *

كثرت طلبات سماح خلال أواخر شهر أفريل والنصف الأول من شهر ماي فلم تعد تقتصر على الكتب بل تعدتها إلى الأقراص المضغوطة لبعض الأفلام والمسرحيات الغنائية العربية والأجنبية، وإلى كتب ونشرات من المتحف الوطني عن أشهر الفنانين الجزائريين وأعمالهم، ونسخ عن الأعداد الأخيرة من "البيبليوغرافيا" الجزائرية من المكتبة الوطنية لمعرفة آخر إصدارات الكتب الأدبية والفنية. كان عبد الحفيظ يعتمد علي في البحث عن هذه الطلبات واقتنائها بأي ثمن لأن سماح خصصت ميزانية مفتوحة للإنفاق في هذا المجال، واضطررت مرة للاستعانة بالمخرج طارق العميري لتأمين بعض التسجيلات من الإذاعة. وحين سألت عبد الحفيظ عن سبب هذه الطلبات أجابني بأن مراسلها في الأنترنت يطلب منها دائما بعض المعلومات عن الجزائر وأدبائها وفنانيها وسينمائييها ومسرحييها وهي ترسل له محتويات الأقراص المضغوطة السمعية والسمعية البصرية وكذلك صورا لقوائم المعلومات بالبريد الإلكتروني.

 *

اختفت نصيرة ونوّار بعد أن أطلقت الشرطة سراحهما لعدم ثبوت أدلة الاتهام عليهما ولم يفكر أحد فيهما إلا سماح التي ظلت تبحث عن نصيرة وتحاول معرفة عنوانها وأخبارها لتعتذر منها كما اعتذرت مني ولكن دون جدوى. أحست آسيا بالذنب وأدركت أنها حرمت ابنتها من صديقة وفية أمينة دون دليل على إدانتها فاتصلت بالسيدين رياض بو فجي والسعيد علمي معد ومخرج حصة "كل شيء ممكن" في التلفزيون، وطلبت منهما المساعدة.

وصل طاقم الحصة يتقدمهم المخرج ومعد ومقدم البرنامج إلى المستشفى احتراما لإعاقة سماح وعدم قدرتها على الحركة. وجهت آسيا نداءً إلى نصيرة لتعود واعتذرت فيه عن سوء ظنها بها قائلة لها: "سماح أختك بحاجة ماسة إليك فلا تعاقبيها على ذنب ارتكبته أنا".

    كما وجهت سماح نداء إلى نصيرة لم تستطع إتمامه رغم محاولات المخرج المتكررة وإعادة التصوير، لأن سماح كانت في كل مرة يغلبها البكاء فلا تستطيع أن تقول شيئا حتى أن المصورين ومقدم الحصة بكوا لبكائها. وعلق مقدم الحصة على ذلك تعليقا مؤثرا طالبا من نصيرة أن تفتح قلبها الكبير لهذه العائلة التي عاشت معها زمنا وتقبل أن تسامح.

مرت الأيام وكانت آسيا تتصل كل يوم بمسؤول الحصة ولكن الجواب كان دائما: "لم يتصل أحد". ولم يعرف حتى الآن أي خبر عنها أو عن ابن عمتها نوار.

 لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الورقة الحادية عشرة: حوارات الأنترنت

 لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الورقة التاسعة: الغابة

للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: حبٌّ في قاعة التحرير

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات