سامحوني يا أعزّ الأصدقاء

قصّة قصيرة

Pardonnez-Moi Mes Chers Amis

 

نعم، أنا الذي دفنت أعزّ أصدقائي أحياء في حديقة الفيلا عن سابق عمد وتصميم. ادّعى ابني وزوجته أنني فاقد الأهلية وطلبوا نقلي إلى مستشفى الأمراض العقلية، لكن الطبيب الذي فحصني أكد سلامة عقلي ومسؤوليتي التامة عن كل أعمالي.

كل شيء بدأ منذ سنة تقريبا، حين توفيت زوجتي. كنا نسكن في القصبة بالجزائر العاصمة، وبيتنا لا يختلف عن بيوتها العريقة. توارثته العائلة أبا عن جد بغرفه الفسيحة، وجدرانه المزخرفة بالفسيفساء، وفوارته البديعة ووروده الفواحة وفله وياسمينه وانفتاحه على زرقة السماء ودفء الشمس.

ألحَّ ابني عليّ أن أعيش معه، وأقسم بأن هذا ليس اقتراحه وحده بل اقتراح زوجته أيضا وبأن الولديْن يهمهما أن يأنسا بجدّهما. لم أمانع فقد صعب علي أن أعيش وحدي بعد وفاة شريكة عمري. صحيح أنني كنت متمسكا بالحي الذي ولدت ونشأت فيه ونشأ فيه أبي وأجدادي، ولكن الحي لم يعد كما كان، فمعظم جيراننا رحلوا عنه إلى الأحياء السكنية الجديدة. أما أصدقائي الذين كنت ألتقي بهم ونتزاور ونتحاور فقد سبقوني إلى العالم الأخر. وأصبحنا نرى كل يوم وجوها جديدة وسلوكا لم نعهده في حينا من قبل، وتصرفات غريبة شاذة بعضها يخدش الحياء وبعضها يخل بالذوق.

كان ابني يسكن مع زوجته وولديْه في شقة من ثلاث غرف في حي الأبيار، واقترح علي أن نبيع منزل القصبة والشقة ونشتري فيلا تتسع لنا جميعا.

قلت له: "ولو أني متمسك بكل حجرة وكل قطعة أثاث في هذا المنزل ولكنني مستعد لأن أبيع كل ما فيه ماعدا المكتبة فلا بد أن ترافقني إلى حيث أسكن وتظل معي إلى آخر العمر".

ضمت المكتبة التي ورثتها عن أبي عدة نسخ مخطوطة ومطبوعة من القرآن الكريم بقراءتي حفص وورش ومجموعة التفاسير وكتب الصحاح وأهم كتب الفقه، ودواوين الشعراء من زهير بن أبي سلمى إلى محمد العيد آل خليفة مرورا بأهم شعراء صدر الإسلام والعصور الأموية والعباسية والدول المتتابعة في المشرق والمغرب والأندلس والعصر الحديث حتى الأمير عبد القادر وشوقي وشعراء المهجر، وكتب النثر من عبد الحميد إلى الشيخ البشير الإبراهيمي مرورا بالجاحظ والتوحيدي ومحمد عبده والرافعي والمنفلوطي وطه حسين والعقاد، وكتب الأعلام من الأغاني للأصفهاني إلى أعلام الزركلي وكتب التاريخ من الطبري إلى محمد الميلي مرورا بابن منبه وعبد الرحمن بن خلدون وكتب الفلسفة الإسلامية من الفارابي إلى مالك بن نبي مرورا بالغزالي وابن طفيل وابن رشد.

وقد أضفت إليها خلال دراستي وعملي بالتعليم مؤلفات الروائيين الجزائريين والعرب والروايات والمسرحيات المترجمة عن الإنكليزية والفرنسية والروسية، وأعدادا من مجلة الثقافة الجزائرية والمجلات الأدبية العربية المشرقية والمغاربية كما أضفت دواوين شعراء العصر الحديث الجزائريين والعرب إضافة إلى الكتب التعليمية في النقد والأدب وفقه اللغة والقواعد وقواميس الألفاظ ومعاجم المعاني، وأهم مؤلفات الفكر الغربي المترجمة إلى العربية في الفلسفة والسياسة.

رحب ابني بطلبي وقال: " سنخصص القاعة الكبيرة في الفيلا للمكتبة فهي أهم ركن في المنزل. كتبت له توكيلا فباع المنزل والشقة واشترى فيلا سجلها باسمه بموافقتي بعد أن سلمت أمري له. أصبح الآن أبي بعد أن كنت أباه، ومسؤولا عني بعد أن كنت مسؤولا عنه.

كانت قاعة المكتبة في الفيلا فسيحة ومشمسة، وكنت أقضي فيها معظم وقتي. لم تكن لدي أي تسلية، ولم يبق لدي أي صديق غير هذه الكتب. هؤلاء هم أصدقائي وجلسائي، أحدثهم ويحدثونني. ليس هناك حدود بيننا لا في المكان ولا في الزمان. يجتمع فيها في رف واحد بخلاء الجاحظ مع بخيل موليير وحي بن يقظان مع روبنسون كروزو وجنة المعري بجوار جحيم دانتي.

أسعد أوقاتي هي التي أجلس فيها مع المتنبي ولوركا وناظم حكمت وأستمع لفكتور هيجو ونزار قباني، أو أحاور فيها شخصيات الروايات والمسرحيات. أضحك وأبكي وأشفق وأغضب وأتأمل مع شهرزاد ألف ليلة وبؤساء هيجو وأبله دوستوفيسكي وصاحب معطف غوغول وبخلاء موليير وفرسان الكسندر دوما وأنتيجونا سوفوكليس وأنّا تولستوي وهملت شكسبير ونجمة كاتب ياسين وسكان دار محمد ديب الكبيرة ومصارع ثيران همنغواي وأم غوركي وبوسطجي يحيى حقي وسكرية محفوظ وابن فقير مولود فرعون وبجماليون برناردشو وتاييس أناتول فرانس وفاوست مالرو ولاز وطار وجازية ابن هدوقة وأمير واسيني وغيرهم .

انقطعت صلتي بالناس تماما بعد أن ألغى ابني اشتراك الهاتف الثابت. أصبح الآن لكل منهم هاتفه المحمول يتحدثون فيما بينهم دون أن يحفلوا بوجودي فانصرفت كليا إلى أصدقائي وحمدت الله على أن منحني عينين سليمتين أستطيع بهما مع الاستعانة بالنظارات أن أستمتع بصحبتهم طيلة النهار.

قررت  زوجة ابني فجأة أن تضم قاعة الكمبيوتر إلى المكتبة. لم يزعجني هذا القرار بل رحبت به لأنني رأيت فيه اقتراب أفراد الأسرة من المكتبة مما قد يشجعهم على القراءة، واقتراب  الولديْن من جدهما. تذكرت طفولتي وكيف كانت أسعد أوقاتي تلك التي أقضيها بصحبة جدي وجدتي. اكتشفت خطئي، فابني وزوجته لم يدخلا القاعة قط. أما حفيدي وحفيدتي فهما يدخلان ليلعبا بالكمبيوتر أو ليتصلا بأصدقائهما ويتبادلا الأحاديث التافهة. كانا يظهران بوضوح تأففهما من حديثي معهما وقطع لعبهما أو محاوراتهما على الأنترنيت أو مشاهدة "الكليبات" في الفضائيات.

بعد عدة شهور اقتنت زوجة ابني المولعة بتغيير الديكور شاشة تلفزيون عملاقة وضعتها في هذه القاعة الفسيحة المضيئة وحولتها إلى غرفة للجلوس. أما الكمبيوتر فقد أصبح لكل من ابني وزوجته وولديهما حاسوب محمول خاص به. وأما المكتبة فتقرر أن تستقر في غرفة نومي.

لم تتسع الغرفة للكتب كلها فبقى قسم كبير منها مكدسا في علب الكرتون بجانب السرير وتحته وفوق خزانة الملابس. أصبحت رهين غرفتي التي تحولت إلى غرفة جلوسي وطعامي أيضا، ولكن مكتبتي كانت آلة الزمان العجيبة التي أتجول داخلها في كل الأزمنة والأمكنة. لم يدم ذلك طويلا، فأثناء إحدى جلسات العشاء النادرة التي تجمعنا، ألمحت زوجة ابني إلى أنها لاحظت وجود حشرات في غرفتي، ونقلت تذمر الخادمة من صعوبة تنظيفها نظرا لتكدس الكتب وقدمها وقدم خزانة المكتبة.

بعد أيام استدعيت على عجل إلى اجتماع في قاعة الطعام، قدِّمَ لي فيه فنجان قهوة وقطعة حلوى. كان قبالتي على الطاولة ابني وزوجته وحفيداي. قال ابني بصوت حازم وحاسم:

" أصبحت المكتبة خطرا على صحة الأولاد وصحتنا جميعا، لابد من التخلص منها مع الأسف."

حاولت عبثا إقناع مجلس العائلة بالعدول عن هذا القرار وحين يئست قدمت عدة اقتراحات للحفاظ عليها ولو بعيدا عني. كانت الرؤوس تتقارب مع كل اقتراح ويستمر الهمس لحظات ثم تتباعد الرؤوس ويرفض الاقتراح:

" لا يمكن الإبقاء عليها في علب الكرتون ولو في الحديقة لأنها تشوه المنظر وتلوث البيئة "

" لا يمكن إهداؤها إلى المكتبة الوطنية، لأن حالتها مزرية، ولو كانت مجلدة تجليدا أنيقا فاخرا، وكتبت أسماء مؤلفيها على أغلفتها بماء الذهب لزينّا بها القاعة بدلا من إهدائها. "

" لا يمكن بيعها فلا أحد يرغب في شرائها. وقد أحضرت زوجة ابني أحد باعة الأثاث المستعمل أثناء زيارتي قبر زوجتي، فوافق على شراء الخزانة أما الكتب فاعتذر عن قبولها ولو بالمجان. "

قال ابني يهون علي ويعزيني بعد رفض هذه الاقتراحات:

" أصبحت الأنترنيت مكتبة دولية لكل الناس، ولا حاجة لتخصيص غرفة في كل منزل للمكتبة. "

أجبته بمرارة: " ولكن هذه الكتب من لحم ودم بالنسبة لي. كل كتاب منها له تاريخ معي، أعرف مؤلفه وناشره ومكان الطباعة والسنة التي صدر فيها. بها عرفت ربي وديني واكتشفت نفسي وأدركت قيمة أهلي وقومي والدنيا كلها. كل سطر فيها ساهم في تكويني وتحول إلى عصارة في نسيج دماغي وبدني. لا أستطيع الاستغناء عنها بسهولة. إنها عيناي التي أرى بها الدنيا وحبل السرة الذي يربطني بهذا العالم..." قاطعني بسخرية:

" دعك من الاستعارات يا أبي فلست تدرس البلاغة لطلابك. أنسيت أنك أحلت على التقاعد منذ عشر سنوات؟ أصبحت هذه الكتب الآن أوراقا صفراء وبقعا كالحة سوداء ملئية بالدود والحشرات. لا حياة فيها إلا في مخيلتك."

سألت بلهجة استسلام منكسرة: ماذا ستفعلون بها ؟

أجاب بكل بساطة : سنرميها في الزبالة. "

قلت في نفسي: " لو أني أستطيع إحراق هذه الكتب كما يحرق الهندوس موتاهم وأعزاءهم، وأضع بعضا من رمادها في زجاجة أحتفظ بها في غرفتي حتى لا تأخذ حيزا كبيرا. "

بدأ وضع الكتب في ذلك اليوم في أكياس سوداء، تمهيدا لجمعها ونقلها دفعة واحدة إلى مجمع القمامة. صعب عليّ الأمر فانتهزت فرصة غياب أفراد الأسرة في العمل والمدرسة وأحضرت عاملين من السوق ساعداني على نبش حفرة كبيرة في الحديقة، وتعاونا على نقل الكتب إليها، ثم أهلنا التراب عليها. بكيت طويلا بعد أن ذهب العاملان وخاطبت أحبائي تحت التراب نائحا ونادبا:

" سامحوني يا أعز الأصدقاء، فلست من حكم عليكم بالإعدام، لكنني حاولت التخفيف من وطأة الحكم فدفنتكم في التراب تنزيها لكم من الاختلاط بقمامة الجسد، وحرصا مني على أن تبقوا قربي وأحظى بقربكم لنظل متجاورين إلى الأبد. "

نقلت فراشي إلى الغرفة الصغيرة في الحديقة التي تحوي أدوات الجنائني لأكون قريبا من أصدقائي. حين عادت زوجة ابني وعلمت بالأمر طار صوابها وواجهتني جهارا لأول مرة صارخة في وجهي:

"هل أنت مجنون ؟ أفسدت الحديقة التي نريد زراعتها زهورا وفواكه فزرعتها كتبا. لا بد من إخراجها ورميها في الزبالة".

وقفت أمامها بعزم صائحا : " لن يخرج أحد هذه الكتب وأنا حي. "

فوجئت بإصراري فحرّضت ابني على الذهاب إلى البلدية وإخبارها بجنوني لينقلوني إلى مستشفى الأمراض العقلية. طلبت البلدية شهادة طبيب مختص، وحين حضر واستمع إلي سألني:

- قيل لي بأنك زرعت بذور المعرفة في الحديقة لتطلع أشجارا تنتج ثمار المعرفة وادعيت أن كل من يأكل منها يصبح عالما وفيلسوفا فهل هذا صحيح ؟

أجبته عن سؤاله مبتسما:  "لم يخطر ذلك ببالي، ولكن لم لا ما دمت أزرع هذه البذور في العقول منذ أكثر من أربعين عاما ثم أفاجأ بأن أقرب الناس إلي يريدون رميها في القمامة؟ وإذا كانت العقول بورا لم تزهر وتثمر فيها هذه البذور فلعل تربة الأرض تنتج من هذه الكتب الثمار التي تتحدث عنها".

كتب الطبيب تقريره مؤكدا سلامة عقلي وحين احتجت زوجة ابني على التقرير قال لها الطبيب: "اطمئني، مجرد انهيار عصبي لا خطر منه على أحد، سببه عدم التكيف مع العصر والحنين إلى زمن القراءة".

 لم يبق أمام أفراد أسرتي إلا أن ينتظروا رحيلي إلى العالم الآخر، وأرجو بل وأدعو بحرارة ألا يطول انتظارهم لألتحق بأصدقائي.

       الجزائر  في 18 -08-2007                                                       عبد الله خمّار