من مفكّرة سجين
خيانة الصديق ـ قصّة قصيرة
اسمي رجب وأنا أحد نزلاء سجن الحراش بمدينة الجزائر. لن أقص عليكم حكايتي الآن، ربما في مرة أخرى. وقد اخترت لكم اليوم حكاية غريبة، ليس على سبيل التسلية، بل ليأخذ الشباب منها العبرة وليفكروا جيدا في معنى الصداقة:
دخل إلى زنزانة يحيى وافد غريب حل محل سجين أفرج عنه. كان مجاورا لي في الزنزانة، وكان ساهما دائم الشرود لا يكلم أحدا ولا يرد على أحد. تحاشى السجناء التحرش به لأنه قوي البنية يدل مظهره وبروز عضلاته على أنه ملاكم أو مصارع. لم يعرف أحد في الزنزانة عنه سوى أن اسمه ياسين وأنه شاب في أواخر العشرينات. حاول "هظّي" الزنزانة شاقور أن يأخذ منه إتاوة من الطعام الذي يأتيه من أسرته أو مالا ليشتري به السجائر، لكن ياسين لم يأبه به ولم يلتفت إليه. قرر شاقور هذا، والذي لا يعرف معظم السجناء اسمه الحقيقي، أن يؤدبه ويعطيه درسا. تصادف أن كُلـِّفَ الاثنان بتنظيف الزنزانة. وكان شاقور الذي يتباهي بقوة جسمه وطوله لا يشارك في تنظيف الزنزانة، بل يترك ذلك للسجين الذي أوقعته القرعة معه. لم يعترض ياسين بل أخذ ينظف الزنزانة بقوة ونشاط، لكن شاقور لم يتركه بل أخذ دلو المياه الوسخة وصبه على رأسه. أراد الحراس أن يتدخلوا لكن ياسين كان أسرع منهم فلكم شاقور بيمناه على خده الأيسر، وثنى بيسراه على خده الأيمن فوقع على الأرض. اشتد غضبه ونهض مكشرا عن أنيابه وأراد أن يفاجئ ياسين بنطحة على بطنه، لكن ياسين تنحى بسرعة فنطح شاقور الحائط بقوة فوقع على الأرض والدماء تنزف من رأسه. أخذ يتوجع و يصيح فنقل إلى مستوصف السجن ثم إلى المستشفى، أما ياسين فقد شهد حراس السجن بأنه لم يعتد على شاقور بل كان هذا الأخير هو البادئ بالعدوان.
أراد بعض السجناء أن يجعلوه "هظّي" الزنزانة لكنه لم يحفل بهم وبقي على حاله لا يكلم أحدا ما عداي فقد انفتح قلبه لي لما رآه ولمسه من ودي وحسن تعاملي معه حيث كنت أقتسم معه طعامي من اليوم الأول الذي وفد فيه. توطدت بيننا علاقة ودية حميمة جعلت ياسين يثق بي ويبوح لي بهمومه التي تنغصه وتفسد عليه حياته. تكلم ياسين أخيرا وحكى لي حكايته المؤلمة والغريبة:
"كنا ثلاثة أصدقاء: أنا وصالح وسليم. جمعت بيننا صداقة حقيقية من أيام المدرسة الابتدائية. كان أهلنا يرعون هذه الصداقة، وكانت أسرة كل منا تعتبر كلا منا فردا من أفرادها حتى وصلنا إلى امتحان الشهادة الثانوية وتخطيناه بنجاح. دخلت إلى الجامعة بينما فضل الصديقان العمل في التجارة وبالتحديد في الاستيراد والتصدير، فعمل صالح في استيراد الأدوية بينما فضل سليم العمل في الإلكترونيات. أحسست أن التجارة غيرتهما قليلا، فأصبحا يلتقيان باستمرار ولا يدعواني للقائهما إلا في أضيق نطاق. لم أهتم لذلك فقد كنت مشغولا بدراستي حتى تخرجت من الجامعة وأصبحت أستاذا.
سألته: "هل أنت أستاذ في الرياضة؟"
أجاب ياسين: "بل في الفلسفة".
قلت متعجبا: "ظننت أنك أستاذ في الرياضة لقوة جسمك وبروز عضلاتك".
قال ياسين بأسى: "الحق معك، جسمي أكبر من عقلي ولم تنفعني الفلسفة التي درستها. لم أستطع استعمال عقلي في الوقت الذي كنت فيه بأمس الحاجة لاستعماله. المهم هو أن اهتماماتنا أصبحت مختلفة، وهذا ما أضعف أواصر الصداقة. لم نعد نلتقي إلا لماما وفي المناسبات. وأذكر، إحقاقا للحق، أنني ما طلبت من أحدهما خدمة أو مساعدة إلا ولبى طلبي دون تردد، ولاسيما حين تزوجت فقد أهداني سليم كل الأجهزة الإلكترونية اللازمة للدار كما أهداني صالح مبلغا كبيرا استطعت أن أنفق منه على حفلة العرس. وقد يضعف الزواج أحيانا أواصر الصداقة، فحياة الأعزب غير حياة المتزوج. وقد تغار المرأة من أصدقاء زوجها الحميمين ولاسيما إن كانوا عزابا لأنهم يقتسمون معها عواطفه وأوقاته. وهكذا ابتعدت عنهما وابتعدا عني تلقائيا، لأن ظروفنا واهتماماتنا في الحياة أصبحت مختلفة.
اتصل بي سليم قبل حوالي أسبوعين في الساعة العاشرة ليلا وقال لي: "أنا بحاجة إليك وأرجو أن تحضر فورا إلى شقتي". كان صوته يرتجف فاستنتجت أنه في ورطة. هرعت إليه دون أن أستفسر منه عن شيء. وحين وصلت قادني إلى الصالون فوجدت شيئا ملفوفا في ملاءة بيضاء مليئة بالدم. بادرني قبل أن أقوم بأي استنتاج أن لصا دخل عليه لأنه نسي الباب مفتوحا. وحين واجهه، حاول قتله، فاستطاع أن يقاومه ويتغلب عليه ويضربه بمطرقة كان يستعملها لتثبيت صورة في الحائط قبل دخول اللص.
قلت له: "يجب إبلاغ الشرطة فورا".
كان رده بأنه سيتهم بجريمة قتل وسيؤثر ذلك على سمعته في السوق. وأضاف مستعطفا: "لقد اتصلت بك لتعينني على حمله ورميه في البحر. اتصلت بصديقنا صالح قبل أن أتصل بك، لكن هاتفه لا يرد وأنا أريد أن أتخلص من هذه الجثة بسرعة. هل ستساعدني أم أتصل بصديق غيرك؟"
أجبته دون تردد أو تفكير: "سأساعدك، فالأصدقاء وجدوا ليساعد بعضهم بعضا عند الأزمات. والصديق وقت الضيق كما يقول المثل. أعطني ملاءة أخرى لنلفه فيها، ونغطي هذه الدماء. حملته على ظهري إلى السيارة في جوف الليل وذهبنا إلى شاطئ البحر في طريق زيرالدا، وألقيناه هناك.
اتصل بي سليم بعد يومين وسألني: "هل اتصل بك صالح؟"
أجبته: "لا لم يتصل بي. ما الأمر؟"
قال لي: "أسرته تقول إنه اختفى منذ أيام دون أن يعرف أحد أين ذهب".
ذهبت مع سليم إلى دار صالح وحاولنا مواساة الأسرة وساهمنا في البحث عنه دون جدوى.
وبعد أسبوع جاء رجال الشرطة إلى منزلي واقتادوني إلى محافظة الشرطة، وهناك أخبرني الضابط بأني متهم بقتل صالح بالاشتراك مع سليم وإلقائه بالبحر. كان صيادون قد وجدوا الجثة وتعرف عليها أهل صالح ووصل البوليس إلى سليم لأنه آخر من اتصل به بالهاتف. فتشوا داره ووجدوا آثار الدماء. عرفت أنه أخبرهم أنني شريكه في الجريمة. تلقيت أكبر صدمة في حياتي إذ فجعت بمقتل صديق عزيز. واكتشفت أنني شاركت دون علمي وباسم الصداقة في التخلص من جثته.
أيُّ أحمق أنا؟! وكيف لم تحمني ثقافتي وفلسفتي من أن يستغفلني ويستغلني مجرم في محو آثار جريمته، وإن كان صديقاً عزيزاً؟ وأيُّ صديق هذا الذي يقتل أعز أصدقائه لا لذنب سوى أنه أحسن إليه وأقرضه المال ليفك عسرته؟! ولو لم يقرضْه لم يقتله. تذكرت فجأة قول الشاعر:
احذر عدوك مرّةً واحذر صديقك ألف مرّه
فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرّه
وكنت رأيت هذا القول معلقا بحانوت بقال قديم في حيّنا. سخرت ساعتها من هذا القول واستنتجت أن قائله ومن علقه في محله لا يقدر قيمة الصداقة. ليتني سألت البقال عن سبب اهتمامه بهذا القول، فربما أفادني من تجربته المريرة ألا أثق بأحد ثقة عمياء تعطل العقل وتلغي المنطق.
علقت على ذلك بقولي: "أنت لم تخطئ، لو كنت مكانك وطلب مني صديقي أن أساعده في إخفاء جثة لفعلت دون تردد، فهذه هي الصداقة الحقيقية التي تعني أن تكون مع صديقك في السرّاء والضرّاء".
قال ياسين معترضا: "لا يا صديقي فالصداقة الحقيقية لها حدود، وحدودها الشرع والقانون. والاشتراك في إخفاء جثة وعدم الإبلاغ عن جريمة يخالف الشرع والقانون. والصديق الوفي لا يمكن أن يورط صديقه في جريمة، ولكن الأصدقاء يتغيرون".
قلت معترضا على كلامه: "الصديق الحقيقي لا يتغير أبدا".
ابتسم ياسين ابتسامة باهتة قائلا: "يبدو أنك طيب مثلي ومن السهل خداعك. الناس يتغيرون يا صاحبي مع الزمن وحسب الظروف، فمنهم من يتغير نحو الأحسن ومنهم من يتغير نحو الأسوأ. إغراء المال أو المنصب قد يعيد تشكيلهم وتشكيل قيمهم. والمرأة أحيانا قد تعيد تشكيلهم وتشكيل قيمهم. وفيما يتعلق بسليم كان إغراء المال وإغواء الطمع هما اللذان دفعاه إلى قتل صديقه، وكان في الماضي إنسانا خلوقا وصديقا وفيا نادر المثال.
روى لي ياسين أنه عرف من خلال التحقيق أن سليم استلف ثلاثة ملايين دينار من صالح. والمصيبة في مجتمعنا أن الدائن لا يأخذ وصلا من المدين، ويعتبر ذلك نقصا في الثقة وطعنا في الصداقة. وحين أراد صالح أن يتزوج طلب من صاحبه أن يسدد دينه الذي مر عليه أكثر من سنة، فطلب منه أن يحضر إلى شقته وخطط للجريمة، وأعدّ المطرقة ليقتله بها. قدم له القهوة، وأثناء تناولها ضربه على رأسه من الخلف ضربة غادرة قتلته في الحال. أخفى فناجين القهوة وكلمني في الهاتف لأنه لم يستطع أن يحمل القتيل وحده، فحملته أنا على ظهري ورميته في البحر.
توقف لحظة ثم أردف: "لو كتب صكا بالدين أمام الشهود كما ينص على ذلك الشرع والقانون لما فكر في قتله".
سألته: "وما وضعك الآن؟"
أجاب ياسين: "من حسن حظي أن القاضي صدق أنني لست شريكا في الجريمة، فلا مصلحة لي بذلك، لكنني متهم بإخفاء الجثة وعدم التبليغ عن الجريمة. ما يهمني الآن أن يصدق أهل صالح أنني لم اشارك في قتله ولم أعرف أنه القتيل حين رميته في البحر. صدقني إذا قلت لك: "إنني لا أفكر في زوجتي وولدي قدر تفكيري في أسرة صالح". زفر زفرة طويلة وختم حديثه بما قاله له قاضي التحقيق: "هل تعلم أن كثيرا من نزلاء السجون ينفذون أحكام جرائم لم يرتكبوها. وهم إما ساعدوا أصدقاءهم في إخفائها أو لم يبلغوا عنها، ولا يدركون أنهم يغضبون الله، ويخرقون القانون، ويدفعون من حريتهم وسمعتهم ثمنا غاليا باسم الصداقة، والصداقة من كل ذلك براء".
الجزائر في 29/05/2016 عبد الله خمّار